موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٤

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٤

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٧٧

يا من أرقدني في مهاد أمنه وأمانه ، وأيقظني إلى ما منحني به من مننه وإحسانه ، وكفّ أكفّ السّوء عنّي بيده وسلطانه ، صلّ اللهمّ على الدّليل إليك في اللّيل الأليل ، والماسك من أسبابك بحبل الشّرف الأطول ، والنّاصع الحسب في ذروة الكاهل الأعبل ، والثّابت القدم على زحاليفها في الزّمن الأوّل ، وعلى آله الأخيار المصطفين الأبرار ...

حفل هذا المقطع بألطاف الله ونعمه على الإمام التي منها أنّه أرقده في مهاد أمنه ، وأيقظه من سباته ، وهي ألطاف عامّة ، وكفّ عنه أكفّ السوء ، وبعد هذا ذكر النبي العظيم عليه‌السلام باعث الروح والعلم في الأجيال ، والدليل إلى مرضاة الله وطاعته الذي حطّم الأصنام ، وقضى على خرافات الجاهلية وأوثانها ، وبعد هذا أدلى الإمام بهذه الدرر الناصعة :

وافتح اللهمّ لنا مصاريع الصّباح بمفاتيح الرّحمة والفلاح ، وألبسني اللهمّ من أفضل خلع الهداية والصّلاح ، واغرس اللهمّ بعظمتك في شرب جناني ينابيع الخشوع ، وأجر اللهمّ لهيبتك من آماقي زفرات الدّموع ، وأدّب اللهمّ نزق الخرق منّي بأزمّة القنوع ...

تضمّنت هذه الفقرات أثمن القيم التي توجب سعادة الإنسان وفوزه بالقرب من الله تعالى ، ويأخذ الإمام بدعائه قائلا :

إلهي إن لم تبتدئني الرّحمة منك بحسن التّوفيق فمن السّالك بي إليك في واضح الطّريق ، وإن أسلمتني أناتك لقائد الأمل والمنى فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوى؟ وإن خذلني نصرك عند محاربة النّفس والشّيطان فقد وكلني

١٤١

خذلانك إلى حيث النّصب والحرمان ...

وفي هذه الفقرات طلب الإمام التوفيق من الله تعالى في السلوك إلى الطريق الواضح لا في المنعطفات ، وإذا لم يسعف الله عبده بتوفيقه فإنّ نصيبه يكون الخيبة والخسران ... ومن بنود هذا الدعاء قوله عليه‌السلام :

إلهي أتراني ما أتيتك إلاّ من حيث الآمال؟ أم علقت بأطراف حبالك إلاّ حين باعدتني ذنوبي عن دار الوصال؟ فبئس المطيّة الّتي امتطت نفسي من هواها فواها لها لما سوّلت لها ظنونها ومناها وتبّا لها لجرأتها على سيّدها ومولاها ...

عرض الإمام عليه‌السلام ذمّ الإنسان الذي يتّبع هواه ويبتعد عن الله تعالى ، فإنّه يكون بذلك قد ابتعد عن مصدر الفيض والرحمة ، ويقول الإمام في دعائه :

إلهي قرعت باب رحمتك بيد رجائي ، وهربت إليك لاجئا من فرط أهوائي ، وعلّقت بأطراف حبالك أنامل ولائي ، فاصفح اللهمّ عمّا كان أجرمته من زللي وخطائي ، وأقلني من صرعة ردائي ، وعسرة بلائي ، فإنّك سيّدي ومولاي ومعتمدي ورجائي ، وأنت غاية مطلوبي ومناي في منقلبي ومثواي ...

وفي هذه البنود من دعاء الإمام عليه‌السلام الالتجاء إلى الله تعالى وطلب الرحمة منه فهو المعتمد والرجاء ، ويقول الإمام عليه‌السلام في دعائه :

إلهي كيف تطرد مسكينا التجأ إليك من الذّنوب هاربا ، أم كيف تخيّب مسترشدا قصد إلى جنابك ساعيا ، أم كيف تردّ ظمآنا ورد إلى حياضك شاربا؟

كلاّ وحياضك مترعة في ضنك المحول ، وبابك مفتوح للطّلب والوغول ، وأنت

١٤٢

غاية المسئول ونهاية المأمول ...

عرض الإمام في هذا المقطع إلى سعة رحمة الله تعالى ، وأنّه لا يطرد من التجأ إليه ولا يخيب أمل من انقطع إليه ، ويقول عليه‌السلام :

إلهي هذه أزمّة نفسي عقلتها بعقال مشيّتك ، وهذه أعباء ذنوبي درأتها بعفوك ورحمتك ، وهذه أهوائي المضلّة وكلتها إلى جناب لطفك ورأفتك ...

أرأيتم هذا التذلّل والخضوع أمام الله تعالى؟ فقد أوكل جميع شئونه إلى الله تعالى وطلب منه العفو والغفران ، ثمّ يقول عليه‌السلام :

فاجعل اللهمّ صباحي هذا نازلا عليّ بضياء الهدى ، وبالسّلامة في الدّين والدّنيا ، ومسائي جنّة من كيد العدى ، ووقاية من مرديات الهوى إنّك قادر على ما تشاء ، تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممّن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، بيدك الخير إنّك على كلّ شيء قدير ، تولج اللّيل في النّهار ، وتولج النّهار في اللّيل ، وتخرج الحيّ من الميّت ، وتخرج الميّت من الحيّ ، وترزق من تشاء بغير حساب لا إله إلاّ أنت ...

وفي هذا المقطع طلب الإمام الهداية والسلامة في الدين والدنيا من الله تعالى الذي بيده جميع مجريات الأحداث ، ثمّ يقول الإمام :

سبحانك اللهمّ وبحمدك من ذا يعلم قدرك فلا يخافك ، ومن ذا يعلم ما أنت فلا يهابك ، ألّفت بقدرتك الفرق ، وفلقت بلطفك الفلق ، وأنرت بكرمك دياجي الغسق ، وأنهرت المياه من الصّمّ الصّياخيد عذبا وأجاجا ، وأنزلت من المعصرات ماء ثجّاجا ، وجعلت الشّمس والقمر للبريّة سراجا وهّاجا من غير أن

١٤٣

تمارس فيما ابتدأت به لغوبا ولا علاجا ...

عرض الإمام عليه‌السلام في هذه الكلمات إلى عظيم قدرة الله تعالى وبدائع صنعته ، وأنّ العبد لو علم عظمة ربّه لما أقدم على معصيته والشذوذ في سلوكه ، ويقول عليه‌السلام :

فيا من توحّد بالعزّ والبقاء ، وقهر عباده بالموت والفناء ، صلّ على محمّد وآله الأتقياء ، واسمع ندائي ، واستجب دعائي ، وحقّق بفضلك أملي ورجائي. يا خير من دعى لكشف الضّرّ ، والمأمول لكلّ عسر ويسر ، بك أنزلت حاجتي فلا تردّني من سنيّ مواهبك خائبا يا كريم يا كريم يا كريم برحمتك يا أرحم الرّاحمين ، وصلّى الله على خير خلقه محمّد وآله الطّاهرين.

ثمّ يسجد ويقول :

إلهي قلبي محجوب ، ونفسي معيوب ، وعقلي مغلوب ، وهوائي غالب ، وطاعتي قليل ، ومعصيتي كثير ، ولساني مقرّ بالذّنوب ، فكيف حيلتي يا ستّار العيوب ، ويا علاّم الغيوب ، ويا كاشف الكروب ، اغفر ذنوبي كلّها بحرمة محمّد وآل محمّد ، يا غفّار يا غفّار يا غفّار ، برحمتك يا أرحم الرّاحمين (١).

وانتهى هذا الدعاء الجليل الذي هو من ذخائر أدعية الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩١ : ٢٤٣.

١٤٤

ادعيته عليه‌السلام

في الصباح

١ ـ ومن جملة أدعيته في الصباح هذا الدعاء :

اللهمّ إنّي وهذا النّهار خلقان من خلقك. اللهمّ لا تبتلني به ، ولا تبتله بي.

اللهمّ ولا تره منّي جرأة على معاصيك ، ولا ركوبا لمحارمك.

اللهمّ اصرف عنّي الأزل ، واللّأواء (١) ، والبلوى ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ، ومنظر السّوء ، في نفسي ومالي (٢).

٢ ـ ومن أدعيته عليه‌السلام :

أصبحنا لله شاكرين ، وأمسينا لله حامدين ، فلك الحمد كما أمسينا لك مسلمين سالمين (٣).

٣ ـ ومن أدعيته في الصباح أنّه كان يقول :

مرحبا بكما من ملكين حفيظين كريمين أصلّي عليكما ما تحبّان إن شاء الله (٤).

٤ ـ ومن أدعيته الموجزة هذا الدعاء كان يقرؤه في الصباح.

__________________

(١) اللّأواء : الشدّة والضيق.

(٢) الصحيفة العلوية الثانية : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٣) الصحيفة العلوية الثانية : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٤) فلاح السائل : ٢٢٢.

١٤٥

اللهمّ أحيني وأمتني على الكتاب والسّنّة ، وسلّمني من الأهواء والبدعة والزّيغ والشّبهة ، واعصمني من الحيرة والضّلالة ، والحمق والجهالة ، ومن سوء البلاء والفتنة ، وقلّة الفهم والمعرفة ، واتّصال الغفلة بطول المهلة ، وغلبة الشّهوة إنّك لطيف لما تشاء يا أرحم الرّاحمين (١).

دعاؤه عليه‌السلام

في المساء

كان الإمام عليه‌السلام إذا حلّ وقت المساء دعا بهذا الدعاء الموجز :

أمسينا لله شاكرين ، وأصبحنا لله حامدين ، والحمد لله كما أصبحنا لك مسلمين سالمين (٢).

دعاؤه عليه‌السلام

في الصباح والمساء

أثرت عن الإمام عليه‌السلام كوكبة من الأدعية كان يقرؤها في الصباح والمساء وهذه بعضها :

كان من دعائه عليه‌السلام في صباحه ومسائه هذا الدعاء :

__________________

(١) الصحيفة العلوية الثانية : ١٩٦ ، نقلا عن الشيخ الطبرسي في كنوز النجاح.

(٢) الصحيفة العلوية : ١٩٩.

١٤٦

سبحان الله مع كلّ شيء حتّى لا يكون شيء بعد كلّ شيء وحده ، وعدد جميع الأشياء وأضعافها ، والحمد لله كذلك ، ولا إله إلاّ الله مثل ذلك ، والله أكبر مثل ذلك (١).

كان الإمام عليه‌السلام يدعو بهذا الدعاء ما بين الظهرين ، كما كان يدعو به في صباحه ومسائه :

ربّ اغمسني في بحر نور هيبتك حتّى أخرج منه وفي وجهي شعاعات أنوار هيبة تخطف أبصار الحاسدين من الجنّ والإنس أجمعين ، فتعميهم عن رمي سهام الحسد في قرطاس نعمتي ، واحجبني اللهمّ بحجاب النّور الّذي باطنه النّور ، وظاهره النّور ، وأسألك اللهمّ باسمك النّور ، ووجهك النّور ، يا نور النّور أن تحجبني في نور اسمك بنور اسمك يا نور ، وصلّى الله على محمّد وآله ، والحمد لله ربّ العالمين (٢).

وبهذه الصفحات المشرقة تنطوي أدعيته في الصباح والمساء ، وهي تدلّ على أنّ الإمام عليه‌السلام في جميع أوقاته كان يلهج بذكر الله تعالى.

__________________

(١) المحاسن للبرقي ٢ : ٤٤.

(٢) الصحيفة العلوية الثانية : ٢٢٦.

١٤٧
١٤٨

مناجاته

١٤٩
١٥٠

وتعلّق الإمام عليه‌السلام بالله تعالى ، وانقطع إليه ، وناجاه في غلس الليل بذوبان روحه تعظيما وخشوعا وولاء وإنابة ، وقد أثرت عنه كوكبة من المناجاة يلمس فيها إيمانه العميق بالله الّذي لا يضارعه أحد في هذه الظاهرة ، ومن بين مناجاته ما يلي :

المناجاة الأولى

لقد روى هذه المناجاة الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام عن آبائه وهذا نصّها :

إلهي! صلّ على محمّد وآل محمّد ، وارحمني إذا انقطع من الدّنيا أثري ، وانمحى من المخلوقين ذكري ، وصرت في المنسيّين كمن قد نسي قبلي.

إلهي! كبر سنّي ، ورقّ جلدي ، ودقّ عظمي ، ونال الدّهر منّي ، واقترب أجلي ، ونفدت أيّامي ، وذهبت شهواتي ، وبقيت تبعاتي.

إلهي! ارحمني إذا تغيّرت صورتي ، وانمحت محاسني ، وبلي جسمي ، وتقطّعت أوصالي ، وتفرّقت أعضائي ، وبقيت مرتهنا بعملي.

إلهي! أفحمتني ذنوبي ، وقطعت مقالتي ، فلا حجّة لي ولا عذر ، فأنا المقرّ بجرمي ، المعترف بإساءتي.

١٥١

إلهي! إن كان قد صغر في جنب طاعتك عملي فقد كبر في جنب رجائك أملي.

إلهي! كيف أنقلب بالخيبة من عندك محروما وكان ظنّي بك وبجودك أن تقلبني بالنّجاة مرحوما ...

أرأيتم هذا التذلّل والاستعطاف؟

أرأيتم هذا الخوف والرجاء؟

ويستمرّ الإمام عليه‌السلام في مناجاته فيقول :

إلهي! إذ لم أسلّط على حسن ظنّي بك قنوط الآيسين ، فلا تبطل صدق رجائي لك بين الآملين.

إلهي! عظم جرمي إذ كنت المبارز به ، وكبر ذنبي إذ كنت المطالب به إلاّ أنّي إذا ذكرت كبير جرمي ، وعظيم غفرانك ، وجدت الحاصل لي من بينهما عفو رضوانك.

إلهي! إن دعاني إلى النّار بذنبي مخشيّ عقابك ، فقد ناداني إلى الجنّة بالرّجاء حسن ثوابك.

إلهي! إن أوحشتني الخطايا عن محاسن لطفك ، فقد آنستني باليقين مكارم عطفك.

إلهي! إن انقرضت بغير ما أحببت من السّعي أيّامي فبالإيمان أمضتها الماضيات من أعوامي.

إلهي! إن أنامتني الغفلة عن الاستعداد للقائك ، فقد أنبهتني المعرفة يا سيّدي بكريم آلائك.

١٥٢

إلهي! إن عزب لبّي عن تقويم ما يصلحني فما عزب إيقاني بنظرك لي فيما ينفعني.

إلهي! جئتك ملهوفا قد ألبست عدم فاقتي ، وأقامني مقام الأذلاّء بين يديك ضرّ حاجتي.

إلهي! كرمت فأكرمني إذ كنت من سؤالك ، وجدت بالمعروف فألحقني بأهل نوالك.

إلهي! مسكنتي لا يجبرها إلاّ عطاؤك ، وأمنيّتي لا يغنيها إلاّ جزاؤك.

إلهي! أصبحت على باب من أبواب منحك سائلا ، وعن التّعرّض لسواك بالمسألة عادلا ، وليس من جميل امتنانك ردّ سائل ملهوف ، ومضطرّ لانتظار خيرك المألوف.

إلهي! أقمت على قنطرة من قناطر الأخطار مبلوّا بالأعمال والاعتبار فأنا الهالك إن لم تعن عليها بتخفيف الأثقال.

إلهي! أمن أهل الشّقاء خلقتني فأطيل بكائي؟ أم من أهل السّعادة خلقتني فأبشّر رجائي؟

إلهي! إن حرمتني رؤية محمّد ٦ في دار السّلام ، وصرفت وجه تأميلي بالخيبة في دار المقام فغير ذلك منّتني نفسي منك يا ذا الفضل والإنعام.

إلهي! وعزّتك وجلالك لو قرنتني في الأصفاد طول الأيّام ، ومنعتني سيبك من بين الأنام ، ودللت على فضائحي عيون الأشهاد ، وحلت بيني وبين

١٥٣

الكرام ، ما قطعت رجائي منك ، ولا صرفت وجه انتظاري للعفو عنك.

إلهي! لو لم تهدني للإسلام ما اهتديت ، ولو لم ترزقني الإيمان بك ما آمنت ، ولو لم تطلق لساني بدعائك ما دعوت ، ولو لم تعرّفني حلاوة معرفتك ما عرفت ، ولو لم تبيّن لي شديد عقابك ما استجرت.

إلهي! أطعتك في أحبّ الأشياء إليك وهو التّوحيد ، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر فاغفر لي ما بينهما.

إلهي! أحبّ طاعتك وإن قصرت عنها ، واكره معصيتك وإن ركبتها ، فتفضّل عليّ بالجنّة ، وخلّصني من النّار وإن كنت استوجبتها.

إلهي! إن أقعدني التّخلّف عن السّبق مع الأبرار ، فقد أقامتني الثّقة بك على مدارج الأخيار.

إلهي! قلب حشوته من محبّتك في دار الدّنيا كيف تطلّع عليه نار محرقة في لظى؟

إلهي! نفس أعززتها بتأييد إيمانك كيف تذلّها بين أطباق نيرانك؟

إلهي! لسان كسوته من تماجيدك أنيق أثوابها ، كيف تهوي إليه من النّار مشتعلات التهابها؟

إلهي! كلّ مكروب إليك يلتجئ ، وكلّ محزون إيّاك يرتجي.

إلهي! سمع العابدون بجزيل ثوابك فخشعوا ، وسمع الزّاهدون بسعة رحمتك فقنعوا ، وسمع المولّون عن القصد بجودك فرجعوا ، وسمع المجرمون بسعة غفرانك فطمعوا ، وسمع المؤمنون بكرم عفوك وفضل عوارفك فرغبوا ،

١٥٤

حتّى ازدحمت مولاي ببابك عصائب العصاة من عبادك ، وعجّت إليك منهم عجيج الضّجيج بالدّعاء في بلادك ، ولكلّ أمل قد ساق صاحبه إليك محتاجا ، وقلب تركه وجيب خوف المنع منك مهتاجا ، وأنت المسئول الّذي لا تسودّ لديه وجوه المطالب ، ولم تزرأ بنزيله فظيعات المعاطب.

إلهي! إن أخطأت طريق النّظر لنفسي بما فيه كرامتها فقد أصبت طريق الفزع إليك بما فيه سلامتها.

إلهي! إن كانت نفسي استسعدتني متمرّدة على ما يرديها فقد استسعدتها الآن بدعائك على ما ينجيها.

إلهي! إن عداني الاجتهاد في ابتغاء منفعتي فلم يعدني برّك بي بما فيه مصلحتي.

إلهي! إن أجحف بي قلّة الزّاد في المسير إليك فقد وصلته الآن بذخائر ما أعددته من فضل تعويلي عليك.

إلهي! إن قسطت في الحكم على نفسي بما فيه حسرتها فقد أقسطت الآن بتعريفي إيّاها من رحمتك إشفاق رأفتها.

إلهي! أدعوك دعاء من لم يرج غيرك بدعائه ، وأرجوك رجاء من لم يقصد غيرك برجائه.

إلهي! لو لا ما جهلت من أمري ما شكوت عثراتي ، ولو لا ما ذكرت من الإفراط ما سفحت عبراتي.

إلهي! إن كنت لا ترحم إلاّ المجدّين في طاعتك فإلى من يفزع المقصّرون ،

١٥٥

وإن كنت لا تقبل إلاّ من المجتهدين فإلى من يلتجئ المفرّطون ، وإن كنت لا تكرم إلاّ أهل الإحسان فكيف يصنع المسيئون ، وإن كان لا يفوز يوم الحشر إلاّ المتّقون فبمن يستغيث المذنبون.

إلهي! إن كان لا يجوز على الصّراط إلاّ من أجازته براءة عمله ، فأنّى بالجواز لمن لم يتب إليك قبل انقضاء أجله.

إلهي! إن لم تنلنا يد إحسانك يوم الورود اختلطنا في الجزاء بذوي الجحود.

إلهي! فأوجب لنا بالإسلام مذخور هباتك ، واستصف ما كدّرته الجرائر منها بصفو صلاتك.

إلهي! ارحمنا غرباء إذا تضمّنتنا بطون لحودنا ، وغمّيت باللّبن سقوف بيوتنا ، وأضجعنا مساكين على الإيمان في قبورنا ، وخلّفنا فرادى في أضيق المضاجع ، وصرعتنا المنايا في أعجب المصارع ، وصرنا في ديار قوم كأنّها مأهولة وهي منهم بلاقع (١).

إلهي! إذا جئناك عراة حفاة مغبرّة من ثرى الأجداث رءوسنا ، وشاحبة من تراب الملاحيد وجوهنا ، وخاشعة من أفزاع القيامة أبصارنا ، وذابلة من شدّة العطش شفاهنا ، وجائعة من طول المقام بطوننا ، وبارزة هنالك للعيون سوآتنا ، وموقّرة من ثقل الأوزار ظهورنا ، ومشغولين بما قد دهانا عن أهالينا وأولادنا ، فلا تضعّف المصائب علينا بإعراض وجهك الكريم عنّا.

__________________

(١) بلاقع : خالية.

١٥٦

ومن بنود هذه المناجاة قوله عليه‌السلام :

إلهي! لا سبيل إلى الاحتراس من الذّنب إلاّ بعصمتك ، ولا وصول إلى عمل الخيرات إلاّ بمشيّتك ، فكيف لي بإفادة ما أسلمتني فيه مشيّتك ، وكيف لي بالاحتراس من الذّنب ما لم تدركني فيه عصمتك.

إلهي! أنت دللتني على سؤال الجنّة قبل معرفتها فأقبلت النّفس بعد العرفان على مسألتها ، أفتدلّ على خيرك السّؤال ثمّ تمنعهم النّوال ، وأنت الكريم المحمود في كلّ ما تصنعه يا ذا الجلال والإكرام.

ومن هذه المناجاة قوله عليه‌السلام :

إلهي! إن عفوت فبفضلك ، وإن عذّبت فبعدلك فيا من لا يرجى إلاّ فضله ، ولا يخاف إلاّ عدله صلّ على محمّد وآل محمّد ، وامنن علينا بفضلك.

إلهي! خلقت لي جسما ، وجعلت لي فيه آلات اطيعك بها ، وأعصيك واغضبك بها وأرضيك ، وجعلت لي من نفسي داعية إلى الشّهوات ، وأسكنتني دارا قد ملئت من الآفات ، ثمّ قلت لي انزجر ، فبك أنزجر ، وبك أعتصم ، وبك أستجير من النّار فأجرني ، وبك أحترز من الذّنوب فاحفظني ، وأستوقفك لما يرضيك ، وأسألك يا مولاي فإنّ سؤالي لا يحفيك.

إلهي! أدعوك دعاء ملحّ لا يملّ دعاءه مولاه ، وأتضرّع إليك تضرّع من قد أقرّ على نفسه بالحجّة في دعواه.

إلهي! لو عرفت اعتذارا من الذّنب في التّنصّل أبلغ من الاعتراف به لأتيته ، فهب لي ذنبي بالاعتراف ، ولا تردّني بالخيبة عند الانصراف.

١٥٧

إلهي! قد أصبت من الذّنوب ما قد عرفت ، وأسرفت على نفسي بما قد علمت ، فاجعلني عبدا إمّا طائعا فأكرمته ، وإمّا عاصيا فرحمته.

ومن فقرات هذا الدعاء قوله عليه‌السلام :

إلهي! وعزّتك وجلالك لقد أحببتك محبّة استقرّت حلاوتها في قلبي وصدري ، وما تنعقد ضمائر موحّديك على أنّك تبغض محبّيك.

إلهي! أنتظر عفوك كما ينتظره المذنبون ، ولست أيأس من رحمتك الّتي يتوقّعها المحسنون.

إلهي! لا تغضب عليّ فلست أقوى لغضبك ، ولا تسخط عليّ فلست أقوى لسخطك.

إلهي! انهملت عبراتي حين ذكرت عثراتي ، وما لها لا تنهمل ، ولا أدري إلى ما يكون مصيري ، وعلى ما ذا يهجم عند البلاغ مسيري ، وأرى نفسي تخاتلني ، وأيّامي تخادعني ، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت ، ورمقتني من قريب أعين الفوت ، فما عذري وقد حشا مسامعي رافع الصّوت؟

هذه بعض بنود المناجاة وهي طويلة جدّا ، وقد ذكرها كاملة الشيخ الكفعمي في البلد الأمين ص ٣١١ واختصرها غيره من العلماء في هذه البحوث ، وقد كشفت هذه المناجاة عن عميق صلة الإمام بالله تعالى ، وإيمانه الوثيق به ، وانقطاعه التامّ إليه.

١٥٨

المناجاة الثانية

ومن مناجاة الإمام عليه‌السلام هذه المناجاة التي دلّت على تعلّقه بالله تعالى وشدّة حبّه له ، وإيمانه به ، وهذا نصّها :

اللهمّ إنّي أسألك الأمان ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) ، وأسألك الأمان ( يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) (٢) ، وأسألك الأمان يوم ( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ ) (٣) ، وأسألك الأمان يوم ( لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) (٤) ، وأسألك الأمان ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) (٥) ، وأسألك الأمان ( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) (٦) ، وأسألك الأمان ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (٧) ، وأسألك الأمان يوم

__________________

(١) الشعراء : ٨٨ و٨٩.

(٢) الفرقان : ٢٧.

(٣) الرحمن : ٤١.

(٤) لقمان : ٣٣.

(٥) غافر : ٥٢.

(٦) الانفطار : ١٩.

(٧) عبس : ٣٤ ـ ٣٧.

١٥٩

( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ. كَلاَّ إِنَّها لَظى. نَزَّاعَةً لِلشَّوى ) (١) ...

وحكى هذا المقطع شدّة خوف الإمام يوم القيامة من الله تعالى وعظيم إنابته إليه ، ويستمرّ الإمام في مناجاته قائلا :

مولاي يا مولاي ، أنت المولى وأنا العبد ، وهل يرحم العبد إلاّ المولى. مولاي

يا مولاي ، أنت المالك وأنا المملوك ، وهل يرحم المملوك إلاّ المالك. مولاي

يا مولاي ، أنت العزيز وأنا الذّليل ، وهل يرحم الذّليل إلاّ العزيز. مولاي

يا مولاي ، أنت الخالق وأنا المخلوق ، وهل يرحم المخلوق إلاّ الخالق. مولاي

يا مولاي ، أنت العظيم وأنا الحقير ، وهل يرحم الحقير إلاّ العظيم. مولاي

يا مولاي ، أنت القويّ وأنا الضّعيف ، وهل يرحم الضّعيف إلاّ القويّ. مولاي

يا مولاي ، أنت الغنيّ وأنا الفقير ، وهل يرحم الفقير إلاّ الغنيّ. مولاي

يا مولاي ، أنت المعطي وأنا السّائل ، وهل يرحم السّائل إلاّ المعطي. مولاي

يا مولاي ، أنت الحيّ وأنا الميّت ، وهل يرحم الميّت إلاّ الحيّ. مولاي

يا مولاي ، أنت الباقي وأنا الفاني ، وهل يرحم الفاني إلاّ الباقي. مولاي

يا مولاي ، أنت الدّائم وأنا الزّائل ، وهل يرحم الزّائل إلاّ الدّائم. مولاي

يا مولاي ، أنت الرّازق وأنا المرزوق ، وهل يرحم المرزوق إلاّ الرّازق. مولاي

يا مولاي ، أنت الجواد وأنا البخيل ، وهل يرحم البخيل إلاّ الجواد. مولاي

__________________

(١) المعارج : ١١ ـ ١٦.

١٦٠