موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٤

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٤

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٧٧

مع الله في آياته وتوحيده

٢١
٢٢

ومعظم أدعية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قد حفلت بتوحيد الله تعالى والثناء عليه ، وهي تحمل طابع الإخلاص والعبودية المطلقة لله الواحد القهّار ، فقد حكت أدعيته مدى تذلّله أمام الله ، وتضرّعه إليه ، ومعرفته به ، وهذه نماذج منها :

دعاؤه عليه‌السلام

في توحيد الله والثناء عليه

الحمد لله أوّل محمود ، وآخر معبود ، وأقرب موجود ، البديء بلا معلوم لأزليّته ، ولا آخر لأوّليّته ، والكائن قبل الكون بغير كيان ، والموجود في كلّ مكان بغير عيان ، والقريب من كلّ نجوى بغير تدان ، علنت عنده الغيوب ، وضلّت في عظمته القلوب ، فلا الأبصار تدرك عظمته ، ولا القلوب على احتجابه تنكر معرفته ، تمثّل في القلوب بغير مثال تحدّه الأوهام ، أو تدركه الأحلام ، ثمّ جعل من نفسه دليلا على تكبّره عن الضّدّ والنّدّ والشّكل والمثل ، فالوحدانيّة آية الرّبوبيّة ، والموت الآتي على خلقه مخبر عن خلقه وقدرته ، ثمّ خلقهم من نطفة ولم يكونوا شيئا ، دليل على إعادتهم خلقا جديدا بعد فنائهم كما خلقهم أوّل مرّة ...

وحكى هذا المقطع مدى تعظيم الإمام عليه‌السلام لله تعالى ، فقد نعته بهذه النعوت

٢٣

التي تنمّ عن معرفته بتلك الحقيقة المذهلة للعقول ، فهو تعالى الكائن قبل كلّ شيء ، والموجود في كلّ مكان ، والقريب من كلّ نجوى ، فتعالى أن تدركه الأحلام ، أو تعرف واقعة العقول التي هي محدودة في إدراكها وتصوّرها ، فكيف تصل إلى إدراكه تعالى؟ ويستمرّ الإمام في دعائه فيقول :

والحمد لله ربّ العالمين ، الّذي لم يضرّه بالمعصية المتكبّرون ، ولم ينفعه بالطّاعة المتعبّدون ، الحليم عن الجبابرة المدّعين ، والممهّل للزّاعمين له شريكا في ملكوته ، الدّائم في سلطانه بغير أمد ، والباقي في ملكه بعد انقضاء الأبد ، والفرد الواحد الصّمد ، والمتكبّر عن الصّاحبة والولد ، رافع السّماء بغير عمد ، ومجري السّحاب بغير صفد (١) ، قاهر الخلق بغير عدد ، لكن الله الأحد ، الفرد الصّمد ، الّذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

والحمد لله الّذي لم يخل من فضله المقيمون على معصيته ، ولم يجازه لأصغر نعمه المجتهدون في طاعته ، الغنيّ الّذي لا يضنّ برزقه على جاحده ، ولا ينقص عطاياه أرزاق خلقه ، خالق الخلق ومفنيه ، ومعيده ، ومبديه ، ومعافيه ، عالم ما أكنّته السّرائر ، وأخبته الضّمائر ، واختلفت به الألسن ، وآنسته الأزمن ، الحيّ الّذي لا يموت ، والقيّوم الّذي لا ينام ، والدّائم الّذي لا يزول ، والعدل الّذي لا يجور ، والصّافح عن الكبائر بفضله ، والمعذّب من عذّب بعدله ، لم يخف الفوت فحلم ، وعلم الفقر إليه فرحم ، وقال في محكم كتابه : ( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) ...

__________________

(١) الصفد : القيد.

٢٤

وحفل هذا المقطع من دعاء الإمام عليه‌السلام بالثناء على الله تعالى وذكر بعض صفاته العظيمة ، التي طبق سناها ما في السموات والأرض. ويستمرّ إمام المتّقين في دعائه قائلا :

أحمده حمدا أستزيده في نعمته ، وأستجير به من نقمته ، وأتقرّب إليه بالتّصديق لنبيّه المصطفى لوحيه ، المتخيّر لرسالته ، المختصّ بشفاعته ، القائم بحقّه ، محمّد ٦ وعلى أصحابه ، وعلى النّبيّين والمرسلين ، والملائكة أجمعين ، وسلّم تسليما.

إلهي! درست الآمال ، وتغيّرت الأحوال ، وكذبت الألسن ، واخلفت العدة إلاّ عدتك ، فإنّك وعدت مغفرة وفضلا.

اللهمّ صلّ على محمّد وآله وأعطني من فضلك ، وأعذني من الشّيطان الرّجيم. سبحانك وبحمدك ما أعظمك! وأحلمك! وأكرمك! وسع بفضل حلمك تمرّد المستكبرين ، واستغرقت نعمتك شكر الشّاكرين ، وعظم حلمك عن إحصاء المحصين ، وجلّ طولك عن وصف الواصفين ، كيف ـ لو لا فضلك ـ حلمت عمّن خلقته من نطفة ولم يك شيئا ، فربّيته بطيّب رزقك ، وأنشأته في تواتر نعمك ، ومكّنت له في مهاد أرضك ، ودعوته إلى طاعتك ، فاستنجد على عصيانك بإحسانك ، وجحدك وعبد غيرك في سلطانك؟ ... كيف ـ لو لا حلمك ـ أمهلتني ، وقد شملتني بسترك ، وأكرمتني بمعرفتك ، وأطلقت لساني بشكرك ، وهديتني السّبيل إلى طاعتك ، وسهّلتني المسلك إلى كرامتك ، وأحضرتني سبيل قربتك ، فكان جزاؤك منّي أن كافأتك عن الإحسان بالإساءة ، حريصا على ما أسخطك ، متنقّلا فيما أستحقّ به المزيد من نقمتك ، سريعا إلى ما هو أبعد عن رضاك ،

٢٥

مغتبطا بغرّة الأمل ، معرضا عن زواجر الأجل ، لم ينفعني حلمك عنّي ، وقد أتاني توعّدك بأخذ القوّة منّي ، حتّى دعوتك على عظيم الخطيئة ، أستزيدك في نعمك غير متأهّب لما قد أشرفت عليه من نقمتك ، مستبطئا لمزيدك ، ومتسخّطا لميسور رزقك ، مقتضيا جوائزك بعمل الفجّار ، كالمراصد رحمتك بعمل الأبرار ، مجتهدا أتمنّى عليك العظائم كالمدلّ الآمن من قصاص الجرائم ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ...

وحكى هذا المقطع مدى ألطاف الله ، وعظيم فضله وإحسانه على عباده ؛ مع ما يصدر منهم من سوء الأعمال ، والتنكّر لألطافه ونعمه عليهم ، وهو مع ذلك يقابلهم بالمزيد من برّه وفضله ، ويأخذ الإمام بالتضرّع إليه تعالى قائلا :

مصيبة عظم رزؤها ، وجلّ عقابها ، بل كيف ـ لو لا أملي ، ووعدك الصّفح عن زللي ـ أرجو إقالتك ، وقد جاهرتك بالكبائر ، مستخفيا عن أصاغر خلقك؟

فلا أنا راقبتك وأنت معي ، ولا راعيت حرمة سترك عليّ.

بأيّ وجه ألقاك؟ وبأيّ لسان اناجيك؟ وقد نقضت العهود والأيمان بعد توكيدها ، وجعلتك عليّ كفيلا ، ثمّ دعوتك مقتحما في الخطيئة فأجبتني ، ودعوتني وإليك فقري؟ فوا سوأتاه وقبح صنيعاه! سبحانك أيّة جرأة تجرّأت ، وأيّ تغرير غرّرت نفسي؟ سبحانك! فبك أتقرّب إليك ، وبحقّك أقسم عليك ، ومنك أهرب إليك ، بنفسي استخففت عند معصيتي لا بنفسك ، وبجهلي اغتررت لا بحلمك ، وحقّي أضعت لا عظيم حقّك ، ونفسي ظلمت ، ولرحمتك الآن رجوت ، وبك آمنت ، وعليك توكّلت ، وإليك

٢٦

أنبت وتضرّعت ، فارحم إليك فقري وفاقتي ، وكبوتي لحرّ وجهي (١) وحيرتي في سوأة ذنوبي ، إنّك أرحم الرّاحمين.

وحكت هذه الفقرات من دعاء الإمام مدى خوفه من الله تعالى وتضرّعه إليه ، وإنابته ، وانقطاعه إليه ، وأنّه لا يرجو غيره ، ولا يأمل سواه ، وهذا غاية الطاعة ومنتهى الإخلاص. ويستمر الإمام في دعائه فيقول :

يا أسمع مدعوّ! وخير مرجوّ! وأحلم مغض! وأقرب مستغاث! أدعوك مستغيثا بك ، استغاثة المتحيّر المستيئس من إغاثة خلقك ، فعد بلطفك على ضعفي ، واغفر لي بسعة رحمتك كبائر ذنوبي ، وهب لي عاجل صنعك ، إنّك أوسع الواهبين ، لا إله إلاّ أنت ، سبحانك إنّي كنت من الظّالمين ، يا الله يا أحد ، يا الله يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

اللهمّ! أعيتني المطالب ، وضاقت عليّ المذاهب ، وأقصاني الأباعد ، وملّني الأقارب ، وأنت الرّجاء إذا انقطع الرّجاء ، والمستعان إذا عظم البلاء ، واللّجاء في الشّدّة والرّخاء ، فنفّس كربة نفس إذا ذكّرها القنوط مساوئها أيست من رحمتك ، ولا تؤيسني من رحمتك يا أرحم الرّاحمين (٢).

لقد تجرّد الإمام من كلّ نزعة مادية ، ولم يعد له أي التقاء مع متع الدنيا ورغائبها ، وانقطع إلى الله انقطاعا كاملا ، فلا يرى غيره ملجأ ومفزعا ، وهكذا كانت حياته كلّها مع الله تعالى.

__________________

(١) حرّ الوجه : أكرم شيء فيه وأعزّه ، وهو الجبهة.

(٢) مهج الدعوات : ١١١ ـ ١١٤. بحار الأنوار ٩١ : ٢٣١.

٢٧

دعاؤه عليه‌السلام

في توحيد الله وتعظيمه

ومن أدعيته عليه‌السلام في توحيد الله وتعظيمه هذا الدعاء الشريف :

اللهمّ! إنّك حيّ لا تموت ، وصادق لا تكذب ، وقاهر لا تقهر ، وخالق لا تعان ، وقريب لا تبعد ، وقادر لا تضادّ ، وغافر لا تظلم ، وصمد لا تطعم ، وقيّوم لا تنام ، ومجيب لا تسأم ، وبصير لا ترتاب ، وجبّار لا تعان ، وعظيم لا ترام ، وعليم لا تعلّم ، وقويّ لا تضعف ، وحليم لا تعجل ، وعظيم لا توصف ، ووفيّ لا تخلف ، وعادل لا تحيف ، وغالب لا تغلب ، وغنيّ لا تفتقر ، وكبير لا تصغر ، وحكيم لا تجوز ، ومنيع لا تقهر ، ومعروف لا تنكر ، ووتر لا تستأنس ، وفرد لا تستشير ، ووهّاب لا تملّ ، وسميع لا تذهل ، وجواد لا تبخل ، وعزيز لا تذلّ ، وحافظ لا تغفل ، وقائم لا تسهو ، وقيّوم لا تنام ، ورفيق لا تعنف ، وحليم لا تعجل ، وشاهد لا تغيب ، ومحتجب لا ترى ، ودائم لا تفنى ، وباق لا تبلى ، وواحد لا تشبّه ، ومقتدر لا تنازع ...

وألمّت هذه الكلمات ببعض صفات الخالق العظيم ، ونعوته التي يعرفها ويحيط بها إمام المتّقين ، وسيّد العارفين. ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

يا كريم ، يا جواد ، يا متكرّم ، يا قريب ، يا مجيب ، يا متعالي ، يا جليل ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن ، يا عزيز ، يا متعزّز ، يا جبّار ،

٢٨

يا متجبّر ، يا كبير ، يا متكبّر ، يا قادر ، يا مقتدر ، يا من ينادى من كلّ فجّ عميق بألسنة شتّى ، ولغات مختلفة ، وحوائج متتابعة ، لا يشغلك شيء عن شيء.

أنت الّذي لا تبيد ، ولا تفنيك الدّهور ، ولا تغيّرك الأزمنة ، ولا تحيط بك الأمكنة ، ولا يأخذك نوم ولا سنة ، ولا يشبهك شيء. وكيف لا تكون كذلك وأنت خالق كلّ شيء؟ لا إله إلاّ أنت ، كلّ شيء هالك إلاّ وجهك أكرم الوجوه.

سبّوح ذكرك ، قدّوس أمرك ، واجب حقّك ، نافذ قضاؤك ، لازمة طاعتك ، صلّ على محمّد وآل محمّد ، ويسّر لي من أمري ما أخاف عسره ، وفرّج عنّي وعن كلّ مؤمن ومؤمنة ما أخاف كربه ، وسهّل لي ما أخاف صعوبته ، وخلّصني ممّا أخاف هلكته ، يا أرحم الرّاحمين.

يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلاّ أنت سبحانك! إنّي كنت من الظّالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين ... (١).

__________________

(١) الصحيفة العلوية : ٧٤ ـ ٧٦.

٢٩

دعاؤه عليه‌السلام

في التوحيد والتعظيم

من أدعية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هذا الدعاء الشريف وهو من أجلّ أدعيته ، وكان يدعو به في يوم الجمعة ، وقد حفل بتوحيد الله ، وتنزيهه عن مشابهة مخلوقاته ، وهذا نصّه :

الحمد لله الّذي لا من شيء كان ، ولا من شيء كوّن ما قد كان ، مستشهدا بحدوث الأشياء على أزليّته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه ، لم يخل منه مكان فيدرك بأينيّته ، ولا له شبه ولا مثال فيوصف بكيفيّته ، ولم يغب عن شيء فيعلم بحيثيّته ، مباين لجميع ما أحدث في الصّفات ، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصرّف الذّوات ، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرّف الحالات ، ومحرّم على بوارع ثاقبات الفطن تحديده ، وعلى عوامق ثاقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سابحات النّظر تصويره ، ولا تحويه الأماكن لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلاله ، ولا تقطعه المقاييس لكبريائه ، ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه ، وعن الأفهام أن تستغرقه ، وعن الأذهان أن تمثّله ، قد يئست عن استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم ، ورجعت بالصّغر عن السّموّ إلى وصف قدرته لطائف الخصوم ، واحد لا من عدد ، ودائم لا بأمد ،

٣٠

وقائم لا بعمد ، ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح فتضارعه الأشباح ، ولا كالأشياء فتقع عليه الصّفات ، قد ضلّت العقول في أمواج تيّار إدراكه ، وتحيّرت الأوهام عن إحاطة ذكر أزليّته ، وحصرت الأفهام عن استشعار وصف قدرته ، وغرقت الأذهان في لجج بحار أفلاك ملكوته ، مقتدر بالآلاء ، وممتنع بالكبرياء ، ومتملّك على الأشياء ، فلا دهر يخلقه ، ولا وصف يحيط به ، قد خضعت له رقاب الصّعاب في محلّ تخوم قرارها ، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها ، مستشهدا بكلّيّة الأجناس على ربوبيّته ، وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قدمته ، وبزوالها على بقائه ، فلا لها محيص عن إدراكه إيّاها ، ولا خروج عن إحاطته بها ، ولا احتجاب عن إحصائه لها ، ولا امتناع من قدرته عليها ، كفى بإتقان الصّنع له آية ، وبتركيب الطّبع عليه دلالة ، وبحدوث الفطر عليه قدمة ، وبإحكام الصّنعة عليه عبرة ، فليس إليه حدّ منسوب ، ولا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه بمحجوب ، تعالى عن ضرب الأمثال له والصّفات المخلوقة علوّا كبيرا ...

وحفل هذا المقطع من كلام إمام الموحّدين بتوحيد الله وتنزيهه عن كلّ صفة من صفات الممكن الذي هو عرضة للزوال والفناء ، وأنّه تعالى غير خاضع لأيّ حدّ ؛ سواء أكانت من حدود الموجودات الخارجية أم غيرها ، وأنّه تعالى بقدرته التي لا نهاية لها قد أحاط بكلّ شيء من مخلوقاته التي منها هذه المجرّات المذهلة التي تسبح بالفضاء ، فجلّت قدرته ، وتعالى أمره ، وجلّت عظمته.

إنّ هذه اللوحة من دعاء الإمام عليه‌السلام من أجلّ وأسمى ما كتب ودوّن في علم التوحيد ، وتحليل هذه الكلمات ودراستها تستوعب صفحات كثيرة ، ويستمرّ الإمام

٣١

العظيم في دعائه فيقول :

وسبحان الله الّذي خلق الدّنيا للفناء والبيود ـ أي الإبادة ـ ، والآخرة للبقاء والخلود.

وسبحان الله الّذي لا ينقصه ما أعطى فأسنى ، وإن جاز المدى في المنى ، وبلغ الغاية القصوى ، ولا يجور في حكمه إذا قضى.

وسبحان الله الّذي لا يردّ ما قضى ، ولا يصرف ما أمضى ، ولا يمنع ما أعطى ، ولا يهفو ، ولا ينسى ، ولا يعجل ، بل يمهل ويعفو ، ويغفر ، ويرحم ويصبر ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

ولا إله إلاّ الله ، الشّاكر للمطيع له ، المملي للمشرك به ، القريب ممّن دعاه على حال بعده ، والبرّ الرّحيم بمن لجأ إلى ظلّه ، واعتصم بحبله.

ولا إله إلاّ الله المجيب لمن ناداه بأخفض صوته ، السّميع لمن ناجاه لأغمض سرّه ، الرّءوف بمن رجاه لتفريج همّه ، القريب ممّن دعاه لتنفيس كربه وغمّه.

ولا إله إلاّ الله الحليم عمّن ألحد في آياته ، وانحرف عن بيّناته ، ودان بالجحود في كلّ حالاته.

والله أكبر القاهر للأضداد ، المتعالي عن الأنداد ، المتفرّد بالمنّة على جميع العباد.

والله أكبر المحتجب بالملكوت والعزّة ، المتوحّد بالجبروت والقدرة ، المتردّي بالكبرياء والعظمة.

٣٢

والله أكبر المتقدّس بدوام السّلطان ، والغالب بالحجّة والبرهان ، ونفاذ المشيئة في كلّ حين وأوان.

اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك ، وأعطه اليوم أفضل الوسائل ، وأشرف العطاء ، وأعظم الحباء ، وأقرب المنازل ، وأسعد الجدود ، وأقرّ الأعين.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الّذين أمرت بطاعتهم ، وأذهبت عنهم الرّجس ، وطهّرتهم تطهيرا.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الّذين ألهمتهم علمك ، واستحفظتهم كتبك ، واسترعيتهم عبادك.

اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك ونبيّك وحبيبك وخليلك ، وسيّد الأوّلين والآخرين من الأنبياء والمرسلين والخلق أجمعين ، وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين الّذين أمرت بطاعتهم ، وأوجبت علينا حقّهم ومودّتهم ...

عرض الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع من دعائه عظيم قدرة الله تعالى ، ومزيد ألطافه وفضله على عباده ، فهو القريب ممّن دعاه منهم ، والبرّ الرحيم لمن لجأ إليه منهم الذي يفيض برحمته وإحسانه حتّى على الجاحدين لربوبيّته ، وبعد ذلك صلّى على ابن عمّه وأخيه الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبيب الله وخليله ، ثمّ صلّى على آله أبواب حكمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخزنة علومه. ويستمرّ الإمام في دعائه الشريف فيقول :

اللهمّ إنّي أسألك سؤال وجل من عقابك ، حاذر من نقمتك ، فزع إليك منك ، لم يجد لفاقته مجيرا غيرك ، ولا لخوفه أمنا غير فنائك وتطوّلك.

٣٣

سيّدي ومولاي! على طول معصيتي لك أقصدني إليك ، وإن كانت سبقتني الذّنوب ، وحالت بيني وبينك ؛ لأنّك عماد المعتمد ، ورصد المرتصد ، لا تنقصك المواهب ، ولا تغيظك المطالب ، فلك المنن العظام ، والنّعم الجسام.

يا من لا تنقص خزائنه! ولا يبيد ملكه ، ولا تراه العيون ، ولا تعزب منه حركة ولا سكون ، لم تزل سيّدي ولا تزال ، لا يتوارى عنك متوار في كنين أرض ولا سماء ولا تخوم ، تكفّلت بالأرزاق يا رزّاق ، وتقدّست عن أن تتناولك الصّفات ، وتعزّزت عن أن تحيط بك تصاريف اللّغات ، ولم تكن مستحدثا فتوجد متنقّلا عن حالة إلى حالة ، بل أنت الفرد الأوّل والآخر ، وذو العزّ القاهر ، جزيل العطاء ، سابغ النّعماء ، أحقّ من تجاوز وعفا عمّن ظلم وأساء بكلّ لسان.

إلهي تهجّد ، وفي الشّدائد عليك يعتمد ، فلك الحمد والمجد لأنّك المالك الأبد ، والرّبّ السّرمد ، أتقنت إنشاء البرايا فأحكمتها بلطف التّدبير والتّقدير ، وتعاليت في ارتفاع شأنك عن أن ينفذ فيك حكم التّغيير ، أو يحتال منك بحال يصفك به الملحد إلى تبديل ، أو يوجد في الزّيادة والنّقصان مساغ في اختلاف التّحويل ، أو تلتثق سحائب الإحاطة بك في بحور همم الأحلام ، أو تمتثل لك منها جبلّة تضلّ فيها رويّات الأوهام ، فلك الحمد مولاي! انقاد الخلق مستخذئين بإقرار الرّبوبيّة ، ومعترفين خاضعين لك بالعبوديّة ...

وحفل بداية هذا المقطع بالتذلّل وإظهار العبودية المطلقة لله تعالى ، وبيان عظمة قدرته ، وجليل مواهبه وعطاياه وتكفّله بأرزاق عباده صالحهم وطالحهم ، كما عرض إلى عظيم شأن الله تعالى ، وأنّه لا يحيط بكنهه وصف الواصفين

٣٤

ونعت الناعتين ، ثمّ عرض إلى أنّه تعالى هو المفزع والملجأ إذا ألمّت بالإنسان كوارث الأيام. هذا بعض ما حواه كلام الإمام عليه‌السلام ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا في تمجيد الله والثناء عليه :

سبحانك ما أعظم شأنك! وأعلى مكانك! وأنطق بالصّدق برهانك! وأنفذ أمرك! وأحسن تقديرك! سمكت السّماء فرفعتها ، ومهّدت الأرض ففرشتها ، فأخرجت منها ماء ثجّاجا ، ونباتا رجراجا ، فسبّحك نباتها ، وجرت بأمرك مياهها ، وقاما على مستقرّ المشيّة كما أمرتهما.

فيا من تعزّز بالبقاء ، وقهر عباده بالفناء ، أكرم مثواي ، فإنّك خير منتجع لكشف الضّرّ. يا من هو مأمول في كلّ عسر ، ومرتجى لكلّ يسر ، بك أنزلت اليوم حاجتي ، وإليك أبتهل فلا تردّني خائبا ممّا رجوت ، ولا تحجب دعائي عنك إذ فتحته لي فدعوت.

وصلّ على محمّد وآل محمّد ، وارزقني من فضلك الواسع رزقا واسعا سائغا حلالا طيّبا هنيئا مريئا لذيذا في عافية ...

وحفل هذا المقطع بتوحيد الله ، وذكر بعض آياته ؛ من رفع السماء ، وخلق الأرض بالكيفيّة المذهلة ، وذلك بإخراج الماء منها ، وإنبات النبات فيها إلى غير ذلك من آياته العظام ، ثمّ ينزل الإمام جميع شئونه بساحة الله تعالى طالبا منه إنجازها. ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

اللهمّ اجعل خير أيّامي يوم ألقاك ، واغفر لي خطاياي فقد أوحشتني ، وتجاوز عن ذنوبي فقد أوبقتني ، فإنّك مجيب منيب رقيب قريب قادر غافر

٣٥

قاهر رحيم كريم قيّوم ، وذلك عليك يسير ، وأنت أحسن الخالقين.

اللهمّ افترضت عليّ للآباء والأمّهات حقوقا فعظّمتهنّ ، وأنت أولى من حطّ الأوزار وخفّفها ، وأدّى الحقوق عن عبيده ، فاحتملهنّ عنّي إليهما ، واغفر لهما كما رجاك كلّ موحّد مع المؤمنين والمؤمنات والإخوان والأخوات ، وألحقنا وإيّاهم بالأبرار ، وأبح لنا ولهم جنّاتك مع النّجباء الأخيار ، إنّك سميع الدّعاء ، وصلّى الله على النّبيّ محمّد وعترته الطّيّبين ، وسلّم تسليما (١).

وانتهى هذا الدعاء الشريف الذي هو من غرر أدعية الإمام عليه‌السلام ، وقد حفل بتوحيد الله تعالى ، وتنزيهه عن صفات مخلوقاته ، والتذلل أمام عظمته ، ورجاء مغفرته وعفوه وطلب مرضاته.

لقد عكف إمام المتّقين في جميع حياته على طاعة الله ، وعبادته ومناجاته ، وتعدّ أدعيته منهجا متكاملا لمعرفة الله ، والتذلّل أمامه.

__________________

(١) البلد الأمين : ٩٢ ـ ٩٤.

٣٦

دعاؤه عليه‌السلام

في التوحيد وعظيم القدرة

ومن أدعية الإمام الباهرة هذا الدعاء الجليل الذي حكى فيه عظيم قدرة الله تعالى ، وإبداعه لخلق الأشياء ، وهذا نصّه :

الحمد لله الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم الدّائم ، الملك الحقّ المبين ، المدبّر بلا وزير ، ولا خلق من عباده يستشير ، الأوّل غير موصوف ، الباقي بعد فناء الخلق ، العظيم الرّبوبيّة نور السّماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما ، خلقهما بغير عمد ترونها وفتقهما فتقا ، فقامت السّماوات طائعات بأمره ، واستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء ، ثمّ علا ربّنا في السّماوات العلى ، الرّحمن على العرش استوى ، له ما في السّماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثّرى.

فأنا أشهد بأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت ، لا رافع لما وضعت ، ولا واضع لما رفعت ، ولا معزّ لمن أذللت ، ولا مذلّ لمن أعززت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت.

وأنت الله لا إله إلاّ أنت كنت إذ لم تكن سماء مبنيّة ، ولا أرض مدحيّة ، ولا شمس مضيئة ، ولا ليل مظلم ، ولا نهار مضيء ، ولا بحر لجّيّ ، ولا جبل راس ، ولا نجم سار ، ولا قمر منير ، ولا ريح تهبّ ، ولا سحاب يسكب ، ولا برق يلمع ، ولا رعد يسبّح ، ولا روح تنفّس ، ولا طائر يطير ،

٣٧

ولا نار تتوقّد ، ولا ماء يطّرد.

كنت قبل كلّ شيء ، وكوّنت كلّ شيء ، وقدرت على كلّ شيء ، وابتدعت كلّ شيء ، وأغنيت وأفقرت ، وأمتّ وأحييت ، وأضحكت وأبكيت ، وعلى العرش استويت ، فتباركت يا الله ، وتعاليت يا الله.

تحدّث إمام الموحّدين في هذا المقطع عن صفات الله تعالى ، وعظيم قدرته ، وبديع صنعه ، وعجائب خلقه ؛ من دحو الأرض ، واستقرارها بأوتادها ، وغير ذلك من مذهلات مخلوقاته التي لا حصر لها. ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

أنت الله الّذي لا إله إلاّ أنت الخلاّق العليم ، أمرك غالب ، وعلمك نافذ ، وكيدك غريب ، ووعدك صادق ، وقولك حقّ ، وحكمك عدل ، وكلامك هدى ، ووحيك نور ، ورحمتك واسعة ، وعفوك عظيم ، وفضلك كثير ، وعطاؤك جزيل ، وحبلك متين ، وإمكانك عتيد ، وجارك عزيز ، وبأسك شديد ، ومكرك مكيد.

أنت يا ربّ موضع كلّ شكوى ، وشاهد كلّ نجوى ، وحاضر كلّ ملإ ، ومنتهى كلّ حاجة ، وفرج كلّ حزين ، وغنى كلّ فقير مسكين ، وحصن كلّ هارب ، وأمان كلّ خائف. حرز الضّعفاء ، كنز الفقراء ، مفرّج الغمّاء ، معين الصّالحين ، ذلك الله ربّنا لا إله إلاّ هو ، تكفي من عبادك من توكّل عليك ، وأنت جار من لا ذبك وتضرّع إليك. عصمة من اعتصم بك من عبادك ، ناصر من انتصر بك. تغفر الذّنوب لمن استغفرك ، جبّار الجبابرة ، عظيم العظماء ، كبير الكبراء ، سيّد السّادات ، مولى الموالي ، صريخ المستصرخين ، منفّس عن المكروبين ، مجيب دعوة المضطرّين ، أسمع السّامعين ، أبصر النّاظرين ، أحكم الحاكمين ،

٣٨

أسرع الحاسبين ، أرحم الرّاحمين ، خير الغافرين ، قاضي حوائج المؤمنين ، مغيث الصّالحين ...

وفي هذا المقطع تحدّث الإمام عليه‌السلام عن صفات الله تعالى وعظيم قدرته ، وجليل صنعه ، ووافر عطاياه ، وغير ذلك من صفاته العظيمة ، ويختم دعاءه بقوله :

أنت الله لا إله إلاّ أنت ربّ العالمين ، أنت الخالق وأنا المخلوق ، وأنت المالك وأنا المملوك ، وأنت الرّبّ وأنا العبد ، وأنت الرّازق وأنا المرزوق ، وأنت المعطي وأنا السّائل ، وأنت الجواد وأنا البخيل ، وأنت القويّ وأنا الضّعيف ، وأنت العزيز وأنا الذّليل ، وأنت الغنيّ وأنا الفقير ، وأنت السيّد وأنا العبد ، وأنت الغافر وأنا المسيء ، وأنت العالم وأنا الجاهل ، وأنت الحليم وأنا العجول ، وأنت الرّاحم وأنا المرحوم ، وأنت المعافي وأنا المبتلى ، وأنت المجيب وأنا المضطرّ ، وأنا أشهد بأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت الواحد الفرد وإليك المصير ، وصلّى الله على محمّد وأهل بيته الطّيّبين الطّاهرين (١).

وأنت ترى في هذه الفقرات مدى تذلّل الإمام وخضوعه أمام الخالق العظيم ، فقد اعترف بعبوديّته المطلقة له تعالى.

هذه بعض أدعية الإمام عليه‌السلام التي حكت آيات الله تعالى ، وعظيم قدرته ، وبدائع صنعته ، وهي من أدلّة التوحيد ، ومن كنوز معارف الإمام بالخالق العظيم.

__________________

(١) البلد الأمين : ٣٨٠ ـ ٣٨١.

٣٩
٤٠