تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٢

تفسير سورة (البقرة). وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله : (الم) (١) : كان الحسن يقول : ما أدري ما تفسير (ألم) و (ألر) و (المص) وأشباه ذلك [من حروف المعجم] (١). غير أنّ قوما من المسلمين كانوا يقولون : أسماء السور ومفاتحها (٢).

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال : (ألر) ، و (حم) ، و (ن) هو الرّحمن. يقول : إنّه يجعلها اسما من أسماء الله حروفا مقطّعة في سور شتّى ، فإذا جمعها صار اسما من أسماء الله ، وهو مبتدأ الاسم.

وكان الكلبيّ يقول : هي الأخر المتشابهات (٣).

قال : بلغنا أنّ رهطا من اليهود ، منهم كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، دخلوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه عن ((الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١] فقال حييّ : إنّه بلغني أنّك قرأت (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أناشدك الله ، أنّها أتتك من السماء؟ فقال رسول الله : نعم ، والله لكذلك نزلت. قال حيي : إن كنت صادقا أنّها أتتك من السماء إنّي لأعلم أكل (٤) هذه الأمّة. ثمّ نظر حيي إلى أصحابه فقال : كيف ندخل في دين رجل إنّما ينتهي أكل أمّته إلى إحدى وسبعين سنة. فقال له عمر : وما يدريك أنّها إحدى وسبعون سنة؟ فقال لهم حيي : أمّا الألف فهي في الحساب واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة : ٣.

(٢) كذا في ق وع ود : «مفاتحها». وفي ز : «فواتحها».

(٣) لعلّ هذا القول هو أقرب الأقوال إلى الحقّ والصواب. ويعجبني ما ذكره ابن أبي زمنين في مخطوطة مختصر تفسير ابن سلّام ورقة : ٤. قال : «وقد سمعت من أقتدي به من مشايخنا يقول : الإمساك عن تفسيرها أفضل».

(٤) الأكل ، بضمّ الهمزة وبضمّ الكاف أو إسكانها ، هو حظّ الإنسان من هذه الدنيا ورزقه فيها ، يقال للميّت : انقطع أكله. انظر اللسان : (أكل).

٨١

له حيي : هل غير هذا؟ فقال نعم. قال : ما هو؟ قال : (المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) [الأعراف : ١ ـ ٢]. فقال : هذا أكثر من الأوّل : هذا إحدى وثلاثون ومائة سنة ؛ نأخذه من حساب الجمّل (١). قال : هل غير هذا؟ قال : نعم. قال : ما هو؟ قال : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١) [هود : ١]. قال حيي : هذه أكثر من الأولى والثانية. فنحن نشهد لئن كنت صادقا ما ملك أمتك إلّا إحدى وثلاثون ومائتا سنة ، فاتّق الله ولا تقل إلا حقّا. فهل غير هذا؟ قال : نعم. قال : ما هو؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١) [الرعد : ١]. قال حيي : فأنا أشهد أنّا من الذين لا يؤمنون بهذا القول ، لأنّ هذه الآية أكثر؟ هذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. فلا أدري بأيّ قولك نأخذ ، وبأيّ ما أنزل عليك نتّبع. قال أبو ياسر : أمّا أنا فاشهد أنّ ما أنزل الله على أنبيائنا أنّه الحقّ ، وأنّهم قد بيّنوا على ملك هذه الأمّة ولم يوقّتوا كم يكون أكلهم حتّى كان محمّد ، فإن كان محمّد صادقا كما يقول ، إنّي لأراه سيجمع لأمّته هذا كلّه : إحدى وسبعين ، وإحدى وثلاثين ومائة ، وإحدى وثلاثين ومائتين ، وإحدى وسبعين ومائتين [فهذه] (٢) سبعمائة وأربع سنين. فقال القوم كلّهم : قد اشتبه علينا أمرك ،

__________________

(١) الجمّل ، بضمّ الجيم وتشديد الميم المفتوحة هو الحساب الخرافي المبني على الحروف المقطّعة أ ، ب ، ج ، د.

انظر اللسان : (جمل). وزعم ابن دريد أنّ الكلمة دخيلة ، وتبعه أبو منصور الجواليقي فقال : «أمّا الجمّل من الحساب فلا أحسبه عربيّا فصيحا ، وهو ما قطّع على حروف أبي جاد». انظر الجواليقي ، المعرّب ص ١٤٨.

وحساب الجمّل هذا من مناكير الإسرائيليّات التي يحرم اعتقاد صحّتها. ومن العجيب أن نرى اليوم بعض الدجّالين ممّن يدّعي العلم يحاول أن يتنبّأ ـ اعتمادا على هذه الحروف المقطّعة والأعداد الوهميّة ـ بنهاية هذه الأمّة ، أى : بقيام الساعة. وهذا كفر صراح ومصادمة وقحة لنصوص القرآن القطعيّة وللآيات البيّنات التي وردت في أمر قيام الساعة. وهذا مما استأثر الله بعلمه ، وأرشد رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يقول لمن يسأله عنها : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ ، إِلَّا بَغْتَةً ...) الآية [الأعراف : ١٨٧]. فكيف يزعم زاعم ، وإن أوتي من العلم ما أوتي ، أنّه يمكن لبشر أن يعرف أكل هذه الأمّة؟ سبحانك ربّي هذا بهتان عظيم!. المحقّق.

(٢) زيادة لا بد منها للإيضاح. وفي ع : «ومائتين وسبعمائة» ، وزيادة الواو هنا خطأ ، لأنّه لم يسبق لهذا العدد الأخير ذكر ، بل هو مجموع ما سبق من الأعداد. وقاتل الله اليهود ، فما أشدّ جحودهم وكفرهم وعنادهم! وهذا حديث واه لا قيمة له ، ضعّفه كلّ رجال الحديث. انظر مثلا : الطبري ج ١ ص ٢١٦ ، وابن كثير ج ١ ص ٦٨ ، والسيوطي ، الدر المنثور ج ١ ص ٢٣.

٨٢

فلا ندري بالقليل نأخذ أم بالكثير.

فذلك قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) [سورة آل عمران : ٧] هنّ ثلاث آيات من آخر سورة الأنعام ؛ أولاهنّ : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣)] (١) [الأنعام : ١٥١ ـ ١٥٣]. هذا في تفسير الكلبي.

وفي تفسير غيره من السلف ، فإنّه (٢) يجعل الأنعام مكّيّة كلّها. وكان هذا الأمر بالمدينة.

قال الكلبيّ : وأمّا المتشابه [ف] (٣) (ألمّ) و (ألّمص) و (ألر). قال الله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) لهؤلاء النفر من اليهود ، ممّا كانوا يحسبون من ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كم يكون أكل هذه الأمّة؟ ولا يعلم ما كتب الله لهذه الأمّة من الأكل ، أى : المدّة ، إلّا الله.

وغير الكلبي يفسّر المتشابهات على وجه آخر. وسنفسّر ذلك في سورة آل عمران إن شاء الله.

قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) : أى هذا الكتاب (لا رَيْبَ فِيهِ) : أى لا شكّ فيه.

(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) : يعني بيانا للمتّقين الذين يتّقون الشرك ؛ يهتدون به إلى الجنّة. وبلغنا عن ابن مسعود أنّه كان يقرأها : (لا شكّ فيه).

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) : أى : الذين يصدّقون بالبعث وبالحساب وبالجنّة وبالنار ، وكلّ هذا غيّب عنهم.

__________________

(١) لم تذكر المخطوطات الثلاث ق وع ود هذه الآية فزدتها حتّى تكمل بها الآيات المحكمات الثلاث.

(٢) كذا وردت هذه العبارة في ق وع ود ، وفيها ضعف واضطراب.

(٣) زيادة لا بدّ منها.

٨٣

قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) : يقول : ويقيمون الصلوات الخمس المفروضة عليهم ، يحافظون على وضوئها ومواقيتها ، وركوعها وسجودها على ما سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كلّ صلاة منها.

قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) : يعني الزّكاة المفروضة على ما سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) في الذهب والفضّة ، والإبل والبقر والغنم ، والبرّ والشعير ، والتمر والزبيب. وفي قول الحسن وغيره من أصحابنا (٢). وما سوى ذلك فليس فيه زكاة حتى يباع ، فتكون فيه زكاة الأموال ، يزكّيه مع ماله إذا زكّى إن كان له مال. وبعض أصحابنا يجعل الذّرة مع البرّ والشعير. وقد فسّرنا ذلك في أحاديث الزكاة (٣). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : السنّة سنّتان ، وما سوى ذلك فريضة : سنّة في فريضة ، الأخذ بها هدى وتركها ضلالة ، وسنّة في غير فريضة ، الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة (٤).

قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : أى والذين يصدّقون بما أنزل إليك من القرآن

__________________

(١) في مخطوطة ز : «يعني الزكاة المفروضة على سنّتها أيضا». وهذا التفصيل هو من زيادة الشيخ هود الهوّاري ولا شكّ.

(٢) إذا وردت كلمة «أصحابنا» من الشيخ الهوّاري فإنّما يقصد بها علماء الإباضيّة. وسيذكرهم بأسمائهم عند تفسير بعض آيات الأحكام خاصّة ؛ يذكر جابر بن زيد ، وأبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، ويزيد أحيانا : «والعامّة من فقهائنا».

(٣) في هذه العبارة إشارة واضحة إلى مؤلّف في فقه الحديث. ولنا أن نتساءل : هل هذه العبارة للشيخ هود الهوّاري ـ كما يدلّ عليه سياق الكلام ـ؟ أم أنّها لابن سلّام؟ قد لا يستطيع أحد أن يقدّم جوابا شافيا وبصفة جازمة ، ما لم يعثر على الربع الأوّل كاملا من تفسير ابن سلّام نفسه. أمّا القطع المصوّرة التي اطّلعت عليها من هذه السورة في دار الكتب المصريّة بالقاهرة فلم يرد فيها ذكر لهذا الكتاب. فإذا ثبت أنّ العبارة ليست لابن سلّام فمعنى ذلك أنّ للشيخ هود مؤلّفا في الحديث لم تشر إليه المصادر الإباضية التي بين أيدينا.

والراجح عندي أنّ الكتاب هو «الجامع» لابن سلّام ، الذي ذكره ابن الجزري في غاية النهاية ج ٢ ص ٣٧٣.

(٤) لم أجد هذا القول حديثا مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسيتكرّر وروده في هذا التفسير ، وأقرب ما وجدته من ذلك قول نسب إلى مكحول بلفظ : «السنّة سنّتان : سنّة أخذها هدى وتركها ضلالة ، وسنّة أخذها حسن وتركها لا بأس به». انظر السرخسي ، أصول السرخسي ج ١ ص ١٤٤ ، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني ط. دار الكتاب العربي بمصر ، ١٣٧٢ ، وانظر ابن سلّام ، التصاريف ، ص ٧٩.

٨٤

(وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) : أى من التوراة والإنجيل والزبور ؛ نؤمن بها ولا نعمل إلّا بما في القرآن. قال : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤) : أى أنّها كائنة. (أُولئِكَ) : أى الذين كانت هذه صفتهم (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) : أى على بيان من ربهم. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) : يعني هم السعداء ، وهم أهل الجنّة.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) : فهؤلاء الذين يلقون الله بكفرهم ، لأنّهم اختاروا العمى على الهدى (١). (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) : [يعني طبع ، فهم لا يفقهون الهدى](وَعَلى سَمْعِهِمْ) : فلا يسمعونه (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) : فلا يبصرونه (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧)] (٢) : بفعلهم الكفر الذي استحبّوه واختاروه على الإيمان ، فهؤلاء أهل الشرك.

ثمّ ذكر الله صنفا آخر من الناس ، يعني المنافقين فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨) : يقول : أقروا لله بألسنتهم وخالفت أعمالهم. وما هم بمؤمنين ، أى : حتّى يستكملوا دين الله ويوفوا بفرائضه ك (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧) [سورة النجم : ٣٧] أى الذي أكمل الإيمان وأكمل الفرائض.

قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) : أى بما أعطوهم من الإقرار والتصديق ، وأعطوا الحقوق من الزكاة ، يخادعون بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (٣) ؛ فجعل الله مخادعتهم رسوله والمؤمنين كمخادعة منهم لله. وهو كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠]. والإيمان بالنبيّ عليه‌السلام إيمان بالله ، والكفر به هو كفر بالله ، وكذلك مخادعة الله. قال : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) : أى : إنّ ذلك يرجع عليهم عذابه وثواب كفره. وتفسير خدعة الله إيّاهم في سورة الحديد (٤) (وَما يَشْعُرُونَ) (٩) : أى : أنّ ذلك يصير عليهم.

__________________

(١) كذا ورد تفسير هذه الآية في ق وع ود. أمّا في ز فجاء التفسير هكذا : «يعني الذين سبق لهم في علم الغيب أنّهم يلقون الله بكفرهم».

(٢) ما بين المعقوفين كلّه ساقط من ق وع ود ، وأثبته من ز. والعبارة «بفعلهم الكفر ...» إلى آخر الجملة غير واردة في ز.

(٣) في ز وردت زيادة بلفظ : «حتّى يكفّوا عن دمائهم وأموالهم وسبي ذراريهم».

(٤) يشير إلى قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ...) إلى آخر ـ

٨٥

ثمّ قال : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : يعني بذلك النفاق. يقول : في قلوبهم نفاق ، فنسب النفاق إلى القلب كما نسب الإثم إليه ، كقوله في الشهادة : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [سورة البقرة : ٢٨٣](فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) : أى الطبع على قلوبهم بكفرهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : يعني عذابا موجعا (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠) : مخفّفة ؛ أى : بقولهم : إنّا مؤمنون وليسوا بمؤمنين إذ لم يستكملوا فرائض الله ولم يوفوا بها ، فهذا تفسير من قرأها بالتخفيف. ومن قرأها بالتثقيل : بِما كانُوا يَكْذِبُونَ فهو يريد : بعض العمل أيضا تكذيب (١) يقول : إنّ التكذيب تكذيبان : تكذيب بالقول وتكذيب بالعمل. ومثله في اللغة أن يقول القائل للرجل إذا حمل على صاحبه فلم يحقّق في حملته : كذب الحملة ، وإذا حقّق قالوا : صدق الحملة. فمن قرأها بالتخفيف فهو يريد الكذب على معنى ما فسّرناه أوّلا.

وأخت هذه الآية ونظيرتها التي في براءة : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٧٧) [سورة التوبة : ٧٧]. يقول : أعقبهم ، بالخلف والكذب الذي كان منهم ، نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه. ومن قرأها بالتثقيل فهو بالمعنى الآخر الذي وصفناه آخرا ، ولا يعني به جحدا ولا إنكارا ، لأنّ مرض النفاق غير مرض الشرك ، وكذلك كفر النفاق غير كفر الشرك.

قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) : بالعمل بالمعصية (٢) (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (١١) : يزعمون أنّهم بمعصية الله والفساد في الأرض مصلحون. قال الله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (١٢) : أى : لا يشعرون أنّ الله يعذّبهم في

__________________

ـ الآيتين [الحديد : ١٣ ـ ١٤].

(١) جاء في د : «يريد : بعض العمل أيضا قول». وهو خطأ. وفي ق وع : «يريد بعض العمل أيضا يقول ...» وفيها نقص. والصحيح ما أثبته ؛ فإنّ ما بعده من تفصيل يؤكّده. وانظر ابن خالويه ، الحجّة ص ٤٤. وقد رجّح الطبريّ في تفسيره ج ١ ص ٢٨٤ القراءة بتخفيف الذال.

(٢) جاء في ز : «(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) يعني لا تشركوا. (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أى أظهروا الإيمان (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) أنّ الله يعذّبهم في الآخرة». وهذا تفسير ابن سلّام ولا شكّ. وما جاء من تغيير في التأويل أو من زيادة ممّا أثبتّه من د وق وع فهو للشيخ هود الهوّاري. وهذا نموذج من عمله في كامل الكتاب ؛ فما جاء في تفسير ابن سلّام موافقا لأصول الإباضيّة أثبته ، وما خالفها حذفه وأثبت مكانه ما وافق رأي الإباضيّة في مسألة الإيمان والكفر وفي مسائل أخرى من مسائل الخلاف.

٨٦

الآخرة ولا [ينفعهم] (١) إقرارهم وتوحيدهم. وهذا يدلّ على أنّ المنافقين ليسوا بمشركين.

قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) : يعني : وإذا قال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) أى : أكملوا إيمانكم بالفعل الذي ضيّعتموه (كَما آمَنَ النَّاسُ) أى : كما آمن المؤمنون المستكملون القول والعمل (قالُوا) : يقول بعضهم لبعض : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) : أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان ممّن آمن ووفّى ، يعيبونهم بالوفاء والكمال ، ولم يعلنوا ذلك للنبيّ عليه‌السلام. قال الله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) : أنهم سفهاء في تفسير الحسن. وفي تفسير السّدّيّ : ولا يعلمون أنّ الله يخبر نبيّه بقولهم.

قال تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) : يعني الكفّار في تفسير الحسن. وفي تفسير غيره من أصحابنا : إلى كبرائهم وقادتهم في الشرّ (٢). (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (١٤) : بمحمّد وأصحابه. وتفسير الاستهزاء في هذا الموضع : إنّما نحن مخادعون محمّدا وأصحابه. يقول الله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) : أى الله يخدعهم بمخادعتهم رسوله. وقال في سورة النساء : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢].

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يجاء بالمستهزئين يوم القيامة فيفتح لهم باب من الجنّة ، فيدعون ليدخلوها ، فيجيئون ليدخلوها ، فإذا بلغوا الباب أغلق دونهم فيرجعون. ثمّ يدعون ليدخلوها ، فإذا بلغوا الباب أغلق دونهم فيرجعون. ثمّ يدعون ، حتّى إنّهم ليدعون فما

__________________

(١) زيادة لا بد منها ليتمّ المعنى وتصحّ العبارة. وقد أورد القطب (اطفيّش محمّد) في تفسيره : هميان الزاد ، ج ١ ص ٢٦٩ وص ٢٧٣ قول الشيخ هود هذا وعلّق عليه.

(٢) ورد هذا القول الأخير في ز ، ورقة ٤ منسوبا إلى قتادة. وكذلك جاء في تفسير الطبري ، ج ١ ص ٢٩٢. وفي تفسير ابن كثير ج ١ ص ٩٠. فهل كان قتادة من أصحاب الهوّاريّ الذين يروي عنهم أحيانا؟ ثمّ من هم هؤلاء الأصحاب الذين فسّروا قبله القرآن تأليفا أو تدريسا فنقل عنهم آراءهم وأقوالهم؟ إنّنا لا نعلم للإباضيّة تفاسير كاملة لكتاب الله قبل الهوّاريّ إلّا تفسيرا نسب إلى الإمام عبد الرحمن بن رستم ، وآخر إلى الإمام عبد الوهّاب. وليس ببعيد أن يكون الهوّاريّ قد اطّلع عليهما. وليس بين أيدينا الآن ـ فبما بحثت وعلمت ـ شيء من تفسيريهما حتّى نتمكّن من المقارنة بين هذه التفاسير ونخرج بجواب شاف في الموضوع. أمّا أبو المنيب محمّد بن يانس ، المفسّر الذي ناظر المعتزلة ، فلم يؤثر عنه أنّه ترك أثرا مكتوبا في التفسير.

٨٧

يجيئون من الإياس (١).

وهذه الرواية عن الحسن تحقّق ما تأوّلنا عليه هذه الآية أنّ الاستهزاء في هذا الموضع هو الخداع ؛ يخدعهم الله في الآخرة كما خدعوا النبيّ عليه‌السلام والمؤمنين في الدنيا ؛ وهو قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ).

قوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥) قال بعضهم : في ضلالهم يلعبون. وقال بعضهم : في ضلالتهم يتمادون.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) : يعني اختاروا الضلالة على الهدى. وقال بعضهم : استحبّوا الضلالة على الهدى. قال الله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦).

ثمّ ضرب مثلهم فقال : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) : [قال الحسن : يعني مثلهم كمثل رجل يمشي في ليلة مظلمة في يده شعلة من نار ، فهو يبصر بها موضع قدميه ، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فلم يبصر كيف يمشي] (٢) ، وإنّ المنافق تكلّم بلا إله إلّا الله فأضاءت له في الدنيا ، فحقن بها دمه وماله وسباء (٣) ذرّيّته ، وناكح بها المسلمين وغازاهم ووارثهم بها ، وأخذ الحقوق ، فلمّا جاءه الموت ذهب ذلك النور ؛ لأنّه لم يحقّقه بعمله ولم يكمّل فرضه ، فطفئ نوره القليل الذي كان معه ، وهو التوحيد ، كما طفئت النار التي استوقدها صاحبها فأضاءت ما حوله ، فبقي في ظلمه حين طفئت النار.

ثمّ قال : (صُمٌّ) : يعني عن الهدى فلا يسمعونه (بُكْمٌ) : عنه فلا ينطقون به (عُمْيٌ) : عنه فلا يبصرونه. ثمّ قال : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) : أى إلى الإيمان ، يعني أنّهم لا يتوبون من نفاقهم.

ثمّ ضرب مثلا آخر فقال : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) : يقول هذا المثل أيضا : مثل المنافق.

__________________

(١) رواه يحيى بن سلّام عن المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلا.

(٢) زيادة من ز. ورقة : ٥.

(٣) كذا في د : «سباء». وفي ق وع : «سبي». وكلاهما مصدر صحيح.

٨٨

والصيّب : المطر. ذكروا عن النبيّ عليه‌السلام أنّه كان إذا استسقى قال : اللهمّ صيّبا هيّنا (١) ، وهو تفسير مجاهد : (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) : قال [بعضهم] : كان المنافقون إذا أصابوا في الإسلام رخاء وطمأنينة طابت أنفسهم في ذلك وسرّوا به في حال دنياهم ، وإذا أصابتهم فيه شدّة لم يصبروا عليها ولم يرجوا عاقبتها. فالظلمات هي الشدّة ، والرعد هو التخوّف إذا تخوّفوا أن تأتيهم شدّة.

والمطر فيه الرزق ، وتكون فيه الظلمة والرعد والبرق ، فضرب الله ذلك مثلا ، والبرق مثل نور الإسلام في تفسير الحسن. وقال ابن عبّاس : هو نور القرآن. وهو واحد. (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) : وهذا كراهيّة من المنافقين للجهاد لأنّهم لم تكن لهم حسبة (٢) في الشهادة والجهاد في سبيل الله.

قال الله : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (١٩) : يقول : والله محيط بالمنافقين ، وهو كفر دون كفر الشرك. يقول : هو من (٣) وراء المنافقين حتّى يخزيهم بنفاقهم وكفرهم.

قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) : أى مضوا فيه (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) : [أي بقوا لا يبصرون] (٤) ، يعني بذلك المنافقين. يقول : إنّ المنافقين إذا رأوا في الإسلام رخاء وطمأنينة طابت أنفسهم بذلك وسرّوا به في حال الدنيا ، وإذا أصابتهم شدّة قطع بهم عند ذلك فلم يصبروا على بلائها ، ولم يحتسبوا أجرها ، ولم يرجوا عاقبتها. قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) : حين أقرّوا ولم يوفّوا (٥). (إِنَّ اللهَ عَلى

__________________

(١) كذا ورد هذا الدعاء : «اللهمّ صيّبا هيّنا». أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء ، باب ما يقال إذا أمطرت ، عن عائشة بلفظ : «اللهم صيّبا نافعا». ولفظ ابن منظور في اللسان : «اللهمّ اسقنا غيثا صيّبا».

(٢) في د : «خشية» وهو تصحيف. وفي ق وع : «جلسة» ولا معنى لها. وصواب الكلمة ما أثبته : «حسبة» وهو احتساب الأجر على الله. يقال : فعلته حسبة ، أى : طلبا للأجر.

(٣) جاء في ق وع : «هو صرر» ، ولا معنى له. وفي د : «مروّ» هكذا ضبطت بضمّ الميم ، وفتح الراء ، وواو مشدّدة. وأنا في شكّ من الكلمة. وكأنّي بالناسخ تصرّف في ضبط الكلمة ، فذهب بمعناها إلى معنى التمهيل والإنظار ، كما في قوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧] ، ولكنّي لم أجد في معاجم اللغة «روّاه» بمعنى أمهله ؛ لذلك أثبتّ ما جاء في ز : «هو من وراء المنافقين» ، وهو الصحيح إن شاء الله ، يؤيّده قوله تعالى : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠]. وما فسّر القرآن مثل القرآن.

(٤) زيادة من ز ، ورقة : ٥.

(٥) كذا في ق وع ود. وفي ز : «حين أظهروا الإيمان وأسرّوا الشرك».

٨٩

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠).

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) : أى لا تشركوا به شيئا (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : أى وخلق الذين من قبلكم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١) : أى لكي تتّقوا.

قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) : فرشكموها ثم جعلكم عليها. وهو مثل قوله : (بِساطاً) [نوح : ١٩] و (مِهاداً) [طه : ٥٣ ، والزخرف : ١٠] قال : (وَالسَّماءَ بِناءً) : ذكروا عن الحسن أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما لأصحابه : ما تسمّون هذه؟ أو قال : هذا ، يعني السماء. قالوا : السماء. قال : هذا الرقيع ، موج مكفوف. غلظها مسيرة خمسمائة عام ، وبينها وبين السماء الثانية مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام. وبينها وبين السماء الثالثة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام. وبينها وبين السماء الرابعة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام. وبينها وبين السماء الخامسة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام. وبينها وبين السماء السادسة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام. وبينها وبين السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام. وبين السماء السابعة وبين العرش كما بين سماءين. وغلظ هذه الأرض مسيرة خمسمائة عام. وبينها وبين الثانية مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام. وبينها وبين الثالثة مسيرة خمسمائة عام. وبين الرابعة إلى الخامسة مثل ذلك. وبين الخامسة إلى السادسة مثل ذلك. وبين السادسة إلى السابعة مثل ذلك (١).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بينما كان] (٢) في مسير له في يوم شديد الحرّ ، إذ نزل منزلا ، فجعل رجل ينتعل ثوبه من شدّة الحرّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّي أراكم تجزعون من حرّ الشمس وبينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام ، فو الذي نفسي بيده لو أنّ بابا من أبواب جهنّم فتح بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى منه دماغه حتّى يسيل من منخريه (٣). قوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) : يعني أعدالا ، تعدلونهم بالله وتعبدونهم ، وهو الله لا شريك له. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢) : أنّه خلقكم وخلق السماوات والأرض وأنّه

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في كتاب التفسير ، تفسير سورة الحديد بتفصيل أكثر عن أبي هريرة.

(٢) بياض في الأصل ، أثبت فيه ما يقتضيه سياق الكلام.

(٣) لم أجده بهذا اللفظ فيما بين يديّ من المصادر ، وقد ورد في معناه أحاديث مختلفة في شدّة حرّ نار جهنّم ـ أعاذنا الله وإيّاك منها ـ تجدها في كتب الحديث.

٩٠

رازقكم ؛ كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] ، وكقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٩) [الزخرف : ٩]. وقال في آية أخرى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٦٣) [سورة العنكبوت : ٦٣](وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [العنكبوت : ٦١].

قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) : أى في شكّ (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) : على نبيّنا محمّد (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) : أى : من مثل هذا القرآن (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) : فيشهدوا أنّه مثله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) : بأنّ هذا القرآن ليس من كلام الوحي (١) ، وذلك أنّ اليهود قالت : إنّ هذا ليس من كلام الوحي.

قال : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) : أى : فإن لم تستطيعوا (وَلَنْ تَفْعَلُوا) : أى ولن تقدروا على ذلك ولا تفعلونه ، أى : ولا تستطيعونه. وهذا الحرف يثبت أنّ الاستطاعة مع الفعل ، كقول الحواريّين : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) [المائدة : ١١٢] أى : هل يفعل ربّك. ثمّ قال : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) : من كافر مشرك ، أو كافر منافق. وهو كفر فوق كفر ، وكفر دون كفر. والحجارة من كبريت يفور دخانه ونتنه ، فلا يزالون في نتن وغمّ.

قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : ذكروا عن أنس بن مالك خادم رسول الله قال : أنهار الجنّة تجري في غير أخدود : الماء واللبن والعسل والخمر ، وهو أبيض كلّه ؛ فطينة النهر مسك أذفر ، ورضراضه الدرّ والياقوت ، وحافاته قباب اللؤلؤ.

قوله : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) : أى في الدنيا ، يعرفونه بأسمائه. وقال بعضهم : كلّما أتوا منه بشىء فأكلوه ، ثمّ أتوا بعد بغيره ، قالوا : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، أى : يشبّهونه به في طعمه ولونه ورائحته. قوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) : قالوا : خيارا كلّه ، لا رذل فيه. وقال الكلبيّ : متشابها في المنظر مختلفا في المطعم.

__________________

(١) كذا في ق وع ود : «من كلام الوحي» ، وفي ز : «من كلام الله».

٩١

قوله : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) : ذكر الحسن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال في نساء أهل الجنّة : يدخلنها عربا أترابا لا يحضن ولا يلدن ولا يمتخطن ولا يقضين حاجة فيها قذر (١). وقال بعضهم : مطهّرة من الإثم والأذى ، قال : ومن مساوئ الأخلاق. (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥) : لا يموتون ولا يخرجون منها.

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) : وما هاهنا كلمة عربيّة ليس لها معنى ؛ زيادة في الكلام. وهو في كلام العرب سواء : بعوضة فما فوقها وما بعوضة فما فوقها (٢). وذلك أنّ الله لّما ذكر في كتابه العنكبوت والنملة والذباب قال المشركون : ماذا أراد الله بذكر هذا في كتابه ، وليس يقرّون أنّ الله أنزله ، ولكن يقولون للنبيّ عليه‌السلام : إن كنت صادقا فما ذا أراد الله بهذا مثلا؟ فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) قال الله (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢٦) : أى : إلّا المشركين. وهذا فسق الشرك ، وهو فسق فوق فسق ، وفسق دون فسق. والمعاصي كلّها فسق.

ثمّ قال : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) : وهو الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم. وتفسيره في سورة الأعراف (٣).

قال : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : قال ابن عبّاس : ما أمر الله به من الإيمان

__________________

(١) قيل : إنّه لم يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وصف نساء الجنّة إلّا حديث واحد مرفوع أخرجه الحاكم وابن مردوية وصحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) قال : من الحيض والغائط والنخامة والبزاق. وسائر ما ورد في صفة نساء أهل الجنّة هو من ألفاظ الصحابة أو التابعين. قال ابن عبّاس : مطهّرة من القذر والأذى. وقال قتادة : مطهّرة من الأذى والمأثم.

(٢) ذكر المؤلف وجها واحدا من وجوه إعراب «ما» ، وهي أنّها زائدة ، أو «صلة» أو «تطوّل» كما هو في اصطلاح النحاة القدامى. انظر وجهين آخرين من وجوه إعراب «ما» في معاني الفراء ج ١ ص ٢١ ـ ٢٣ ، وفي تفسير الطبري ، ج ١ ص ٤٠٤ ـ ٤٠٦.

(٣) يشير إلى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢].

٩٢

بالأنبياء كلّهم ، لا نفرّق بين أحد منهم. وقال بعضهم : ما أمر الله به من صلة القرابة.

قال : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) : والفساد فيها العمل بمعاصي الله ، وأعظم المعاصي الشرك. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٧) : أى : خسروا أنفسهم أن يغنموها فيصيروا في الجنّة فصاروا في النار ، وخسروا أنفسهم من الحور العين. وتفسيره في سورة الزمر (١).

ثمّ قال : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) : يعني كنتم أمواتا في أصلاب (٢) آبائكم ، نطفا في تفسير بعضهم ، وفي تفسير الكلبيّ : نطفا وعلقا ومضغا وعظاما ، ثمّ أحياهم فأخرجهم إلى الدنيا ، ثمّ أماتهم ، ثمّ يحييهم يوم القيامة. وهو قوله : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١]. وعلى هذا أمر العامّة. فأمّا خواصّ من الناس فقد أميتوا عقوبة ؛ صعق بهم ، ثمّ بعثوا حتّى استوفوا بقيّة آجالهم ، وليس ببعث النشور. منهم السبعون الذين كانوا مع موسى ، وتفسيره في سورة الأعراف ، وعزير ، و (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة : ٢٤٣] وتفسير ذلك في غير هذا الموضع بعد هذا. وقد أحيى الله أقواما عبرة للناس وليس بحياة النشور ؛ منهم أصحاب الكهف ، وصاحب بقرة بني إسرائيل ، ومن كان يحيي عيسى عليه‌السلام بإذن الله ، ثمّ أماتهم الله مكانهم ، فلم يعيشوا ولم يأكلوا ولم يشربوا.

قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) : أى سخّر لكم (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩) : في تفسير بعض أهل العلم أنّ الله خلق السماوات قبل الأرض ، ثمّ خلق الأرض ثمّ استوى إلى السماء. وفي تفسير الحسن أنّه كان بدء خلق الله الأرض قبل أن يبسطها ؛ كانت في موضع واحد ، موضع بيت المقدس ، ثمّ خلق السماوات ، ثمّ بسط الأرض فقال لها : انبسطي أنت كذا ، وانبسطي أنت كذا.

ذكروا عن عطاء أنّه قال : بلغني أنّ الأرض دحيت دحيا (٣) من تحت الكعبة. وقال بعضهم :

__________________

(١) يريد قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الزمر : ١٥].

(٢) كذا في ق : «أصلاب» ، وفي ع ود : «أصلبة» ، وكلاهما صحيح.

(٣) كذا ورد هذا المصدر «دحيا» في المخطوطات الثلاث ق ، ع ، ود. وأفصح منه «دحوا» كما ورد في اللسان ، وفي مفردات الراغب الأصبهاني ، وفي أساس البلاغة للزمخشري : دحا. وزاد صاحب اللسان : «دحيت ـ

٩٣

من مكّة دحيت الأرض. ذكروا عن مجاهد قال : كان البيت قبل الأرض بألفي عام ، ومدّت الأرض من تحته.

ذكروا عن ابن عبّاس في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩].

وعن قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣٠) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٠] قال : إنّه خلق الأرض ثمّ خلق السماوات ، ثمّ عاد فدحا الأرض وخلق فيها جبالها وأنهارها وأشجارها ومرعاها ، ثمّ استوى إلى السماء. وقوله هنا : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) صلة : يقول : خلق الأرض ثمّ خلق السماء.

وذكروا عن الحسن أنّه قال : لّما خلق الله الأرض جعلت تميد (١) فلمّا رأت ذلك ملائكة الله قالوا : ربّنا هذه الأرض لا يقرّ لك على ظهرها خلق ؛ فأصبح وقد وتدها (٢) بالجبال. فلمّا رأت ملائكة الله ما أرسيت به الأرض قالوا : ربّنا هل خلقت خلقا أشدّ من الجبال؟ قال : نعم ، الحديد. قالوا : ربّنا هل خلقت خلقا أشدّ من الحديد؟ قال : نعم ، النار.

قالوا : ربّنا هل خلقت خلقا هو أشدّ من النار؟ قال : نعم ، الماء. قالوا : ربّنا هل خلقت خلقا أشدّ من الماء؟ قال : نعم ، الريح. قالوا : ربّنا هل خلقت خلقا هو أشدّ من الريح؟ قال : نعم ، ابن آدم.

قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) : في تفسير الحسن أنّ الله أخبر الملائكة أنّه جاعل في الأرض خليفة ، وأنّ من ولده من يسفك الدماء فيها ، فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ

__________________

ـ الشيء أدحاه دحيا لغة في دحوته».

(١) في المخطوطات الثلاث ق وع ود : «تميع» وهو خطأ صوابه ما أثبته : «تميد» بمعنى تتحرّك وتضطرب. وبهذا اللفظ ورد في القرآن في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [الأنبياء : ٣١].

(٢) كذا في د : «وتدها» ، وفي ق وع : «ربطها». واللفظ الأوّل أفصح ؛ لأنّ القرآن ورد به في قوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ : ٧]. والفعل منه : وتدته أنا أتده وتدا وتدة ، بمعنى أثبتّه. انظر اللسان : (وتد).

٩٤

الدِّماءَ) (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) : [أي : نصلّي لك في تفسير بعضهم] (١) (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠).

وفي تفسير بعض أهل العلم أنّ الملائكة قد علمت من علم الله أنّه ليس شيء أكره إليه من سفك الدماء والفساد في الأرض والمعاصي ، (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠) قال : علم الله أنّه سيكون من تلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون يسكنون الجنّة. وقال مجاهد : علم من إبليس المعصية وخلقه لها.

وفي تفسير الكلبي (٢) قال : خلق الله كلّ شيء قبل آدم عليه‌السلام ؛ فجعل الملائكة هم عمّار

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة : ٦.

(٢) سنرى في هذا التفسير كثيرا من الأخبار التي تنعت بالإسرائيليّات. وأغلبها مرويّ عن الكلبيّ. والموقف الحازم الذي يجب علينا أن نتبنّاه إزاء هذه الأخبار هو الذي أرشدنا إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما رواه البخاري في صحيحه من كتاب التفسير ، باب : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ...) الآية [البقرة : ١٣٦] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرأون الكتاب بالعبرانيّة ويفسّرونها بالعربيّة لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم و (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ...) الآية. وفيما رواه أيضا في كتاب بدء الخلق في أبواب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل ، عن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بلّغوا عنّي ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار.

فما كان موافقا للقرآن والسنّة الصحيحة قبلناه ، وما خالفهما رفضناه ولا كرامة ، وما عدا ذلك من التفاصيل التي قد تكون وردت في التوراة ، والتي يرويها أمثال عبد الله بن سلّام وكعب الأحبار ، جاز لنا التحدّث بها ، إن كانت للموعظة والذكرى ، بدون تصديق أو تكذيب ، وإلّا فالأسلم الإعراض عنها والاشتغال بما هو أهمّ منها من أحكام شريعتنا وما يفيدنا دنيا وأخرى من الكتاب والسنّة.

والمراجع في موضوع الإسرائيليّات كثيرة. انظر مثلا تفسير ابن كثير ج ١ ص ٨ ، وابن حجر ، فتح الباري ج ٦ ص ٤٩٨ ـ ٤٩٩ ، وانظر ابن تيمية ، مقدّمة في أصول التفسير ، تحقيق الدكتور عدنان زرزور ، نشر دار القرآن الكريم بالكويت ، ١٣٩١ ه‍ / ١٩٧١ م ، ومحمّد حسين الذهبي ، التفسير والمفسّرون ج ٢ ص ١٦٥ ، نشر دار الكتب الحديثة ـ القاهرة ، ١٣٨١ ه‍ / ١٩٦١ م. واقرأ فصلا مهمّا حول الإسرائيليّات عند ابن سلّام للدكتور إسماعيل جراح أو غلو في كتابه : يحيى بن سلّام ومنهج تفسيره ، نشر كلّيّة الإلهيّات ، جامعة أنقرة ، ١٩٧٠ ، ص ١٤٠ ـ ١٥٤. المحقّق.

٩٥

السماوات ، وفي كلّ سماء ملائكة ، ولكلّ أهل سماء دعاء وتسبيح وصلاة ، وكلّ أهل سماء فوق سماء أشدّ عبادة وأكثر دعاء وتسبيحا وصلاة من الذين تحتهم ، فكان إبليس في جند من الملائكة في السماء الدنيا. وفي تفسير بعضهم : كان إبليس مع الخزانة في السماء الدنيا : قال : وكانوا أهون أهل السماوات عملا. وكان الجنّ بنو الجانّ الذي خلقه الله من مارج من نار عمّار الأرض ؛ وهو عند الحسن إبليس.

وقال الكلبيّ : فلمّا وقع بينهم التحاسد والفتن اقتتلوا. فبعث الله جندا من السماء الدنيا فيهم إبليس ، وهو رأسهم ، فأمروا أن يهبطوا إلى الأرض فيجلوا منها الجنّ بني الجانّ ، فهبطوا فأجلوهم عن وجه الأرض ، فألحقوهم بجزائر البحور ، وسكن إبليس والجند الذين كانوا معه الأرض ، فهان عليهم العمل فيها ، وأحبّوا المكث فيها. ثمّ أحبّ الله تبارك وتعالى أن يخلق آدم عليه‌السلام وذرّيتّه ، فيكونوا هم عمّار الأرض ، فقال للملائكة الذين كانوا في الأرض ، يعني إبليس وأصحابه : إنّي جاعل في الأرض خليفة ورافعكم منها. فوجدوا من ذلك وقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجنّ ، ويسفك الدماء كما سفكوا ، ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟ قال : إنّي أعلم ما لا تعلمون. وقد علم أنّه سيكون من بني آدم من يسبّح بحمده ويقدّس له ويطيع أمره. فخلق آدم وصوّره جسدا ينظرون إليه ويعجبون منه ، ولم يكونوا رأوا فيما خلق الله شيئا يشبهه.

ذكروا أنّ إبليس جعل يطوف بآدم قبل أن ينفخ فيه الروح ، فلما رآه أجوف عرف أنّه لا يتمالك. ذكر بعضهم أنّه جعل يطوف به ويقول : إن كنت أجوف فلي إليك سبيل ، وإن لم تكن أجوف فما لي إليك سبيل.

ذكر بعضهم قال : أوّل ما خلق الله في الأرض طير وحوت ؛ فجعل الطير يخبر الحوت خبر السماء ، وجعل الحوت يخبر الطير خبر الأرض. فلمّا خلق الله آدم جاء الطير إلى الحوت فقال : لقد خلق الله اليوم خلقا كذا وكذا. فقال الحوت للطير : فإن كنت صادقا ليستنزلنّك من السّماء وليستخرجنّي من الماء. قال الكلبي : فأشفق إبليس عدوّ الله منه وقال : إنّي لأرى صورة مخلوق سيكون له نبأ. فقال لأصحابه : أرأيتم هذا الذي لم تروا على خلقه شيئا من الخلق إن فضّل عليكم ما تفعلون؟ قالوا : نطيع ربّنا ونفعل ما يأمرنا به. قال إبليس في نفسه : إن فضّل عليّ لا أطيعه ، وإن فضّلت عليه لأهلكنّه. فلمّا نفخ الله الروح في آدم جلس فعطس فقال : الحمد لله ربّ العالمين.

٩٦

فكان أوّل شيء تكلّم به. فردّ الله عليه عند ذلك : يرحمك الله ، لهذا خلقتك ؛ لكي تسبّح باسمي وتقدّس لي. ذكر بعضهم قال : لّما نفخ في آدم الروح فعطس فحمد ربّه قال الله له : يرحمك ربّك ، فكانت هي الرحمة التي سبقت لآدم عليه‌السلام.

قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢١) : [قال مجاهد] (١) : خلق الله آدم آخر ساعة النّهار ، من يوم الجمعة ، من بعد ما خلق الخلق كلّهم. قال الكلبيّ : ثمّ علّمه الأسماء كلّها ، أسماء الخلق. ثمّ إنّ الله حشر عليه الدوابّ كلّها والسّباع والطيور وما ذرأ في الأرض ثمّ قال للملائكة : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢١). قال بعضهم : إن كنتم صادقين أنّي أجعل فيها من يفسد فيها ؛ أى : إنّ منهم من يعمل بطاعتي. علّمه أسماء هم باللغة السريانيّة سرّا من الملائكة.

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٣٢) ثمّ (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) : فقال آدم : هذا كذا وهذا كذا ، فسمّى كلّ نوع باسمه : هذا هكذا ، وهذا هكذا. قال بعضهم : سمّى كلّ شىء باسمه وألجأه إلى جنسه.

قال : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) : آدم (بِأَسْمائِهِمْ قالَ) : الله للملائكة (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣) : أمّا الذي أبدوا فحين قال إبليس لأصحابه : أرأيتم إن فضّل عليكم ما أنتم فاعلون؟ قالوا : نطيع أمر ربّنا ، فهذا الذي أبدوا ، وأمّا الذي كتموا فالذي أسرّ إبليس في خاصّة نفسه من المعصية.

وتفسير الحسن وغيره في هذا الحرف : (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣) : أنّهم لّما قال الله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالوا فيما بينهم : ما الله بخالق خلقا أكرم عليه منّا ولا أعلم منّا ، فهو الذي كتموا. قال : فابتلوا بخلق آدم. وكلّ شىء مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض فقال : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصّلت : ١١].

قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣٤) : يعني أنّ الطاعة كانت لله ، والسجدة كانت لآدم. [قال بعضهم] (٢) : أكرم

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٧.

(٢) زيادة لا بدّ منها. والقول لقتادة كما في ز ، ورقة ٧.

٩٧

الله آدم بأن أسجد له ملائكته فسجدوا إلّا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.

تفسير الحسن أنّه لم يكن كافر قبله ، كما أنّ آدم كان من الإنس ولم يكن إنسيّ قبله. وقال بعضهم : خلق الله الخلق شقيّا وسعيدا : فكان إبليس ممّن خلق الله شقيّا ، فلمّا أمر بالسجود له أبى واستكبر وكان من الكافرين ، أى : كان ممّن خلقه الله شقيّا بفعله الذي شقي به إذ ترك السجود لآدم.

وقال بعضهم : تفسير «كان» في هذا الموضع صار ؛ يقول : أبى إبليس واستكبر وصار بإبائه السجود واستكباره كافرا. وهذا أولى كلّ تأويل تأوّلوه بالحقّ.

وتفسير آدم أنّ الله خلقه من أديم الأرض (١). وتفسير المرأة أنّها خلقت من المر (٢).

ذكر عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خلق الله آدم من طينة من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ؛ منهم الأبيض والأحمر والأسود ، والسهل والحزن ، والحسن والقبيح (٣) ، والخبيث والطيّب (٤). ذكروا عن ابن عبّاس قال : خلق الله آدم من طينة بيضاء وحمراء وسوداء.

قوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) : أى لا حساب عليكما فيه. (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣٥) : لأنفسكما

__________________

(١) هذا وجه من وجوه اشتقاق اسم آدم. وهنالك وجه آخر مال إليه كثير من المحقّقين اللغويّين ، وهو أنّ اسم آدم جاء على وزن «أفعل» وهو من صيغ الألوان. والأدمة لون معروف ، وهذا ما ذهب إليه أبو بكر محمّد بن الحسن بن دريد في كتابه الاشتقاق ص ٧١. قال : «واشتقاق (آدم) من شيئين : إمّا من قولهم : رجل آدم بيّن الأدمة ، وهي سمرة كدرة. أو تكون من قولهم : ظبي آدم وجمل آدم. والآدم من الظباء الطويل القوائم والعنق ، الناصع بياض البطن ، المسكي الظهر. وهي ظباء السفوح». وانظر اللسان (أدم) ، ففيه خلاصة هذه الآراء ، ثمّ انظر ابن فارس : مجمل اللغة ج ١ ص ١٧٥.

(٢) كذا وردت الكلمة : «المر» في ع وفي د. ولم أهتد لمعنى الكلمة ، ولا لأصل كلمة المرأة فيما بين يديّ من معاجم اللغة إلّا ما ذكر من أنّ المرأة مؤنث المرء ، انظر اللسان : (مرأ.)

(٣) كذا في د : «الحسن والقبيح» ، وفي ع : «الجميل والقبيح».

(٤) حديث حسن صحيح ، أخرجه أحمد وأبو داود ، والحاكم والبيهقيّ. وأخرجه الترمذىّ في أبواب التفسير ، وهو أوّل حديث فيما جاء في تفسير سورة البقرة.

٩٨

بخطيئتكما. وقال في آية أخرى : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١٢٠) [طه : ١٢٠].

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : الشّجرة التي نهى عنها آدم وحواء هي السنبلة. وقال بعضهم : هي التينة.

قوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) : قال بعضهم : بلغنا أنّ إبليس دخل في الحيّة فكلّمهما منها. وكانت أحسن الدوابّ فمسخها الله ، وردّ قوائمها في جوفها وأمشاها على بطنها.

وقال الكلبيّ : دعا حوّاء من باب الجنّة فناداها ، فدعاها إلى أكل الشجرة ، وقال : أيّكما أكل منها قبل صاحبه كان هو المسلّط على صاحبه.

وتفسير الحسن أنّه وسوس إليهما من الأرض. قال : ولم يكن له أن يلبث فيها بعد قول الله : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) (٣٤) [الحجر : ٣٤].

قال الكلبيّ : فابتدرا الشجرة ، فسبقته حوّاء ، وأعجبهما حسن الشجرة وثمرتها ، فأكلت منها وأطعمت آدم. فلمّا أكلا منها بدت لهما سوءاتهما. وكانا كسيا الظفر ، فبدت سوءاتهما وأبصر كلّ واحد منهما ما كان ووري عنه من سوأته فاستحييا (١) ، (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٢] يرقّعانه كهيئة الثوب ليواريا سواءتهما. ثمّ (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢) [الأعراف : ٢٢] أى : بيّن العداوة. فاعتلّ آدم بحوّاء ، وقال : هي أطعمتني فأكلته.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لولا بنو إسرائيل ما خنز لحم وما أنتن طعام ، ولو لا حوّاء لم تخن أنثى زوجها (٢).

__________________

(١) كذا في د : «استحييا» ، وفي ق وع : «استحيا» وكلاهما صحيح ففي اللسان : «يقولون استحيا» منك واستحياك ، واستحى منك واستحاك). وفي صحاح الجوهري : «قال أبو الحسن الأخفش : استحى بياء واحدة لغة تميم ، وبياءين لغة أهل الحجاز ، وهو الأصل».

(٢) حديث متّفق على صحّته ؛ أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب قول الله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وأخرجه مسلم في كتاب الرضاع ، باب : لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر (رقم ١٤٧٠). كلاهما يرويه عن أبي هريرة.

٩٩

ذكر بعضهم أنّ حوّاء هي التي كانت دلّت الشيطان على ما كان نهي عنه آدم في الجنّة.

ذكر الحسن عن النبيّ عليه‌السلام أنّ آدم كان رجلا طويلا كأنّه نخلة سحوق ، جعد الشعر. فلمّا وقع بما وقع بدت له عورته ، وكان لا يراها قبل ذلك ، فانطلق هاربا ، فأخذت شجرة من الجنّة برأسه ، فقال لها : أرسليني. فقالت : لست بمرسلتك. فناداه ربّه : يا آدم ، أمنّي تفرّ؟ فقال : ربّ إنّي استحييتك (١).

قوله : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) : يعني آدم معه حوّاء وإبليس ، والحيّة التي دخل فيها إبليس لا تقدر على ابن آدم في موضع إلّا لدغته (٢) ، ولا يقدر عليها في موضع إلّا شدخها. وقال في آية أخرى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف : ٥٠] قال بعضهم : من قتل حيّة فقد قتل كافرا.

قوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦) : المستقرّ من يوم يولد إلى يوم يموت. وهو مثل قوله : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ) [الأعراف : ٢٥] ويعني بالمتاع معايشهم في الدنيا ، يستمتعون بها. وقوله : (إِلى حِينٍ) ، يعني الموت.

قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) : وعلى حوّاء. ذكروا عن ابن عبّاس قال : هو قولهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣) [الأعراف : ٢٣]. وبعضهم يقول : قال آدم : يا ربّ أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال : أرجعك إلى الجنّة.

قوله : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) : قد فسّرناه في الآية الأولى. قال : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) : والهدى في هذا الموضع هو الرسل (٣) وهو حجّة الله عليهم في الآخرة حيث يقول : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي)

__________________

(١) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره ج ١٢ ص ٣٥٢ عن أبيّ بن كعب مرفوعا. وروى هذا الخبر ابن كثير في تفسيره ج ٣ ص ١٥٣ ـ ١٥٤ موقوفا وقال : «وقد رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق ، عن الحسن عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرفوعا ، والموقوف أصحّ إسنادا».

(٢) في ق وع ود : «إلّا قتلته» ، والصواب ما أثبتّه من ز : «لدغته».

(٣) قال يحيى بن سلّام في كتابه التصاريف ص ١٠٠ : «هدى ، يعني رسلا وكتبا ، وذلك قوله في البقرة : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) ، يعني رسلا وكتبا (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) يعني فمن تبع رسلي وكتبي».

١٠٠