مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

وتضيف الآية بأنّ هؤلاء يكفيهم عاراً وخزياً أن يرضوا بالبقاء مع العاجزين والمرضى رغم سلامتهم وقدرتهم ، ولم يهتموا بأنّهم سيحرمون من فخر الإشتراك في الجهاد : (رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ).

وكفى به عقاباً أن يسلبهم الله القدرة على التفكر والإدراك نتيجة أعمالهم السيئة هذه ، ولذلك أبغضهم الله (وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَعْلَمُونَ).

تتّضح من هذه الآيات المعنويات القوية العالية لجنود الإسلام ، وكيف أن قلوبهم كانت تتطلع بشوق ، وتتحرق عشقاً للجهاد والشهادة ، وهذا الفخر والوسام مقدم على جميع الأوسمة والصفات الاخرى التي كانوا يمتلكونها ، ومن هنا يتّضح عامل هو من أهم عوامل التقدم السريع للإسلام وتطوره وانتشاره في ذلك اليوم ، وتخلفنا في الوقت الحاضر لفقداننا هذا الوسام.

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : نزلت الآيات في جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلاً ، ولما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة راجعاً من تبوك قال :

«لا تجالسوهم ، ولا تكلموهم».

التّفسير

تستمر هذه السلسلة من الآيات في الحديث عن الأعمال الشيطانية للمنافقين. الآية الاولى تبين للمسلمين أنّ هؤلاء إذا علموا بقدومكم فسيأتون : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ).

٣٠١

ثم يتوجه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ باعتباره قائد المسلمين ـ بأن يواجه المنافقين : (قُل لَّا تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ) لأنّا على علم بأهدافكم الشيطانية وما تضمرون وما تعلنون ، إذ :

(قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ). إلّاأنّه في الوقت نفسه سيبقى باب التوبة والرجوع إلى الصواب مفتوحاً أمامكم (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ).

ثم قالت الآية : إنّ كل أعمالكم ونيّاتكم ستثبت اليوم في كتبكم (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

وفي الآية التالية إشارة اخرى إلى أيمان المنافقين الكاذبين ، وتنبيه للمسلمين على أنّ هؤلاء سيتوسلون باليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ).

إنّ هؤلاء يطرقون كل باب ليردوا منه ، فتارةً يريدون إثبات براءتهم وعدم تقصيرهم بالإعتذار ، وتارةً يعترفون بالتقصير ثمّ يطلبون العفو عن ذلك التقصير ، إذ ربّما استطاعوا عن إحدى هذه الطرق النفوذ إلى قلوبكم ، لكن لا تتأثروا بأي اسلوب من هذه الأساليب ، بل إذا جاؤوكم ليعتذروا إليكم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ).

ولتأكيد المطلب وتوضيحه وبيان دليله عقّبت الآية بأنّ السبب في الاعراض عن هؤلاء (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) ، ولأنّهم كذلك فإنّ مصيرهم (وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ). إنّ كل العواقب السيئة التي سيلقونها إنّما يرونها (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

في الآية الأخيرة التي نبحثها هنا إشارة إلى يمين اخرى من أيمان هؤلاء ، الهدف منها جلب رضى المسلمين : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ).

الملفت للنظر هنا أنّ الله تعالى لم يقل : لا ترضوا عنهم ، بل عبّر سبحانه بتعبير تُشم منه رائحة التهديد ، إذ يقول عزوجل : (فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَايَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).

لا شك أنّ هؤلاء من الناحية الدينية والأخلاقية لا يعيرون اهتماماً لرضى المسلمين ، بل إنّ الهدف من عملهم هذا هو رفع النظرة السلبية والغضب عليهم من أفكار وقلوب المسلمين ، ليكونوا في المستقبل في مأمن من ردود الفعل ضدهم إذا بدرت منهم أعمال منافية.

٣٠٢

(الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَنْ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٩)

في هذه الآيات الثلاث ـ استمراراً للبحث المتقدم حول منافقي المدينة ـ حديث وبحث حول وضع منافقي الأعراب ـ وهم سكان البوادي ـ وعلاماتهم وأفكارهم ، وكذلك قد تحدثت حول المؤمنين الخلص منهم.

وربّما كان السبب في تحذير المسلمين من هؤلاء ، هو أن لا يتصور المسلمون أنّ المنافقين هم ـ فقط ـ هؤلاء المتواجدون في المدينة ، بل إنّ المنافقين من الأعراب أشدّ وأقسى ، فالآية الاولى تقول : إنّ الأعراب ، بحكم بعدهم عن التعليم والتربية ، وعدم سماعهم الآيات الربانية وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أشدّ كفراً ونفاقاً من مشابهيهم في المدينة : (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) ولهذا البعد والجهل فمن الطبيعي ، بل الأولى أن يجهلوا الحدود والأحكام الإلهية التي نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ).

كلمة «الأعراب» من الكلمات التي تعطي معنى الجمع ، وهذه الكلمة تطلق على سكان البادية فقط ، ومختصة بهم ، وإذا أرادوا اطلاقهم على شخص واحد فإنّهم يستعملون نفس هذه الكلمة ويلحقون بها ياء النسب ، فيقولون : أعرابي.

«أجدر» : فهي مأخوذة من الجدار ، ومن ثم اطلقت على كل شيء مرتفع ومناسب ، ولهذا فإنّ «أجدر» تستعمل ـ عادةً ـ بمعنى الأنسب والأليق.

وتقول الآية أخيراً : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). أي : إنّه تعالى عندما يحكم على الأعراب بمثل هذا الحكم ، فلأنّه يناسب الوضع الخاص لهم ، لأنّ محيطهم يتصف بمثل هذه الصفات.

لكن ومن أجل أن لا يُتوهم بأنّ كل الأعراب أو سكان البوادي يتصفون بهذه الصفات ، فقد أشارت الآية التالية إلى مجموعتين من الأعراب. ففي البداية تتحدث عن أنّ قسماً من هؤلاء الأعراب ـ لنفاقهم أو ضعف إيمانهم ـ عندما ينفقون شيئاً في سبيل الله ، فإنّهم

٣٠٣

يعتبرون ذلك ضرراً وخسارة لحقت بهم ، لا أنّه توفيق ونصر وتجارة رابحة : (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا) (١).

ومن الصفات الاخرى لهؤلاء أنّهم دائماً ينتظرون أن تحيط بكم المصائب والنوائب والمشاكل ، ويرميكم الدهر بسهمه : (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ).

«الدوائر» : جمع دائرة ، ومعناها معروف ، ولكن العرب يقولون للحادثة الصعبة والأليمة التي تحل بالإنسان : دائرة ، وجمعها «دوائر».

في الواقع أنّ هؤلاء أفراد ضيقو النظر ، وبخلاء وحسودون.

ثم تقول الآية ـ بعد ذلك ـ إنّ هؤلاء ينبغي أن لا يتربصوا بكم ، وينتظروا حلول المصائب والدوائر بكم ، لأنّها في النهاية ستحل بهم فقط : (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ).

ثمّ تختم الآية الحديث بقولها : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، فهو تعالى يسمع كلامهم ، ويعلم بنياتهم ومكنون ضمائرهم.

أمّا الآية الأخيرة فقد أشارت إلى الفئة الثانية من الأعراب ، وهم المؤمنون المخلصون ، إذ تقول : (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ). ولهذا السبب فإنّهم لا يعتبرون الإنفاق في سبيل الله خسارة أبداً ، بل وسيلة للتقرب إلى الله ودعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لإيمانهم بالجزاء الحسن والعطاء الجزيل الذي ينتظر المنفقين في سبيل الله : (وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ).

هنا يؤيّد الله تعالى ويصدّق هذا النوع من التفكير ، ويؤكّد على أنّ هذا الإنفاق يقرب هؤلاء من الله قطعاً : (أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ) ولهذا (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ) وإذا ما صدرت من هؤلاء هفوات وعثرات ، فإنّ الله سيغفرها لهم لإيمانهم وأعمالهم الحسنة ، ف (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠)

__________________

(١) «مغرم» : مأخوذة من مادة (غرم) على وزن (جرم) ، وهي في الأصل بمعنى ملازمة الشيء ، ولهذه المناسبة قيل للدائن والمدين اللذين لا يدع كل منهما صاحبه : غريم ، وأيضاً قيل : غرامة ، لنفس هذه المناسبة لأنّها تلازم الإنسان ولا تنقطع عنه إلّابأدائها.

٣٠٤

هذه الآية تشير إلى مجموعات وفئات مختلفة من المسلمين المخلصين ، وقسمتهم إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : السابقون في الإسلام والهجرة : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ).

الثاني : السابقون في نصرة وحماية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه المهاجرين : (وَالْأَنصَارَ).

الثالث : الذين جاؤوا بعد هذين القسمين واتبعوا خطواتهم ومناهجهم ، وقبولهم الإسلام والهجرة ، ونصرتهم للدين الإسلامي ، فإنّهم إرتبطوا بهؤلاء السابقين : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ).

والملفت للنظر هنا فقد قالوا بالإجماع ، إنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الوفية المضحية ، وأمّا من الرجال فكل علماء الشيعة ومفسريهم ، وفريق كبير من أهل السنّة قالوا : إنّ علياً عليه‌السلام أوّل من أسلم ولبّى دعوة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبعد ذكر هذه الأقسام الثلاثة قالت الآية : (رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

إنّ رضى الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء هو نتيجة لإيمانهم وأعمالهم الصالحة التي عملوها ، ورضاهم عن الله لما أعد لهم من الجزاء والعطايا المختلفة التي لا تدركها عقول البشر.

ومع أنّ الجملة السابقة قد تضمنت كل المواهب والنعم الإلهية ، المادية منها والمعنوية ، الجسمية والروحية ، لكن الآية أضافت من باب التأكيد ، وبيان التفصيل بعد الإجمال : (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ). ومن إمتيازات هذه النعمة أنّها خالدة ، وسيبقى هؤلاء (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا). وإذا نظرنا إلى مجموع هذه المواهب المادية والمعنوية أيقنا أن (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). أيّ فوز أعلى وأكبر من أن يدرك الإنسان أن خالقه ومعبوده ومولاه قد رضي عنه ، وقد وقّع على قبول أعماله؟

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) (١٠١)

مرّة اخرى يدير القرآن المجيد دفة البحث إلى أعمال المنافقين وفئاتهم ، فيقول : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ). أي يجب أن تأخذوا بنظر الاعتبار المنافقين المتواجدين في أطراف المدينة ، وتحذروهم ، وتراقبوا أعمالهم ونشاطاتهم الخطرة.

٣٠٥

ثمّ تضيف الآية بأنّ في المدينة نفسها قسماً من أهلها قد وصلوا في النفاق إلى أقصى درجاته ، وثبتوا عليه ، وأصبحوا ذوي خبرة في النفاق : (وَمِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ).

«مردوا» : مأخوذة من مادة «مرد» بمعنى الطغيان والعصيان والتمرد المطلق ، وهي في الأصل بمعنى التعري والتجرد.

إنّ هؤلاء المنافقين قد انسلخوا من الحق والحقيقة ، وتسلطوا على أعمال النفاق إلى درجة أنّهم كانوا يستطيعون أن يظهروا في مصاف المؤمنين الحقيقين ، دون أن ينتبه أحد إلى حقيقتهم ومراوغتهم.

إنّ هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية يلاحظ جلياً ، وربّما كان ذلك إشارة إلى أنّ المنافقين الداخليين أكثر تسلطاً على النفاق ، وبالتالي فهم أشد خطراً ، فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقة ، لكن يجب أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين ، بل يراقبونهم أيضاً. لذلك تقول الآية مباشرة بعد ذلك : (لَاتَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة إلى العلم الطبيعي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملاً على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإلهي.

وفي النهاية تبين الآية صورة العذاب الذي سيصب هؤلاء : (سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ).

إنّ العذاب العظيم إشارة إلى عذاب يوم القيامة ، وفي نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما الذي يرجّحه النظر أنّ واحداً من هذين العذابين هو العقاب الاجتماعي لهؤلاء ، والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم ، والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا.

والعذاب الثّاني هو ما أشارت إليه الآية (٥٠) من سورة الأنفال ، حيث تقول هناك : (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ).

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٠٢)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قال أبو حمزة الثمالي : بلغنا أنّهم ثلاثة نفراً من الأنصار : أبو لبابة بن

٣٠٦

عبد المنذر ، وثعلبة بن وديعة ، وأوس بن حذام ، تخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند مخرجه إلى تبوك ، فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيّه ، أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد ، فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسأل عنهم ، فذكر له أنّهم أقسموا أن لا يحلّون أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحلّهم وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وأنا أقسم لا أكون من حلّهم إلّاأن اؤمر فيهم بأمر». فلما نزل (عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ، فحلّهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله ، فقالوا : هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها ، وتصدّق بها عنّا. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما امرت فيها». فنزل (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) الآيات.

التّفسير

بعد أن أشارت الآية السابقة إلى وضع المنافقين في داخل المدينة وخارجها ، أشارت هذه الآية هنا إلى وضع جمع من المسلمين العاصين الذين أقدموا على التوبة لجبران الأعمال السيئة التي صدرت منهم ، ورجاء لمحوها : (وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ويشملهم برحمته الواسعة ف (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

الزكاة مطهرة للفرد والمجتمع : في الآية الاولى من هذه الآيات إشارة إلى أحد الأحكام الإسلامية المهمة ، وهي مسألة الزكاة ، حيث تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشكل عام أن : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً).

إنّ حكم (خذ) دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإسلامية يستطيع أن يأخذ الزكاة من الناس ، لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة ، وإلّا فلا.

ثمّ تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية للزكاة ، حيث تقول : تُطَهّرُهُمْ

٣٠٧

وَتُزَكّيهِم بِهَا). فهي تطهرهم من الرذائل الأخلاقية ، ومن حبّ الدنيا وعبادتها ، ومن البخل وغيره من مساوىء الأخلاق ، وتزرع مكانها خلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم. وفوق كل ذلك فإنّ المفاسد الاجتماعية والانحطاط الخلقي والاجتماعي المتولد من الفقر والتفاوت الطبقي والذي يؤدّى إلى وجود طبقة محرومة ، كل هذه الامور ستقتلع بتطبيق هذه الفريضة الإلهية وأدائها.

ثم تضيف الآية في خطابها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم (وَصَلّ عَلَيْهِمْ). إنّ هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم ، حتى إذا كان مايؤدونه واجباً عليهم وحكماً شرعياً يقومون به ، وترغيبهم بكل الطرق ، وخاصة المعنوية والنفسية.

في المجمع روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : «اللهمّ صلّ عليهم».

ثم تقول الآية : (إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) لأنّ من بركات هذا الدعاء أن تنزل الرحمة الإلهية عليهم ، وتغمر قلوبهم ونفوسهم إلى درجة أنّهم كانوا يحسون بها.

وفي نهاية الآية نقرأ : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية ، إذ إنّ الله سبحانه يسمع دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومطلع على نيات المؤدين للزكاة.

ولما كان بعض المذنبين ـ كالمتخلفين عن غزوة تبوك ـ يصرّون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قبول توبتهم ، أشارت الآية الثانية من الآيات التي بين يدينا إلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطاً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل بالله الغفور الرحيم ، لذا قالت : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ). ولا ينحصر الأمر بتوقف قبول التوبة على قبول الله لها ، بل إنّه تعالى هو الذي يأخذ الزكاة والصدقات الاخرى التي يعطيها العباد تقرباً إليه ، أو تكفيراً لذنوبهم : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ).

إنّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإسلامي ـ أي الزكاة ـ فبالرغم من ترغيب كل المسلمين ودعوتهم إلى القيام بهذه الوظيفة الإلهية الكبيرة ، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدّونها إليه ، لأنّ من يأخذها هو الله عزوجل.

في المجمع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل».

وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «ما من شيء إلّاوكّل به ملك إلّاالصدقة فإنّها تقع في يد الله».

٣٠٨

ثم قالت الآية في النهاية من باب التأكيد : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وتؤكّد الآية التي تليها البحوث التي مرّت بصورة جديدة ، وتأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبلغ الناس : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ). فهي تشير إلى أن لا يتصور أحد أنّه إذا عمل عملاً ، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه ، بل إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين يعلمون به إضافةً إلى علم الله عزوجل.

إنّ هذا الإطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر ، لذا فإنَّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول : (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

مسألة عرض الأعمال : إنّ بين أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّة عليهم‌السلام عقيدة معروفة ومشهورة ، وهي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام يطلعون على أعمال كل الامّة ، أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصه عليهم.

إنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها ، فإنّي إذا علمت أنّ الله الموجود في كل مكان معي ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ نبيي وأئمتي عليهم‌السلام يطلعون على كل أعمالي ، الحسنة والسيئة في كل يوم ، أو في كل اسبوع ، فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال ، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت الآية في (ثلاثة من المتخلفين عن تبوك وهم :) هلال بن امية الواقفي ، ومرارة بن ربيع ، وكعب بن مالك ، وهم من الأوس والخزرج وكان كعب بن مالك رجل صدق غير مطعون عليه ، وإنّما تخلف توانياً عن الإستعداد ، حتى فاته المسير وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : والله ما لي من عذر ولم يعتذر إليه بالكذب فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صدقت ، فمر حتى يقضي الله فيك». وجاء الآخران فقالا مثل ذلك وصدقا. فنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مكالمتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فأقاموا على ذلك خمسين ليلة وبني كعب خيمة على سلع يكون فيها وحده. ثم نزلت التوبة عليهم بعد الخمسين في الليل وهو قوله تعالى (وَعَلَى الثَّلثَةِ الَّذِينَ خُلّفُوا) الآية (١١٨) من هذه السورة.

٣٠٩

التّفسير

في هذه الآية إشارة إلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيداً عاقبة أمرهم ، فلا هم مستحقون حتماً للرحمة الإلهية ، ولا من المغضوب عليهم حتماً ، لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في حقّهم : (وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ).

وتضيف الآية ـ بعد ذلك ـ أنّ الله سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب ، بل يقضي بعلمه وحكمته : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١١٠)

سبب النّزول

تتحدث الآيات أعلاه عن جماعة اخرى من المنافقين الذين أقدموا ـ من أجل تحقيق أهدافهم المشؤومة ـ على بناء مسجد في المدينة ، عرف فيما بعد ب (مسجد الضرار).

في تفسير مجمع البيان : قال المفسرون : إنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم عن جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف ، فقالوا : نبني مسجداً فنصلّي فيه ولا نحضر جماعة محمّد. فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء فلما فرغوا منه ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله! إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاثية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّى فيه لنا وتدعو بالبركة. فقال : «إنّي على جناح سفر ، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله

٣١٠

فصلّينا لكم فيه». فلما انصرف رسول الله من تبوك ، نزلت عليه الآية في شأن المسجد. وكشف الستار عن أعمال هؤلاء ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحرق المسجد المذكور ، وبهدم بقاياه ، وأن يُجعل مكانه محلاً لرمي القاذورات والأوساخ.

التّفسير

معبد وثني في صورة مسجد : أشارت الآيات السابقة إلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين ، وتُعرّف الآيات التي نبحثها مجموعة اخرى منهم ، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع بخطة دقيقة وذكية ، إلّاأنّ اللطف الإلهي أدرك المسلمين ، وبدد أحلام المنافقين بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم. فالآية الاولى تقول : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا) وأخفوا أهدافهم الشريرة تحت هذا الإسم المقدس ، ثم لخصت أهدافهم في أربعة أهداف :

١ ـ إنّ هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إلحاق الضرر بالمسلمين ، فكان مسجدهم (ضِرَارًا).

٢ ـ تقوية اسس الكفر ، ومحاولة إرجاع الناس إلى الحالة التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام : (وَكُفْرًا).

٣ ـ إيجاد الفرقة بين المسلمين ، لأنّ اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريباً منه ، أو مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يبعد عنه (وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ).

ويظهر من هذه الجملة ـ وكذلك فهم بعض المفسرين ـ أنّ المسافة بين المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الاجتماع في مسجد على جماعة المسجد الآخر.

٤ ـ والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين وأصحاب السوابق السيئة ، والإنطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم : (وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ).

إلّا أنّ مما يثير العجب أنّ هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع ، وأنّهم لايريدون إلّاالخير : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى).

إلّا أنّ القرآن الكريم يبين أنّ الله تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون الضمائر ، والذي

٣١١

تساوى لديه الظاهر والباطن ، والغيب والشهادة يشهد على كذب هؤلاء : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).

يؤكّد الله سبحانه وتعالى في الآية التالية تأكيداً شديداً على مسألة حياتية مهمة ، ويأمر نبيّه بصراحة أن (لَاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) بل (لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ) لا المسجد الذي أسس من أوّل يوم على الكفر والنفاق وتقويض أركان الدين.

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّه بالإضافة إلى أنّ هذا المسجد قد أسس على أساس التقوى ، فإنّ (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهّرِينَ).

إنّ للطهارة هنا معنى واسعاً يشمل كل أنواع التطهير ، سواء التطهير الروحي من آثار الشرك والذنوب ، أو التطهير الجسمي من الأوساخ والنجاسات.

وفي الآية الثالثه من الآيات مقارنة بين فريقين وفئتين : المؤمنين الذين بنوا مساجد كمسجد قبا على أساس التقوى ، والمنافقين الذين بنوه على أساس الكفر والنفاق والتفرقة والفساد. فهي تقول أوّلاً : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ).

إنّ التشبيه الوارد أعلاه يعطي صورة في منتهى الوضوح عن عدم ثبات أعمال المنافقين وتزلزلها ، وفي المقابل استحكام ودوام أعمال المؤمنين ونشاطاتهم وبرامجهم.

ومن هنا ، فإنّ المنافقين يظلمون أنفسهم ويظلمون المجتمع أيضاً ولذلك فإنّ الآية اختتمت بقوله : (وَاللهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

وفي آخر آية إشارة إلى إصرار المنافقين وعنادهم ، فهي تعبّر عن تعصبهم وإصرارهم في أعمالهم ، وعنادهم في نفاقهم ، وحيرتهم في ظلمة كفرهم ، فهم في شك من بنيانهم الذي بنوه ، أو في النتيجة المرجوة منه ، وسيبقون في هذه الحال حتى موتهم : (لَايَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ).

وتقول الآية أخيراً : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فإنّه تعالى إنّما أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بهدم هذا البناء الذي يحمل صفة الحق ظاهراً ، حتى تتبيّن نيّات السوء التي انطوى عليها هؤلاء ، وتنكشف حقائقهم وبواطنهم وهذا الحكم الإلهي هو عين الحكمة ، وحسب صلاح المجتمع الإسلامي ، وقد صدر على هذا الأساس.

٣١٢

(إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢)

لمّا كان الكلام في الآيات السابقة عن المتخلفين عن الجهاد ، فإنّ هاتين الآيتين قد بيّنتا المقام الرفيع للمجاهدين المؤمنين مع ذكر مثال رائع. لقد عرّف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذا المثال بأنّه مشترٍ ، والمؤمنين بأنّهم بائعون ، وقال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).

ولمّا كانت كل معاملة تتكون في الحقيقة من خمسة أركان أساسية ، فقد أشار الله سبحانه إلى كل هذه الأركان ، فجعل نفسه مشترياً ، والمؤمنين بائعين ، وأموالهم وأنفسهم متاعاً وبضاعة ، والجنة ثمناً لهذه المعاملة ، غاية ما في الأمر أنّه بيّن طريقة تسليم البضاعة بتعبير لطيف ، فقال : (يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ).

ثم يشير بعد ذلك إلى سند المعاملة الثابت ، والذي يشكل الركن الخامس فيها ، فقال : (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَيةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ).

ثم ، ومن أجل التأكيد على هذه المعاملة ، تضيف الآية : (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ). أي إنّ ثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجلاً ، إلّاأنّه مضمون ، ولا وجود لأخطار النسيئة ، لأنّ الله تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع أوفي من الكل بعهده.

والأروع من كل شيء أنّه تعالى قد بارك للطرف المقابل صفقته ، ويتمنى لهم أن تكون صفقة وفيرة الربح ، تماماً كما هو المتعارف بين التجار ، فيقول عزوجل : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

٣١٣

كما هي طريقة القرآن المجيد ، حيث إنّه يُجمِل الكلام في آية ، ثم يعمد إلى التفصيل في الآية التي تليها ، فقد بيّن سبحانه في الآية الثانية حال البائعين للروح والمال لربّهم عزوجل ، فذكر تسع صفات مميزة لهم : ١ ـ فهم يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب بماء التوبة : (التِبُونَ).

٢ ـ وهم يطهرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربّهم : (الْعبِدُونَ).

٣ ـ وهم يحمدون ويشكرون كل نعم الله المادية والمعنوية : (الْحمِدُونَ).

٤ ـ وهم يتنقلون من مكان عبادة إلى آخر : (السِحُونَ).

وبهذا الترتيب فإنّ برامج تربية النفس عند هؤلاء لا تنحصر في العبادة ، أو في إطار محدود ، بل إنّ كل مكان هو محل عبادة لله وجهاد للنفس وتربية لها بالنسبة لهؤلاء ، وكل مكان يوجد فيه درس وعبرة لهؤلاء فإنّهم سيقصدونه.

٥ ـ وهم يركعون مقابل عظمة الله : (الرَّاكِعُونَ).

٦ ـ ويضعون جباههم على التراب أمام خالقهم ويسجدون له : (السَّاجِدُونَ).

٧ ـ وهم يدعون الناس لعمل الخير : (الْأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ).

٨ ـ ولم يقتنعوا بهذه الدعوة للخير ، بل حاربوا كل منكر وفساد : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

٩ ـ وبعد أدائهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقومون بأداء آخر وأهم واجب اجتماعي ، أي حفظ الحدود الإلهية وإجراء قوانين الله ، وإقامة الحق والعدالة : (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ).

وبعد ذكر هذه الصفات التسع فإنّ الله يرغّب ـ مرّة اخرى ـ أمثال هؤلاء المؤمنين المخلصين الذين هم ثمرة منهج الإيمان والعمل ، ويقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤)

٣١٤

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : إنّ المسلمين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية وبيّن أنّه لا ينبغي لنبي ، ولا مؤمن ، أن يدعو لكافر ، ويستغفر له.

التّفسير

نهت الآية الاولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين بلهجة قاطعة وحادة ، فهي تقول : (مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). ولكي تؤكّد ذلك قالت : (وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى).

ثم أنّ القرآن الكريم بيّن سبب ودليل هذا الحكم فقال : (مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).

فإنّ هذا العمل ـ أي الاستغفار للمشركين ـ عمل لا معنى له وفي غير محله ، لأنّ المشرك لا يمكن العفو عنه بأي وجه ، ولا سبيل لنجاة من سار في طريق الشرك.

ولما كان المسلمون العارفون بالقرآن قد قرأوا من قبل أن إبراهيم استغفر لعمه آزر ، ولذا فمن الممكن جدّاً أن يتبادر إلى اذهانهم هذا السؤال : ألم يكن آزر مشركاً؟ وإذا كان هذا العمل منهياً عنه فكيف يفعله هذا النبي الكبير؟

لهذا نرى أنّ الآية الثانية تتطرق لهذا السؤال وتجيب عليه مباشرة لتطمئن القلوب ، فقالت : (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ).

وفي آخر الآية توضيح بأنّ إبراهيم كان إنساناً خاضعاً بين يدي الله عزوجل ، وخائفاً من غضبه ، وحليماً واسع الصدر ، فقالت : (إِنَّ إِبْرهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

ضرورة قطع كل رابطة بالأعداء : إنّ هذه الآية ليست الوحيدة التي تتحدث عن قطع كل رابطة بالمشركين ، بل يستخلص من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ كل إرتباط وتضامن وعلاقة ، العائلية منها وغيرها ، يجب أن تخضع لإطار العلاقات العقائدية ، ويجب أن يحكم الانتماء إلى الله ومحاربة كل أشكال الشرك والوثنية ، كل أشكاليات الترابط بين المسلمين ، لأنّ هذا الإرتباط هو الأساس والحاكم على كل مقدراتهم الاجتماعية ، ولا تستطيع

٣١٥

العلاقات والروابط السطحية والفوقية أن تنفيه.

إنّ هذا درس كبير للأمس واليوم ، وكل الأعصار والقرون.

(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)(١١٦)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قيل : مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ، فقال المسلمون : يا رسول الله! إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض ، ما منزلتهم؟ فنزل (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا) الآية.

التّفسير

إنّ الآية الاولى تشير إلى قانون كلّي وعام ، يؤيده العقل أيضاً ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى مادام لم يبيّن حكماً ، ولم يصل شيء من الشرع حوله ، فإنّه تعالى سوف لا يحاسب عليه أحداً ، وبتعبير آخر : فإنّ التكليف والمسؤولية تقع دائماً بعد بيان الأحكام ، وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الاصول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان). ولذلك فأوّل ما تطالعنا به الآية قوله : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَيهُمْ حَتَّى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ).

وأخيراً تقول الآية : (إِنَّ اللهَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ). أي إنّ علم الله يحتم ويؤكّد على أنّ الله سبحانه مادام لم يبين الحكم الشرعي لعباده ، فإنّه سوف لايؤاخذهم أو يسألهم عنه.

وتستند الآية التالية على هذه المسألة وتؤكّد : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ) وأنّ نظام الحياة والموت أيضاً بيد قدرته ، فإنّه هو الذي (يُحْىِ وَيُمِيتُ) وعلى هذا : (وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ). وهو إشارة إلى أنّه لما كانت كل القدرات والحكومات في عالم الوجود بيده ، وخاضعة لأمره ، فلا ينبغي لكم أن تتكلوا على غيره ، وتلتجئوا إلى البعيدين عن الله وإلى أعدائه وتوادّوهم ، وتوثّقوا علاقتكم بهم عن طريق الاستغفار وغيره.

٣١٦

(لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١١٨)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت الآية الاولى في غزاة تبوك ، وما لحق المسلمين فيها من العسرة ، حتى همّ قوم بالرجوع ، ثم تداركهم لطف الله سبحانه.

وأمّا الآية الثانية : فإنّها نزلت في شأن كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن امية وذلك أنّهم تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يخرجوا معه ، لا عن نفاق ، ولكن عن توان ، ثم ندموا. فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ، جاؤوا إليه ، واعتذروا ، فلم يكلّمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم ، فهجرهم الناس حتى الصبيان. فضاقت عليهم المدينة ، فخرجوا إلى رؤوس الجبال ، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ، ولا يكلّمونهم ، فقال بعضهم لبعض : قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم ، فهلا نتهاجر نحن أيضاً! فتفرقوا ، ولم يتجمع منهم اثنان ، وبقوا على ذلك خمسين يوماً ، يتضرعون إلى الله تعالى ، ويتوبون إليه فقبل الله تعالى توبتهم ، وأنزل فيهم هذه الآية.

التّفسير

تتحدّث هذه الآيات أيضاً عن غزوة تبوك ، فتشير الآية الاولى إلى رحمة الله اللامتناهية التي شملت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمهاجرين والأنصار في اللحظات الحساسة ، وتقول : (لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ).

ثم تُبين أنّ شمول هذه الرحمة الإلهية لهم كان في وقت اشتدت فيه الحوادث والضغوط والاضطرابات إلى الحد الذي أوشكت أن تزل فيه أقدام بعض المسلمين عن جادة الصواب ، (وصمّموا على الرجوع من تبوك) فتقول : (مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ).

٣١٧

ثم تؤكّد مرّة اخرى على أنّ الله سبحانه قد تاب عليهم ، فتقول : (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

ولم تشمل الرحمة الإلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط ، بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد : (وَعَلَى الثَّلثَةِ الَّذِينَ خُلّفُوا).

إلّا أنّ اللطف الإلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة ، بل عندما عاش هؤلاء ـ وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية ، الذين مرّ شرح حالهم في سبب النزول ـ مقاطعةً اجتماعية شديدة ، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية ، فتقول : (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ).

بل إنّ صدور هؤلاء امتلأت همّاً وغمّاً بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود ، فكأنّه ضاق عليهم (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ) فابتعد أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم.

عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم فأيقنوا (وَظَنُّوا أَن لَّامَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) فأدركتهم رحمة الله مرّة اخرى ، وسهلت ويسّرت عليهم أمر التوبة الحقيقية ، والرجوع إلى طريق الصواب ليتوبوا : (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩)

كونوا مع الصادقين : في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع الله ورسوله ، أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى النقطة المقابلة لهؤلاء ، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه. في البداية تقول الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ). ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

والصادقين هم الذين يؤدون تعهداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات ، بل يُثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.

ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات ، فقد يكون البعض في قمّتها ، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين ، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.

٣١٨

(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١)

كان البحث في الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الاشتراك في غزوة تبوك ، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلّي. فالآية الاولى تقول : (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ) لأنّه قائد الامّة ، ورسول الله ، ورمز بقاء وحياة الامّة الإسلامية.

من البديهي أنّ التأكيد على أهل المدينة وأطرافها إنّما هو لأنّ المدينة كانت مقرّ الإسلام يومئذ ومركزه المشع ، وإلّا فإنّ هذا الحكم غير مختص بالمدينة وأطرافها ، وغير مختص بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ واجب كل المسلمين ، وفي جميع العصور أن يحترموا ويكرموا قادتهم كأنفسهم ، بل أكثر ، ويبذلون قصارى جهدهم في سبيل الحفاظ عليهم ، ولا يتركوهم يواجهون الصعاب والأخطار وحدهم ، لأنّ الخطر الذي يحدق بهؤلاء يحدق بالامّة جميعاً.

ثمّ تشير الآية إلى مكافآت المجاهدين المعدة مقابل كل صعوبة يلاقونها في طريق الجهاد ، وتذكر سبعة أقسام من هذه المشاكل والصعاب وثوابها ، فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَايُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صلِحٌ). ومن المحتم أنّهم سيقبضون جوائزهم من الله سبحانه ، واحدة بواحدة ، ف (إِنَّ اللهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). وكذلك فإنّهم لا يبذلون شيئاً في أمر الجهاد : (وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً) ولا يقطعون أرضاً في ذهابهم للوصول إلى ميدان القتال ، أو عند رجوعهم منه إلّاثبت كل ذلك في كتبهم : (وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) وإنّما يثبت ذلك (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

٣١٩

(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج غازياً ، لم يتخلف عنه إلّا المنافقون والمعذرون. فلما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين ، وبيّن نفاقهم في غزاة تبوك ، قال المؤمنون : والله لا نتخلف عن غزاة يغزوها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا سرية أبداً! فلما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسرايا إلى الغزو ، نفر المسلمون جميعاً وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده فأنزل الله سبحانه (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا) الآية.

التّفسير

محاربة الجهل وجهاد العدو : إنّ لهذه الآية إرتباطاً بالآيات السابقة حول موضوع الجهاد ، وتشير إلى حقيقة حياتية بالنسبة للمسلمين ، وهي : أنّ الجهاد وإن كان عظيم الأهمية ، والتخلف عنه ذنب وعار ، إلّاأنّه في غير الحالات الضرورية لا لزوم لتوجه المؤمنين كافة إلى ساحات الجهاد ، خاصة في الموارد التي يبقى فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، بل يبقى منهم جماعة لتعلم أحكام الدين ويتوجه الباقون إلى الجهاد : (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدّينِ).

فإذا رجع أصحابهم من الجهاد يقومون بتعليمهم هذه الأحكام والمعارف الإسلامية ، ويحذرونهم من مخالفتها : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) والهدف من ذلك أن يحذر هؤلاء عن مخالفة أوامر الله سبحانه بانذارهم (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

المسألة المهمة التي يمكن استخلاصها من الآية ، هي الأهمية الخاصة التي أولاها الإسلام لمسألة التعليم والتعلم ، إلى الدرجة التي ألزم فيها المسلمين بأن لا يذهبوا جميعاً إلى ميدان الحرب ، بل يجب أن يبقى قسم منهم لتعلم الأحكام والمعارف الإسلامية.

إنّ هذا يعني أنّ محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء ، ولا تقل أهمية أحد الجهادين عن الآخر. بل إنّ المسلمين مالم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع جذوره من المجتمع فإنّهم سوف لا ينتصرون على الأعداء (لأنّ الامة الجاهلة محكومة بالهزيمة دائماً).

٣٢٠