تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٢

ثمّ يقسم أهل الميراث ميراثهم فنسختها هذه الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥) [الأنفال : ٧٥] فذهب ما كان من عقد يتوارث به وصارت المواريث لذوي الأرحام.

قوله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) : أى مسلّطون على أدب النساء والأخذ على أيديهنّ. (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) : جعل شهادة امرأتين شهادة رجل واحد ، وفضّلوا في الميراث (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) : يعني الصّداق.

ذكروا أنّ رسول لله قال المرأة مسكينة ما لم يكن لها زوج ، قيل : وإن كان لها مال؟ قال نعم : وإن كان لها مال (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (١). ذكر بعضهم قال : ذكر لنا أنّ رجلا لطم امرأته على عهد النبيّ عليه‌السلام ، فأتت المرأة نبيّ الله ، فأراد نبيّ الله أن يقصّها منه ، فأنزل الله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ). ذكروا عن الحسن أنّ رجلا لطم امرأته ، فرفع ذلك إلى النبيّ فقال : بئس ما صنعت (٢) فأنزل الله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ).

وقال الحسن : ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون الموضحة. أى : أنّه يرى ذلك أدبا.

قوله : (فَالصَّالِحاتُ) : يعني المحسنات إلى أزواجهنّ (قانِتاتٌ) : أى : مطيعات لأزواجهنّ في تفسير الحسن. وقال غيره : مطيعات لله ولأزواجهنّ. (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) : أى لغيب أزواجهنّ في فروجهنّ. (بِما حَفِظَ اللهُ) : أى بحفظ الله إيّاهنّ في تفسير الحسن. وقال غيره : حافظات لما استودعهنّ الله من حقّه ، حافظات لغيب أزواجهنّ.

قوله : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ) : [عصيانهنّ ، يعني تنشز على زوجها فلا تدعه أن يغشاها] (٣) (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) : قال بعضهم : يبدأ

__________________

(١) أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي نجيح مرسلا من حديث أوّله : «مسكين مسكين مسكين رجل .... ومسكينة مسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج ...». انظر الدر المنثور للسيوطي ، ج ٢ ص ٣١١.

(٢) لم أجد فيما بين يديّ من كتب التفسير والحديث التي تعرّضت لسبب نزول الآية هذه العبارة : «بئس ما صنعت» ، وأقرب ما ذكر ما أورده السيوطيّ في الدرّ المنثور ، ج ٢ ص ١٥١ في حديث أخرجه ابن مردويه عن عليّ قوله : «ليس له ذلك».

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٦٤. والنشوز يكون بين الزوجين ، وهو كراهة كلّ منهما صاحبه. ونشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها وهي ناشز : «إذا ارتفعت عليه واستعصت عليه وأبغضته ، وخرجت عن طاعته وفركته». كما ـ

٣٤١

فيعظها بالقول ، فإن أبت (١) هجرها ، فإن أبت ضربها ضربا غير مبرح ، أى غير شائن. قال بعضهم : ثمّ يرتفعان إلى السلطان.

قوله : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) : أى إذا تركته يغشاها فلا يطلب عليها العلل. وقال الحسن في قوله : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) : لا يقربها. وقال الكلبيّ : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) : أى : لا تكلّفوهنّ الحبّ ، فإنّما جعلت الموعظة لهنّ في المضجع والسبّ في المضجع ، والضرب في المضجع ؛ ليس على الحبّ ، ولكن على حاجته إليها. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٣٤).

قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) : أى : اختلافا ، أى : إن نشزت المرأة حتّى تشاقّ زوجها (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ) : أى من أهل الرجل (وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) : أى من أهل المرأة (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) (٣٥) (٢) : أى إذا نشزت ورفع ذلك إلى الإمام بعث الإمام حكما من أهل المرأة وحكما من أهل الرجل يصلحان بينهما ، ويجمعان ولا يفرّقان ، وينظران من أين يأتي الضرر والمدافعة ؛ فإن اصطلحا فهو من الله ، وإن أبيا ذلك وأبت المرأة إلّا النشوز وقّفها (٣) الإمام على النشوز ؛ فإن افتدت من زوجها حلّ له أن يخلعها ، والخلع جائز عند السلطان وغيره.

وقال بعضهم : فابعثوا حكما عدلا من أهلها وحكما عدلا من أهل الرجل ينظران في النصيحة لهما فيعظان الظالم ؛ وذلك أنّه يخلو حكم الرجل بالرجل فيقول : أخبرني بما في نفسك فإنّي لا أستطيع أن أفرّق أو أجمع إلّا بأمرك. فإن كان الرجل هو الناشز الظالم قال له : فرّق بيني وبينها ، فلا حاجة لي فيها. وإن لم يكن هو الناشز قال له : أرضها من مالي بما أحبّت ولا تفرّق بيني وبينها. ويخلو حكم المرأة بالمرأة فيقول : أخبريني بما في نفسك. فإن كانت هي الناشزة قالت له : أعطه من مالي ما شاء وفرّق بيني وبينه. فإن لم تكن هي الناشزة قالت له : اتّق الله ولا تفرّق بيني وبينه ، ولكن استزده لي في نفقتي ، ومره أن يحسن إليّ. ثمّ يلتقي الحكمان. وقد علم كلّ منهما ما قال له صاحبه.

__________________

ـ في اللسان (نشز.)

(١) في ع : «انزت» ، وفي د : «أبوت» ، وهو تصحيف صوابه ما أثبته : «أبت». وفي ز : «عصت».

(٢) لم تورد المخطوطتان ع ، ود آخر هذه الآية ، والصواب إثباته هنا لأنّ ما يلي تفسير له.

(٣) كذا في ع ، وفي ز ورقة ٦٤ : «وقّفها» بالتشديد ، وهو الصحيح ، أى : بيّنه وأوضح لها خطره وضرره.

٣٤٢

فإن أرادا إصلاحا بين الرجل والمرأة أخذ كلّ منهما على صاحبه يمينا لتصدقني وأصدقك. فإذا صدق كلّ واحد منهما صاحبه عرفا من أيّ (١) جاء النشوز ، فإن كان من قبل الرجل قالا له : اتّق الله ، فإنّك أنت الظالم الناشز ، فارجع إلى أمر الله ، فيأمرانه بالعدل ، ويأخذانه بالنفقة حتّى يرجع إلى أمر الله ولا يطلّقها. وإن كانت المرأة هي الناشز ، الظالمة لزوجها ، قالا لها : أنت الناشز الظالمة لزوجك ، فيأمرانها بالعدل ، لعلّ الله يصلح ما بينهما على أيديهما. وقال بعضهم : إنّما يبعث الحكمان ليصلحا ، فإن أعياهما أن يصلحا بينهما شهدا على الظالم بظلمه ، وليس بأيديهما الفرقة ، ولا يملكان ذلك. وبلغنا عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال للحكمين : ذلك إليكما إن رأيتما أن تفرّقا ففرّقا (٢).

قوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) : [أي لا تعدلوا به غيره] (٣) (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) : أى الجار الذي له قرابة ، (وَالْجارِ الْجُنُبِ) : أى الأجنبيّ الذي ليست له قرابة (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) : أى الرفيق والنزيل في السفر. وقال بعضهم : الصاحب بالجنب هي المرأة التي يلصق جنبها بجنبك ، وجنبك بجنبها ، أوصاك الله بها ، لأنّها أقرب الخلق إليك. ذكر عطاء الخراسانيّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الجيران ثلاثة : جار له ثلاثة حقوق ، وجار له حقّان ، وجار له حقّ واحد ؛ فأمّا الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم ذو القرابة ؛ له حقّ الإسلام ، وحقّ القرابة ، وحقّ الجوار ، وأمّا الجار الذي له حقّان فالجار المسلم ؛ له حقّ الإسلام وحقّ الجوار ، وأمّا الذي له حقّ واحد فالجار المشرك ، له حقّ الجوار (٤).

قال بعضهم : إذا كان له جار له رحم فله حقّان : حقّ الجوار وحقّ الرحم. والجار الجنب له

__________________

(١) كذا في ع : «من أيّ» ، وهو أفصح ، وفي د : «من أين».

(٢) وكان أستاذنا المرحوم الإمام إبراهيم بيّوض أيضا يميل إلى هذا الرأي. كان يرى «أنّ المرأة الناشز إذا افتدت من زوجها وأبت إلّا النشوز جاز للسلطان أن يخلعها». وجدت هذا في بعض ما قيّدت عنه ولكن لا أذكر مصدره ، هل كان في درس من دروس تفسيره ، أو كان في فتوى له أو حديث. والمسألة خلافيّة في المذهب : فالمشارقة من الأصحاب يجيزون تفريق القاضي والمغاربة لا يرون ذلك. وكأنّ أستاذنا المرحوم مال إلى رأي المشارقة. وبهذا الرأي أخذ أيضا المرحوم الشيخ عبد الرحمن بكليّ ، انظر فتاوى البكري للشيخ بكلّي ، ج ٢ ص ١٦٨ ـ ١٧٣.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٦٤.

(٤) رواه أبو بكر البزار عن عطاء الخراساني عن الحسن عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٤٣

حقّ الجوار. والصاحب بالجنب وهو الرفيق والنزيل في السفر.

قوله : (وَابْنِ السَّبِيلِ) : هو الضيف.

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب قال : الجوار أربعون دارا.

الخليل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت (١).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أتاني جبريل فما زال يوصيني بالجار حتّى ظننت ـ أو رأيت ـ أنّه سيورّثه (٢).

ذكروا عن أبي شريح الخزاعيّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، جائزته يوما وليلة ، والضيافة ثلاثة أيّام ، وما سوى ذلك فهو صدقة (٣).

قوله : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) : ذكروا عن أمّ سلمة قالت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من آخر وصيّته عند موته : الصلاة وما ملكت أيمانكم ، حتّى جعل يجلجلها في صدره ، وما يفيض بها لسانه (٤).

ذكر الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المملوك أخوك ، فإن عجز فخذ معه ، ومن رضي

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب حفظ اللسان عن أبي هريرة ، وفي كتاب الأدب ، باب إكرام الضيف وفيه : «فلا يؤذ جاره». وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب الحثّ على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت ... (٤٧) عن أبي هريرة ، و (٤٨) عن أبي شريح الخزاعي.

(٢) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب الوصاة بالجار عن ابن عمر ، وأخرجه مسلم في كتاب البرّ والصلة والأدب ، باب الوصيّة بالجار والإحسان إليه (٢٦٢٤) عن عائشة و (٢٦٢٥) عن ابن عمر.

(٣) حديث متّفق على صحّته. أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. وأخرجه مسلم في كتاب اللقطة ، باب الضيافة ونحوها ، عن أبي شريح الخزاعي ، وأخرجه الربيع بن حبيب في مسنده ج ٢ ص ٨٨ (رقم ٦٨١) عن جابر بن زيد مرسلا ، وفي آخره : «ولا يحلّ له أن يثوي عنده حتّى يحرجه».

(٤) أخرجه أحمد والبيهقيّ في شعب الإيمان عن أنس ، وأخرجه البيهقيّ في الدلائل عن أمّ سلمة.

٣٤٤

مملوكه فليمسكه ، ومن كرهه فليبعه ولا تعذّبوا خلق الله الذي خلق (١). ذكروا عن أبي ذرّ أنّه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في المملوكين : أطعموهم ممّا تأكلون ، واكسوهم ممّا تلبسون ، ولا تكلّفوهم ما لا يطيقون (٢).

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) : قال الحسن : هم اليهود ، منعوا حقوق. الله في أموالهم ، وكتموا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم يعلمون أنّه رسول الله مكتوبا عندهم. وقال بعضهم : هم أهل الكتاب بخلوا بحقّ الله عليهم ، وكتموا الإسلام ومحمّدا ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم. وقال بعضهم : (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) فهو كتمان محمّد.

قال : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (٣٧) : فأخبر أنّهم كفّار. وقوله (مهينا) من الهوان.

قوله : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) : قال بعضهم : هم اليهود ، وقال بعضهم : هم المنافقون (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) (٣٨) : أى فبئس القرين.

قوله : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) : يعني الزكاة الواجبة (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) (٣٩) : فهو عليم بهم إذ هم مشركون.

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) : أى لا ينقص وزن مثقال ذرّة. (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ) : أى : ويعط (مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٤٠) : أى الجنّة.

ذكر بعضهم قال : إذا حوسب المؤمن بحسناته وسيّئاته ، فإذا لم يفضل له إلّا حسنة واحدة ضاعفها الله له. وهو قوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

ذكروا عن ابن مسعود أنّه قال : إنّ في سورة النساء آيات هنّ خير من الدنيا جميعا : الأولى

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ فيما بين يديّ من كتب التفسير والحديث. وأخرج أحمد والبيهقيّ حديثا بمعناه عن أبي ذرّ.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب إطعام المملوك ممّا يأكل وإلباسه ممّا يلبس ولا يكلّفه ما يغلبه.

(١٦٦١) عن أبي ذرّ بلفظ أطول.

٣٤٥

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٤٠) [النساء : ٤٠]. والثانية قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٣١) [النساء : ٣١]. والثالثة : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]. والرابعة : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١١٠) [النساء : ١١٠]. والخامسة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٥٢) [النساء : ١٥٢].

قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) : أى يوم القيامة يشهد على قومه أنّه قد بلّغهم. قال بعضهم : شاهدها نبيّها من كلّ أمّة. (وَجِئْنا بِكَ) : يا محمّد (١) (عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٤١). قال : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) : قال بعضهم : ودّوا لو أنّ الأرض تخرّقت بهم فساخوا فيها.

وقال بعضهم : إنّ الله إذا حشر الخلائق يوم القيامة قصّ لبعضهم من بعض ، حتّى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء ، ثمّ قال : كوني ترابا ، يطأ عليهم أهل الجمع ، هذا ما سوى الثقلين. فعند ذلك (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠) [النبأ : ٤٠] وهو قوله : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ).

قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢) : ذكر أبو حازم عن ابن عبّاس في قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) [الأنعام : ٢٣] فبألسنتهم ، وأمّا قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢) فبجوارحهم.

ذكروا عن أبي موسى الأشعريّ قال : (قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فختم الله على أفواههم فقال للجوارح : انطقي ، فإنّ أوّل ما يتكلّم من أحدهم لفخذه ، قال الحسن : نسيت اليمنى قال أم اليسرى. وهذا في سورة يس : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). [يس : ٦٥]. وقال الحسن : في موطن لا يتكلّمون ولا تسمع إلّا

__________________

(١) جاء في تفسير الطبري ، ج ٨ ص ٣٧٠ ما يلي : «... عن المسعوديّ عن القاسم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لابن مسعود : اقرأ عليّ. قال : أقرأ عليك ، وعليك أنزل؟ قال : إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري. قال : فقرأ ابن مسعود (النساء) حتّى بلغ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) قال : استعبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكفّ ابن مسعود».

٣٤٦

همسا ، أى وطء الأقدام ، وفي موطن آخر يتكلّمون فيكذبون ، وقالوا : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) [النحل : ٢٨] ، و (قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) [الأنعام : ٢٣]. وفي موطن يعترفون على أنفسهم بالكفر ، ويسألون الله أن يردّهم إلى الدنيا فيؤمنوا. وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم ، وتتكلّم أيديهم وأرجلهم.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) : ذكر بعضهم قال : لّما نزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ـ والميسر القمار كلّه ـ (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] فذمّها الله في هذه الآية ولم يحرّمها ، وهي لهم يومئذ حلال. قال : فبلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لّما نزلت هذه الآية : إنّ الله قد يقرّب في تحريم الخمر (١). ثمّ أنزل في الخمر بعدها آية هي أشدّ منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فكان السكر عليهم منها حراما ، وأحلّ لهم ما سوى ذلك ؛ فكانوا يشربونها ، حتّى إذا حضرت الصلاة أمسكوا عنها. ثمّ أنزل الله تحريمها في سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٩٠) [المائدة : ٩٠] فجاء تحريمها في هذه الآية قليلها وكثيرها ، ما أسكر منها وما لم يسكر.

قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) : ذكروا عن ابن عبّاس قال : هو المسافر إذا لم يجد الماء تيمّم وصلّى. وقال بعضهم : الجنب يعبر المسجد (٢) ولا يقعد فيه ، ويتلو هذه الآية : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ).

قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) : أى [تعمّدوا] (٣) ترابا نظيفا. والملامسة في قول عليّ وابن عبّاس والحسن وعبيد (٤) هو الجماع. وكان ابن مسعود يقول : هو اللمس باليد ،

__________________

(١) انظر ما مضى في هذا الجزء تفسير الآية ٢١٩ من سورة البقرة.

(٢) كذا في ع : «يعبر» ، وفي د : «يمرّ في المسجد».

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٦٥.

(٤) في ع : «وغيرهم» ويبدو أنّ الصواب ما جاء في د : «وعبيد» ، وهو أبو عاصم عبيد بن عمير بن قتادة الليثي ، قاضي أهل مكّة. وقد ولد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر البخاري أنّه رآه. وهو يعدّ من كبار التابعين.

٣٤٧

ويرى منه الوضوء. ومن قال : إنّه الجماع لم ير من اللمس باليد ولا من القبلة وضوءا (١).

ذكروا عن عائشة قالت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوضّأ ، ثمّ يقبّلها ، ثمّ ينطلق إلى الصلاة ولا يتوضّأ (٢).

قوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣).

ذكروا عن عمّار بن ياسر قال : أجنبت وأنا في الإبل ، فتمعّكت في الرمل كتمعّك الدابّة. ثمّ أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد دخل الرمل في رأسي ولحيتي ، فأخبرته فقال : إنّما كان يكفيك أن تقول هكذا ، وضرب بكفّيه إلى الأرض ، ثمّ نفضهما ، فمسح بهما وجهه وكفّيه [ثمّ قال : كان يكفيك أن تصنع هكذا] (٣).

ذكروا عن عمّار بن ياسر أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : التيمّم ضربة واحدة (٤).

ذكروا عن ابن عمر أنّه كان يتيمّم ضربتين : ضربة للوجه وضربة للذراعين. وذكروا عن الحسن مثل ذلك.

[ذكر سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال : الجريح ، والمجدور ، والمقروح إذا خشي على نفسه تيمّم] (٥).

__________________

وقد سمع من كثير من الصحابة ، وروى عن عمر وأبيّ بن كعب. وروى عنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار. توفّي سنة أربع وسبعين للهجرة.

(١) الذي عليه الجمهور أنّ اللمس هنا بمعنى الجماع ، وأنّ القبلة لا تنقض الوضوء. انظر اختلاف الصحابة والتابعين في معنى الملامسة وترجيح الطبري في تفسيره ، ج ٨ ص ٣٩٠ ـ ٣٩٦.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب الوضوء من القبلة (١٧٩) عن عروة بن الزبير : «عن عائشة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبّل امرأة في نسائه ثمّ خرج إلى الصلاة ولم يتوضّأ. قال عروة : فقلت لها : من هي إلّا أنت ، فضحكت».

(٣) ما بين المعقوفين زيادة من ز ، ورقة ٦٦. والحديث متّفق عليه ، أخرجه البخاري في كتاب التيمّم ، باب المتيمّم هل ينفخ فيها ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب التيمّم (٣٦٨).

(٤) لم يرد بهذا اللفظ ولكن بمعناه ، وقد ترجم البخاري في كتاب التيمّم : باب التيمّم ضربة. وذكر قصّة عمّار بن ياسر وفيه : «فضرب بكفّه ضربة على الأرض ثمّ نفضها ...».

(٥) أثبتّ هذه الزيادة من ز ورقة ٦٦ لفائدتها. وقد رواها يحيى عن حمّاد بن سلمة عن عطاء بن السايب عن ـ

٣٤٨

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) : يعني اليهود (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) : أى يختارون الضلالة ، في تفسير الحسن. وقال غيره يستحبّون الضلالة على الهدى ، حرّفوا كتاب الله. (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) (٤٤) : يعني محمّدا وأصحابه. وذلك أنّهم دعوهم إلى دينهم. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) : يعني اليهود ، وهو كقوله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة : ٨٢]. قال : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) (٤٥).

قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) : قال مجاهد : تبديل اليهود التوراة. وقال الحسن : تحريفهم ؛ حرّفوا كلام الله ، وهو الذي وضعوا من قبل أنفسهم من الكتاب ، ثمّ ادّعوا أنّه من كتاب الله. قال : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ٧٩].

قوله : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) : وهم اليهود. قال الكلبيّ : (غَيْرَ مُسْمَعٍ) أى : لا سمعت. وقال الحسن : (غَيْرَ مُسْمَعٍ) منّا ما تحبّ. وقال مجاهد : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أى : سمعنا ما تقول ولا نطيعك. (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أى : غير مقبول ما تقول.

قوله : (وَراعِنا) : قال الكلبيّ : يلوي لسانه بالسبّ. وقد فسّرناه في سورة البقرة (١). وقال الحسن : (راعِنا) : السخريّ من القول : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) : يعني ما يلوون به ألسنتهم من كتمانهم محمّدا والإسلام. وقال مجاهد : كان أحدهم يقول : ارعني سمعك ، يلوي بذلك لسانه. قال : (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) : أى في الإسلام.

قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) : حتّى نتفهّم (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) لأمرهم. (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤٦) : قال بعضهم : قلّ من آمن من اليهود. ذكر محمّد بن سيرين قال : ما نعلم أحدا من اليهود أسلم على عهد النبيّ محمّد عليه‌السلام غير عبد الله بن سلام ، والحسن يذكر آخر ، ما أدري من هو.

ذكروا عن رفاعة القرظيّ في قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

__________________

ـ سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.

(١) انظر ما سلف من هذا الجزء تفسير الآية ١٠٤ من سورة البقرة.

٣٤٩

[القصص : ٥٢] قال : نزلت في عشرة ممّن أسلم من اليهود أنا أحدهم. ذكر أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو آمن بي واتّبعني وصدّقني عشرة من اليهود لم يبق على ظهرها يهوديّ إلّا اتّبعني (١). فقال كعب : اثنا عشر. وفي حديث الحسن : عشرة. ومصداق ذلك في كتاب الله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) [المائدة : ١٢]. وقال بعض العلماء : إن لم يكن قال هذا النبيّ بعد ما أسلم الاثنان اللذان قال محمّد بن سيرين فما أدري ما هو.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) : قال بعضهم : فنردّها من قبل أقفائها. وقال الحسن ومجاهد : فنردّها على أدبارها في الضلالة. وقال الحسن : نطمسها عن الهدى.

قوله : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) : مسخ أصحاب السبت قردة. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٤٧) : أى إذا أراد الله أمرا أن يقول له كن فيكون.

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) : [أي أن يعدل به غيره] (٢) (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨).

ذكر عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الموجبتين فقال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة ، ومن مات وهو مشرك بالله دخل النار (٣).

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) : قال بعضهم : هم اليهود ، زكّوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه ، وقالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقالوا : لا ذنوب لنا.

__________________

(١) انظر تخريجه فيما سلف من هذا الجزء تفسير الآية ٨٨ من سورة البقرة.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٦٦.

(٣) كذا ورد الحديث في ع ، وفي ز ، ورقة ٦٦ ورد بسند كالتالي : «يحيى عن سفيان الثوريّ عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ...». والحديث صحيح أخرجه أيضا مسلم في كتاب الإيمان ، باب من مات لا يشرك بالله شيئا ... (رقم ٩٣) عن جابر. وفي مخطوطة د ورد هذا الحديث بزيادة : «من مات لا يشرك بالله وأوفى بما افترض الله عليه ...» ، وهي زيادة من أحد النساخ أو الرواة ، بعد مسلم وابن سلّام. وما كان ينبغي لأحد ـ مهما بلغ علمه ـ أن يقحم في كلام رسول الله شيئا ليس منه. ونعوذ بالله من التكلّف ، اللهمّ إلّا أن يبيّن أنّه من كلامه هو لا من كلام الرسول عليه‌السلام.

٣٥٠

ذكروا عن مجاهد قال : هم يهود ؛ كانوا يقدّمون صبيانهم فيؤمّونهم في الصلاة ، يقولون : لا ذنوب لهم ، تزكية.

وقال الحسن : هم أهل الكتابين (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١].

وقال الكلبيّ : هم اليهود جاءوا بأبنائهم أطفالا إلى النبيّ عليه‌السلام فقالوا : يا محمّد ، هل على أولادنا هؤلاء من ذنوب فيما اقترفوا؟ قال : لا ، أو كما قال : فقالوا : فو الذي يحلف به إن نحن إلّا كهيئتهم ، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفّر عنّا بالليل ، وما من ذنب نعمله بالليل إلّا كفّر عنّا بالنهار ، فهو الذي زكّوا به أنفسهم.

قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ) : أى لا ينقصون (فَتِيلاً) (٤٩) : الفتيل : الذي في بطن النواة (١). وهو تفسير العامّة. وقال مجاهد : هو دلكك أصابعك بعضها ببعض ، فما خرج منها فهو الفتيل.

قوله : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) (٥٠) : أى : بيّنا.

قال الحسن : هم اليهود والنصارى حرّفوا كتاب الله وافتروا عليه ، وقالوا : هذا كلام الله.

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) : قال بعضهم : كنّا نحدث أنّ الجبت هو الشيطان ، والطاغوت الكاهن. وقال مجاهد : الطاغوت الشيطان في صورة إنسان. وقال مجاهد : الجبت الكاهن ، والطاغوت الشيطان. وقال الحسن : الجبت : السحر.

قوله : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٥١) : قال الحسن : يعنون به أصحابهم من اليهود أنّهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا.

وقال الكلبيّ : هم قوم من اليهود ، فيهم كعب بن الأشرف وحييّ بن أخطب ، أتوا مكّة ، فسألتهم قريش وأناس من غطفان ؛ فقالت قريش : نحن نعمر هذا المسجد ، ونحجب هذا البيت ، ونسقي الحاجّ ، أفنحن أمثل أم محمّد وأصحابه؟ فقالت اليهود : بل أنتم أمثل. فقال عيينة بن حصن وأصحابه الذين معه : أمّا قريش فقد عدّوا ما فيهم ففضّلوا على محمّد وأصحابه ،

__________________

(١) في مجاز أبي عبيدة ج ١ ص ١٢٩ : «الفتيل الذي في شقّ النواة» ، وهذا أدقّ تعبيرا.

٣٥١

فناشدوهم : أنحن أهدى أم محمّد وأصحابه؟ فقالوا : لا والله ، بل أنتم والله أهدى. فقال الله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (٥٢).

ذكر بعضهم قال : إنّها نزلت في كعب بن الأشرف وحييّ بن أخطب اليهوديّين من بني النضير ؛ لقيا قريشا بالموسم ، فقال لهم المشركون : أنحن أهدى أم محمّد وأصحابه؟ فإنّا أهل السدانة ، وأهل السقاية ، وأهل الحرم. فقالا : بل أنتم أهدى من محمّد وأصحابه ، وهما يعلمان أنّهما كاذبان ، وإنّما حملهما على ذلك حسد محمّد وأصحابه ؛ فأنزل الله هذه الآية : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ).

قوله : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٥٣) : والنقير النقرة تكون في ظهر النواة في تفسير مجاهد وغيره. [المعنى : أنّهم لو أعطوا الملك ما أعطوا الناس مقدار النقير] (١).

قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) : قال الحسن : هم اليهود يحسدون محمّدا وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله في الدين.

قال الكلبيّ : الناس في هذه الآية محمّد عليه‌السلام. قالت اليهود : انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام. ولا والله ما له همّ إلّا النساء ؛ حسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك ، وقالوا : لو كان نبيّا ما رغب في كثرة النساء. فأكذبهم الله فقال :

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) : يعني النبوّة (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٥٤) : فسليمان بن داود من آل إبراهيم ؛ وقد كان عند سليمان ألف امرأة ، وعند داود مائة ، فكيف يحسدونك يا محمّد على تسع نسوة.

وقال الحسن : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) ، ملك النبوّة.

قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) : أى بما آتاهم الله من النبوّة والإسلام. (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) : قال مجاهد : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) أى : بما أنزل على محمّد (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ). قال : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٥٥) : أى لمن صدّ عنه. وتأويل (صَدَّ عَنْهُ) : جحده.

__________________

(١) زيادة أثبتّها من ز ، ورقة ٦٦ ، وهي لأبي محمّد بن أبي زمنين ، وليست لابن سلّام.

٣٥٢

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) : أى : كلّما احترقت جلودهم جدّد الله لهم جلودا أخرى. قال : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (٥٦) : أى عزيزا في نقمته ، حكيما في أمره. قال بعضهم : تأكل كلّ شيء حتّى تنتهي إلى الفؤاد ، فينضج الفؤاد ، فلا يريد الله أن تأكل أفئدتهم ؛ فإذا لم تجد شيئا تتعلّق به منهم خبت ، وخبوّها : سكونها. ثمّ يعادون خلقا جديدا ، فتأكلهم كلّما أعيد خلقهم.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) : أى لا يحضن ولا يلدن ولا يبلن ولا يقضين حاجة ولا يمتخطن ؛ ليس فيها قذر. قال : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) (٥٧) : قال الحسن : أى : دائما. وقال بعضهم : لذلك الظلّ ظلال.

قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) : لّما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة دعا عثمان بن طلحة (١) فقال : أرنا (٢) المفتاح. فلمّا أتاه به قال العبّاس : يا رسول الله اجمعه لي مع السقاية ، فكفّ عثمان يده مخافة أن يدفعه إلى العبّاس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عثمان ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فأرنا المفتاح. فقال : هاك في أمانة الله. فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففتح باب الكعبة ، فأفسد ما كان فيها من التماثيل ، وأخرج مقام إبراهيم فوضعه حيث وضعه. ثمّ طاف بالبيت مرّة أو مرّتين. فنزل عليه جبريل ، فأمره بردّ المفتاح إلى أهله. فدعا عثمان بن طلحة فقال : هاك المفتاح ، إنّ الله يقول : أدّوا الأمانات إلى أهلها.

قال : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَ

__________________

(١) هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة القرشيّ ، من بني عبد الدار. أسلم سنة ثمان للهجرة في هدنة الحديبيّة.

(انظر قصّة إسلامه مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص في مغازي الواقدي ج ٢ ص ٧٤٣ ، و ٧٤٨.) وكان عثمان هذا خيّاطا. وردّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة إليه وإلى ابن عمّه شيبة ابن عثمان بن أبي طلحة وقال فيما ترويه كتب السيرة : خذاها خالدة تالدة يا بني أبي طلحة ، لا ينزعها منكم إلّا ظالم. وقد نزل عثمان بن طلحة المدينة ، فأقام بها إلى أن توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ سكن مكّة حيث توفّي بها سنة ٤٢ ه‍. انظر ترجمته في كتب التراجم ، مثل : الاستيعاب لابن عبد البر ، ج ٣ ص ١٠٣٤ ، والمعارف لابن قتيبة ، ص ٢٦٧ ، و ٥٧٥.

(٢) كذا في ع ود وز ، ورقة ٦٧ : «أرنا». وفي الدر المنثور ، ج ٢ ص ١٧٥ : «أرني».

٣٥٣

اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (٥٨).

ذكر بعضهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للحجبي (١) يومئذ : هاك ، ورمى إليه بالمفتاح ، خذها فإنّ الله قد رضيكم لها في الجاهليّة والإسلام.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل مأثرة كانت في الجاهليّة تحت قدمي إلّا السدانة والسقاية ، فإنّي قد أمضيتهما لأهلهما (٢).

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) : قال الحسن : أولو الأمر منكم : أهل الفقه والعلم والرأي. غير واحد أنّه قال : أولو الأمر منكم :

العلماء. ذكروا عن عطاء أنّه قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) : يعني كتابه ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) : يعني ما سنّ رسول الله ، (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) : العلماء من كانوا ، وحيثما كانوا. وتفسير مجاهد : أولو الفقه في الدين والعقل.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : السنّة سنّتان : سنّة في فريضة ، الأخذ بها هدى وتركها ضلالة ، وسنّة في غير فريضة الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة. وكان الكلبيّ يقول : أولو الأمر منكم أمراء السرايا (٣).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني (٤).

__________________

(١) هو لقب عثمان بن طلحة بن أبي طلحة لأنّه كان يلي حجابة البيت.

(٢) من خطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكّة ، فوقف على باب الكعبة ثمّ قال : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. ألا كلّ مأثرة ، أو دم ، أو مال يدّعى ، فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاجّ ...» ، إلى آخر الخطبة التي ختمها بقوله لأهل مكّة : «اذهبوا فأنتم الطلقاء». انظر الخطبة في كتب السيرة والتاريخ والحديث ، انظر مثلا : سيرة ابن هشام ، ج ٣ ص ٤١٢.

(٣) اختار أبو جعفر الطبري في تفسيره ، ج ٨ ص ٥٠٢ قول من قال أولو الأمر هم الأمراء والولاة ، ولكنّه اعتمد في ذلك حديثا ضعيفا جدّا ، والصحيح ما ذهب إليه جمهور المحقّقين قديما وحديثا أنّ أولي الأمر هم أهل الفقه في الدين والرأي.

(٤) حديث متّفق على صحّته ، رواه البخاري في أوّل كتاب الأحكام ، باب قول الله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، ورواه مسلم في كتاب الإمارة ، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ، ـ

٣٥٤

قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) : يعني فردّوه إلى كتاب الله وسنّة رسوله. قال : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩) : أى أحسن ثوابا وخير عاقبة.

وقال مجاهد : أحسن ثوابا ، أى : أحسن جزاء. قال هو مثل قوله : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف : ٥٣] أى ثوابه في الآخرة. وقال الكلبيّ : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) : يعني في السريّة وأميرها ((فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ).

قال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) : قال الحسن : إنّ رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حقّ ، فدعاه المسلم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعاه المنافق إلى وثن بني فلان الذي كان أهل الجاهليّة يتحاكمون إليه ، وعند ذلك الوثن رجل يقول للخصمين : قضى بينكما بكذا وكذا. وإنّما عبادة الوثن عبادة الشيطان. والأوثان هي الطواغيت.

وقال الكلبيّ : إنّ رجلا من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة ، فقال اليهوديّ : انطلق بنا إلى محمّد نختصم إليه. وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف ، وهو الذي يسمّى [هاهنا] الطاغوت في قول الكلبيّ ، وقال بعضهم : أراد أن يحاكمه إلى كاهن بالمدينة فقال الله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).

قال تعالى : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (٦١) : والطاغوت الشيطان. والكاهن من أمر الشّيطان. والإيمان بالشيطان كفر بالله ، والإيمان بالله كفر بالشيطان. قال الله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦].

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أتى عرّافا فصدّقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد (١).

__________________

ـ وتحريمها في المعصية (رقم ١٨٣٥) ، كلاهما يرويه عن أبي هريرة.

(١) أخرجه أبو داود في كتاب الطبّ ، باب في الكاهن (٣٩٠٤). وأخرجه الترمذيّ في كتاب الطهارة وسننها باب النهي عن إتيان الحائض (٦٣٩) عن أبي هريرة بلفظ : «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها ، أو كاهنا ـ

٣٥٥

ذكروا أنّ عبد الله بن مسعود قال : من أتى كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد (١).

قال الكلبيّ : فأبى المنافق أن يخاصمه إلى النبيّ ، وأبى اليهوديّ إلّا أن يخاصمه إلى النبيّ. فاختصما إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى لليهوديّ. فلمّا خرجا من عنده قال المنافق لليهوديّ : انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب أخاصمك إليه. فأقبل معه اليهوديّ ، فدخلا على عمر ، فقال اليهوديّ : يا عمر ، إنّا قد اختصمنا أنا وهذا إلى محمّد فقضى لي عليه ، فلم يرض هذا بقضائه ، وزعم أنّه يخاصمني إليك ، فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم. قال عمر : رويدكما حتّى أخرج إليكما. فدخل البيت فاشتمل على سيفه ، ثمّ خرج إلى المنافق فضربه حتّى برد (٢). فأنزل الله على نبيّه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٦٥) [النساء : ٦٤ ـ ٦٥].

ذكر بعضهم أنّها نزلت في رجل من الأنصار يقال له بشر (٣) وفي رجل من اليهود في حقّ

__________________

ـ فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد». وأخرجه الربيع بن حبيب في مراسيل جابر بن زيد ، ج ٤ ص ٢٤ (رقم ٩٧١) بلفظ : «من أتى عريفا أو كاهنا أو ساحرا فصدقه فيما يقول فهو بريء ممّا أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرجه مسلم في كتاب السّلام ، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهّان (رقم ٢٢٣٠) عن حفصة عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة».

(١) ذكره البغويّ في شرح السنّة ، ج ١٢ ص ١٨٢ هكذا : «وقال قتادة عن ابن مسعود : من أتى كاهنا فسأله وصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

(٢) أي : حتّى مات. وتضيف رواية أبي صالح عن ابن عبّاس التي أوردها القرطبيّ في تفسيره ، ج ٥ ص ٢٦٣ ـ ٢٦٤ : «قال عمر : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ، وهرب اليهوديّ ، ونزلت الآية ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت الفاروق. ونزل جبريل وقال : إنّ عمر فرّق بين الحقّ والباطل ، فسمّي الفاروق».

(٣) كذا في ع ، ود : «بشر». وورد الاسم عند الواحدي ، أسباب النزول ، ص ١٥٤ باسم قيس. وفي تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٢٦٣ كان هذا المسمّى بشرا هو المنافق الذي انتهت قصّته مع اليهوديّ إلى عمر فقتله. على أنّ هنالك سببا آخر لنزول الآية لم يشر إليه المؤلّف هنا ، وهو قصّة الزبير مع رجل من الأنصار ، ـ

٣٥٦

كان بينهما ، فتنافرا إلى كاهن كان في المدينة ليحكم بينهما وتركا نبيّ الله. وذكر لنا أنّ اليهوديّ يدعوه إلى النبيّ ليحكم بينهما ، وقد علم أنّه لن يجور عليه ، فجعل الأنصاريّ يأبى ، ويزعم أنّه مسلم ، فنزلت فيهما هذه الآية.

قوله : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) : قال الحسن : هذا كلام منقطع عمّا قبله وعمّا بعده. يقول : (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) يعني إن تباينوا بنفاقهم فيقتلهم رسول الله. وفيه إضمار. والإضمار الذي فيه : يقول : إذا أصابتهم مصيبة لم ينجهم منها ولم يغثهم. ثمّ رجع إلى الكلام الأوّل ، إلى قوله : (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) (٦٢) : [أي إن أردنا إلّا الخير] (١). قال الله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) : أى من النفاق (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) : ولا تقتلهم ما أظهروا لك الإقرار بدينك والتصديق لقولك. قال : (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٦٣) : يعني يقول لهم : إن باينتم بنفاقكم قتلتكم ؛ فهذا القول البليغ.

قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) : قال مجاهد : أوجب الله لهم ـ يعني الرسل ـ أن يطيعهم من شاء الله [من الناس ، ثمّ أخبر أنّه] (٢) لا يطيعهم أحد إلّا بإذن الله. قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٦٤).

قال الحسن : إنّ اثني عشر رجلا من المنافقين اجتمعوا على أمر من النفاق ، وائتمروا به فيما بينهم ، فأتى جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك. وقد دخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [فقال رسول الله] (٣) : إنّ اثني عشر رجلا من المنافقين قد أجمعوا على أمر من النفاق ، فليقم أولئك ، فليستغفروا ربّهم ، وليعترفوا بذنوبهم حتّى أشفع لهم. فجعلوا لا يقومون ؛ فقال رسول الله : ألا يقومون؟ ألا يقومون؟ مرارا ، ثمّ قال : قم يا فلان ، وأنت يا فلان ، وأنت يا فلان. فقالوا :

__________________

ـ وتخاصمهما في سقي بستان. اقرأ القصّة في أسباب النزول للواحدي ، ص ١٥٦ ، وفي تفسير الطبري ج ٨ ، ص ٥١٩ ، وفي البخاري في كتاب المساقاة.

(١) زيادة من ز ، ورقة ٦٧.

(٢) زيادة من تفسير مجاهد ص : ١٦٥ لا بدّ منها حتى تستقيم العبارة.

(٣) زيادة لا بد منها ليستقيم المعنى ، وقد سقطت العبارة من ع ، ود ، معا.

٣٥٧

يا رسول الله ، نحن نستغفر رسول الله ، ونتوب إليه ، فاشفع لنا. فقال : آلآن؟ لأنا كنت أوّل مرّة أطيب نفسا بالشفاعة ، وكان الله أسرع بالإجابة ، اخرجوا عنّي ، فأخرجهم من عنده حتّى لم يرهم (١).

قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٦٥) : قد فسّرناه قبل هذا الموضع (٢).

قوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) : تفسير مجاهد : هم اليهود ومشركوا العرب من آمن منهم بموسى. قال الكلبيّ : كان رجل من المسلمين ورجال من اليهود جلوسا فقالت اليهود : لقد استتابنا الله من أمر فتبنا إليه منه ، وما كان ليفعله بأحد غيرنا ؛ قتلنا أنفسنا في طاعته حتّى رضي عنّا ؛ يعنون بذلك قوله : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] ، فقال ثابت بن قيس بن شمّاس : إنّ الله يعلم لو أمرنا محمّد أن نقتل أنفسنا لقتلت نفسي. فأنزل الله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ). قال الحسن : أخبر الله بعلمه.

قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) : أى في العاقبة (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٦٦) : أى في العصمة والمنعة من الشيطان.

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) (٦٧) : أى الجنّة (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٦٨) : إلى الجنّة.

قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ

__________________

(١) لم أجد هذا الخبر الذي رواه الحسن هنا فيما بحثت من كتب التفسير والحديث. وكأنّ للخبر علاقة بالذين اتّخذوا مسجد الضرار ، فقد كان عددهم اثني عشر رجلا فيما جاء في سيرة ابن هشام ، ج ٤ ص ٥٣٠. وأستبعد أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضح المنافقين بأسمائهم ، فإنّهم ـ وإن كان نفاق بعضهم مشهورا كعبد الله بن أبي بن سلول ـ غير معروفين على التحقيق بأسمائهم وأعيانهم لدى الصحابة ، إلّا حذيفة بن اليمان ، صاحب سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد استكتمه عليه‌السلام أسماءهم ، ولم يذكرهم لأحد ، حتّى إنّ عمر بن الخطّاب كان يلحّ عليه في السؤال عنهم مخافة أن يكون أحدهم ، فاكتفى حذيفة بأن طمأن عمر بأنّه ليس منهم.

(٢) انظر ذلك في الصفحة التي سلفت والتي قبلها.

٣٥٨

وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦٩).

ذكر بعضهم قال : ذكر لنا أنّ رجالا قالوا : هذا نبيّ الله نراه في الدنيا ، فأمّا في الآخرة فيرفع بفضله ، فلا نراه ، فأنزل الله هذه الآية.

وقال الكلبيّ : قال رجل (١) : يا رسول الله لقد أحببتك حبّا ما أحببته شيئا قطّ ، ولأنت أحبّ إليّ من والديّ وولدي والناس ، فكيف لي برؤية رسول الله إن أنا دخلت الجنّة؟ فلم يردّ عليه شيئا. فأنزل الله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ ...) إلى آخر الآية. فدعاه رسول الله فتلاها عليه.

قال : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧٠).

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (٧١) : الثبات : السرايا ، والجميع : الزحف. وقال مجاهد : الثبات : الزّمر (٢).

قوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) : عن الغزو والجهاد في سبيل الله ، في تفسير الحسن وغيره. قال : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) : أى نكبة (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) (٧٢) : [أي حاضرا] (٣). (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) : يعني الغنيمة (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧٣) : وهؤلاء المنافقون. وذلك حين كان النبيّ يأمر بالسرايا ، فيبطّئ رجال ؛ فإن لقيت السريّة نكبة قال من أبطأ : (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) فيصيبني ما أصابهم ، (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) : أى الغنيمة والسلامة ، ليقولنّ : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) : أى أصيب من الغنيمة.

وقوله : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) : أى كأنّه لم يدخل في دينكم إلّا عند ذلك ، كأن لم يكن قبل ذلك مع المسلمين. يقول الله للمسلمين : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) : أى موافقة في

__________________

(١) هو ثوبان ، مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ذكره الواحديّ في أسباب النزول ، ص ٢١٨. انظر ترجمته في الاستيعاب لابن عبد البرّ ، ج ١ ص ٢١٨. وترجم له الذهبيّ في سير أعلام النبلاء ، ج ٣ ص ١١ و ١٢ تحت عنوان : ثوبان النبويّ.

(٢) الثبات : جمع ثبة ، أى الجماعة والعصابة ، أى «جماعات في تفرقة». انظر مجاز أبي عبيدة ، ج ١ ص ١٣٢.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٦٨.

٣٥٩

الإسلام والإقرار به.

قوله : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) : أى : يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة. كقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ١١١]. (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٧٤) : أى الجنّة.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ في الجنّة لمائة درجة ، بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض ، أعدّها الله للمجاهدين في سبيله. ولو لا أن أشقّ على أمّتي ولا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا بعدي ما قعدت خلف سريّة تغزو ، ولوددت لو أقاتل في سبيل الله فأقتل ، ثمّ أحيى ثمّ أقتل ، ثمّ أحيى ثمّ أقتل (١).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : والذي نفسي بيده ما من نفس تموت لها عند الله خير ويسرّها أن ترجع إلى الدنيا وأنّ لها نعيم الدنيا إلّا الشهيد ، فإنّه يودّ لو رجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرّات لفضل ما قد رأى وعاين (٢).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا وأنّ لها نعيم الدنيا إلّا الشهيد فإنّه يودّ لو رجع إلى الدنيا فيقتل في سبيل الله مرّة أخرى لتعظيم الأجر.

قوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) : قال الحسن : يعني وعن المستضعفين من أهل مكّة من المسلمين. (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) : قال مجاهد : أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين كانوا بمكّة (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) : وهم مشركو أهل مكّة (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، في باب درجة المجاهدين ، وفي باب تمنّي الشهادة عن أبي هريرة مرفوعا ، ولفظة : «والذي نفسي بيده لو لا أنّ رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عنّي ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة تغزو في سبيل الله ، والذي نفسي بيده لوددت أنّي أقتل في سبيل الله ثمّ أحيا ثمّ أقتل ثمّ أحيا ثمّ أقتل ، ثمّ أحيا ثمّ أقتل».

(٢) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب الحور العين وصفتهم عن أنس. وأخرجه مسلم والحديث الذي يليه في كتاب الإمارة ، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى (١٨٧٧) عن أنس بن مالك.

٣٦٠