مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

وحيث إنّ الخاضعين للحق والمتذكرين قليلون ، لذا قال في ختام الآية : (قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ).

ومن هذه الآية يستفاد أنّ الإنسان يواجه طريقين (أو خيارين) إمّا القبول بولاية الله وقيادته ، وإمّا الدخول تحت ولاية الآخرين ، فإذا سلك الطريق الأوّل كان الله وليّه ، وأمّا إذا دخل تحت ولاية الآخرين فإنّ عليه ـ حينئذ ـ أن يخضع في كل يوم لواحد من الأرباب ، وأن يختار ربّاً جديداً.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين) (٥)

هاتان الآيتان تشيران إلى العواقب المؤلمة التي تترتب على مخالفة الأوامر التي تمّ بيانها في الآيات السابقة ، كما أنّهما تعدّان فهرستاً إجمالياً عن قصص الأقوام المتعددة أمثال نوح ، وقوم فرعون ، وقوم عاد وثمود ، وقوم لوط التي ستأتي فيما بعد.

إنّ القرآن الكريم يحذّر وينذر بشدة في هذه الآية كل اولئك الذين يتمرّدون على تعاليم الأنبياء ويقومون بزرع الفجور والفساد بدل إصلاح أنفسهم وإصلاح الآخرين ، بأن يتدبروا قليلاً في حياة الأقوام السالفة وينظروا كم من قرية عامرة أبادها الله ، وأهلك سكّانها الفاسقين : (وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا).

ثم يبيّن كيفية هلاكهم بأنّ العذاب الأليم جاءهم في منتصف الليل وهم يقضون ساعات الراحة والسكون ، أو في وسط النهار وهم يمضون لحظات الاستراحة والإسترخاء بعد رحلة من العمل والنشاط اليومي الدّائب : (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ).

ثم يواصل الحديث في الآية اللاحقة هكذا : (فَمَا كَانَ دَعْوَيهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ). فعندما يتورّطون في البلاء ، وتتحطم حياتهم بعواصف الجزاء يتركون كبرياءهم ونخوتهم وينادون معترفين بظلمهم : إنّا كنا ظالمين.

ولكن لا يجديها مثل هذا الاعتراف ، لأنّه نوع من الاعتراف الجبري والاضطراري الذي يضطرّ إليه حتى أشد الناس غروراً.

إنّ هذه الآيات تحذيرات صاعقة لهذا العصر وما يليه من العصور ، لنا وللُامم والأقوام القادمة ، لأنّه لا معنى للتبعيض في السنّة الإلهية.

١٠١

والإنسان المسلح بالتكنولوجيا المتقدمة مع كل ما اوتي من قوة هو الآخر عاجز أمام الزلازل والعواصف ، وأمام السيول والأمطار الغزيرة ، تماماً مثل عجز الامم ما قبل التاريخ وضعفها.

وعلى هذا فليست مثل تلك العواقب السيئة والأليمة التي أصابت ظَلَمة الامم الغابرة وجباريها ، وحلّت بالمغرورين والفسقة والمتمردين ليلاً وحطّمتهم ، ببعيدة عن الإنسان الحاضر.

(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) (٩)

التحقيق الشامل : إنّ الآية المتقدمة تحدّثت عن الجزاء الدنيوي للظالمين ، وهذه الآيات تبحث في الجزاء والعقاب الاخروي لهم ، وبهذا يتّضح الإرتباط بينها. يقول تعالى أوّلاً وهو يقرر سنّة عامة : (فَلَنَسَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ). أي إنّنا سنسأل في يوم القيامة كل من أرسلنا لهدايته رسولاً ، حتماً ودون ريب.

بل ونسأل الأنبياء أيضاً ، ماذا فعلوا في مجال تبليغ رسالتهم : (وَلَنَسَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

وعلى هذا الأساس فالجميع مسؤولون ، قادةً وأتباعاً ، رسلاً ومرسلاً إليهم ، غاية ما في الأمر أنّه يختلف السؤال والمسؤوليات من طائفة إلى اخرى.

في الآية اللاحقة ـ ولكي لا يتصور أحد بأنّ سؤال الله للانبياء يعني أنّ الأمر قد خفي على الله وغاب عن علمه ـ قال تعالى بصراحة مزيجة بالقسم ، بأنّنا سوف نشرح لهم كل أعمالهم بعلمنا ، لأنّه ما غاب عنا شيء من أفعالهم ، وما غابوا هم عنا ، فقد كنا معهم في كل حين ومكان : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ).

المساءلة لماذا؟ نحن نعلم أنّ الله سبحانه يعلم بكل شيء ، فهو الحاضر في كل زمان ومكان ، الناظر لكل شيء من نيّة أو عمل ، فما الحاجة إلى مساءلة الرسل والامم عامة

١٠٢

وبدون إستثناء؟!

الجواب على هذا السؤال واضح ، لأنّ السؤال لو كان للاستعلام والاستفهام ، وبهدف الوقوف على الحقيقة لم يصح أن يقع من العالِم العارف. وأمّا إذا كان المقصود منه هو إلفات الشخص إلى ما عمله ، أو إتمام الحجة عليه ، أو ما أشبه ذلك ، لم يكن في ذلك بأس ولا ضير ، إذ يشبه ذلك تماماً ما لو أسدينا إلى أحد خدمات كثيرة وقابَلَنا بالإساءة والخيانة ، وكان كل ذلك معلوماً معروفاً عندنا ، ومع ذلك فإنّنا نسائله ونقول : ألسنا قد أسدينا إليك كذا وكذا من الخدمة؟ فهل كان هذا جزاء الإحسان إليك؟

إنّ مثل هذه المساءلة ليست لاكتساب العلم ، واكتشاف الحقيقة المجهولة ، بل هي لتفهيم الطرف الآخر وإيقافه على الحقيقة.

في الآية اللاحقة ـ تكميلاً لمبحث المعاد ـ يشير تعالى إلى قضية «وزن الأعمال» الذي جاء ذكره في السور القرآنية الاخرى مثل ما جاء في سورة «المؤمنون» في الآية (١٠٢ و ١٠٣) وسورة «القارعة» الآية (٦ و ٨).

فيقول أوّلاً : إنّ وزن الأعمال يوم القيامة أمر واقع لا ريب فيه : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ). إذن ، فالمسلم هو أنّ أعمال الإنسان توزن في يوم القيامة بأداة خاصة لا بواسطة موازين مثل موازين الدنيا ، ويمكن أن تكون تلك الأداة نفس وجود الأنبياء والأئمة والصالحين ، وهذا ما يستفاد ـ أيضاً ـ من الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام.

بل إنّ أولياء الله في هذا العالم هم أيضاً مقاييس للوزن والتقييم ، ولكن حيث إنّ أكثر الحقائق في هذا العالم تبقى خلف حجب الإبهام والغموض ، تبرز في يوم القيامة بمقتضى قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (١). وتنكشف هذه الحقائق وتنجلي للعيان.

ثمّ إنّه تعالى يقول في المقطع الآخر من الآية : (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بَايَاتِنَا يَظْلِمُونَ).

إنّ من البديهي أنّ المراد من الخفّة والثقل في الموازين ليس هو خفة وثقل نفس الميزان ، بل قيمة ووزن الأشياء التي توزن بواسطة تلك الموازين ، وتُقاس بتلك المقاييس.

إنّ جملة «كانوا بآياتنا يظلمون» إشارة إلى أنّ مثل هؤلاء لم يظلموا أنفسهم فحسب ، بل

__________________

(١) سورة إبراهيم / ٤٨.

١٠٣

ظلموا ـ كذلك ـ البرامج الإلهية الهادية ، لأنّ هذه البرامج كان ينبغي أن تكون سبلاً للهداية ووسائل للنجاة ، ولو أنّ أحداً تجاهلها ، ولم يكترث بها ، فلم يحصل منها هذا الأثر ، كان ظالماً لها.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (١٠)

مكانة الإنسان وعظمته في عالم الوجود : عقيب الآيات التي أشارت إلى المبدأ والمعاد ، يدور البحث في هذه الآية والآيات اللاحقة حول عظمة الانسان وأهمية مقامه ، وكيفية خلق هذا الكائن والمفاخر التي وهبها الله له. فهو يقول في البداية : نحن الذين منحناكم الملكية والحاكمية وسلّطناكم على الأرض : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الْأَرْضِ).

وأعطيناكم وسائل العيش بجميع أنواعها : (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ).

ولكن مع ذلك لم تشكروا هذه النعم إلّاقليلاً (قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ).

(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨)

لقد أشير إلى مسألة خلق الإنسان وكيفية إيجاده في سبع سور من سُوَر القرآن الكريم ، وفي الآية المبحوثة الآن يقول الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ) جدّكم الأوّل ، ومن المأمورين بالسجود إبليس الذي كان موجوداً في صفوفهم وإن لم يكن منهم ، فامتثلوا لهذا الأمر جميعاً وسجدوا لآدم إلّاإبليس : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ).

١٠٤

وكما قلنا في ذيل الآية (٣٤) من سورة البقرة : إنّ سجود الملائكة لآدم لم يكن سجود عبادة ، لأن العبادة مخصوصة لله سبحانه ، بل السجدة هنا بمعنى التواضع.

في الآية اللاحقة يقول تعالى : أنّه أخذ إبليس على عصيانه وطغيانه و (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ). فتذرّع ـ في مقام الجواب ـ بعذر غير وجيه إذ : (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).

وكأنّ إبليس كان يتصور أنّ النار أفضل من التراب ، وهذه هي أكبر غلطاته وأخطائه ، ولعله لم يقل ذلك عن خطأ والتباس ، بل كذب عن وعي وفهم ، لأنّنا نعلم أنّ التراب مصدر أنواع البركات ، ومنبع جميع المواد الحياتية ، وأهم وسيلة لمواصلة الموجودات الحية حياتها ، على حين أنّ الأمر بالنسبة إلى النار ليس على هذا الشكل.

على أنّ ميزة الإنسان لم تكن في كونه من التراب ، بل إنّ ميزته الأصلية تكمن في «الروح الإنسانية» وفي خلافته لله تعالى.

والظاهر أنّ الشيطان كان يعرف بكلّ هذه الامور ، ولكن التكبر ، والأنانية هما اللذان منعاه عن امتثال أمر الله ، وكان ما أتى به من العذر حجة داحضة ، ومحض تحجج وتعلل.

بقي هنا سؤال وهو : كيف كان يتحدّث الشيطان مع الله ، فهل كان ينزل عليه الوحي؟

الجواب هو : أنّ كلام الله لا يكون بالوحي دائماً ، فالوحي عبارة عن رسالة النبوة ، فلا مانع من أن يكلّم الله أحداً لا بعنوان الوحي والرسالة ، بل عن طريق الباطني أو بواسطة بعض الملائكة ، سواء كان من يحادثه الله من الصالحين الأبرار مثل مريم وام موسى ، أو من غير الصالحين مثل الشيطان.

ولنعد الآن إلى تفسير بقية الآيات :

حيث إنّ امتناع الشيطان من السجود لآدم عليه‌السلام لم يكن امتناعاً بسيطاً وعادياً ولم يكن معصية عادّية ، بل كان تمرّداً مقروناً بالاعتراض والإنكار للمقام الربوبي ، لهذا فإنّ مخالفته كانت تعني الكفر وإنكار العلم والحكمة الإلهيين ، فوجب أن يخسر جميع مراتبه ودرجاته ، وبالتالي كل ما له من مكانة عند الله ، ولهذا أخرجه الله من ذلك المقام الكريم ، وجرّده من تلك المنزلة السامقة التي كان يتمتع بها في صفوف الملائكة ، فقال له : (فَاهْبِطْ مِنْهَا).

ثمّ إنّه تعالى شرح له منشأ هذا السقوط والتنزل بالعبارة التالية : (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا).

وأضاف للتأكيد قائلاً : (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ). يعني إنّك بعملك وموقفك هذا لم

١٠٥

تصبح كبيراً ، بل على العكس من ذلك أصبتَ بالصغار والذلة.

إنّ هذه الجملة توضّح بجلاء أنّ شقاء الشيطان كله كان وليد تكبّره.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «اصول الكفر ثلاثة : الحرص والاستكبار والحسد ، فأمّا الحرص فإنّ آدم عليه‌السلام حين نهي عن الشجرة حمله الحرص على أن أكل منها ، وأمّا الاستكبار فإبليس حيث امر بالسجود لآدم فأبى ، وأمّا الحسد فإبنا آدم حيث قتل أحدهما صاحب».

ولكن قصة الشيطان لم تنته إلى هذا الحد ، فهو عندما عرف بأنّه صار مطروداً من حضرة ذي الجلال زاد من طغيانه ولجاجته ، وبدل أن يتوب ويثوب إلى الله ويعترف بخطئه فإنّ الشيء الوحيد الذي طلبه من الله تعالى هو أن يمهله ويؤجّل موته إلى يوم القيامة : (قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

ولقد استجاب الله لهذا الطلب ، ف (قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ).

غير أنّ الشيطان لم يبغ من مطلبه هذا (أي الإمهال الطويل) الحصول على فرصة لجبران مافات منه أو ليعمّر طويلاً ، إنّما كان هدفه من ذلك هو إغواء بني البشر (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ). أي لأغوينهم كما غويت ، ولُاضلنّهم كما ضللت.

ثمّ إنّ الشيطان أضاف ـ تأكيداً لقوله ـ بأنّه لن يكتفي بالقعود بالمرصاد لهم ، بل سيأتيهم من كل حدب وصوب ، ويسدّ عليهم الطريق من كل جانب (ثُمَّ لَأَتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).

ولقد نقل ـ في المجمع ـ عن الإمام الباقر عليه‌السلام تفسير أعمق لهذه الجهات الأربع حيث قال : «ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ، معناه : اهوّن عليهم أمر الآخرة ؛ ومن خلفهم ، آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم ؛ وعن أيمانهم ، افسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة ؛ وعن شمائلهم ، بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم».

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة هنا يصدر مرّة اخرى الأمر بخروج الشيطان من حريم القرب الإلهي والمقام الرفيع ، بفارق واحد ، هو أنّ الأمر بطرده هنا اتّخذ صورة أكثر ازدراء وتحقيراً ، وأشد عنفاً ووقعاً ، ولعل هذا كان لأجل العناد واللجاج الذي أبداه الشيطان بالإلحاح على الوسوسة للإنسان وإغوائه وإغرائه ، يعني أنّ موقفه الأثيم في البداية كان منحصراً في التمرد على أمر الله وعدم إمتثاله ، ولهذا صدر الأمر بخروجه فقط ، ولكن عندما أضاف معصية أكبر إلى معصيته بالعزم على إضلال الآخرين جاء الأمر المشدد : (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا).

١٠٦

ثم حلف على أن يملأ جهنم منه ومن أتباعه : (لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ).

سؤال : بعد أن ارتكب الشيطان مثل تلك المعصية الكبيرة ، لماذا قبل الله طلبه في الإمهال ، وتأخير الأجل؟

إنّ مواصلة الشيطان لحياته كقضية سلبية يكون وجودها ضرورياً لتقوية نقاط إيجابية ، لا يكون غير مضرّ فحسب ، بل هو مؤثر ومفيد أيضاً ، فإنّه مع غض النظر عن الشيطان ، هناك مجموعة من الغرائز المختلفة في داخلنا ، وهي بوقوفها في الطرف الآخر من قوانا العقلية والروحية تشكّلان ساحة صراع وتناقض قويين ، وفي مثل هذه الساحة يتحقق تقدم الإنسان وتكامله ، وتربيته ورشده.

إنّ النقطة المهمة التي يجب الإنتباه إليها هي أنّ الله تعالى وإن كان ترك الشيطان حرّاً في القيام بوساوسه ، ولكنه من جانب آخر لم يدع الإنسان مجرداً من الدفاع عن نفسه.

لأنّه أوّلاً : وهبه قوة العقل التي يمكن أن توجد سدّاً قوياً منيعاً في وجه الوساوس الشيطانية خاصة إذا لقيت تربية صالحة.

وثانياً : جعل الفطرة النقيّة وحب التكامل في باطن الإنسان كعامل فعّال من عوامل السعادة.

وثالثاً : يبعث الملائكة التي تلهم الخيرات إلى الذين يريدون أن يعيشوا بمنأى عن الوساوس الشيطانية ، كما يصرّح القرآن الكريم بذلك ـ في الآية (٣٠) من سورة فصّلت ـ إذ يقول : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلِكَةُ). إنّها تنزل عليهم لتقوية معنوياتهم بإلهامهم ألوان البشارات والتطمينات لهم.

(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢)

١٠٧

وساوس شيطانية في حُلل خَلّابة : تُبيّن هذه الآيات وتستعرض فصلاً آخر من قصة آدم ، فتقول أوّلاً : إنّ الله سبحانه أمر آدم وزوجته حواء بأن يسكنا الجنة : (وَيَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ).

ويستفاد من هذه العبارة أنّ آدم وحواء لم يكونا في بدء الخلقة في الجنة. وفي هذه الأثناء صدر أوّل تكليف وأمر ونهي إلى آدم وحواء من جانب الله تعالى ، بهذه الصورة : (فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). أي إنّ الأكل من جميع أشجار هذه الجنة مباح لكما ، إلّاشجرة خاصه لا تقرباها ، وإلّا كنتما من الظالمين.

ثم إنّ الشيطان الذي طُرِد من رحمة الله تعالى بسبب إحجامه عن السجود لآدم ، وكان قد صمّم على أن ينتقم لنفسه من آدم وبنيه ما أمكن.

بدأ بنزع لباس الطاعة والعبودية لله ، عنهما ، فأبدى عورتهما التي كانت مخبأة مستورة : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطنُ لِيُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا).

وللوصول إلى هذا الهدف رأى أنّ أفضل طريق هو أن يستغلّ حب الإنسان ورغبته الذاتية في التكامل والرقي والحياة الخالدة ، وليوفّر لهما عذراً يعتذران ويتوسلان به لتبرير مخالفتهما لأمر الله ونهيه ، ولهذا قال لآدم وزوجته : (مَا نَهكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ).

وبهذه الطريقة صوّر الأمر الإلهي في نظرهما بشكل آخر.

ولما سمع آدم هذا الكلام غرق في التفكير ولكن الشيطان ـ من أجل أن يحكم قبضته ويعمّق وسوسته في روح آدم وحواء ـ توسل بالأيمان المغلّظة للتدليل على أنّه يريد لهما الخير! (وَقَاسَمَهُمَا إِنّى لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ).

لم يكن آدم يمتلك تجربة كافية عن الحياة ، ولم يكن قد وقع في حبائل الشيطان وخدعه بعد ولم يعرف بكذبه وتضليله قبل هذا ، كما أنّه لم يكن في مقدوره أن يصدّق بأن يأتي بمثل هذه الأيمان المغلّظة كذباً ، ولهذا وقع في حبال الشيطان ، وسقط في ورطة المخالفة والعصيان للأوامر الإلهية ، كما يعبّر القرآن عن ذلك ويلخّصه في عبارة موجزة إذ يقول : (فَدَلهُمَا بِغُرُورٍ) (١).

__________________

(١) «دلّى» : من مادة التدلية وتعني إرسال الدلو في البئر بحبلٍ تدريجاً وهذه كناية لطيفة عن أنّ الشيطان أنزل ـ

١٠٨

وبمجرّد أن ذاق آدم وزوجته من تلك الشجرة الممنوعة تساقط عنهما ما كان عليهما من لباس وانكشفت سوءاتهما (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا).

وجُرّدا من لباس الجنة الذي هو لباس الكرامة الإلهية.

ثم يقول : إنّ آدم وحواء لمّا وجدا نفسيهما عاريين عمدا فوراً إلى ستر نفسيهما بأوراق الجنة : (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ) (١).

وفي هذا الوقت بالذات جاءهما نداء من الله يقول : ألم احذّركما من الاقتراب والأكل من هذه الشجرة؟ ألم أقل لكما : إنّ الشيطان عدوّ لكما؟ فلماذا تناسيتم أمري ووقعتم في مثل هذه الأزمة : (وَنَادَيهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ).

من المقايسة بين تعبير هذه الآية والآية الاولى التي أجاز الله فيها لآدم وحواء أن يسكنا الجنة ، يستفاد بوضوح أنّهما بعد هذه المعصية ابتعدا عن مقام القرب الإلهي.

بحثان

١ ـ ماذا كانت الشجرة الممنوعة؟ جاءت في المصادر الإسلامية تفسيران لها ، أحدهما «مادي» وهو أنّها كانت «الحنطة» كما هو المعروف في الروايات.

والتفسير الآخر «معنوي» وهو أنّ المقصود من تلك الشجرة ـ كما في الرّوايات ـ هو ما عبّر عنها ب «شجرة الحسد» لأنّ آدم طبقاً لهذه الروايات ـ بعد ملاحظة مكانته ومقامه ـ تصوّر أنّه لا يوجد فوق مقامه مقام ، ولا فوق مكانته مكانة ، ولكن الله تعالى أطلعه على مقام ثلّة من الأولياء من ذريته وأبنائه (رسول الأكرم وأهل بيته) ، فحصل عنده ما يشبه الحسد ، وكانت هذه هي الشجرة الممنوعة التي امر آدم بأن لا يقربها.

وفي الحقيقة تناول آدم ـ طبقاً لهذه الروايات ـ من شجرتين ، كانت إحداهما أقل منه مرتبة وأدنى منه منزلة ، وقد قادته إلى العالم المادي ، وكانت هي «الحنطة». والاخرى هي الشجرة المعنوية التي كانت تمثل مقام ثلّة من أولياء الله ، والذي كان أعلى وأسمى من مقامه ومرتبته ، وحيث إنّه تعدّى حدّه في كلا الصعيدين ابتلي بذلك المصير المؤلم.

ولكن يجب أن نعلم أنّ هذا الحسد لم يكن من النوع الحرام ، بل كان مجرد إحساس

__________________

 ـ بحبل مكره وخداعه آدم وزوجته من مقامهما الرفيع ، وأرسلهما إلى قعر بئر المشكلات والإبتعاد عن الرحمة الإلهية.

(١) «يخصفان» : من مادة «الخصف» وتعني في الأصل ضمّ شيء إلى شيء آخر ، والجمع ، ثمّ أطلق على ترفيع النعل أو الثوب المتمزق وخياطته فقيل : خصف النعل أو الثوب ، أي جمع الأجزاء المتفرقة وضمّ بعضها إلى الآخر.

١٠٩

نفساني من دون أن تتبعه أيّة خطوة عملية على طبقه.

٢ ـ هل ارتكب آدم معصية؟ إنّ المصادر الإسلامية تقول لنا : إنّ الأنبياء لايرتكبون إثماً وإنّ منصب إمامة الناس وهدايتهم لا يُعطى لمن يرتكب ذنباً ويقترف معصية. ونحن نعلم أنّ آدم كان من الأنبياء الإلهيين ، وعلى هذا الأساس فإنّ التعابير التي جاءت في القرآن حول سائر الأنبياء الذين نسب إليهم العصيان ، جميعها تعني «العصيان النسبي» و «ترك الأولى» لا العصيان المطلق.

وتوضيح ذلك : أنّ المعصية على نوعين : «المعصية المطلقة» و «المعصية النسبية» ، والمعصية المطلقة هي مخالفة النهي التحريمي ، وتجاهل الأمر الإلهي القطعي ، وهي تشمل كل نوع من أنواع ترك الواجب وإتيان الحرام.

ولكن المعصية النسبية هي أن يصدر من شخصية كبيرة عمل غير حرام لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه.

فالصلاة التي يقوم بها فرد عادي قد تعتبر صلاة ممتازة ، ولكنها تعدّ معصية إذا صدر مثلها من أولياء الله.

وهكذا الحال في سائر أعمالهم ، فإنّها على غرار عباداتهم ، يجب أن تقاس بمنازلهم وشؤونهم ، ولهذا إذا صدر منهم «ترك الأولى» عوتبوا من جانب الله ، والمراد من ترك الأولى هو أن يترك الإنسان فعل ما هو الأفضل ويعمد إلى عمل جيّد أو مستحب أدنى منه في الفضل.

إنّ نهي آدم عن الشجرة الممنوعة لم يكن نهياً تحريمياً ، بل كان ترك أولى ، ولكن نظراً إلى مكانة آدم ومقامه ومرتبته عُدّ صدوره أمراً مهمّاً وخطيراً ، واستوجب مخالفة هذا النهي (وإن كان نهياً كراهياً وتنزيهياً) تلك العقوبة والمؤاخذة من جانب الله تعالى.

(قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) (٢٥)

رجوع آدم إلى الله وتوبته : وفي المآل عندما عرف آدم وحواء بكيد إبليس ، وخطّته ومكره الشيطاني ، ورأيا نتيجة مخالفتهم فكّرا في تلافي ما فات ، وجبران ما صدر منهما ،

١١٠

فكانت أوّل خطوة خطياها هي : الاعتراف بظلمهما لنفسيهما أمام الله : (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

إنّ توبة آدم وحواء الخالصة وإن قُبِلت من جانب الله تعالى ـ كما نقرأ ذلك في الآية (٣٧) من سورة البقرة : (فَتَابَ اللهُ) ـ ولكنهما لم يستطيعا على كل حال التخلّص من الأثر الوضعي والنتيجة الطبيعية لعملهما ، فقد امرا بمغادرة الجنة ، وشمل هذا الأمر الشيطان أيضاً : (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).

كما ذكّر الجميع بأنّهم سيتعرضون في الأرض للموت بعد الحياة ، ثم يخرجون من الأرض مرّة اخرى للحساب (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ).

(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٢٨)

إنذار إلى كل أبناء آدم : إنّ الله تعالى بيّن في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم ، وهي تعتبر في الحقيقة استمراراً لبرامج آدم في الجنة. ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سَوءات البدن التي كان لها دور مهم في قصة آدم ، إذ يقول : (يَا بَنِىءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ).

ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءآت ، بل للتجمل والزينة أيضاً حيث يجعل أجسامكم أجمل مما هي عليه. (وَرِيشًا).

«ريش» : في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور ، وحيث إنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها ، لهذا اطلق على نوع من أنواع الألبسة ، ولكن حيث إنّ ريش الطير في

١١١

الأغلب مختلف الألوان جميلها ، لذلك تتضمن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال.

ثم تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري ، عن حد اللباس المعنوي تبعاً لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي ، الظاهري والباطني إذ قال : (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ).

وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة ، معبّر جداً ، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار ، ويستر العيوب الجسمانية ، وهو بالإضافة إلى هذا وذاك زينة للإنسان ، ومصدر جمال ، كذلك روح التقوى ، فإنّها مضافاً إلى ستر عيوب الانسان ، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والاجتماعية ، تعدّ زينة كبرى له ... زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّواً ، وتزيدها جلالاً وبهاء.

والمراد من لباس التقوى هو «روح التقوى» التي تحفظ الإنسان ، وتنطوي تحتها معاني «الحياء» و «العمل الصالح» وأمثالهما.

ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية : (ذلِكَ مِنءَايَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم ، سواء الألبسة المادية أو المعنوية ، اللباس الجسماني أو لباس التقوى ، كلها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الرب تعالى.

اللباس في الماضي والحاضر : لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب ولكن الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعاً بالغاً عبر الزمن. لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطوراً هائلاً ، واتسع نطاقها اتساعاً كبيراً ، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى.

ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية ، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة وتعددت كثيراً إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.

لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر ، وإشاعة الفساد ، وتحريك الشهوات ، والتكبر والإسراف والتبذير ، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصة الشباب المتغرب ـ يفوق طابُعها الجنوني على الطابع العقلاني ، وتكون أشبه بكل شيء إلّاباللباس والثوب.

الآية اللاحقة يحذّر فيها الله سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره ، ويدعو إلى مراقبته ، والحذر منه ، لأنّ الشيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم ، فكما أنّه

١١٢

نزع عنه لباس الجنة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى ، ولهذا يقول تعالى : (يَا بَنِىءَادَمَ لَايَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا).

ثمّ إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء : (إِنَّهُ يَرَيكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَاتَرَوْنَهُمْ). فلابدّ من شدة الحذر من مثل هذا العدو.

وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي إجابة على سؤال مهم ، فقد يتساءل أحد : كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّاً بهذه القوة على الإنسان ... عدوّاً لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان ... عدواً يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته ، بل إنّه ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث ـ يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه ، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟!

الآية الشريفة ـ في خاتمتها ـ ترد على هذا السؤال الاحتمالي إذ تقول : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ). أي إنّ الخطوات الاولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه ، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع إجتياز حدود الروح ويعبرها إلّابعد موافقة من الإنسان نفسه.

وفي الآية (٤٢) من سورة الحجر نقرأ : (إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ).

في الآية التالية يشير تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمة والتي تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضاً ، وهي أنّه عندما يُسأل الشخص لدى إرتكابه عملاً قبيحاً ، عن دليله يجيب قائلاً : هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه : (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَاءَابَاءَنَا).

ثمّ يضيفون إلى هذه الحجة حجة كاذبة اخرى قائلين : (وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا).

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يَعبأ بالدليل الأول (يعني التقليد الأعمى للآباء والأسلاف) ولم يعتن به ، وإنّما اكتفى بالردّ على الحجة الثانية ، أو بالأحرى (التبرير الثاني) حيث قال : (قُلْ إِنَّ اللهَ لَايَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ).

ثم يختم الآية بهذه العبارة : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ).

«الفحشاء» : هنا هو كل عمل قبيح منكر ، ومسألة «الطواف بالبيت عراة» و «اتباع

١١٣

القادة والزعماء الظلمة» تعدّ من المصاديق الواضحة لذلك.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠)

بما أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهوماً كل أنواع الفعل القبيح ، وتأكّد أنّ الله لا يأمر بالفحشاء اطلاقاً لهذا اشير في هذه الآية إلى أصول ومبادىء التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة ، ثم تبعه بيان أصول العقائد الدينية ، أي المبدأ والمعاد ، بصورة مختصرة موجزة.

يقول أوّلاً : أيها النبي (قُلْ أَمَرَ رَبّى بِالْقِسْطِ) والعدل.

ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوماً واسعاً يشمل جميع الأعمال الصالحة ، لأنّ حقيقة العدل هي استخدام كل شيء في مجاله ، ووضع كل شيء في محله.

ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كل ألوان الشرك وأنواعه ، إذ قال : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ). أي وجّهوا قلوبكم نحو الله الواحد دون سواه (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ).

وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد ، وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة ، إذ قال : (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).

إنّ الآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في مسألة المعاد الجسماني ، إذ تقول : انظروا إلى بداية الخلق ، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء ، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثم تبخّرت وتبدلت إلى السُّحب ، ثم نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي ، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة ، أو خضروات مختلفة جُمعت من مختلف نقاط الأرض.

وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه

١١٤

إلى حالته الاولى تجتمع تلك الذرات ثانية ، وتتواصل وتترابط ويتشكل الجسم الأول ، فلو كان هذا الأمر محالاً فلماذا وقع في مبدأ الخلقة؟!

إذاً «كما بدأكم» الله «تعودون» أي يعيدكم في الآخرة ، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.

في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول : (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّللَةُ).

ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ الله يهدي فريقاً أو يضلّ فريقاً من دون سبب ، أضاف في الجملة ما يلي : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللهِ). أي إنّ الضالين هم الذين إختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية الله ، فضلوا.

والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وانحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقيون (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ).

إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية ، وفي هذه الحالة اغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية ، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢)

الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصة آدم في الجنة ، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة ، وكيفية الاستفادة الصحيحة منها. في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي ، يشمل جميع الأعصار والقرون ، أن يتخذوا زينتهم عندما يذهبون إلى المساجد : (يَا بَنِىءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ).

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل «زينة جسمانية» مما يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة ، وتمشيط الشعر ، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضاً أن تكون إشارة إلى كل «زينة معنوية» يعني الصفات الإنسانية والملكات الأخلاقية ، وصدق

١١٥

النية وطهارتها وإخلاصها.

ثمّ في العبارة اللاحقة يشير سبحانه إلى مواهب اخرى ، يعني الأطعمة والأشربة الطاهرة الطيبة ، ويقول : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا).

ولكن حيث إنّ الإنسان حريص بحكم طبيعته البشرية ، يمكن أن يسيء استخدام هذين التعليمين ، وبدل أن يستفيد من نعمة اللباس والغذاء الصحيح بالشكل المعقول والمعتدل ، يسلك سبيل الإسراف والتبذير والبذخ ، لهذا أضاف مباشرة قائلاً : (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

«الإسراف» : كلمة جامعة جدّاً بحيث تشمل كل إفراط في الكم والكيف ، وكذا الأعمال العابثة والإتلاف وما شابه ذلك.

وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الردّ ـ بلهجة أكثر حدّةً ـ على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والإجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد ، وسبباً للتقرب إلى الله فيقول : أيّها النبي : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ).

ثمّ أضاف للتأكيد : (قُلْ هِىَ لِلَّذِينَءَامَنُوا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيمَةِ). أي إنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة ، وإن كان الآخرون ـ أيضاً ـ يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك ، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل ، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب ، فإنّ هذه المواهب والنعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط ، ويحرم منها الآخرون حرماناً كلياً.

وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد : (كَذلِكَ نُفَصّلُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

لقد اختار الإسلام ـ كسائر الموارد ـ حدّ التوسط والإعتدال في مجال الإنتفاع والاستفادة من أنواع الزينة.

ولم يكتف الإسلام بتجويز التمتع بجمال الطبيعة والاستفادة من الألبسة الجميلة والمناسبة واستعمال كل أنواع العطور فحسب بل اوصي بذلك وحثّ عليه أيضاً.

توصية صحية هامة : إنّ عبارة (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) التي جاءت في الآية الحاضرة ، وإن كانت تبدو للنظر أمراً بسيطاً جدّاً ، إلّاأنّه ثبت اليوم أنّه واحد من أهم الأوامر والتعاليم الصحية ، وذلك لأنّ تحقيقات العلماء توصلت إلى أنّ منبع الكثير من الأمراض والآلام هو الأطعمة الإضافية الزائدة التي تبقى في بدن الإنسان إنّ هذه المواد الإضافية تشكل من جانب عبئاً ثقيلاً على القلب وغيره من أجهزة الجسم ، وهي من

١١٦

جانب آخر منبع مهيّأ لمختلف أنواع العفونات والأمراض.

إنّ العامل الأصل في وجود هذه المواد الزائدة هو الإسراف ، والإفراط في الأكل والبطنة ، والطريق إلى تجنب هذه الحالة ليس إلّارعاية الإعتدال في الأكل.

(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

لقد شاهدنا مراراً أنّ القرآن الكريم كلّما تحدث عن أمر مباح أو لازم ، تحدث فوراً عن ما يقابله ، من الامور القبيحة والمحرمات ، ليكمّل كل واحد منهما الآخر.

وهنا أيضاً تحدّث ـ عقيب السماح بالتمتع والاستفادة من المواهب الإلهية وإباحة كل ما هو زينة وجمال ـ عن المحرمات على نحو العموم ، ثم أشار بصورة خاصة إلى عدة نقاط مهمة. ففي البداية تحدث عن تحريم الفواحش وقال : يا أيّها النبي (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ).

«الفواحش» : جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة البالغة في القبح والسوء لا جميع الذنوب ، ولعل التأكيد على هذا المطلب (ماظهر منها وما بطن) هو لأجل أنّ العرب الجاهليين كانوا لا يستقبحون عمل الزنا إذا اتي به سرّاً ، ويحرّمونه إذا كان ظاهراً مكشوفاً.

ثمّ إنّه عمّم الموضوع وأشار إلى جميع الذنوب وقال : (وَالْإِثْمَ). أي كل إثم.

والإثمّ في الأصل يعني كل عمل مضر ، وكل ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وتردّي منزلته ، ويمنعه ويحرمه من نيل الثواب والأجر الحسن. وعلى هذا يدخل كل نوع من أنواع الذنوب في المفهوم الواسع للإثم.

ومرّة اخرى يشير بصورة خاصة إلى عدد من كبريات المعاصي والآثام ، فيقول : (وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ). أي كل نوع من أنواع الظلم ، والتجاوز على حقوق الآخرين.

«البغي» : يعني السعي والمحاولة لتحصيل شيء ولكن يراد منه غالباً الجهود المبذولة لغصب حقوق الآخرين ، ولهذا يكون مفهومه ـ في الغالب ـ مساوياً لمفهوم الظلم.

ثمّ أشار تعالى إلى مسألة الشرك وقال : (وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَّزِلْ بِهِ سُلْطَانًا). فهو أيضاً محرّم عليكم.

وآخر ما يؤكّد عليه من المحرمات هو نسبة شيء لله لايستند إلى علم : (وَأَن تَقُولُوا عَلَى

١١٧

اللهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ).

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤)

لكل امة أجل : في هذه الآية يشير الله تعالى إلى واحدة من سنن الكون والحياة ، أي فناء الامم وزوالها ، ويلقي ضوءاً أكثر على الأبحاث التي تتعلق بحياة أبناء البشر على وجه الأرض ومصير العصاة ، التي سبق الحديث عنها في الآيات السابقة. فيقول أوّلاً : (وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ).

ثم يشير إلى أنّ هذا الأجل لا يتقدم ولا يتأخر إن جاء (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَايَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ). أي إنّ الامم والشعوب مثل الأفراد ، لها موت وحياة ، وأنّ الامم تندثر وينمحي أثرها من على وجه الأرض ، وتحل مكانها امم اخرى ، وإنّ سنّة الموت وقانون الفناء لا يختصان بأفراد الإنسان ، بل تشمل الجماعات والأقوام والامم أيضاً ، مع فارق وهو أنّ موت الشعوب والأمم يكون ـ في الغالب ـ على أثر انحرافها عن جادة الحق والعدل ، والإقبال على الظلم والجور ، والإنغماس في بحار الشهوات ، والغرق في أمواج الإفراط في التجمل والرفاهية.

فعندما تسلك الأمم في العالم هذه المسالك وتنحرف عن سنن الكون وقوانين الخلقة ، تفقد مصادرها الحيوية الواحد تلو الآخر ، وتسقط في النهاية.

ويجب الإلتفات إلى أنّ «الساعة» في اللغة تعني أصغر وحدة زمنية ، فربّما تكون بمعنى لحظة ، وربّما تكون بمعنى أقل قدر من الزمن.

(يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٣٦)

تعليم آخر لأبناء آدم : مرّة اخرى يخاطب الله سبحانه أبناء آدم وذريته ، إذ يقول : (يَا بَنِىءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْءَايتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). أي إذا أتتكم رسلي يتلون عليكم آياتي فاتبعوهم ، لأنّ من اتقى منكم

١١٨

واتبعهم وأصلح نفسه والآخرين كان في أمن من عذاب الله الأليم ، فلا يخاف ولا يحزن.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه وتعالى قائلاً : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

فتلك عاقبة المؤمنين ، وهذه عاقبة المكذبين لهم.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (٣٧)

من هذه الآية فما بعد تتضمن الآيات بيان أقسام مختلفة من المصير السيء الذي ينتظر المفترين والمكذبين لآيات الله تعالى ، وفي البداية تشير إلى كيفية حالهم عند الموت ، إذ تقول : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَايَاتِهِ).

ثمّ إنّه تعالى يصف وضعهم عند الموت فيقول : (أُولئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ). أي إنّ هؤلاء سيأخذون ما هو نصيبهم وما هو مقدر مكتوب لهم من النعم المختلفة ، حتى إذا استوفوا حظهم من العمر ، وانتهوا إلى آجالهم النهائية ، حينئذ تأتيهم ملائكتنا الموكلون بقبض أرواحهم.

وعلى كل حال ، فإنّ عقوباتهم تبدأ منذ لحظة حلول الموت ، ففي البداية يواجهون التوبيخ وعتاب الملائكة المكلفين بقبض أرواحهم ، فيسألونهم : أين معبوداتكم التي اتخذتموها من دون الله والتي طالما تحدثتم عنها ، وكنتم تسوقون إليها ثرواتكم سفهاً. (قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ).

فيجيبهم هؤلاء بعد أن يرون أنفسهم منقطعين عن كل شيء ، ويرون كيف تبددت جميع أوهامهم وتصوراتهم الخاطئة حول آلهتهم وذهبت أدراج الرياح ، قائلين : لانرى منها أثراً وإنّها لا تملك أن تدافع عنّا ، وإنّ جميع ما فعلناه من العبادة لها كان عبثاً وباطلاً : (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا).

وهكذا يشهدون على أنفسهم بالكفر والضلال : (وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ). أي في حين أغلق في وجههم طريق العودة ، وهذا هو أوّل سوط جهنمي من سياط العقوبة الإلهية التي تتعرض لها أرواحهم.

١١٩

(قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩)

تنازع القادة والاتباع في جهنم : في هذه الآية يواصل القرآن الكريم بيان المصير المشؤوم للمكذبين بآيات الله ، وقد صوّرت لنا الآيات السابقة وضعهم عند حلول الموت ، وسؤال الملائكة القابضة للأرواح لهم ، وهنا يرسم لنا ما يجري بين الجماعات المظلة والغاوية ، وبين من تعرضوا للإغواء في يوم القيامة. ففي يوم القيامة يقول الله لهم : التحقوا بمن يشابهكم من الجن والإنس ممن سبقوكم ، وذوقوا نفس مصيرهم النار (قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ فِى النَّارِ).

وعندما يدخل الجميع في النار تبدأ مصادماتهم مع زملائهم وأشباههم في المسلك ، وهي مصادمات عجيبة ، فكلما دخلت جماعة منهم في النار لعنت الاخرى واعتبرتها سبباً لشقائها ومسؤولة عن بلائها ومحنتها (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا) (١).

ففي البداية يبدأ المخدوعون المغرّر بهم بعرض شكايتهم ، وحيث إنّهم لا يجدون مناصاً ممّا هم فيه يقولون : ربّنا إنّ هؤلاء المغوين هم الذين أضلونا وخدعونا ، فضاعف يا ربّ عذابهم ، عذاباً لضلالهم وعذاباً لإضلالهم إيّاناً ، وهذا هو ما يتضمنه قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَيهُمْ لِأُولَيهُمْ رَبَّنَا هؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النَّارِ).

ولكن العجيب هو أن يقال لهم في معرض الإجابة على طلبهم : سيكون لكلتا الطائفتين ضعفان من العذاب وليس للمضلين فقط (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِن لَّاتَعْلَمُونَ).

وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والانحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت ، فإذا قلنا فقد أيّدتم ، وإذا خطونا فقد ساعدتم ، وإذا ظلمنا فقد عاونتم ،

__________________

(١) التعبير بالاخت كناية عن الإرتباط الفكري والصّلة الرّوحية بين هذه الفرق المنحرفة ، وحيث إنّ الامّة مؤنث لفظي ، لهذا عبّر عنها بالاخت ، لا الأخ.

١٢٠