مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

إشارة إلى أن لا يتصوروا أنّ هوداً سيتراجع إن لم يستجيبوا لدعوته ، فإنّه أدّى واجبه ووظيفته ، وأداء الواجب انتصار بحد ذاته حتى لو لم تقبل دعوته.

وكما هدّد القوم هوداً ، فإنّه هددهم بأشدّ من تهديدهم ، وقال : إن لم تستجيبوا لدعوتي فإنّ الله سيبيدكم في القريب العاجل (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيًا).

هذه سنّة الله في خلقه وقانونه العام ، إنّه متى كان قوم غير لائقين لاستجابة الدعوة والهداية والنعم الاخرى التي أنعمها عليهم فإنّه سيبعدهم ويستخلف قوماً لائقين بمكانهم (إِنَّ رَبّى عَلَى كُلّ شَىْءٍ حَفِيظٌ). فلا تفوته الفرصة ، ولا يهمل أنبياءه ومحبيه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من حساب الآخرين بل هو عالم بكل شيء وقادر على كل شيء.

(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (٦٠)

اللعن الأبدي على القوم الظالمين : في آخر الآيات التي تتحدث عن قصة قوم عاد ونبيّهم هود إشارة إلى العقاب الأليم للمعاندين ، فتقول الآيات : (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا). وتؤكّد أيضاً نجاة المؤمنين (وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ).

وفي قوله تعالى : (نَجَّيْنَا) وتكرار هذه الكلمة في الآية مرّتين أقوال مختلفة للمفسرين ، ف «نجّينا» الأولى تعني خلاصهم من عذاب الدنيا و «نجّينا» الثانية تعني نجاتهم في المرحلة المقبلة من عذاب الآخرة ، وينسجم هذا التعبير مع وصف العذاب بالغلظة أيضاً.

ويشير بعض المفسرين إلى مسألة لطيفة هنا ، وهي أنّ الكلام لمّا كان على رحمة الله فمن غير المناسب أن تتكرر كلمة العذاب مباشرة ، فأين الرحمة من العذاب؟ لذلك تكررت كلمة «نجّينا» لتفصل بين الرحمة والعذاب دون أن ينقص شيء من التأكيد على العذاب.

كما ينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة الدقيقة أيضاً ، وهي أنّ آيات القرآن وصفت العذاب

٤٠١

الغليظ في أربعة موارد (١).

وبملاحظة تلك الآية بدقّة نستنتج أنّ العذاب الغليظ مرتبط بالدار الآخرة ، وخصوصاً الآيات التي جاءت في سورة ابراهيم وذكر فيها العذاب الغليظ ، فإنّها تصف بصراحة حال أهل جهنم وأهوالها ، وهكذا يكون ، وذلك لأنّ عذاب الدنيا مهما كان شديداً فإنّه أخفّ من عذاب الآخرة!

وهناك تناسب ينبغي ملاحظته أيضاً ، وهو أنّ قوم عاد ـ كما سيأتي بيان حالهم إن شاء الله ـ ورد ذكرهم في سورة القمر ، والحاقة ، وكانوا قوماً ذوي أبدان طوال خشنين ، فشبّهت أجسامهم بالنخل ، ولهذا السبب كانت لديهم عمارات عالية عظيمة ، بحيث نقرأ في تاريخ ما قبل الإسلام أن العرب كانوا يَنسبون البناءات الضخمة والعالية إلى عاد ويقولون مثلاً : «هذا البناء عادي» لذلك كان عذابهم مناسباً لهم لا في العالم الآخر بل في هذه الدنيا كان عذابهم خشناً وعقابهم صارماً ، كما مرّ في تفسير السور الآنفة الذكر.

ثمّ تلخّص الآيات ذنوب قوم عادٍ في ثلاثة مواضيع :

الأوّل : بإنكارهم لآيات الله وعنادهم أيضاً لم يتركوا دليلاً واضحاً وسنداً بيّناً على صدق نبوّة نبيّهم إلّاجحدوه (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بَايَاتِ رَبِّهِمْ).

والثاني : إنّهم من الناحية العملية لم يتّبعوا أنبياء الله (وَعَصَوْا رُسُلَهُ).

والثالث من الذنوب : إنّهم تركوا طاعة الله ومالوا لكل جبار عنيد (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ). فأي ذنب أعظم من هذه الذنوب : ترك الإيمان ، ومخالفة الأنبياء ، والخضوع لطاعة كل جبار عنيد.

و «الجبار» : يطلق على من يُجبر سواه على إتباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء العظمة والتكبر الظاهري.

و «العنيد» : هو من يخالف الحق والحقيقة أكثر مما ينبغي ، ولا يرضخ للحق أبداً.

هاتان الصفتان تتجليان في الطواغيت والمستكبرين في كل عصر وزمان ، الذين لا يستمعون لكلام الحق أبداً ويعمدون إلى من يخالفهم بانزال أشد انواع العقاب به بلا رحمة.

__________________

(١) وهي في السور التالية : ١ ـ ابراهيم / ٧ ؛ ٢ ـ لقمان / ٣٤ ؛ ٣ ـ فصّلت / ٥٠ ؛ ٤ ـ هود / ٥٨.

٤٠٢

وفي الآية الأخيرة التي تنتهي بها قصة «هود» وقومه «عاد» بيان لنتيجة أعمالهم السيئة والباطلة حيث تقول الآية : (وَأُتْبِعُوا فِى هذِهِ الدُّنْيَالَعْنَةً) وبعدالموت لايبقى إلّاخزيهم والصيت السيء (وَيَوْمَ الْقِيمَةِ) يقال لهم : (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ).

وكان يكفي تعريف هذه الجماعة بلفظ «عاد» ولكن بعد ذكر عاد جاء لفظ «قوم هود» أيضاً لتؤكّد عليهم أوّلاً ، ولتشير إلى أنّهم القوم الذين آذوا نبيّهم الناصح لهم ثانياً ، ولذلك فقد أبعدهم الله عن رحمته.

(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (٦١)

قصة ثمود : انتهت قصة عاد ، قوم هود ، بجميع دروسها بشكل مضغوط ، وجاء الدور الآن لثمود «قوم صالح» وهم الذين عاشوا في وادي القرى بين المدينة والشام ، حسب ما تنقله التواريخ عنهم.

ونرى هنا أيضاً أنّ القرآن حين يتحدث عن نبيّهم «صالح» يذكره على أنّه أخوهم ، وأيّ تعبير أروع وأجمل منه حيث بيّنا قسماً من محتواه في الآيات المتقدمة ، أخ محترق القلب ودود مشفق ليس له هدف إلّاالخير لجماعته (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صلِحًا).

ونجد أيضاً أنّ منهج الأنبياء جميعاً يبدأ بمنهج التوحيد ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان التي هي أساس جميع المتاعب (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَالَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

ولكي يحرك إحساسهم بمعرفة الحق أشار إلى عدد من نعم الله المهمة التي استوعبت جميع وجودهم فقال : (هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ).

ثمّ يُذكّر هؤلاء المعاندين بعد أن أشار إلى نعمة الخلقة بنعم اخرى موجودة في الأرض حيث قال : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا).

الطريف هنا أنّ القرآن لم يقل : إنّ الله عمر الأرض وجعلها تحت تصرفكم ، وإنّما قال : وفوّض إليكم إعمار الأرض (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) وهي إشارة إلى أنّ الوسائل معدّة فيها لكل شيء وعليكم إعمارها بالعمل والسعي المتواصل والسيطرة على مصادر الخيرات فيها. وبدون ذلك لا حظّ لكم في الحياة الكريمة.

فإذا كان الأمر كذلك : (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) لدعواتكم.

٤٠٣

(قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيَا قَوْمِ هذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (٦٥)

والآن لنلاحظ ما الذي كان جواب المخالفين لنبيّ الله «صالح عليه‌السلام» إزاء منطقه الحي الداعي إلى الحق.

لقد استفادوا من عامل نفسي للتأثير على النبي «صالح» أو على الأقل للمحاولة في عدم تأثير كلامه على المستمعين له من جمهور الناس ، وبالتعبير العامّي الدارج : أرادوا أن يضعوا البطيخ تحت إبطه ، فقالوا : (يَا صلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذَا). وكنّا نتوجه إليك لحل مشاكلنا ونستشيرك في امورنا ونعتقد بعقلك وذكائك ودرايتك ، ولم نشك في إشفاقك واهتمامك بنا ، لكن رجاءنا فيك ذهب ادراج الرياح ، حيث خالفت ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان وهو منهج اسلافنا ومفخرة قومنا ، فأبديت عدم احترامك للأوثان وللكبار وسخرت من عقولنا (أَتَنْهنَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُءَابَاؤُنَا). والحقيقة أنّنا نشكّ في دعوتك للواحد الأحد (وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ).

لكن هذا النبي الكبير لم ييأس من هدايتهم ولم تؤثر كلماتهم المخادعة في روحه الكبيرة فأجابهم قائلاً : (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتَ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَبِّى وَءَاتنِى مِنْهُ رَحْمَةً). أفأسكت عن دعوتي ولا أبلغ رسالة الله ولا أواجه المنحرفين (فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ). ولكن اعلموا أنّ كلامكم هذا واحتجاجكم بمنهج السلف والآباء لا يزيدني إلّاإيماناً بضلالتكم وخسرانكم : (فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ).

وبعد هذا كلّه ومن أجل البرهان على صدق دعوته ، وبيان المعاجز الإلهية التي دونها

٤٠٤

قدرة الإنسان جاءهم بالناقة التي هي آية من آيات الله وقال : (وَيَا قَوْمِ هذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ).

«الناقة» : في اللغة هي انثى الجمل ، وقد اضيفت إلى لفظ الجلالة «الله» وهذه الإضافة تدل على أنّ هذه الناقة لها خصائص معينة ، ومع الإلتفات إلى ما عبّر عنها في الآية المتقدمة بأنّها «آية» وعلامة إلهيّة ودليل على الحقانيّة ، يتّضح أنّها لم تكن ناقة عادية ، بل كانت خارقة للعادة من جهة أو جهات متعددة.

إنّ القرآن ذكر قصة ناقة صالح بشكل مجمل غير أنّنا نقرأ في روايات كثيرة ، أنّ هذه الناقة خرجت من قلب الجبل ، ولها خصائص اخرى ليس هنا مجال سردها.

وعلى كل حال ، فمع جميع ما أكّده نبيّهم العظيم «صالح» في شأن الناقة ، فقد صمّموا أخيراً على القضاء عليها ، لأنّ وجودها مع ما فيها من خوارق مدعاة لتيقظ الناس والتفافهم حول النبي صالح عليه‌السلام ، لذلك فإنّ جماعة من المعاندين لصالح من قومه الذين كانوا يجدون في دعوة صالح خطراً على مصالحهم ، ولا يرغبون أن يستفيق الناس من غفلتهم فتتعرض دعائم استعمارهم للتقويض والانهيار ، فتآمروا للقضاء على الناقة وهيأوا جماعة لهذا الغرض ، وأخيراً أقدم أحدهم على مهاجمتها وضربها بالسكين فهوت إلى الأرض (فَعَقَرُوهَا).

«عقروها» : مشتقة من مادة «العُقر» على وزن «الظلم» ومعناه : أصل الشيء وأساسه وجذره ، لأنّ نحر البعير يستلزم زوال وجوده من الأصل.

العلاقة الدينية : إنّ الإسلام يعدّ الرضا الباطني في أمر ما والإرتباط معه إرتباطاً عاطفياً بمنزلة الاشتراك فيه. يقول الإمام علي عليه‌السلام في الخطبة (٢٠١) في نهج البلاغة : «وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا».

وهناك روايات متعددة في المضمون ذاته نقلت عن نبي الخاتم وأهل بيته الكرام ، وهي تكشف غاية الإهتمام من قبل هؤلاء السادة العظام بالعلاقة العاطفية والمناهج الفكرية المشتركة بجلاء.

وفي نهاية الآية نقرأ أنّ النبي «صالحاً» بعد أن رأى تمرّد قومه وعقرهم الناقة أنذرهم (فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ). فهو وعد الله الذي لا يتغير وما أنا من الكاذبين.

٤٠٥

(فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨)

نهاية ثمود ؛ قوم صالح : في هذه الآيات يتبيّن كيف نزل العذاب على قوم صالح المعاندين بعد أن أمهلهم وقال لهم : (تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلثَةَ أَيَّامٍ) فتقول الآيات : (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صلِحًا وَالَّذِينَءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا) لا من العذاب الجسماني والمادي فحسب ، بل (وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ) (١). لأنّ الله قوي وقادر على كل شيء ، وله السلطة على كل أمر ، ولا يصعب عليه أيّ شيء ولا قدرة فوق قدرته (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ).

وعلى هذا فإنّ نجاة جماعة من المؤمنين من بين جماعة كثيرة تبتلى بعذاب الله ليس بالأمر المشكل بالنسبة لقدرة الله تعالى.

إنّ رحمة الله تستوجب ألّا يحترق الأبرياء بنار الأشقياء المذنبين ، وألّا يؤاخذ المؤمنون بجريرة غير المؤمنين (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ). وهكذا هلكوا وصاروا «شذر مذر» ومضت آثارهم مع الريح (كَأَنَّ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ) عن لطف الله ورحمته.

(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٧٣)

__________________

(١) «الخزي» : في اللغة الإنكسار الذي يصيب الإنسان سواءً من نفسه أو من سواه ويشمل كل أنواع الذل أيضاً.

٤٠٦

جانب من حياة محطّم الأصنام : والآن جاء الدور للحديث عن جانب من حياة «إبراهيم عليه‌السلام» هذا البطل العظيم الذي حطم الأصنام ، وما جرى له مع قومه ، وهنا تذكر الآيات قسماً من حياته المرتبطة بقصة «قوم لوط» وعقاب هؤلاء الجماعة الملوّثين بالآثام والعصيان ، فتقول في البداية : (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرهِيمَ بِالْبُشْرَى).

وهؤلاء الرسل هم الملائكة الذين امروا بتدمير مدن قوم لوط ، ولكنهم قبل ذلك جاؤوا إلى إبراهيم ليسلموه بلاغاً يتضمّن بشرى سارة.

أمّا عن ماهية هذه البشرى فهناك احتمالان ، ولا مانع من الجمع بينهما.

الإحتمال الأوّل : البشرى بتولّد إسماعيل وإسحاق ويعدّ بشارة عظمى.

والإحتمال الثاني : إنّ إبراهيم كان مستاءً مما وجده في قوم لوط من الفساد والعصيان ، فحين أخبروه بأنّهم امروا بهلاكهم سُرّ ، وكان هذا الخبر بشرى له.

فحين جاءوا إبراهيم (قَالُوا سَلمًا) فأجابهم أيضاً و (قَالَ سَلمٌ) ورحّب بهم (فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ). «العجل» : في اللغة ولد البقر ؛ و «الحنيذ» : معناه المشوي.

ويستفاد من هذه الجملة أنّ من آداب الضيافة أن يعجّل للضيف بالطعام ، خاصة إذا كان الضيف مسافراً ، فإنّه غالباً ما يكون متعباً وجائعاً وبحاجة إلى طعام ، فينبغي أن يقدم له الطعام عاجلاً ليخلد إلى الراحة.

ولكن حدث لإبراهيم حادث عجيب مع أضيافه عند تقديم العجل الحنيذ لهم ، فقد رآهم لا يمدّون أيديهم إلى الطعام ، وهذا العمل كان مريباً له وجديداً عليه ، فأحسّ بالإستيحاش واستغرب ذلك منهم (فَلَمَّا رَءَا أَيْدِيَهُمْ لَاتَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً).

ومن السنن والعادات القديمة التي لا تزال قائمة بين كثير من الناس الذين لهم التزام بالتقاليد الطيبة للاسلاف ، هي أنّ الضيف إذا تناول من طعام صاحبه (وبما اصطلح عليه : تناول من ملحه وخبزه) فهو لا يكنّ له قصد سوء ، وعلى هذا فإنّ من له قصد سوء مع أحد ـ واقعاً ـ يحاول ألّا يأكل من طعامه «وخبزه وملحه» ومن هذا المنطلق شك إبراهيم في نيّاتهم ، وأساء الظن بهم ، واحتمل أنّهم يريدون به سوءاً.

أمّا الرسل فإنّهم لمّا اطلعوا على ما في نفس إبراهيم ، بادروا لرفع ما وقع في نفسه و (قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ).

٤٠٧

وفي هذه الحال كانت امرأته «سارة» واقفة هناك فضحكت كما تقول الآية : (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ).

هذا الضحك من سارة يحتمل أن يكون لأنّها كانت مستاءةً من قوم لوط وفجائعهم ، واطّلاعها على قرب نزول العذاب عليهم كان سبباً لسرورها وضحكها.

ثم تضيف الآية أنّ إسحاق سيعقبه ولد من صلبه اسمه يعقوب : (فَبَشَّرْنهَا بِإِسْحقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحقَ يَعْقُوبَ).

الواقع أنّ الملائكة بشّروها بالولد وبالحفيد ، فالأوّل إسحاق والثّاني يعقوب ، وكلاهما من أنبياء الله.

ومع التفات «سارة» امرأة إبراهيم إلى كبر سنّها وسنّ زوجها فإنّها كانت آيسة من الولد بشدّة ، فاستنكرت بصوت عال متعجبة من هذا الأمر و (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ).

إنّ رسل الله ازالوا التعجب عنها فوراً وذكّروها بنعم الله «الخارقة للعادة» عليها وعلى اسرتها ونجاتهم من الحوادث الجمّة ، فالتفتوا إليها و (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). ذلك الربّ الذي نجّى إبراهيم من مخالب نمرود الظالم ، ولم يصبه سوء وهم في قلب النار.

وهذه الرحمة الإلهية لم تكن خاصة بذلك اليوم فحسب ، بل هي مستمرة في أهل هذا البيت ، وأي بركة أعظم من وجود رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام في هذه الاسرة وفي هذا البيت بالذات.

وقالت ملائكة الله لمزيد التأكيد على بشارتهم وكلامهم في شأن الله : (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ).

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)(٧٦)

رأينا في الآيات السابقة أنّ إبراهيم عرف فوراً أنّ أضيافه الجدد لم يكونوا أفراداً خطرين أو يخشى منهم ، ولمّا ذهب الهلع والخوف عن إبراهيم من اولئك الأضياف ، ومن ناحية اخرى فقد بشروه بالوليد السعيد ، شرع فوراً بالتفكير في قوم لوط الذين ارسل إليهم

٤٠٨

هؤلاء الرُسل «الملائكة» فأخذ يجادلهم ويتحدث معهم في أمرهم (فَلَمَّا ذَهَبَ عَن إِبْرهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ) (١).

وهنا يمكن أن ينقدح هذا السؤال ، وهو : لِمَ تباحث إبراهيم عليه‌السلام مع رسل الله وجادلهم في قوم آثمين ظالمين ـ كقوم لوط ـ وقد امروا بتدميرهم ، في حين أنّ هذا العمل لا يتناسب مع نبيّ ، خاصة إذا كان إبراهيم عليه‌السلام في عظمته وشأنه؟

لهذا فإنّ القرآن يعقّب مباشرة في الآية عن شفقة إبراهيم وتوكله على الله فيقول : (إِنَّ إِبْرهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (٢).

هذه الاصاف الثلاث المجملة جواب على السؤال المشار إليه آنفاً. وتوضيح ذلك : إنّ هذه الصفات المذكورة لإبراهيم تشير إلى أنّ مجادلته كانت ممدوحة ، وذلك لأنّ إبراهيم لم يتّضح له أنّ أمر العذاب صادر من قبل الله بصورة قطعية ، ويحتمل أنّهم سيرتدون عن غيهم ويتّعظون ، ومن هنا فما زال هناك مجال للشفاعة لهم ....

وتقول الآية التالية : إنّ الرسل قالوا لإبراهيم ـ مباشرةً ـ أن أعرض عن اقتراحك لأنّ أمر ربّك قد تحقق والعذاب نازل لا محالة. (يَا إِبْرهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْءَاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).

والتعبير ب «ربّك» لا يدل على أنّ هذا العذاب خال من الطابع الانتقامي فحسب ، بل يدل أيضاً على أنّه علامة لتربية العباد وإصلاح المجتمع الإنساني.

(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٨٠)

__________________

(١) «روع» : على وزن «نوع» معناها «الخوف والوحشة» وكلمة «روع» على وزن «نوح» معناها «الروح» أو قسم منها الذى هو محل الخوف ومركزه ، لمزيد الإيضاح تراجع المعاجم اللغوية.

(٢) «الحليم» : مشتق من «الحلم» وهو : الأناة والصبر فى سبيل الوصل إلى هدف مقدس ، والأواه فى الأصل : كثير التحسر والآه سواء من الخوف من المسؤولية التى يحملها أو من المصائب ، والمنيب من الإنابة أى الرجوع.

٤٠٩

قوم لوط وحياة الخزي : مرّت في آيات من سورة الأعراف إشارة إلى شيء من مصير قوم لوط ، وفسّرنا ذلك في محلّه ، وهنا يتناول القرآن الكريم ـ وبمناسبة ما ذكره من قصص الأنبياء وأقوامهم وبما ورد في الآيات المتقدمة عن قصة لوط وقومه ـ قسماً آخر من حياة هؤلاء القوم المنحرفين الضالين ليتابع بيان الهدف الأصلي ألا وهو سعادة المجتمع الإنساني ونجاته بأسره. يبيّن القرآن الكريم في هذا الصدد أوّلاً ... أنّه لما جاءت رسلنا لوطاً طار هلعاً وضاق بهم ذرعاً وأحاط به الهمّ من كل جانب (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا).

وقد ورد في الروايات الإسلامية أنّ لوطاً كان في مزرعَته حيث فوجىء بعدد من الشباب الوسيمين الصِباح الوجوه قادمون نحوه وراغبون في النزول عنده ولرغبته باستضافتهم من جهة ، ولعلمه بالواقع المرير الذي سيشهده في مدينته الملوّثة بالانحراف الجنسي من جهة اخرى ، كل ذلك أوجب له الهم ...

ومرّت هذه المسائل على شكل أفكار وصور مرهقة في فكره ، وتحدث مع نفسه (وَقَالَ هذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) ، لاحتمال الفضيحة والتورط في مشاكل عويصة.

«سيىء» : مشتقة من ساء ، ومعناها عدم الإرتياح وسوء الحال ؛ و «الذرع» : تعني «القلب» على قول ؛ وكلمة «عصيب» : مشتقة من «العصب» ومعناه ربط الشيء بالآخر وشده شدّاً محكماً ، وبما انّ الحوادث الصعبة تشدّ الإنسان وكأنّها تسلبه راحته فيظل مبلبل الأفكار سُميت «عصيبة» وتطلق العرب على الأيام شديدة الحر أنّها عصيبة أيضاً.

وورد في بعض الروايات أنّ لوطاً أخّر ضيوفه كثيراً حتى حلول الليل ، فلعله يستطيع أن يحفظ ماء وجهه من شرور قومه ، ويقوم بواجب الضيافة دون أن يُساء إلى أضيافه ، ولكن ما عسى أن يفعل الإنسان إذا كان عدوه داخل بيته ، وكانت امرأة لوط امرأة كافرة وتساعد قومه الظالمين ، وقد اطلعت على ورود هؤلاء الأضياف إلى بيتها ، فصعدت إلى أعلى السطح وصفقت بيديها أوّلاً ، ثم بإشعال النار وتصاعد الدخان أعلمت جماعة من هؤلاء القوم بأنّ طعمة دسمة قد وقعت في «الشِباك».

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) (١). وكانت حياة هؤلاء

__________________

(١) «يُهرعون» : مشتقّة من الإهراع ومعناها السياقة الشديدة ، فكأنّما تسوق غريزة هؤلاء إيّاهم بشدّة إلى أضيافه.

٤١٠

القوم مسودّة وملطخة بالعار (وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيَاتِ) فكان من حق لوط أن يضيق ذرعاً ويصرخ ممّا يرى من شدّة استيائه و (قَالَ يَا قَوْمِ هؤُلَاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فأنا مستعد أنّ أزوجهن إياكم (فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ) يصدكم عن هذه الأعمال المخزية وينصحكم بالإقلاع عنها.

تعبير لوط (أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ) في آخر كلامه مع قومه المنحرفين يكشف عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ وجود رجل ـ ولو رجل واحد رشيد ـ بين قوم ما وقبيلة ما يكفي لردعهم من أعمالهم المخزية ، أي لو كان فيكم رجل عاقل ذو لبّ ورشد لما قصدتم بيتي ابتغاء الإعتداء على ضيفي!

ولكن هؤلاء القوم المفسدين أجابوا لوطاً بكل وقاحة وعدم حياء و (قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ).

وهنا وجد لوط ـ هذا النبي العظيم ـ نفسه محاصراً في هذه الحادثة المريرة فنادى و (قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قَوَّةً) أو سند من العشيرة والأتباع والمعاهدين الأقوياء حتى اتغلّب عليكم (أَوْءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ).

(قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣)

عاقبة الجماعة الظالمة : وأخيراً حين شاهد الملائكة (رسل الله) الأضياف ، ما عليه لوط من عذاب النفس كشفوا «ستاراً» عن أسرار عملهم و (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ).

نقرأ في الآية (٣٧) من سورة القمر : (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ). ونقرأ في بعض الروايات ـ أيضاً ـ أنّ أحد الملائكة غشّى وجوههم بحفنة من التراب فعموا جميعاً.

إنّ اطلاع لوط عليه‌السلام على حال أضيافه ومأموريتهم ، دنا زمن السرور والنجاة من مخالب هؤلاء القوم المنحرفين المتوحشين.

٤١١

ثم أمر الأضياف لوطاً ـ مباشرة ـ أن يرحل هو وأهله من هذه البلدة وقالوا : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ).

ولكن كونوا على حذر (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ) إلى الوراء (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) لتخلّفها عن أمر الله وعصيانها مع العُصاة الظَلَمة.

وخلاصة الأمر فإنّ آخر ما قاله رسل الله ـ أي الملائكة ـ للوط عليه‌السلام : إنّ العذاب سينزل قومه صباحاً. ومع أوّل شعاع للشمس سيحين غروب حياة هؤلاء : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ).

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ الملائكة حين وعدوا لوطاً بنزول العذاب صباحاً ، سأل لوط الملائكة لشدة ما لقيه من قومه مما ساءه ، وجرح قلبه وملأه همّاً وغمّاً أن يعجلوا عليهم بالعذاب في الحال فإنّ الأفضل الإسراع ، ولكن الملائكة طمأنوه بقولهم : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).

وأخيراً دنت لحظة العذاب وتصرّمت ساعات انتظار لوط النبي عليه‌السلام وكما يقول القرآن الكريم : (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجّيلٍ مَّنضُودٍ).

وكلمة «سجّيل» : فارسية الأصل ، وهي مركبة من «سنگ» ومعناها الحجارة و «گِل» ومعناها الطين ، فعلى هذا هي شيء لاصلباً كالحجارة ولا رخواً كالزهرة ، وإنّما هي برزخ «وسط» بينهما. و «المنضود» : من مادة «نضد» ومعناه كون الشيء مصفوفاً وموضوعاً بشكل متتابع ومتراكم ، أي إنّ هذا المطر كان متتابعاً سريعاً إلى درجة حتى كأنّ هذه الأحجار تتراكب بعضها فوق بعض فتكون «منضودة».

ولكن هذه الأحجار ليست أحجاراً عادية ، بل هي أحجار فيها علامات عند الله (مُسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ).

ولا تتصوروا أنّ هذه الأحجار مخصوصة بقوم لوط ، بل (وَمَا هِىَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

هؤلاء القوم المنحرفون ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم ، لعبوا بمصير امتهم كما استهزؤوا بالإيمان والأخلاق الإنسانية ، وكلّما نصحهم نبيّهم باخلاص وحرقة قلب لم يسمعوا له وسخروا منه.

تحريم الانحراف الجنسي : يُعدّ الميل الجنسي إلى المماثل «سواء وقع ذلك بين الرجال أو بين النساء» من الذنوب الكبيرة في الإسلام ، وقد جعل الإسلام لكل من الحالتين حداً شرعياً.

والرّوايات التي تذم الميل الجنسي إلى المماثل والمنقولة عن قادة الإسلام كثيرة ومذهلة

٤١٢

والمطالع لهذه الروايات يحسّ أنّ قبح هذا الذنب ليس له مثيل بين الذنوب.

نقرأ مثلاً من هذه الروايات رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من جامع غلاماً جاء يوم القيامة جنباً لا ينقّيه ماء الدنيا ، وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له جهنم وساءت مصيراً. ثمّ قال : إنّ الذّكر يركب الذّكر فيهتزّ العرش لذلك» (١).

(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦)

مدين بلدة شعيب : مع انتهاء قصة قوم لوط تصل النوبة إلى قوم شعيب وأهل مدين ، اولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام ، ولم يعبدوا الأصنام فحسب ، بل الدرهم والدينار والثروة والمال ، ومن أجل ذلك فإنّهم لوّثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد. في بداية القصة تقول الآية : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا). وكلمة «أخاهم» تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبّة من قِبَل الأنبياء لقومهم.

و «مدين» : اسم لمدينة شعيب وقبيلته ، وتقع المدينة شرق خليج العقبة ، وأهلها من أبناء إسماعيل ، وكانوا يتاجرون مع أهل مصر ولبنان وفلسطين.

هذا النبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه ـ كأي نبي في اسلوبه وطريقته في بداية الدعوة ـ دعاهم أوّلاً إلى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو «التوحيد» وقال : (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

ثم أشار إلى أحد المفاسد الاقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام والشرك ، وكانت رائجة عند أهل مدين يومئذ جدّاً ، وقال : (وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ). أي حال البيع والشراء.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٤ / ٢٤٩.

٤١٣

ويشير هذا النبي العظيم بعد هذا الأمر إلى علتين :

العلة الاولى : هي قوله (إِنّى أَرَيكُم بِخَيْرٍ).

يقول أوّلاً : إنّ قبول نصحي يكون سبباً لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الجملة (إِنّى أَرَيكُم بِخَيْرٍ) أنّ شعيباً يقول لهم : إنّي أراكم منعمين وفي خير كثير ، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام وإضاعة حقوق الناس والكفر بدلاً من الشكر على نعم الله سبحانه.

وثانياً : (وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ) بسبب إصراركم على الشرك والتطفيف في الوزن وكفران النعمة ... الخ.

وكلمة «محيط» : جاءت صفة ليوم ، أي يوم شامل ذو إحاطة ، وشمول اليوم يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم ، وهذا التعبير فيه إشارة إلى عذاب الآخرة كما يشير إلى عقاب الدنيا الشامل.

والآية الاخرى تؤكّد على نظامهم الاقتصادي ، فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلة البيع والبخس في المكيال ، فهنا يدعوهم إلى إيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول : (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ).

ويجب أن يحكم هذا الأصل «وهو اقامة القسط والعدل ، وإعطاء كل ذي حق حقه» على مجتمعكم بأسره.

ثم يخطو خطوة أوسع ويقول : (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ).

و «البخس» : معناه في اللغة التقليل ، وجاء هنا بمعنى الظلم أيضاً.

ونجد في نهاية الآية أنّ شعيباً يخطو خطوةً اخرى أوسع ويقول لقومه : (وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والإعتداء على حقوق الآخرين ، والفساد أيضاً يقع في الإخلال بالموازين والمقاييس الاجتماعية ، ويقع أيضاً ببخس الناس أشياءهم وأموالهم ، وأخيراً يقع الفساد على الحيثيات بالإعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.

إنّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء ، وهي أنّه بعد الإعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح ، يُنظر إلى الاقتصاد السليم بأهمية خاصة ، كما تدلّان على أنّ

٤١٤

الإخلال بالنظام الاقتصادي سيكون أساساً للفساد الوسيع في المجتمع.

ثم يخبرهم أنّ زيادة الثروة ـ التي تصل إلى أيديكم عن طريق الظلم واستثمار الآخرين ـ ليست هي السبب في غناكم ، بل ما يغنيكم هو (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

التعبير ب «بقيت الله» إمّا لأنّ الربح الحلال القليل المترشح عن أمر الله فهو «بقيت الله» وإمّا لأنّ الحصول على الرزق الحلال باعث على دوام نعم الله وبقاء البركات ... وإمّا لأنّه يشير إلى الجزاء والثواب المعنوي الذي يبقى إلى الأبد.

وقد قلنا مراراً إنّ آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصة ، إلّاأنّها تحمل مفاهيم جامعة وكلية ، بحيث يمكن أن يكون لها مصداق في العصور والقرون التالية وتنطبق على مجال أوسع أيضاً.

صحيح أنّ المخاطبين في الآية المتقدمة هم قوم شعيب ، والمراد من (بقيت الله) هو الربح ورأس المال الحلال أو الثواب الإلهي ، إلّاأنّ كل موجود نافع باق من قبل الله للبشرية ، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعدّ (بقيت الله) أيضاً.

ومن هنا فإنّ «المهدي الموعود عليه‌السلام» آخر إمام وأعظم قائد ثوري بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أجلى مصاديق (بقيت الله) وهو أجدر من غيره بهذا اللقب ، خاصة أنّه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام.

وفي نهاية الآية ـ محل البحث ـ نقرأ على لسان شعيب : (وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ). إذ وظيفته هي البلاغ وليس مسؤولاً على «إجبار» أحد أبداً.

(قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (٩٠)

٤١٥

المنطق الواهي : والآن فَلنَر ما كان ردّ القوم اللجوجين إزاء نداء هذا المصلح السماوي «شعيب». فبما إنّهم كانوا يتصورون أنّ عبادة الأصنام من آثار سلفهم الصالح ، ودلالة على أصالة ثقافتهم ، وكانوا لا يرفعون اليد عن الغش في المعاملة وتحقيق الربح الوفير عن هذا الطريق قالوا : (يَا شُعَيْبُ أَصَلَوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُءَابَاؤُنَا). ونترك حريتنا في التصرف بأموالنا فلا نستطيع الاستفادة منها (أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشؤُا). إنّ هذا بعيد منك (إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).

لقد كان قوم شعيب واقعين في مثل هذا الخطأ حيث كانوا يتصورون أنّه من الخطأ القول بتحديد التصرف بالأموال من قِبَل مالكيها ، في حين يجب أن تكون الامور المالية تحت ضوابط صحيحة ومحسوبة كما عرضها الأنبياء على الناس ، وإلّا فستجرّ الحرية المطلقة المجتمع نحو الانحراف والفساد.

وعلى كل حال هؤلاء الأغنياء فلعلهم كانوا يتصورون متساءلين : إنّ هذه الأذكار والأدعية ما عسى أن تؤثر في هذه الامور؟ على حين لو كان اولئك يفكرون جيداً لأدركوا هذا الأمر الواقعي وهو أنّ الصلاة توقظ في الإنسان الإحساس بالمسؤولية والتقوى ومخافة الله ومعرفة الحقوق ، وتذكره بالله وبمحكمة عدل الله ، ولذلك فهي تخلّصه من الشرك وعبادة الأصنام والتقليد الأعمى للسلف الجاهل وبخس الناس أشياءهم ، وعن أنواع الغش والخداع ... الخ.

ولكن شعيباً ردّ على من اتّهمه بالسفه وقلة العقل بكلام متين و (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا).

ثمّ يضيف هذا النبي العظيم قائلاً : (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهكُمْ عَنْهُ). فلا تتصوروا أنّني أقول لكم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تنقصوا المكيال ، وأنا أبخس الناس أو أنقص المكيال ، أو أقول لكم لا تعبدوا الأوثان وأنا أفعل ذلك كله ، كلا فإنّني لا أفعل شيئاً من ذلك أبداً.

ويستفاد من هذه الجملة أنّهم كانوا يتهمون شعيباً بأنّه كان يريد الربح لنفسه ، ولهذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحةً ويقول تعقيباً على ما سبق (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلحَ مَا اسْتَطَعْتُ).

وهذا هو هدف الأنبياء جميعاً ، حيث كانوا يسعون إلى إصلاح العقيدة ، وإصلاح الأخلاق ، وإصلاح العمل ، وإصلاح العلائق والروابط الاجتماعية وأنظمتها (وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا

٤١٦

بِاللهِ) للوصول إلى هذا الهدف.

وعلى هذا فإنّني ، ولأجل أداء رسالتي والوصول إلى هذا الهدف الكبير (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

وأسعى للإستعانة به على حل المشاكل ، وأتوكل عليه في تحمّل الشدائد في هذا الطريق ، وأعوذ إليه أيضاً.

ثم ينبههم إلى مسألة أخلاقية ، وهي أنّه كثيراً ما يحدث للإنسان أنّه لا يعرف مصالحه وينسى مصيره ، وذلك بسبب بغضه وعدائه بالنسبة لشخص آخر أو التعصب الأعمى واللجاجة في شيء ما ، فيقول لهم (وَيَا قَوْمِ لَايَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى) فتبتلوا بما ابتلى به غيركم و (أَن يُصِيبَكُم مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صلِحٍ) وما حدث لقوم لوط من البلاء العظيم حيث أمطرهم الله بحجارة من سجيل منضود وقلب مدنهم فجعل عاليها سافلها (وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ).

و «مدين» : التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن قوم لوط ، لأنّ الموطنين كلاهما كانا من مناطق «الشامات» وأمّا من الناحية العملية فالفرق كبير بين الانحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والانحراف الاقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب ، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في المجتمع والإخلال بالنظام الاجتماعي وإماتة الفضائل الخُلقية وإشاعة الانحراف.

ثم يأمر شعيب قومه الضالين بشيئين هما ما كان يؤكّد عليه جميع الأنبياء المتقدمين. الأوّل: قوله : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ). أي لتطهروا من الذنوب وتجتنبوا الشرك وعبادة الأوثان والخيانة في المعاملات. والثاني : قوله : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي ارجعوا إليه.

والواقع أنّ الاستغفار توقف في مسير الذنب وغسل النفس ، والتوبة عودة إلى الله الكمال المطلق.

واعلموا أنّه مهما يكن الذنب عظيماً والوزر ثقيلاً فإنّ طريق العودة إليه تعالى مفتوح وذلك لأنّ (رَبّى رَّحِيمٌ وَدُودٌ).

«الودود» : صيغة مبالغة مشتقة من الود ومعناه المحبة ، وذكر هذه الكلمة بعد كلمة «رحيم» إشارة إلى أنّ الله يلتفت بحكم رحمته إلى المذنبين التائبين ، بل هو إضافة إلى ذلك يحبّهم كثيراً لأنّ رحمته ومحبّته هما الدافع لقبول الاستغفار وتوبة العباد.

٤١٧

(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْ لَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (٩٣)

التهديدات المتبادلة بين شعيب وقومه : إنّ شعيباً هذا النبي العظيم ـ الذي لُقّب بخطيب الأنبياء (١) لخطبه المعروفة والواضحة ، والتي كانت أفضل شاهد أمين للحياة المادية والمعنوية لهذه الجماعة ـ واصل محاججته لقومه بالصبر والأناة والقلب المحترق ، ولكن تعالوا لنرى كيف ردّ عليه هؤلاء القوم الضالون؟!

لقد أجابوه بأربع جمل كلها تحكي عن جهلهم ولجاجتهم :

فأوّلها : أنّهم قالوا : (يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ).

والثانية : قولهم (وَإِنَّا لَنَرَيكَ فِينَا ضَعِيفًا).

والثالثه : هي أنّه لا تظنّ أنّنا نتردد في القضاء عليك بأبشع صورة خوفاً منك ومن بأسك ، ولكن احترامنا لعشيرتك هو الذي يمنعنا من ذلك (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنكَ).

«الرهط» : تطلق في لغة العرب على الجماعة التي مجموع أنصارها ثلاثة إلى سبعة ، أو عشرة ، أو على قول ـ وهو الحد الأكثر ـ تطلق على أربعين نفراً.

وهم يشيرون بذلك إلى أنّ قبيلتك تتمتع بالقوة الكافية مقابل قوتنا ، ولكن تمنعنا أمور اخرى.

وقولهم الأخير : (وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) فمهما كانت منزلتك في عشيرتك ، ومهما كنت كبيراً في قبيلتك إلّاأنّه لا منزلة لك عندنا لسلوكك المخالف والمرفوض.

ولكن شعيباً دون أن يتأثر بكلماتهم الرخيصة واتهاماتهم الواهية أجابهم بمنطقه العذب وبيانه الشائق متعجباً وقال : (يَا قَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ) أفتذروني من أجل

__________________

(١) بحار الأنوار ١٢ / ٣٨٧.

٤١٨

رهطي وقبيلتي التي لا تتجاوز عدّة أنفار ولا تصغون لكلامي في الله؟ وهل يمكن أن نقارن عدة أفراد بعظمة الله سبحانه ... وأنتم لم تهابوه وتوقّروه (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا).

وفي الختام يقول لهم : لا تظنوا أنّ الله غافل عنكم أو أنّه لا يرى أعمالكم ولا يسمع كلامكم ، بل (إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

فحيث أنّ المشركين من قوم شعيب هددوهُ في آخر كلامهم بالرجم ، وأبرزوا قوتهم أمامه ، كان موقف شعيب من تهديداتهم على النحو التالي : (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (١).

(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥)

عاقبة المفسدين في مدين : قرأنا في قصص الأقوام السابقين مراراً ، أنّ الأنبياء كانوا في المرحلة الاولى يدعونهم إلى الله ، وفي المرحلة التي بعدها حيث لم ينفع النصح للجماعة ينذرها نبيّها ويخوّفها من عذاب الله ، وفي المرحلة الثالثه ، تبدأ مرحلة التصفية وينزل العقاب. وفي شأن قوم شعيب ـ أي أهل مدين ـ وصل الأمر إلى المرحلة النهائية أيضاً ، إذ يقول القرآن الكريم فيهم : (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ). «الصيحة» : معناها في اللغة كل صوت عظيم ، والقرآن الكريم يحكي عن هلاك أقوام متعددين بالصيحة السماوية ، هذه الصيحة يحتمل أن تكون صاعقة من السماء أو ما شابهها.

ثم يعقّب القرآن فيقول : (فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ). أي : أجساداً هامدة بلا روح ، لتبقى أجسادهم هناك عبرة لمن اعتبر ...

وهكذا طُوي سجلّ وطومار حياتهم (كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا). وانطفأ بريق كل شيء ، فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم.

وكما كانت نهاية عاد وثمود ـ وقد حكى عنهما القرآن ـ فهو يقول عن نهاية مدين أيضاً

__________________

(١) «الرقيب» : معناه الحافظ والمراقب وهو مشتق في الأصل من الرقبة وإنّما سُمّي بذلك لأنّه يكون حافظاً على رقبة شخص ما «كناية عن أنّه مراقب على روحه» أو يحرك الرقبة ليؤدّي دور الرقابة والحفظ.

٤١٩

(أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ). والمقصود من كلمة «مدين» أهل مدين الذين كانوا بعيدين عن رحمة الله وكانوا من الهالكين.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩)

البطل المبارز لفرعون : بعد انتهاء قصّة شعيب وأهل مدين ، يُشير القرآن الكريم إلى زاوية من قصة موسى ومواجهته لفرعون وهذه القصة هي القصة السابعة من قصص الأنبياء في هذه السورة. تحدث القرآن الكريم عن قصة موسى عليه‌السلام وفرعون وبني اسرائيل أكثر من مائة مرّة. وخصوصية قصة موسى عليه‌السلام بالنسبة لقصص الأنبياء ـ كشعيب وصالح وهود ولوط عليهم‌السلام التي قرأناها في ما سبق ـ هي أنّ اولئك الأنبياء عليهم‌السلام واجهوا الأقوام الضالين ، لكن موسى عليه‌السلام واجه إضافة إلى ذلك حكومة «ديكتاتور» طاغ مستبد هو فرعون الجبار. ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّنا نقرأ في هذا القسم من قصة موسى زاوية صغيرة فحسب ولكنها في الوقت ذاته تحمل رسالة كبيرة للناس جميعاً. يقول القرآن الكريم أوّلاً : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَايَاتِنَا وَسُلْطنٍ مُّبِينٍ).

«السلطان» : بمعنى التسلط ، يستعمل تارةً في السلطة الظاهرية ، وأحياناً في السلطة المنطقية ، السلطة التي تحاصر المخالف في طريق مسدود بحيث لا يجد طريقاً للفرار.

ويبدو في الآية المتقدمة أنّ «السلطان» استعمل في المعنى الثاني ، والمراد ب «الآيات» هي معاجز موسى الجليلة.

إنّ موسى ارسل بتلك المعجزات القاصمة وذلك المنطق القوي (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ).

«الملأ» : تُطلق على الذين يملأ مظهرهم العيون بالرغم من خلوّ المحتوى الداخلي ، وفي منطق القرآن تطلق هذه الكلمة غالباً على الوجوه والأشراف والأعيان الذين يحيطون بالمستكبرين وبالقوى الظالمة ... إلّاأنّ جماعة فرعون الذين وجدوا منافعهم مهددة بالخطر بسبب دعوة موسى ، فإنّهم لم يكونوا مستعدين للاستجابة ... لمنطقه الحق ومعجزاته

٤٢٠