مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

إنّ المراد من «الفتنة» هو الإختلاف والتفرق وتزلزل مباني العقيدة الإسلامية على أثر وسوسة الأعداء ، و «الفساد» يشمل كل إخلال وتخريب للنظم الاجتماعية المختلفة وخاصة سفك الدماء البريئة والارهاب وأمثال ذلك.

أمّا في الآية التالية فنجد تأكيداً على مقام المهاجرين والأنصار مرّة اخرى ، وما لهما من موقع وأثر في تحقق أهداف المجتمع الإسلامي ، فتثني عليهم الآية بقولها : (وَالَّذِينَءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا). لأنّهم هبوا لنصرة الإسلام في الأيام الصعبة الشديدة وفي الغربة والمحنة وقد اشترك كل فرد منهم بنوع من النصرة لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). فهم فائزون بثواب الله والنعمة الاخروية ، كما أنّهم يتمتعون في هذه الدنيا بالعزّة ورفعة الرأس والكرامة.

أمّا الآية الأخيرة فتشير إلى الطائفة الرابعة من المسلمين ، أي اولئك الذين آمنوا وهاجروا من بعد ، فتقول : (وَالَّذِينَءَامَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنكُمْ). أي إنّ المجتمع الإسلامي ليس مجتمعاً منغلقاً ومحصوراً على نفسه ، بل أبوابه مفتوحة لجميع المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين.

وتشير الآية في ختامها إلى ولاية الأرحام بعضهم لبعض ، وأوليتها فيما جعله الله في عباده من أحكام ، فتقول : (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللهِ).

إنّ الآيات السابقة تتكلم عن ولاية المؤمنين والمسلمين العامّة «بعضهم إلى بعض» أمّا هذه الآية محل البحث فتؤكّد هذا الموضوع في شأن الأرحام والأقارب ، فهم إضافة إلى ولاية الإيمان والهجرة يتمتعون بولاية الأرحام أيضاً ، ومن هنا فهم يرثون ويورّثون بعضهم بعضاً ، إلّاأنّه لا إرث بين غيرهم من المؤمنين الذين لا علاقة قربى بينهم.

وفي آخر جملة من هذه الآية يقول الله سبحانه : (إِنَّ اللهَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ).

فما نزل في هذه السورة من أحكام تتعلق بالأنفال وغنائم الحرب ، وتعاليم الجهاد والصلح ، وأحكام الأسرى والحرب ، وما يتعلق بالهجرة وغيرها ، كل ذلك كان وفق حساب دقيق يتلاءم وروح المجتمع الإنساني ، والعواطف البشرية ، والمصالح العامة في جميع جوانبها المختلفة.

نهاية تفسير سورة الأنفال

* * *

٢٤١
٢٤٢

٩

سورة التوبة

ينبغي الإلتفات إلى الامور التالية قبل الشروع في تفسير السورة :

١ ـ أسماء هذه السورة : ذكر المفسرون لهذه السورة أسماءً عديدة تبلغ العشرة ، غير أنّ المشهور منها هو ما يلي : سورة البراءة ، وسورة التوبة ، والسورة الفاضحة.

٢ ـ متى نزلت هذه السورة؟ هذه السورة هي آخر سورة نزلت على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من أواخر السور النازلة عليه في المدينة.

والمعروف أنّ بداية نزول هذه السورة كانت في السنة التاسعة للهجرة ، وقسماً منها نزل قبل معركة تبوك ، وقسماً منها نزل عند الإستعداد للمعركة أو «الغزوة» ، وقسماً منها نزل بعد الرجوع من المعركة والفراغ منها.

والآيات الاولى ـ هذه ـ والتي تتعلق بمن بقي من المشركين بلّغها أميرالمؤمنين عليه‌السلام في موسم الحج.

٣ ـ محتوى السورة : يتعلق قسم من آيات هذه السورة بالبقية الباقية من عبدة الأوثان والمشركين ، وقطع العلاقات معهم ، وإلغاء المعاهدات التي كانت بينهم وبين المسلمين.

وقسماً مهماً منها تتحدّت عن المنافقين وعاقبتهم ، وتحذر المسلمين منهم.

وبعض آيات هذه السورة تتحدّث عن الجهاد في سبيل الله وأهميته ، كما أنّ قسماً منه

٢٤٣

يكمل البحوث السابقة التي تناولت انحراف أهل الكتاب «اليهود والنصارى» عن حقيقة التوحيد ، وتتكلم عن انصراف علمائهم عن واجبهم في التبليغ وقيادة المجتمع.

وحيث سبّب انتشار الإسلام واتساع رقعة مجتمعه آنئذ ظهور حاجات مختلفة ينبغي توفيرها ، فقد عرضت بقية الآيات من هذه السورة موضوع الزكاة وتحريم تراكم الثروات واكتنازها ، ووجوب طلب العلم أو التعلّم وتعليم الجهلة ، وتناولت بحوثاً متنوعة اخرى كقصة هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال ، وأخذ الجزية من الأقليات الدينية غير الإسلامية كاليهود والنصارى ، وما إلى ذلك.

في تفسير مجمع البيان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما نزل عليّ القرآن إلّاآية آية ، وحرفاً حرفاً ، خلا سورة البراءة وقل هو الله أحد ، فإنّهما نزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة ، كل يقول يا محمّد استوص بنسبة الله خيراً».

٤ ـ لِم لَم تبدأ هذه السورة بالبسملة؟ يُجيب استهلال السورة على السؤال آنف الذكر فقد بُدئت بالبراءة ـ من قبل الله ـ من المشركين ، وإعلان الحرب عليهم ، واتباع أسلوب شديد لمواجهتهم ، وبيان غضب الله عليهم ، وكل ذلك لا يتناسب والبسملة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الدالة على الصفاء والصدق والسلام والحب ، والكاشفة عن صفة الرحمة واللطف الإلهي.

(بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) (٢)

(إلغاء عهود المشركين :) كانت في المجتمع الإسلامي ومحيطه طوائف شتى ، فطائفة منها مثلاً لم يكن لها أيّ عهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والنبي كذلك لم يكن له أيّ عهد معها.

وطوائف اخرى عاهدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبية ـ وأمثالها ـ على ترك المخاصمة والمنازعة ، وقد نقضت بعض تلك الطوائف عهودها من جانب واحد ، وبدون أي سبب يجيز النقض وذلك بمظاهرتها أعداء الإسلام ، أو حاولت اغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الآية الاولى من الآيتين محل البحث تعلن للمشركين كافة : (بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ).

يستفاد من الروايات أنّ علياً عليه‌السلام قد امر بإبلاغ أربع مواد إلى الناس في ذلك اليوم وهي :

٢٤٤

١ ـ إلغاء عهد المشركين.

٢ ـ لا يحق للمشركين أن يحجّوا في المواسم المقبلة.

٣ ـ منع العراة والحفاة من الطواف الذي كان شائعاً ومألوفاً حتى ذلك الوقت.

٤ ـ منع المشركين من دخول البيت الحرام.

ثم أمهلتهم مدّة أربعة أشهر ليفكروا فيها ويحدّدوا موقفهم من الإسلام ، فإمّا أن يتركوا عبادتهم للأصنام ، أو يتهيأوا للمواجهة والقتال ، فقالت : (فَسِيحُوا فِى الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ).

(وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤)

نلحظ في هاتين الآيتين البينتين مزيد تأكيد على موضوع إلغاء المعاهدات التي كانت بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمشركين ، حتى أنّ تاريخ الإلغاء قد اعلن في هذه الآية إذ نقول : (وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِىءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).

إنّ الله سبحانه يريد في هذا الإعلان العام في مكّة المكرمة ، وفي ذلك اليوم العظيم ، أن يوصد كل ذريعة يتذرع بها المشركون والأعداء ، ويقطع ألسنة المفسدين.

ثم يتوجه الخطاب في الآية إلى المشركين أنفسهم ترغيباً وترهيباً ، لعلهم يهتدون ، إذ تقول الآية : (فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ). أي إنّ الإستجابة لرسالة التوحيد فيها صلاحكم وفيها خير لكم ولمجتمعكم ودنياكم وآخرتكم ، فلو تدبّرتم بجد وصدق لرأيتم أن قبول الدعوة هو البلسم الشافي لكل جراحاتكم وليس في الأمر منفعة لله أو لرسوله.

ثم إنّ الآية تُحذر المخالفين المعاندين المتعصبين فتقول : (وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرَ مُعْجِزِى اللهِ). فلا يمكنكم الخروج من دائرة قدرته المطلقة بحال.

وأخيراً فإنّ الآية أنذرت المعاندين المتعصبين قائلة : (وَبَشّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

٢٤٥

وكما أشرنا من قبل فإنّ إلغاء هذه العهود من جانب واحد ـ ورفض عهد المشركين ـ يختص باولئك الذين دلّت القرائن على استعدادهم لنقض عهدهم وبدت بوادره ، لذلك فإنّ الآية استثنت قسماً منهم لوفائهم بالعهد ، فقالت (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) (٦)

الشدة المقرونة بالرفق : نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد انتهاء مدّة إمهال المشركين «الأشهر الأربعة» وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال : (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ).

ثم يقول : (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).

وهذه الشدة متناغمة ومتوائمة مع منهج الإسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها ، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة ، ولا ديناً كي تُلحظ بعين الإحترام.

وهذه الشدة والقوة والصرامة لا تعني سدّ الطريق ـ طريق الرجوع نحو التوبة ـ بوجههم ، بل لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إلى سبيل الحق ، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول : (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ).

ف (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). يتوب على عباده المنيبين إليه.

وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر ، كيما يتّضح بجلاء أن هدف الإسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة ، وليس هو الاستثمار أو الاستعمار وإمتصاص المال ، أو الإستيلاء على أراضي الآخرين ، إذ تقول الآية : (وَإِن أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلمَ اللهِ). أي عليك أن تعامل من يلجأ اليك من المشركين برفق ولطف ، وامنحه المجال للتفكير حتى يتبين له محتوى دعوتك في كمال الإرادة والحرية ،

٢٤٦

فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.

ثم تضيف الآية قائلة : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) وأوصله إلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.

وأخيراً فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم ، فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَعْلَمُونَ).

فبناءً على ذلك لو فُتحت أبواب المعرفة بوجوهم ، فإنّه يؤمّل خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل ـ وإلتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (١٠)

المعتدون الناقضون العهد : كما لاحظنا في الآيات السابقة أنّ الإسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان ـ إلّاجماعة خاصة ـ وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه ، والآيات محل البحث بيان لعلة إلغاء العهود من قِبل الإسلام ، فتقول الآية الاولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاماً إنكارياً : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ). أي : إنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قِبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن جانب واحد ، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.

ثم استثنت الآية مباشرة اولئك الذين لم ينقضوا عهدهم ، بل بقوا أوفياء له ، فقالت : (إِلَّا الَّذِينَ عهَدتُّم عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

وفي الآية التالية يثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد ، ويستفهم منه استفهاماً إنكارياً أيضاً ، إذ تقول الآية : (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَايَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً).

٢٤٧

وتضيف الآيه معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت : (يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ).

وفي نهاية الآية إشارة إلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم ، فتقول : (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ).

وفي الآية التالية بيان لبعض علائم فسقهم وعصيانهم ، إذ أعربت الآية عن ذلك على النحو التالي (اشْتَرَوْا بَايَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ).

ثمّ تعقب الآية بالقول : (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). فقد خسروا طريق السعادة وضيعوها ، وحرموا الهداية ، وهُم في الوقت ذاته أوصدوا الطريق بوجه الآخرين ، وأي عمل أسوأ من أن يحمل الإنسان وزره ووزر سواه!

أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث فهي تأكيد آخر على ما ورد في الآيات المتقدمة ، إذ تقول الآية : (لَايَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً).

وهذه الخصلة فيهم لم يُبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).

(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥)

إنّ أحد أساليب الفصاحة والبلاغة أن يكرر المتحدّث المطلب المهم بتعابير مختلفة للتأكيد على أهمية ، وليكون له أثر في النفوس. ولما كانت مسألة تطهير المحيط الإسلامي من

٢٤٨

الوثنية وعبادة الأصنام وإزالة آثارها ، من المسائل ذات الأهمية القصوى ، فإنّ القرآن يكرر هذه المطالب بعبارات جديدة في الآيات محل البحث ، فتقول الآية الاولى : (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدّينِ).

وتضيف معقبة : (وَنُفَصّلُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

ولكن لو استمر المشركون في نقض العهود ، فتقول الآية التالية : (وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَاأَيْمنَ لَهُمْ).

صحيح أنّهم عاهدوكم على عدم المخاصمة والمقاتلة ، إلّاأنّ هذه المعاهدة ـ بنقضها مراراً ، وكونها قابلة للنقض في المستقبل ـ لا اعتبار لها أصلاً ولا قيمة لها.

وتعقّب الآية مضيفة : (لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ).

وفي الآية الاخرى خطاب للمسلمين لإثارة هممهم ، وإبعاد روح الضعف والخوف والتردد عنهم في هذا الأمر الخطير ، إذ تقول الآية : (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمنَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ).

فعلام تقلقون وأنتم لم تبدأوهم بالقتال وإلغاء العهد من قبلكم (وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

وإذا كان بعضكم يتردد في مقاتلتهم خشية منهم ، فإنّ هذه الخشية لا محل لها (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

وفي الآية التالية وعد بالنصر الحاسم للمسلمين ، إذ تقول : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ).

وليس ذلك فحسب ، بل ، (وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ).

وبهذا يشعر المؤمنون بالراحة والطمأنينة بعد أن كانوا يقاسون الألم والعذاب تحت وطأة هؤلاء المجرمين ، ويزيل الله تعالى عن قلوبهم آلام المحنة بهذا النصر (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ).

أمّا الآية التالية فتضيف : إنّ في إنتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سروراً للمؤمنين ، وإنَّ الله يسدّدهم (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ).

وتُختتم الآية بالقول : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

العبارة الأخيرة تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإسلام ويشملهم توفيق

٢٤٩

الله ، لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابلية.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (١٦)

في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر ، حيث تُحمّل الآية المسلمين مسؤولية ذات عبء كبير ، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أنّ كل شيء سيكون تامّاً بادعائكم الإيمان فحسب ، بل يتجلى صدق النية وصدق القول والإيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالاً خالصاً من أي نوع من أنواع النفاق ، فتقول الآية أوّلاً : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً).

«الوليجة» : مشتقة من «الولوج» ومعناه الدخول ، وتطلق الوليجة على من يُعتمد عليه في الأسرار ومعناها يُشبه معنى البطانة تقريباً.

إنّ الجملة المتقدمة تُنّبه المسلمين إلى أنّ الأعمال لا تكمل بإظهار الإيمان فحسب ، ولا تتجلى شخصية الأشخاص بذلك ، بل يعرف الناس باختبارهم عن طريقين :

الأوّل : الجهاد في سبيل الله لغرض محو آثار الشرك والوثنية.

الثاني : ترك أيّة علاقة أو أيّ تعاون مع المنافقين والأعداء.

فالأوّل لدفع العدو الخارجي ، والثاني يحصّن المجتمع من خطر العدو الداخلي.

وتُختتم الآية بما يدلّ على الإخطار والتأكيد : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

فلا ينبغي أن يتصور أحدّ أنّ الله لا يعرف العلائق السرية بين بعض الأفراد وبين المنافقين ، بل يعرف كل شيء جيداً وهو خبير بالأعمال كلها.

(مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨)

٢٥٠

من جملة المسائل التي يمكن أن تراود أذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين والحكم بجهادهم ، هو : لِم نُبْعد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج ، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه «المادية والمعنوية» إذ يستفاد من إعاناتهم المهمة لبناء المسجد الحرام ، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاج والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت الله. فالآيتان محل البحث تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس لها ، وتصّرح الآية الاولى منهما بالقول : (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ).

ثم تشير الآية إلى فلسفة هذا الحكم فتقول : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ).

ولذلك فهي لا تجديهم نفعاً : (وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ).

فالله طاهر منزّه ، وينبغي أن يكون بيته طاهراً منزهاً كذلك ، فلا يصح أن تمسّه الأيدي الملوثة بالشرك. أمّا الآيةالتالية فتذكر شروط عمارة المسجدالحرام ـ إكمالاًللحديث آنف الذكر ـ فتبيّن خمسة شروط مهمة في هذا الصدد ، فتقول : (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ).

وهذا النص إشارة إلى الشرطين الأوّل والثاني اللذين يمثلان الأساس العقائدي.

ثم تشير الآية إلى الشرطين الثالث والرابع فتقول : (وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ).

أي : إنّ الإيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب ، بل تؤيده الأعمال الكريمة ، فعلاقة الإنسان بالله ينبغي أن تكون قوية محكمة ، وأن يؤدّي صلاته باخلاص ، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد الله وخلقه قوية ، فيؤدي الزكاة إليهم.

وتشير الآية إلى الشرط الخامس والأخير فتقول : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ).

فقلبه مليء بعشق الله ، ولا يحسّ إلّابالمسؤولية في امتثال أمره ولايرى لأحد من عبيده أثراً في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه ، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.

ثم تضيف الآية معقبة بالقول : (فَعَسَى أُولئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.

أهمية بناء المساجد : وردت أحاديث كثيرة في أهمية بناء المساجد. ففي تفسير المنار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتاً في الجنة».

٢٥١

إلّا أنّ ما هو أكثر أهمية هذا اليوم هو عمارة المسجد المعنوية ، فالمسجد ينبغي أن يكون مركزاً للشباب المؤمن ، لا محلاً للعجزة والكسالى والمقعدين ، فالمسجد مجال للنشاط الاجتماعي الفعال ، لا مجال العاطلين والبطّالين والمرضى.

(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني عن ابن بريدة ، قال : بينا شيبة والعباس يتفاخران ، إذا مرّ بهما علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : «بماذا تتفاخران؟»

فقال العباس : لقد اوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد : سقاية الحاج.

وقال شيبة : أوتيت عمارة المسجد الحرام.

فقال علي عليه‌السلام : «استحييت لكما ، فقد اوتيت على صغري ما لم تؤتيا!»

فقالا : وما اوتيت يا على؟

قال : «ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله!»

فقام العباس مغضباً يجرّ ذيله حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : أما ترى إلى ما يستقبلني به علي؟

فقال : «أدعو لي عليّاً». فدعى له فقال : «ما حملك على ما استقبلت به عمّك؟» فقال : «يا رسول الله! صدمته بالحق ، فمن شاء فليغضب ومن شاء فليرض!»

فنزل جبرائيل عليه‌السلام فقال : يا محمّد ، إنّ ربّك يقرأ عليك السلام ويقول : اتل عليهم : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ) الآيات. فقال العباس : إنّا قد رضينا ؛ ثلاث مرات.

التّفسير

مقياس الفخر والفضل : مع أنّ للآيات ـ محل البحث ـ شأناً في نزولها ، إلّاأنّها في الوقت

٢٥٢

ذاته تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة ، ونظير ذلك كثير في القرآن. فالآية الاولى من هذه الآيات تقول : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللهِ لَايَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

ويحدثنا التاريخ أنّ منصب «سقاية الحاج» قبل الإسلام كان من أهم المناصب وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة.

أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول : (الَّذِينَءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

وأمّا الآية الثالثه ـ من الآيات محل البحث ـ فتقول : إنّ الله أنعم على المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين في سبيله ثلاث مواهب هي :

١ ـ (يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ).

٢ ـ (وَرِضْوَانٍ).

٣ ـ (وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ).

وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول : (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (٢٤)

كل شيء فداء للهدف : إنّ آخر وسوسة أو ذريعة يمكن أن يتذرع بها جماعة من المسلمين للامتناع عن جهاد المشركين (وفعلاً فقد تذرع بعضهم وفقاً لما ورد في قسم من التفاسير) بأنّ من بين المشركين وعبدة الأوثان أقارب لهم ، فإذا كان القرار أن يجاهد الجميع المشركين فلابدّ أن يغمضوا أعينهم عن أرحامهم وأقاربهم وعشيرتهم الخ. هذا كله من

٢٥٣

جهة.

ثم ومن جهة اخرى كانت رؤوس الأموال والقدرة التجارية بيد المشركين تقريباً ، ولهذا يسبب تردد المشركين إلى مكة إزدهار التجارة.

ومن جهة ثالثة كان للمسلمين في مكة بيوت عامرّة نسبياً ، فإذا قاتلوا المشركين فمن المحتمل أن يهدمها المشركون ، أو تفقد قيمتها إذا عطل المشركون مراسم الحاج ومناسكه بمكة.

فالآيتان ـ محل البحث ـ ناظرتان إلى مثل هؤلاء الأشخاص ، وتردّان عليهم ببيان صريح ، فتقول الآية الاولى منهما : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُواءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمنِ).

ثم تعقب ـ على وجه التأكيد ـ مضيفة : (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وأيّ ظلم أسوأ من أن يظلم الإنسان نفسه بتعلقه بأعداء الحق والمشركين ، ويظلم مجتمعه ، ويظلم نبيّه أيضاً؟!

أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحوٍ من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع ، فتخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعنّف اولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه آنفاً ، فتقول : (قُلْ إِن كَانَءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةً تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ).

ولما كان ترجيح مثل هذه الامور على رضا الله والجهاد في سبيله ، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن ، وإنّ من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية الله ، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلة : (وَاللهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

ما قرأناه في الآيتين ـ محل البحث ـ ليس مفهومه قطع علائق المحبة بين الأرحام ، وإهمال رؤوس الأموال الاقتصادية ، والإنسياق إلى تجاوز العواطف الإنسانية وإلغائها ، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي ، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم الله ، أو لا نرغب في الجهاد ، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.

لهذا يلزم على الإنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين «العلاقة بالله والعلاقة بالرحم».

٢٥٤

فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب اطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعاراً لنا ، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد ، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٧)

الكثرة وحدها لا تجدي نفعاً : في الآيات المتقدمة رأينا أنّ الله سبحانه يدعوا المسلمين إلى التضحية والجهاد على جميع الصُعد في سبيل الله وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان ، ويهدد بشدة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة. أمّا الآيات محل البحث فتشير إلى مسألة مهمة ، وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف الايمان والذين يحجبهم التعلق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل الله ، فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر ، وعليهم أن يواصلوا طريقهم ، لأنّ الله لم يتخلّ عنهم يوم كانوا قلة ، كما هو الحال في معركة بدر ، ولا يوم كانوا كثرة ملء العين (كما في معركة حنين) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئاً ، لكن الله سبحانه أنزل جنوداً لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، فالله في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده ... لهذا فإنّ الآية الاولى من الآيات محل البحث تقول : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ).

ثم تضيف الآية معقبة : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيًا). وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفاً ، وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإسلامية قبل ذلك الحين ، حتى إغتر بعض المسلمين وقالوا : «لن نُغلب اليوم».

إلّا أنّه قد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم ، لكونهم جديدي عهد بالإسلام ولم يتوغل الإيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدو أن يغلبهم لولا أنّ الله أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم.

٢٥٥

ويصوّر القرآن هذه الهزيمة بقوله : (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ).

وفي هذه اللحظات الحساسة حيث تفرق جيش الإسلام هنا وهناك ، ولم يبق مع النبي إلّا القلة ، وكان النبي مضطرباً ومتألّماً جدّاً لهذه الحالة نزل التأييد الإلهي : (ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا).

ويَذكر القرآن النتيجة النهائية لمعركة حنين الحاسمة فيقول : (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ). وكان هذا العذاب والجزاء أن قُتل بعض الكافرين ، واسر بعضهم ، وفرّ بعضهم إلى مناطق بعيدة عن متناول الجيش الاسلامي.

ومع هذا الحال فإنّ الله يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق «الإسلام» لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وجملة «يتوب» التي وردت بصيغة الفعل المضارع ، والتي تدل على الإستمرار ، مفهومها أنّ أبواب التوبة والرجوع نحو الله مفتوحة دائماً بوجه التائبين.

غزوة حنين ذات العبرة : «حنين» منطقة قريبة من الطائف ، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سمّيت باسم المنطقة ذاتها ، وقد عُبّر عنها في القرآن ب «يوم حنين» ولها من الأسماء : غزوة أوطاس ، وغزوة هوازن أيضاً.

أمّا تسميتها بأوطاس ، فلأنّ «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة ، وأمّا تسميتها بهوازن ، فلأنّ إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تُدعى هوازن.

إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في اخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة ، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة ، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.

فعقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لواءه ، وسلمه علياً عليه‌السلام.

وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكة ، فأضيف عددهم إلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكة ، وصاروا حوالي اثني عشر ألفاً ، وتحركوا نحو حنين.

فلما صلّى النبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلى حنين ، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب ، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم ، ففرّت طائفة من

٢٥٦

المقاتلين جديدي الإسلام (بمكة) من مقدمة الجيش ، فكان أن ذُهل المسلمون واضطربوا وفرّ الكثير منهم.

فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو ، وترك الجيشين على حالهما ، ولم يحم المسلمين لغرورهم ـ مؤقتاً ـ حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

إلّا أنّ عليّاً حامل لواء النبي بقي يقاتل في عدة قليلة معه ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، إلى أين تفرّون؟ هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلّما سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا : لبيك لبيك ، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدو من كل جانب حملة شديدة ، فقتل حوالي مئة شخص من هوازن ، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم.

ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أنّ ممثلي هوازن جاءوا النبي وأعلنوا إسلامهم ، وأبدى لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صفحه وحبّه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٨)

لا يحق للمشركين أن يدخلوا المسجد الحرام : قلنا : إنّ واحداً من الامور الأربعة التي بلّغها الإمام علي عليه‌السلام في موسم الحج في السنة التاسعة للهجرة ، هو أنّه لا يحق لأحد من المشركين دخول المسجد الحرام ، أو الطواف حول البيت ، فالآية محل البحث تشير إلى هذا الموضوع وحكمته ، فتقول أوّلاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذَا).

ثم تعقب الآية على ذوي النظرة السطحية الذين كانوا يزعمون بأن المشركين إذا انقطعوا عن المسجد الحرام ذهبت تجارتهم وغدوا فقراء مغوزين فتقول : (وَإِن خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ).

كما فعل ذلك سبحانه على خير وجه ، فباتساع رقعة الإسلام في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ سيل الزائرين يتجه نحو بيت الله في مكة ، وما زال هذا الأمر مستمراً حتى عصرنا الحاضر حيث أصبحت مكة في أحسن الظروف فهي بين سلسلة جبال صخرية لا ماء فيها ولا

٢٥٧

زرع ، لكنها مدينة عامرة ، وقد صارت بإذن الله مركزاً مهماً للبيع والشراء والتجارة.

ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلاً : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). فكل ما يأمركم به الله فهو وفق حكمته ، وهو عليم بما سيؤول إليه أمره من نتائج مستقبلية ، وهو خبير بذلك.

(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (٢٩)

مسؤوليتنا إزاء أهل الكتاب : كان الكلام في الآيات السابقة عن وظيفة المسلمين إزاء المشركين ، أمّا الآية محل البحث (وما يليها من الآي) فتبيّن تكليف المسلمين ووظيفتهم إزاء أهل الكتاب. وفي هذه الآيات جعل الإسلام لأهل الكتاب سلسلة من الأحكام تعدّ حدّاً وسطاً بين المسلمين والكفار ، لأنّ أهل الكتاب من حيث إتّباعهم لدينهم السماوي لهم شبه بالمسلمين ، إلّاأنّهم من جهة اخرى لهم شبه بالمشركين أيضاً.

ولهذا فإنّ الإسلام لا يجيز قتلهم ، مع أنّه يجيز قتل المشركين الذين يقفون بوجه المسلمين ، لأنّ الخطة تقضي بقلع جذور الشرك والوثنية من الكرة الأرضية ، غير أنّ الإسلام يسمح بالعيش مع أهل الكتاب في صورة ما لو احترم أهل الكتاب الإسلام ، ولم يتآمروا ضده ، أو يكون لهم إعلام مضاد.

والعلامة الاخرى لموافقتهم على الحياة المشتركة السلمية مع المسلمين هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين ، بأن يعطوا كل عام إلى الحكومة الاسلامية مبلغاً قليلاً من المال بحدود وشروط معينة سنتناولها في البحوث المقبلة إن شاء الله.

وفي غير هذه الحال فإنّ الإسلام يصدر أمره بمقاتلتهم ، ويوضح القرآن دليل شدة هذا الحكم في جمل ثلاث في الآية محل البحث ، إذ تقول الآية أوّلاً : (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأَخِرِ).

لكن كيف لا يؤمن أهل الكتاب ـ كاليهود والنصارى ـ بالله وباليوم الآخر ، مع أنّنا نراهم في الظاهر يؤمنون بالله ويقرون بالمعاد أيضاً؟

والجواب : لأنّ إيمانهم مزيج بالخرافات والأوهام.

ثم تشير الآية إلى الصفة الثانية لأهل الكتاب ، فتقول : (وَلَا يُحَرّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ).

٢٥٨

وتذكر الآية الصفة الثالثه التي كانوا يتصفون بها فتقول : (وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ). أي إنّ أديانهم منحرفة عن مسيرها الأصيل ، فنسوا كثيراً من الحقائق والتزموا بكثير من الخرافات مكانها.

وبعد ذكر هذه الأوصاف الثلاثة ، التي هي المسوغ لجهاد المسلمين لأهل الكتاب ، تقول الآية : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ).

ثم تبين الآية الفرق بين أهل الكتاب والمشركين في مقاتلتهم ، بالجملة التالية : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

«الصاغر» : مأخوذ من «الصِغَر» ومعناه الراضي بالذلة. والمراد من الآية أنّ الجزية ينبغي أن تُدفع في حال من الخضوع للإسلام والقرآن.

ما هي الجزية؟تُعدّ الجزية ضريبة مالية «إسلامية» وهي تتعلق بالأفراد لا بالأموال ولا بالأراضي. أو بتعبير آخر : هي ضريبة مالية سنوية على الرؤوس. أنّ فلسفة هذه الضرائب أو حكمتها هي الدفاع عن الوطن واستقلاله وأمنه ، وهي وظيفة عامة على جميع الناس ، فبناء على ذلك متى ما قام جماعة فعلاً بالمحافظة على الوطن ولم يستطع الآخرون أن يجندوا أنفسهم للدفاع عن الوطن ، لأنّهم يكتسبون ويتّجرون ـ مثلاً ـ فإنّ على الجماعة الثانية أن تقوم بمصارف المقاتلين فتدفع ضرائب سنوية للدولة.

فبناء على ذلك أنّ الجزية إعانة مالية فحسب ، يقدمها أهل الكتاب إزاء ما يتحمله المسلمون من مسؤولية في الحفاظ عليهم وعلى أموالهم.

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣)

٢٥٩

 شرك أهل الكتاب : كان الكلام في الآيات المتقدمة بعد الحديث عن المشركين وإلغاء عهودهم وضرورة إزالة دينهم ومعتقداتهم الوثنية يشير بعد ذلك إلى أهل الكتاب. وفي الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه بين أهل الكتاب والمشركين ، ولا سيما اليهود والنصارى منهم ، ليتضح أنّه لو كان بعض التشدد في معاملتهم ، فإنّما هو لانحرافهم عن التوحيد ، وميلهم إلى نوع من الشرك في العقيدة ، ونوع من الشرك في العبادة. فتقول الآية الاولى من الآيات محل البحث : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْزٌ ابنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضهُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

من هو عزير؟ «عزير» في لغة العرب هو «عزرا» في لغة اليهود ، فإنّ عزيراً ـ أو عزرا ـ له مكانة خاصه في تاريخ اليهود ، حتى أنّ بعضهم زعم أنّه واضع حجر الأساس لُامّة اليهود وباني مجدهم ، وفي الواقع فإنّه خدمةً كبرى لدينهم ، لأنّ بخت نصر ملك بابل دمر اليهود تدميراً في واقعته المشهورة ، وجعل مُدُنَهم ، تحت سيطرة جنوده فأبادوها ، وهدموا معابدهم ، وأحرقوا توراتهم ، وقتلوا رجالهم ، وسبوا نساءهم ، وأسروا أطفالهم ، وجيء بهم إلى بابل فمكثوا هناك حوالي قرن.

ولمّا فتح كورش ملك فارس بابل جاءه عزرا ، وكان من أكابر اليهود ، فاستشفعه في اليهود فشفّعه فيهم ، فرجعوا إلى ديارهم وكتب لهم التّوراة ـ ممّا بقي في ذهنه من أسلافه اليهود وما كانوا قد حدّثوا به ـ من جديد. ولذلك فهم يحترمونه أيما احترام ، ويعدّونه منقذهم ومحيي شريعتهم. وكان هذا الأمر سبباً أن تلقبه جماعة منهم ب «ابن الله».

وفي الآية التالية إشارة إلى شركهم العملي في قبال الشرك الإعتقادي ، أو بعبارة اخرى إشارة إلى شركهم في العبادة ، إذ تقول الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ). «الأحبار» جمع حبر ، ومعناه العالم ، و «الرهبان» جمع راهب وتطلق على من ترك دنياه وسكن الدير وأكبّ على العبادة.

وممّا لا شك فيه أنّ اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم ، لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون قيد أو شرط ، بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الأحكام المخالفة لحكم الله من قبلهم ، فالقرآن عبّر عن هذا التقليد الأعمى باتخاذ ربّ.

وفي ختام الآية تأكيد على هذه المسألة ، وهي أنّ جميع هذه العبادات للبشر بدعة ، وهي من العبادات الموضوعة : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

٢٦٠