موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٤

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٤

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٧٧

حين أدعوك ، فأنت إلهي ، أجد صنيعك عندي محمودا ، وحسن بلائك عندي موجودا ، وجميع أفعالك عندي جميلا ، يحمدك لساني وعقلي وجوارحي وجميع ما أقلّت الأرض منّي. يا مولاي أسألك بنورك الّذي اشتققته من عظمتك ، وعظمتك الّتي اشتققتها من مشيّتك ، وأسألك باسمك الّذي علا أن تمنّ عليّ بواجب شكري لنعمتك ، ربّ ما أحرصني على ما زهّدتني فيه ، وحثثتني عليه.

إن لم تعنّي على دنياي بزهد ، وعلى آخرتي بتقواي ، هلكت ، ربّي دعتني دواعي الدّنيا من حرث النّساء والبنين فأجبتها سريعا ، وركنت إليها طائعا ، ودعتني دواعي الآخرة من الزّهد والاجتهاد فكبوت لها ولم اسارع إليها مسارعتي إلى الحطام الهامد ، والهشيم البائد ، والسّراب الذّاهب عن قليل.

ربّ خوّفتني وشوّقتني ، واحتجبت عليّ فما خفتك حقّ خوفك ، وأخاف أن أكون قد تثبّطت عن السّعي لك ، وتهاونت بشيء من احتجابك. اللهمّ فاجعل في هذه الدّنيا سعيي لك وفي طاعتك ، واملأ قلبي خوفك ، وحوّل تثبيطي وتهاوني وتفريطي وكلّ ما أخافه من نفسي فرقا منك ، وصبرا على طاعتك ، وعملا به يا ذا الجلال والإكرام ، واجعل جنّتي من الخطايا حصينة ، وحسناتي مضاعفة ، فإنّك تضاعف لمن تشاء.

اللهمّ اجعل درجاتي في الجنان رفيعة ، وأعوذ بك ربّي من رفيع المطعم والمشرب ، وأعوذ بك ربّي من شرّ ما أعلم ومن شرّ ما لا أعلم ، وأعوذ بك من الفواحش كلّها ، ما ظهر منها وما بطن ، وأعوذ بك ربّي أن أشتري الجهل بالعلم كما اشترى غيري ، أو السّفه بالحلم ، أو الجزع بالصّبر ، أو الضّلالة بالهدى ،

٦١

أو الكفر بالإيمان. يا ربّ منّ عليّ بذلك فإنّك تتولّى الصّالحين ، ولا تضيع أجر المحسنين ، والحمد لله ربّ العالمين (١).

وحفل هذا الدعاء بجميع مقوّمات الطاعة والانقياد إلى الله تعالى كما حفل بالمطالب الجليلة ، التي لم يدركها إلاّ عملاق المتّقين ، وإمام المنيبين ، وسيّد العارفين.

__________________

(١) مهج الدعوات : ٩٤ ـ ٩٦.

٦٢

من ادعية الإمام

دعاء كميل

من أدعية الإمام الشهيرة الذائعة الصيت ، الدعاء المعروف بدعاء كميل بن زياد النخعي ، وهو من مشاهير أصحاب الإمام ومن خلّص أتباعه ، وقد نسب إليه هذا الدعاء الشريف ؛ لأنّه قد رواه عن الإمام عليه‌السلام ، وكان يدعو به في ليلة النصف من شهر شعبان ، وقد أمره بكتابته فكتبه.

ويمتاز هذا الدعاء برقّة أسلوبه ، وعذوبة ألفاظه ، وجمال ديباجته ، واحتوائه على أروع صور التضرّع والتذلّل أمام الله تعالى.

وقد عكف المؤمنون على تلاوته في ليالي الجمعة ، ونظرا لما فيه من دقائق الامور البالغة الأهميّة ، فقد ترجم إلى بعض اللغات ، وشرحت مضامينه ، ولعلّ من أهمّ شروحه ، وأوفاها لبيان مطالبه ما كتبه سماحة الحجّة العلاّمة السيّد عزّ الدين بحر العلوم ، وقد أسماه « أضواء على دعاء كميل ».

وفيما يلي نصّ الدعاء :

اللهمّ إنّي أسألك برحمتك الّتي وسعت كلّ شيء ، وبقوّتك الّتي قهرت بها كلّ شيء ، وخضع لها كلّ شيء ، وذلّ لها كلّ شيء ، وبجبروتك الّتي غلبت بها كلّ شيء ، وبعزّتك الّتي لا يقوم لها شيء ، وبعظمتك الّتي ملأت كلّ شيء ، وبسلطانك الّذي علا كلّ شيء ، وبوجهك الباقي بعد فناء كلّ شيء ، وبأسمائك الّتي ملأت أركان كلّ شيء ، وبعلمك الّذي أحاط بكلّ شيء ، وبنور وجهك الّذي

٦٣

أضاء له كلّ شيء ، يا نور يا قدّوس ، يا أوّل الأوّلين ، ويا آخر الآخرين ...

وحفل هذا المقطع بالتوسّل إلى الله تعالى ، وتقديم أسمائه وصفاته العظيمة وجعلها واسطة له باستجابة دعائه ، والتقرّب إليه ، وبطلب الإمام من الله تعالى أن يعيذه والمسلمين من الذنوب التالية :

اللهمّ اغفر لي الذّنوب الّتي تهتك العصم ، اللهمّ اغفر لي الذّنوب الّتي تنزل النّقم ، اللهمّ اغفر لي الذّنوب الّتي تغيّر النّعم ، اللهمّ اغفر لي الذّنوب الّتي تحبس الدّعاء ، اللهمّ اغفر لي الذّنوب الّتي تنزل البلاء ، اللهمّ اغفر لي الذّنوب الّتي تقطع الرّجاء ، اللهمّ اغفر لي كلّ ذنب أذنبته ، وكلّ خطيئة أخطأتها ...

وحكت هذه الفقرات امّهات الذنوب ، وكبائر الموبقات التي لها الآثار الوضعية المدمّرة التي تجلب للإنسان الشقاء والهلاك ، وهي على أنواع ، عدّ الإمام عليه‌السلام منها ما يلي :

١ ـ الذنوب التي تهتك العصم :

وهي الذنوب التي تزيل عصمة العبد عن ربّه ، وقد ذكرها الإمام الصادق عليه‌السلام وعدّ منها : شرب الخمر ، واللعب والقمار ، وفعل ما يضحك الناس من المزاح ، واللهو ، وذكر عيوب الناس ، ومجالسة أهل الريب (١).

إنّ هذه الآثام تزيل عصمة الإنسان ، وتلقيه في شرّ عظيم.

٢ ـ الذنوب التي تنزل النّقم :

وهي الذنوب التي توجب نقمة الله تعالى من مقترفها ، وقد أدلى الإمام

__________________

(١) أضواء على دعاء كميل : ١٢٥.

٦٤

الصادق عليه‌السلام ببعضها ، وهي : نقض العهد ، وظهور الفاحشة ، وشيوع الكذب ، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى ، ومنع الزكاة ، وتطفيف الكيل ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « خمس بخمس ».

قالوا : يا رسول الله ، ما خمس بخمس؟ فقال :

« ما نقض قوم العهد إلاّ وسلّط الله عليهم عدوّهم ، وما ظهرت عنهم الفاحشة إلاّ وقد فشا فيهم الموت ، وما شاع فيهم الكذب والحكم بغير ما أنزل الله إلاّ وقد فشا فيهم الفقر ، وما منعوا الزّكاة إلاّ وحبس عنهم القطر ، وما طفّفوا الكيل إلاّ منعوا النّبات واخذوا بالسّنين » (١).

فهذه الذنوب هي التي توجب نقمة الله على عباده وأخذهم بالعذاب الأليم.

٣ ـ الذنوب التي تغيّر النّعم :

أمّا الذنوب التي تغيّر نعم الله وتحجبها عن الإنسان ، فقد تحدّث عنها الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله :

« ترك شكر المنعم ، الافتراء على الله والرّسول ، قطع صلة الرّحم ، تأخير الصّلاة عن أوقاتها ، الدّياثة ، وترك إغاثة الملهوفين المستغيثين ، وترك إعانة المظلومين » (٢).

إنّ هذه الذنوب هي التي تزيل نعم الله عن عباده وتحجبها عنهم.

٤ ـ الذنوب التي تحبس الدعاء :

أمّا الذّنوب التي تحبس الدعاء ، ولا تجعله يصل إلى الله تعالى ، فهي ما يقترفه الإنسان من الأعمال المنكرة ، والتي منها أكل مال الناس بالباطل ، وعدم

__________________

(١) و (٢) شرح دعاء كميل للسبزواري : ٦٣ ، ٦٤.

٦٥

الاتّكال على الله ، والغرور ، وغير ذلك من الرذائل والموبقات.

٥ ـ الذنوب التي تنزل البلاء :

أمّا الذنوب التي تنزل البلاء والعقاب ، فقد جاء في بعض الأخبار أنّها سبعة :

وهي الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله تعالى ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، والزنا ، والفرار من الزحف ، والسرقة (١).

وهذه بعض الذنوب التي تكون سببا لنزول البلاء على الإنسان.

٦ ـ الذنوب التي تقطع الرجاء :

أمّا الذنوب التي تقطع الرجاء بالله ـ أعاذنا الله منها ـ فهي اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والثقة بغير الله ، والتكذيب بوعيد الله ، كما في الحديث ، أنّ هذه الآثام تقطع الصلة بين العبد وخالقه ، وتلقي الإنسان في متاهات سحيقة من الضلال. ونعود إلى الاستمرار في دعاء الإمام عليه‌السلام ، قال :

اللهمّ إنّي أتقرّب إليك بذكرك ، وأستشفع بك إلى نفسك ، وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك ، وأن توزعني شكرك ، وأن تلهمني ذكرك. اللهمّ إنّي أسألك سؤال خاضع متذلّل خاشع ، أن تسامحني وترحمني ، وتجعلني بقسمك راضيا قانعا ، وفي جميع الأحوال متواضعا ...

وحكت هذه الفقرات أجمل ما توسّل به العارفون إلى الله تعالى ، فقد طلب الإمام من الله تعالى أن يقرّبه إليه زلفى ، وأن يوزعه شكره ويلهمه ذكره ، ويجعله راضيا بما قسمه له ... ويستمر الإمام في دعائه قائلا :

__________________

(١) أضواء على دعاء كميل : ١٣٢.

٦٦

اللهمّ وأسألك سؤال من اشتدّت فاقته ، وأنزل بك عند الشّدائد حاجته ، وعظم فيما عندك رغبته.

اللهمّ عظم سلطانك ، وعلا مكانك ، وخفي مكرك ، وظهر أمرك ، وغلب قهرك ، وجرت قدرتك ، ولا يمكن الفرار من حكومتك ...

وأعربت هذه الكلمات عن مدى تضرّع الإمام وإنابته إلى الله تعالى وخوفه منه ، ومعرفته به ، ويأخذ الإمام في دعائه قائلا :

اللهمّ لا أجد لذنوبي غافرا ، ولا لقبائحي ساترا ، ولا لشيء من عملي القبيح بالحسن مبدّلا غيرك ، لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك ظلمت نفسي ، وتجرّأت بجهلي ، وسكنت إلى قديم ذكرك لي ومنّك عليّ.

اللهمّ مولاي! كم من قبيح سترته! وكم من فادح من البلاء أقلته! وكم من عثار وقيته! وكم من مكروه دفعته! وكم من ثناء جميل لست أهلا له نشرته! ...

أمّا هذه البنود المشرقة من دعاء الإمام عليه‌السلام ، فقد حكت ألطاف الله تعالى وفضله على عباده ، وذلك بغفرانه للذنوب ، وستره لقبائح الأعمال ، ونشره وإشاعته لفعل المعروف والإحسان ، وإقالته لفادح البلاء ، وغير ذلك من ألطافه ، ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

اللهمّ عظم بلائي ، وأفرط بي سوء حالي ، وقصرت بي أعمالي ، وقعدت بي أغلالي ، وحبسني عن نفعي بعد آمالي ، وخدعتني الدّنيا بغرورها ، ونفسي بجنايتها ، ومطالي يا سيّدي فأسألك بعزّتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي ، ولا تفضحني بخفيّ ما اطّلعت عليه من سرّي ، ولا تعاجلني بالعقوبة

٦٧

على ما عملته في خلواتي ، من سوء فعلي وإساءتي ، ودوام تفريطي وجهالتي ، وكثرة شهواتي وغفلتي ...

عرض الإمام عليه‌السلام في هذه الفقرات عن تذلّله وتضرّعه إلى الله وما يعمله الغرور والطيش في نفس الإنسان من البعد من الله تعالى ، فهو يطلب منه أن تشمله رحمته ، ولا يبعده عنه سوء الأعمال ، ويأخذ الإمام في دعائه قائلا :

وكن اللهمّ بعزّتك لي في كلّ الأحوال رءوفا ، وعليّ في جميع الأمور عطوفا. إلهي وربّي من لي غيرك أسأله كشف ضرّي ، والنّظر في أمري.

إلهي ومولاي! أجريت عليّ حكما اتّبعت فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوّي ، فغرّني بما أهوى ، وأسعده على ذلك القضاء ، فتجاوزت بما جرى عليّ من ذلك بعض حدودك ، وخالفت بعض أوامرك ، فلك الحجّة عليّ في جميع ذلك ، ولا حجّة لي فيما جرى عليّ فيه قضاؤك ، وألزمني حكمك وبلاؤك ...

وحفلت هذه الكلمات من دعاء إمام المتّقين عليه‌السلام بانقطاعه التامّ إلى الله تعالى والتجائه إليه في جميع شئونه واموره ، واعترافه بالتقصير في طاعته ، وأنّه لا حجّة له على الله ، وإنّما الحجّة له عليه ، ويقول الإمام في دعائه :

وقد أتيتك يا إلهي ـ بعد تقصيري وإسرافي على نفسي ـ معتذرا نادما منكسرا مستقيلا مستغفرا منيبا مقرّا مذعنا معترفا ، لا أجد مفرّا ممّا كان منّي ، ولا مفزعا أتوجّه إليه في أمري ، غير قبولك عذري ، وإدخالك إيّاي في سعة من رحمتك.

٦٨

اللهمّ فاقبل عذري ، وارحم شدّة ضرّي ، وفكّني من شدّ وثاقي.

يا ربّ ارحم ضعف بدني ، ورقّة جلدي ، ودقّة عظمي. يا من بدأ خلقي وذكري وتربيتي وبرّي وتغذيتي ، هبني لابتداء كرمك وسالف برّك بي.

يا إلهي وسيّدي وربّي ، أتراك معذّبي بنارك بعد توحيدك ، وبعد ما انطوى عليه قلبي من معرفتك ، ولهج به لساني من ذكرك ، واعتقده ضميري من حبّك ، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعا لربوبيّتك ، هيهات أنت أكرم من أن تضيّع من ربّيته ، أو تبعّد من أدنيته ، أو تشرّد من آويته ، أو تسلّم إلى البلاء من كفيته ورحمته.

وليت شعري يا سيّدي وإلهي ومولاي ، أتسلّط النّار على وجوه خرّت لعظمتك ساجدة ، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة ، وعلى قلوب اعترفت بإلهيّتك محقّقة ، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتّى صارت خاشعة ، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبّدك طائعة ، وأشارت باستغفارك مذعنة ، ما هكذا الظّنّ بك ، ولا اخبرنا بفضلك عنك ...

أرأيتم هذا الاستعطاف والتذلّل والخشوع أمام ربّ العالمين بهذا الأدب الفيّاض ، الذي انبعث عن قلب ليس فيه منفذ ولا موطن لغير الله تعالى؟ سلام الله عليك يا إمام المتّقين وسيّد الموحّدين ، فقد أخلصت في طاعتك وحبّك لله تعالى كأعظم وأسمى ما يكون الإخلاص ... ويستمرّ الإمام عليه‌السلام في تذلّله وخوفه من الله تعالى ، فيقول :

يا كريم يا ربّ ، وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدّنيا وعقوباتها ، وما يجري فيها من المكاره على أهلها ، على أنّ ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه ،

٦٩

يسير بقاؤه ، قصير مدّته ، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها ، وهو بلاء تطول مدّته ، ويدوم مقامه ، ولا يخفّف عن أهله ، لأنّه لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك ، وهذا ما لا تقوم له السّماوات والأرض.

يا سيّدي فكيف بي وأنا عبدك الضّعيف الذّليل الحقير المسكين المستكين ...

وحكت هذه الفقرات بالغ خوفه ، وشدّة فزعه من الله تعالى ، ومطالبته بالعفو والمغفرة من الله ، والنجاة من أهوال يوم القيامة. ويأخذ الإمام عليه‌السلام في تضرّعه إلى الله وفزعه منه قائلا :

يا إلهي وربّي وسيّدي ومولاي ، لأيّ الأمور إليك أشكو ، ولما منها أضجّ وأبكي ، لأليم العذاب وشدّته أم لطول البلاء ومدّته. فلئن صيّرتني للعقوبات مع أعدائك ، وجمعت بيني وبين أهل بلائك ، وفرّقت بيني وبين أحبّائك وأوليائك ، فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي ، صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك ، وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النّظر إلى كرامتك ، أم كيف أسكن في النّار ورجائي عفوك ، فبعزّتك يا سيّدي ومولاي أقسم صادقا ، لئن تركتني ناطقا لأضجنّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين ، ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين ، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين ، ولأنادينّك أين كنت يا وليّ المؤمنين ، يا غاية آمال العارفين ، يا غياث المستغيثين ، يا حبيب قلوب الصّادقين ، ويا إله العالمين.

أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها

٧٠

بمخالفته ، وذاق طعم عذابها بمعصيته ، وحبس بين أطباقها بجرمه وجريرته ، وهو يضجّ إليك ضجيج مؤمّل لرحمتك ، ويناديك بلسان أهل توحيدك ، ويتوسّل إليك بربوبيّتك.

يا مولاي فكيف يبقى في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك ، أم كيف تؤلمه النّار وهو يأمل فضلك ورحمتك ، أم كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته وترى مكانه ، أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه ، أم كيف يتقلقل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه ، أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا ربّاه ، أم كيف يرجو فضلك في عتقه منها فتتركه فيها ، هيهات ما ذلك الظّنّ بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك وإحسانك ...

لقد ناجى الإمام ربّه بإيمان ويقين وتذلّل وخشوع ، واستجار به أن ينجيه من أهوال يوم القيامة ، وعذاب الآخرة.

إنّ هذه البنود المشرقة من كلمات الإمام عليه‌السلام دلّلت على عظمة الإمام وأنّه سيّد المتّقين ، وإمام الموحّدين ، وأنّه الفرد الأوّل من المنقطعين إلى الله تعالى ... ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

فباليقين أقطع ، لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك ، وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النّار كلّها بردا وسلاما ، وما كانت لأحد مقرّا ولا مقاما ، لكنّك تقدّست أسماؤك أقسمت أن تملأها من الكافرين ، من الجنّة والنّاس أجمعين ، وأن تخلّد فيها المعاندين. وأنت جلّ ثناؤك قلت مبتدئا ، وتطوّلت بالإنعام متكرّما ، أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ...

٧١

عرض الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع إلى سعة رحمة الله تعالى ولطفه وعفوه ، وأنّه لو لا حكمه بتعذيب الجاحدين لربوبيّته والمنكرين لتوحيده لما خلّد أحدا في نار جهنّم ، ولجعلها بردا وسلاما لجميع عباده ، ويقول الإمام متضرّعا إلى الله تعالى :

إلهي وسيّدي ، فأسألك بالقدرة الّتي قدّرتها ، وبالقضيّة الّتي حتمتها وحكمتها ، وغلبت من عليه أجريتها ، أن تهب لي في هذه اللّيلة وفي هذه السّاعة ، كلّ جرم أجرمته ، وكلّ ذنب أذنبته ، وكلّ قبيح أسررته ، وكلّ جهل عملته ، كتمته أو أعلنته ، أخفيته أو أظهرته ، وكلّ سيّئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين ، الّذين وكّلتهم بحفظ ما يكون منّي ، وجعلتهم شهودا عليّ مع جوارحي ، وكنت أنت الرّقيب عليّ من ورائهم ، والشّاهد لما خفي عنهم وبرحمتك أخفيته ، وبفضلك سترته ، وأن توفّر حظّي من كلّ خير تنزله أو إحسان فضّلته ، أو برّ نشرته ، أو رزق بسطته ، أو ذنب تغفره ، أو خطأ تستره ...

ويطلب الإمام في هذا المقطع من الله تعالى أن يعفو عنه ، ويشمله برحمته ومغفرته ورضوانه ، وأن تكون صحيفة أعماله خالية من كلّ ما يبعده عنه ، وأن يتفضّل عليه بالخير الذي ينشره على عباده ، والرزق الذي يبسطه عليهم ، ثمّ يأخذ الإمام بالتوسّل إلى الله تعالى قائلا :

يا ربّ يا ربّ يا ربّ ، يا إلهي وسيّدي ومولاي ومالك رقّي ، يا من بيده ناصيتي ، يا عليما بضرّي ومسكنتي ، يا خبيرا بفقري وفاقتي.

يا ربّ يا ربّ يا ربّ ، أسألك بحقّك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك ، أن تجعل أوقاتي في اللّيل والنّهار بذكرك معمورة ، وبخدمتك موصولة ، وأعمالي

٧٢

عندك مقبولة ، حتّى تكون أعمالي وأورادي كلّها وردا واحدا ، وحالي في خدمتك سرمدا ...

وطلب الإمام من الله تعالى أن يجعل جميع أوقاته مشغولة بذكر الله وطاعته ، وما يقرّبه إليه زلفى ... ويأخذ الإمام في دعائه قائلا :

يا سيّدي يا من عليه معوّلي ، يا من إليه شكوت أحوالي.

يا ربّ يا ربّ يا ربّ ، قوّ على خدمتك جوارحي ، واشدد على العزيمة جوانحي ، وهب لي الجدّ في خشيتك ، والدّوام في الاتّصال بخدمتك ، حتّى أسرح إليك في ميادين السّابقين ، واسرع إليك في البارزين ، وأشتاق إلى قربك في المشتاقين ، وأدنو منك دنوّ المخلصين ، وأخافك مخافة الموقنين ، وأجتمع في جوارك مع المؤمنين ...

توسّل الإمام عليه‌السلام في هذه الفقرات إلى الله تعالى أن يقرّبه إلى خدمته ، ويهب له الجدّ في خشيته والخوف منه ؛ حتّى يكون من السابقين في خدمته ، والفائزين برضاه وطاعته ... ثمّ يقول عليه‌السلام :

اللهمّ ومن أرادني بسوء فأرده ، ومن كادني فكده ، واجعلني من أحسن عبيدك نصيبا عندك ، وأقربهم منزلة منك ، وأخصّهم زلفة لديك ، فإنّه لا ينال ذلك إلاّ بفضلك ، وجد لي بجودك ، واعطف عليّ بمجدك ، واحفظني برحمتك ، واجعل لساني بذكرك لهجا ، وقلبي بحبّك متيّما ، ومنّ عليّ بحسن إجابتك ، وأقلني عثرتي ، واغفر زلّتي ، فإنّك قضيت على عبادك بعبادتك ، وأمرتهم بدعائك ، وصمنت لهم الإجابة ...

وحفل هذا المقطع من دعاء الإمام عليه‌السلام بأن يحفظه الله من كلّ باغ ومعتد

٧٣

عليه ، وأن يجعله من أوفر عباده نصيبا عنده في كلّ خير وفضل يمنّ به تعالى على عباده ... إلى غير ذلك من مطالبه التي تعود عليه بأفضل أنواع التقرّب إلى الله تعالى.

ولنستمع إلى الفقرة الأخيرة من هذا الدعاء الشريف ، يقول عليه‌السلام :

فإليك يا ربّ نصبت وجهي ، وإليك يا ربّ مددت يدي ، فبعزّتك استجب لي دعائي وبلّغني مناي ، ولا تقطع من فضلك رجائي ، واكفني شرّ الجنّ والإنس من أعدائي.

يا سريع الرّضا ، اغفر لمن لا يملك إلاّ الدّعاء ، فإنّك فعّال لما تشاء ، يا من اسمه دواء ، وذكره شفاء ، وطاعته غنىّ ، ارحم من رأس ماله الرّجاء ، وسلاحه البكاء.

يا سابغ النّعم ، يا دافع النّقم ، يا نور المستوحشين في الظّلم ، يا عالما لا يعلّم ، صلّ على محمّد وآل محمّد ، وافعل بي ما أنت أهله ، وصلّى الله على رسوله والأئمّة الميامين من أهله وسلّم تسليما كثيرا (١).

وانتهى هذا الدعاء الشريف الذي هو صفحة مشرقة من عبادة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وانقطاعه التامّ إلى الله تعالى ، فقد هام بحبّه وطاعته ، وأخلص في عبادته كأعظم ما يكون الإخلاص.

__________________

(١) إقبال الأعمال : ٢٢٠ ـ ٢٢٤.

٧٤

مع الله في الطّقوس الدّينيّة

٧٥
٧٦

وكان من أهمّ ما عنى به إمام المتّقين عليه‌السلام هو الدعاء عند أداء الطقوس الدينية ، فقد استوعب حبّه لله تعالى قلبه ومشاعره ومن أجمل أوقاته وأحبّها عنده أداؤه للطقوس الدينية من واجبات ومندوبات ، فكان يؤدّيه بشوق ورغبة تعادل عنده جميع متع الدنيا ورغباتها.

وهذه صفحات مشرقة بروح التقوى والإيمان من أدعيته الشريفة التي كان يدعو بها عند أدائه لبعض العبادات :

الوضوء

أمّا الوضوء فهو من مقدّمات الصلاة ولا تصحّ إلاّ به أو بديله وهو التيمّم عند فقد الماء أو عدم التمكّن من استعماله ، ففي الحديث « لا صلاة إلاّ بطهور » ويكون واجبا إذا كان مقدّمة للصلاة الواجبة ، ويكون مستحبّا إذا جيء به للكون على الطهارة حسبما ذكره السادة الفقهاء.

وكان الإمام عليه‌السلام يشفع جميع أعمال الوضوء من واجبات ومندوبات بالأدعية الجليلة ، وهذه بعضها :

١ ـ المضمضة :

من مقدّمات الوضوء ومستحبّاته « المضمضة » التي يقصد منها تنظيف الأسنان ، وطهارة الفم من الأوساخ ، وكان الإمام عليه‌السلام يدعو بهذا الدعاء عند الشروع

٧٧

فيها : « اللهمّ لقّني حجّتك يوم ألقاك ، وأطلق لساني بذكرك » (١).

٢ ـ الاستنشاق :

من مستحبّات الوضوء الاستنشاق بالماء فإنّه مطهّر للأنف وفيه فوائد صحيّة مهمّة أدلى بها الأطباء ... وكان الإمام عليه‌السلام يدعو بهذا الدعاء عند الاستنشاق :

« اللهمّ لا تحرّم عليّ ريح الجنّة ، واجعلني ممّن يشمّ ريحها وروحها وطيبها » (٢).

٣ ـ عند غسل الوجه :

وكان الإمام عليه‌السلام إذا شرع في غسل الوجه دعا بهذا الدعاء :

« اللهمّ بيّض وجهي يوم تسودّ فيه الوجوه ، ولا تسوّد وجهي يوم تبيضّ فيه الوجوه » (٣).

٤ ـ غسل اليد اليمنى :

وإذا شرع الإمام عليه‌السلام في غسل يده اليمنى دعا بهذا الدعاء :

« اللهمّ أعطني كتابي بيميني ، والخلد في الجنان بيساري ، وحاسبني حسابا يسيرا » (٤).

٥ ـ غسل اليد اليسرى :

وإذا غسل الإمام عليه‌السلام يده اليسرى دعا بهذا الدعاء الجليل :

« اللهمّ لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري ، ولا تجعلها مغلولة إلى

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٩٢.

(٢) ـ ٤ ) المصدر السابق ١ : ٢٨٢.

٧٨

عنقي ، وأعوذ بك من مقطّعات النّيران » (١).

٦ ـ مسح الرأس :

وإذا مسح الإمام عليه‌السلام رأسه عند الوضوء دعا بهذا الدعاء :

« اللهمّ غشّني برحمتك وبركاتك وعفوك » (٢).

٧ ـ عند مسح الرجلين :

وإذا شرع الإمام عليه‌السلام في مسح الرجلين اللذين هما آخر أجزاء الوضوء دعا بهذا الدعاء :

« اللهمّ ثبّتني على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام ، واجعل سعيي فيما يرضيك عنّي يا ذا الجلال والإكرام » (٣).

وهكذا كان وضوؤه مشفوعا بهذه الأدعية الجليلة التي تحكي عميق اتّصاله بالله ، وانقطاعه إليه.

الصلاة

أمّا الصلاة فهي عمود الدين ، وقربان كلّ تقي ـ كما في الحديث ـ وقد شغف بها الإمام عليه‌السلام ، فلم يترك نافلة من النوافل إلاّ أتى بها ، وبلغ من شدّة اهتمامه بها أنّه أقامها في ليلة الهرير ، وهي من أكثر الأوقات محنة ، ومن أشدّها بلاء وقد أقامها بين الصفّين ، والسهام تأخذه يمينا وشمالا وقد عذله بعض أصحابه ، فردّ عليه إنّما قاتلناهم ـ يعني أهل الشام ـ من أجل الصلاة ، ويقول الرواة إنّه كان يقيم الصلاة

__________________

(١ ـ ٣) وسائل الشيعة ١ : ٢٨٣.

٧٩

في معظم الأوقات ، وقد قال حفيده الإمام زين العابدين الذي لا يضارعه أحد في عبادته وتقواه : « أين عبادتي من عبادة جدّي أمير المؤمنين ».

ونعرض بعض أدعيته التي كان يقرؤها قبل الصلاة وفي أثناء الصلاة وبعدها وفيما يلي ذلك :

دعاؤه عليه‌السلام

قبل الصلاة

وكان الإمام إذا قام للصلاة يدعو بهذا الدعاء قبل أن يشرع بتكبيرة الإحرام :

يا محسن قد أتاك المسيء ، وقد أمرت المحسن أن يتجاوز عن المسيء ، وأنت المحسن وأنا المسيء ، فبحقّ محمّد وآل محمّد صلّ على محمّد وآل محمّد ، وتجاوز عن قبيح ما تعلم منّي (١).

دعاؤه عليه‌السلام

في السجود

وأفضل أجزاء الصلاة السجود ، وفي الحديث : أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد ، وقد أثرت عن إمام المتّقين مجموعة من الأدعية كان يقرؤها في سجوده وهذه بعضها :

١ ـ روى الأصبغ بن نباتة وهو من أجلاّء أصحاب الإمام عليه‌السلام ومن أوثقهم

__________________

(١) الصحيفة العلوية الثانية : ١٤٣.

٨٠