تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٢

وقال بعضهم : يعذرون (١) ، وهو ما قال الأنصاريّ : إن اليهوديّ سرقها. (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (١٠٨).

ثمّ أقبل على قوم الأنصاريّ فقال : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٠٩) : أى حافظا لأعمالهم في تفسير الحسن. قال الحسن : ثمّ استتابه الله فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١١٠).

قال : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١١١)

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) : يعني اليهوديّ أنّه منها بريء (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) : والبهتان الكذب (وَإِثْماً مُبِيناً) (١١٢) : أى بيّنا.

قال الحسن : ثمّ أقبل على النبيّ وقال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) : فيما أرادوا من النبيّ أن يعذر صاحبهم (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣).

ثمّ قال : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١١٤) : قال الحسن : فلمّا أنزل الله في الأنصاريّ ما نزل [استحيى أن يقيم بين المسلمين] (٢) فلحق بالمشركين فأنزل الله :

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) : والشقاق في تفسير بعضهم الفراق (٣). وقال بعضهم : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أى : ومن يخالف الرسول (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) : أى غير دين المؤمنين (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥).

قال الحسن : ثمّ استتابه الله فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ

__________________

(١) كذا في ع ود : «يعذرون» ، ولم أر للكلمة هنا وجها. على أنّ معنى التبييت إنّما هو تدبير أمر بليل.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٧٣.

(٣) كذا في ع : «الفراق» ، وفي ز : «ومن يفارق» ، وفي د : «النّفاق» ولكلّ وجه ، والأوّل أنسب.

٣٨١

ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١١٦). فلمّا نزلت هذه الآية رجع إلى المسلمين. ثمّ إنّه نقب على بيت من المسلمين بيتا ، فأدرك وقد وقع عليه الحائط فقتله.

وقوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) والمعروف القرض (١).

وأمّا قوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أى من آلهة الباطل.

قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) فبلغنا أنّها لّما نزلت قال إبليس وجنوده : ذهب عملنا باطلا ؛ إذا فتنّاهم استغفروا فغفر لهم. فقال إبليس : لأحملنّهم على أمر يدينون به فيقتل بعضهم بعضا.

قال الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الشيطان قد يئس أن يعبده المصلّون ، ولكن في التحريش بينهم وما يحقرون من أعمالهم قد رضي (٢).

قوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) : قال الحسن : إلّا أمواتا. غير أنّ بعضهم روى عنه أنّه قال : شيئا ميّتا لا روح فيه. قال بعضهم : هو مثل قوله : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢٠ ـ ٢١] يعني أصنامهم (٣). (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (١١٧) : قال بعضهم : مرد على المعصية. وقال الحسن : أى أنّ تلك الأوثان التي عبدوها من دون الله لم تدعهم إلى عبادتها وإنّما دعاهم إلى عبادتها الشيطان.

قوله : (لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ) : إبليس (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨)

__________________

(١) هذا وجه من وجوه معاني المعروف اختاره المؤلّف ابن سلّام هنا. وقد جعله في كتابه التصاريف ، ص ٢٠٤ أوّل وجه من وجوه الكلمة الخمسة. وبه فسّر المعروف في هذه الآية : ١١٤ ، وفي الآية : ٦ من أوائل هذه السورة. والحقّ أنّ كلمة المعروف أعمّ من ذلك معنى وأكثر شمولا ؛ فهي تتناول كلّ أنواع البرّ كما ذهب إليه كثير من المحقّقين ، فكيف يقصر معناها على القرض؟!.

(٢) من خطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجّة الوداع. وقد وردت في كتب السنن والتاريخ. انظر مثلا : سيرة ابن هشام ، ج ٤ ص ٦٠٤ ، ومغازي الواقدي ، ج ٣ ص ١١٣ ، وتاريخ الطبري ، ج ٣ ص ١٥٠. وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب تحريش الشيطان ... (رقم ٢٨١٢) عن جابر.

(٣) جاء في ز ، ورقة ٧٣ ما يلي : «قال محمّد : وقيل المعنى : إلّا ما سمّوه بأسماء الإناث ، مثل : اللات والعزّى ومناة».

٣٨٢

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) : أى لأغوينّهم ؛ كقوله : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٦٢) [الإسراء : ٦٢] أى لأستولينّ عليهم ، أى لأضلّنّهم إلّا قليلا. وذلك ظنّ منه ، وكان الأمر على ما ظنّ. وهو كقوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٠) [سبأ : ٢٠].

ذكر الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول الله لآدم : قم فابعث بعث أهل النار. قال : يا ربّ وما بعث أهل النار؟ قال : من كلّ ألف تسعمائة وتسع وتسعون (١).

قوله : (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) : أى : بأنّه لا عذاب عليهم (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) : وهي البحيرة ؛ كانوا يقطعون أطراف آذانها ويحرّمونها على أنفسهم. (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) : قال مجاهد : دين الله (٢) ، أى يأمرهم بالشرك. وقال ابن عبّاس : هو الإخصاء. وقال الحسن : هو ما تشم النساء في أيديها ووجوهها من هذا الوشم. كان نساء أهل الجاهليّة يفعلن ذلك.

قال الله : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) (١١٩) : أى بيّنا. (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) (١٢١) : أى ملجأ.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) : أى لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا (وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢) : أى لا أحد.

قوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣).

__________________

(١) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب قصّة ياجوج وماجوج. وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب قوله : يقول الله لآدم أخرج بعث النار (٢٢٢) كلاهما يرويه عن أبي سعيد الخدري.

(٢) الذين أوّلوا تغيير خلق الله بتغيير دين الله اعتمدوا قوله تعالى من سورة الروم : ٢٠ : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ). وهو ما ذهب إليه مجاهد والضحّاك بن مزاحم وغيرهم ، ورجّحه الطبريّ في تفسيره ، ج ٩ ص ٢٢٢.

٣٨٣

قال الحسن : قالت اليهود للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ، ونبيّنا قبل نبيّكم ، ونحن أهدى منكم. وقال المؤمنون : كذبتم ؛ إنّا صدّقنا بكتابكم ونبيّكم وكذّبتم بكتابنا ونبيّنا ، وكتابنا القاضي على ما قبله من الكتب ؛ فأنزل الله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣).

ذكروا أنّ أبا بكر الصدّيق قال : يا رسول الله ، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال له النبيّ عليه‌السلام : أى آية يا أبا بكر؟ قال : يقول الله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قال : يغفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض ، ألست تحزن ، ألست تصيبك اللأواء؟ قال : بلى ، قال : فهو ما تجزون به (١). قال مجاهد : هذا في مشركي قريش : قالوا : لن نبعث ولن نعذّب.

ذكروا عن أميّة أنّها سألت عائشة عن قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] ، وعن قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فقالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا عائشة هذه متابعة الله على العبد بما يصيبه من الحمّى والحزن والشوكة حتّى البضاعة يضعها في كمّه فيفقدها فيفزع لها فيجدها في ضبنه ، حتّى إنّ المؤمن ليخرج من خطاياه كما يخرج التبر الأحمر من الكير (٢).

قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (١٢٤) : وهي النقرة التي في ظهر النواة. ذكر بعضهم قال : ثلاثة في النواة : الفتيل والنقير والقطمير. أمّا الفتيل فهو الذي يكون في بطن النواة ، والنقير الذي يكون في ظهر النواة ، والقطمير الذي يكون على النواة والمعروف بقمع العنبة (٣).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن ابن أبي زهير الثقفيّ. وأخرجه أبو بكر المروزيّ في مسند أبي بكر الصدّيق عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفيّ عن أبي بكر بسند ضعيف وإن كان الحديث صحيحا (الحديث رقم ١١٢). واللأواء : الشدّة والمحنة وضيق المعيشة. انظر اللسان : (لِأَيِّ). وأخرجه ابن سلّام عن المعلى بن هلال عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن زهير.

(٢) أخرجه أحمد والبيهقيّ ، وأخرجه الترمذيّ في تفسير سورة البقرة في قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ ، أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [الآية : ٢٨٤] عن أميّة بنت عبد الله عن عائشة (رقم ٤٠٧٥) ، وفي لفظه : «هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمّى ...».

(٣) كذا في ع ، وهو الصحيح : «قمع» ، ويقال أيضا «قمع» ، وهو ما على التمرة والعنبة. انظر اللسان : (قمع).

٣٨٤

قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ) : أى : أخلص (وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) : أى لا أحد أحسن دينا منه. (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (١٢٥).

قال الكلبيّ : لّما قالت اليهود للمؤمنين : إنّ كتابنا قبل كتابكم ، ونبيّنا قبل نبيّكم ، ونحن أهدى منكم ، قال لهم المؤمنون ما قالوا ، فأنزل الله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ...) إلى قوله : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ففضّل الله المؤمنين على اليهود.

قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (١٢٦) : أى أحاط علمه بكلّ شيء.

قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ) : أى من الميراث في تفسير الكلبيّ وغيره. قال الكلبيّ : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لهنّ من الميراث؟ فأنزل الله الربع والثمن.

قوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) : قال الحسن : كان الرجل يكون عنده من اليتامى التسع والسبع والخمس والثلاث والواحدة وهو عاصبهنّ (١) ووارثهنّ ؛ فيرغب عن نكاحهنّ أن يتزوّجهنّ ، ويكره أن يزوّجهنّ ، يريد أن يرثهنّ ، فيحبسهنّ ليمتن فيرثهنّ : فأنزل الله : (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أى ما أحلّ الله لهنّ من التزويج وترغبون أن تنكحوهنّ.

ذكروا عن مجاهد قال : كانت المرأة اليتيمة في الجاهليّة تكون دميمة ، فيكره الرجل أن يتزوّجها لأجل دمامتها ، فيتزوّجها غيره إذا لم يكن لها مال ؛ وإذا مات حميم لها لم يعطها من ميراثها شيئا. وإذا كانت حسنة الوجه ذات مال تزوّجها. وكانوا يعطون الميراث لذوي الأسنان من الرجل ولا يعطون الولدان الصغار ولا النساء شيئا.

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال في قوله : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) قال : تكون المرأة عند الرجل بنت عمّه ، يتيمة في حجره ، ولها مال فلا يتزوّجها لدمامتها ، ولكن يحبسها حتّى يرثها ، فأنزل الله هذه الآية ، فنهوا عن ذلك ، وقال : (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) قال : ميراثهن.

__________________

(١) في المخطوطتين ع ود : «عصبتهن» ، وهو خطأ صوابه ما أثبتّه.

٣٨٥

قال : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) : يقول : يفتيكم فيهنّ وفي المستضعفين من الولدان ألّا تأكلوا أموالهم.

وقال بعضهم : [وكانوا لا يورّثون الصغير وإنّما] (١) كانوا يورّثون من يحترف وينفع ويدفع.

وقال الكلبيّ : كانوا لا يعطون الميراث إلّا من قاتل الأقوام ، وحاز الغنيمة ، وكانوا لا يورّثون الجارية ، وكانوا يرون ذلك في دينهم حسنا. فلمّا أنزل الله فرائض الميراث وجدوا من ذلك وجدا شديدا فقال عيينة بن حصن لرهط من قومه : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذكر له ، فلعلّه يدعه إلى غيره. فأتوه فقالوا : يا رسول الله : أتعطى الجارية نصف ما ترك أبوها وأخوها ، ويعطى الصبيّ الميراث كلّه ، وتعطى المرأة الربع والثمن ، وليس من هؤلاء من يركب الفرس أو يحوز الغنيمة أو يقاتل أحدا؟ قال : نعم ، بذلك أمرت (٢).

قوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) : أى بالعدل. وهو تبع للكلام الأوّل : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) ، وفي (يَتامَى النِّساءِ) ، وفي (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) ، وفي (أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ). وكانوا يفسدون أموال اليتامى وينفقونها ، فأمرهم الله أن يصلحوا أموالهم. قال : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧).

قوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها) : أى علمت من زوجها (نُشُوزاً) : يعني بغضا. (أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) : قال بعضهم : هي المرأة تكون عند الرجل فتكبر فلا تلد ، فيريد أن يتزوّج عليها أشبّ منها ، ويؤثرها على الكبيرة ، فيقول لها : إن رضيت أن أوثرها عليك وإلّا طلّقتك ؛ أو يعطيها من ماله على أن ترضى أن يؤثر عليها الشابّة ؛ وهو قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أى لا حرج على الزوج وامرأته أن يصلحا بينهما صلحا ، والصلح خير من غيره.

قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) : قال بعضهم : يعني الحرص على المال ، فترضى

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٧٤.

(٢) لم أجد فيما بين يديّ من المصادر هذا الخبر الخاصّ بعيينة بن حصن وقومه وجواب الرسول إيّاهم. ولعلّه ممّا انفرد بروايته ابن سلّام ، وإن كانت الروايات متضافرة في هذا المعنى ، انظر مثلا : تفسير الطبريّ ، ج ٩ ص ٢٥٣ ـ ٢٥٧.

٣٨٦

بما يعطيها بنصيبها من زوجها. وقال الكلبيّ : شحّت بنصيبها من زوجها للأخرى ، أى : فلم ترض. (وَإِنْ تُحْسِنُوا) : البعل (١) [(وَتَتَّقُوا) : الميل والجور فيهنّ. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٢٨).

قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) : أى في النكاح والحبّ(٢). قال مجاهد : أى : لن تستطيعوا العدل بينهنّ. (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) : أى لا تعمّدوا الإساءة. وقال الحسن : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) فتأتي واحدة وتترك الأخرى. قال : (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) : أى كالمسجونة (٣). قال الحسن : أى لا أيّم ولا ذات بعل. (وَإِنْ تُصْلِحُوا) : الفعل في أمرهنّ (وَتَتَّقُوا) : الميل والجور (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١٢٩).

قوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) : أى بالطلاق (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) : أى من فضله (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) (١٣٠) : يعني واسعا لهما في الرزق ، حكيما في أمره.

قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) (١٣١) : أى غنيّا عن خلقه ، حميدا بما أنعم عليهم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٣٢) : أى لمن توكّل عليه.

قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) أى بعذاب الاستئصال (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) : أى يطيعونه (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) (١٣٣) : وهو كقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا

__________________

(١) كذا في د ومخطوطته الأصليّة : «البعل» وهو الصحيح ، أى : حسن العشرة كزوج. والفعل منه بعل يبعل بعلا وبعولة ، انظر : اللسان (بعل).

(٢) وهذه حقيقة نفسيّة ثابتة ، أخبر بها اللطيف الخبير الذي يعلم ما نخفي وما نعلن. فلا يتعلّق بها الذين ينكرون تعدّد الزوجات في الإسلام بدعوى عدم تحقّق العدل ؛ فإنّ على الرجل أن يعدل في النفقة والسكنى وسائر الأمور الظاهرة من حسن العشرة ، أمّا الميل النفسيّ والحبّ ، فذلك ما لن يستطيع العدل فيه. وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان يقسم بين نسائه ويعدل ، ثمّ يقول : «اللهمّ هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك».

(٣) وكذلك قرأها أبيّ قراءة تفسير : «كالمسجونة» ، كما ذكره الفرّاء في معاني القرآن ، ج ١ ص ٢٩١.

٣٨٧

يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨) [محمد : ٣٨] في الخلاف والمعصية ، يعني بهذا المشركين.

قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) : أى : فعنده ثواب الآخرة لمن أراد الآخرة (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٣٤) : وهو كقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١٩) [الإسراء : ١٨ ـ ١٩].

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) : أى بالعدل (شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) : في الشهادة إذا كانت عنده. يقول : اشهدوا على أنفسكم ، أى على أبنائكم وآبائكم وأمّهاتكم وقرابتكم ، أغنياء كانوا أو فقراء. وهو قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أى أولى بغناه وفقره.

وقال بعضهم : لا يمنعكم غنى غنيّ ، ولا فقر فقير أن تشهدوا عليه بما تعلمون ، قال : الله أعلم بغناهم وفقرهم.

قوله : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) : فتدعوا الشهادة (أَنْ تَعْدِلُوا) : فتقيموا الشهادة (١). (وَإِنْ تَلْوُوا) : بألسنتكم ، أى تلجلجوا فتحرّفوا الشهادة (أَوْ تُعْرِضُوا) : فلا تشهدوا بها. وقال مجاهد : إن تلووا ، أى تبدّلوا الشهادة ، أو تعرضوا ، أى تكتموها (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٣٥).

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) : قال الكلبيّ : يعني من آمن من أهل الكتاب ، فإنّهم قالوا عند إسلامهم : أنؤمن بكتاب محمّد ونكفر بما سواه؟ فقال الله : بل (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ

__________________

(١) كذا في د : «فتقيموا الشهادة» ، وهو الصحيح. وفي ع : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) فتدعوا الشهادة (أن تعدلوا) فتكتموا الشهادة» ، وهذه الأخيرة خطأ.

٣٨٨

وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١٣٦).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (١٣٧) : هم أهل الكتابين.

ذكر بعضهم قال : آمن أهل التوراة بالتوراة ، وآمن أهل الإنجيل بالإنجيل ، ثمّ كفروا بهما ، يعني ما حرّفوا منهما ، ثمّ ازدادوا كلّهم كفرا ، أى : بالقرآن. (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) قال الحسن : يعني من مات منهم على كفره ، (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) : أى سبيل الهدى ، يعني عامّتهم ؛ وقد أسلم الخاصّة منهم. وقال بعضهم : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) : أى طريق هدى ، وقد كفروا بكتاب الله.

قوله : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) : كانوا يتولّون اليهود وقد أظهروا الإيمان وأجابوا إليه. (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) : أى أيريدون بهم العزّة (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١٣٩).

قوله : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ) : من أهل الإقرار (وَالْكافِرِينَ) : من أهل الإقرار والكافرين من أهل الإنكار (فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠).

قال الكلبيّ : نهي المؤمنون أن يجالسوا المنافقين والكفّار إذا سمعوهم يستهزئون بشيء من كتاب الله ويعيبونه. وأمّا قوله : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) فيعني ما أنزل في سورة الأنعام بمكّة قبل الهجرة : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : ٦٨] وكان ذلك قبل أن يؤمر بقتال مشركي العرب ثمّ أمر بقتالهم. فأمّا المنافقون الذين أظهروا الإيمان ، واليهود إذا أدّوا الجزية ، فلا يقاتلون.

قوله : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) : يعني المنافقين ؛ كانوا يتربّصون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) : أى نصر وغنيمة (قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) : أى نكبة على المؤمنين (قالُوا) للكافرين (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) : أى : ألم نغلب عليكم (١) بمودّتنا إيّاكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : يقولون : إنّهم آمنوا

__________________

(١) كذا في د وع : «ألم نغلب عليكم» وهو الصحيح ، كما ورد في مجاز أبي عبيدة ، ج ١ ص ١٤١. وفي ز ورقة ـ

٣٨٩

بمحمّد ، وكنّا لكم عيونا ، نأتيكم بأخبارهم ، ونعينكم عليهم ؛ وكان ذلك في السّرّ.

قال الله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : فيجعل المؤمنين في الجنّة ويجعل الكافرين في النار. (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (١٤١) : أى حجّة في الآخرة ؛ وقد تكون في الدنيا الدولة للكافرين ؛ وربّما ابتلي المؤمنون.

قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) : بكونهم (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤](وَهُوَ خادِعُهُمْ).

قوله : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ) : بصلاتهم ليظنّوا أنّهم مؤمنون ، وليسوا بمؤمنين (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٤٢) : أى : التوحيد الذي قبلهم. وقال الحسن : إنّما قلّ لأنّه لغير الله.

قوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) : لا إلى المؤمنين ولا إلى المشركين. وقال بعضهم : ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا بمصرّحين بالشرك (١).

ذكروا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرّة وتعير إلى هذه مرّة ، لا تدري أيّهما تتّبع (٢).

وذكر بعضهم أنّ نبيّ الله كان يضرب مثلا للمؤمن والكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع ، ثمّ وقع المنافق ، حتّى إذا كاد أن يصل إلى المؤمن ناداه الكافر : هلمّ إليّ فإنّني أخشى عليك ، وناداه المؤمن : هلمّ إليّ فإنّ عندي وعندي ، يحصي له ما عنده. فما زال المنافق يتردّد حتّى أتى عليه آذيّ (٣) فغرّقه. وإنّ المنافق لم يزل في شبهة وشكّ حتّى أتى عليه الموت (٤).

__________________

ـ ٧٥ : «(أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أى : ندين (كذا) بدينكم ، (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)».

(١) كذا في ع ود : «ولا بمصرّحين بالشرك». وفي ز ورقة ٧٦ : «ولا بمشركين مصرّحين» ، وهذا موافق لما جاء في تفسير الطبري ، ج ٩ ص ٣٣٤ : «ولا مشركين مصرّحين بالشرك». والقول لقتادة.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (رقم ٢٧٨٤). وأخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١ ص ٣٣٣ ، كلّهم يرويه من حديث ابن عمر.

(٣) الآذىّ ، بمدّ الهمزة وتشديد الياء : الموج الشديد.

(٤) رواه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ٩ ص ٣٣٤ عن قتادة مرسلا.

٣٩٠

قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (١٤٣) : أى سبيل الهدى.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) : أى لا تفعلوا كفعل المنافقين اتّخذوا المشركين أولياء ، أى في المودّة ، من دون المؤمنين. (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (١٤٤) : أى حجّة بيّنة في تفسير ابن عبّاس. وقال مجاهد : حجّة (١).

قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١٤٥) : وهو الباب السابع الأسفل ، وهو الهاوية.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) : أى من نفاقهم (وَأَصْلَحُوا) : أى بعد التوبة (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) (١٤٦) : أى الجنّة. قوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (١٤٧) (شاكِراً) أى : يشكر للمؤمن عمله حتّى يجازيه به. (عليما) : بأفعال العباد. قال بعضهم : لا يعذّب الله شاكرا ولا مؤمنا (٢).

قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) : يقول : لا يحبّ الله الجهر بالشتم من القول. (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) : ذكروا عن الحسن أنّه قال : رخّص للمظلوم أن يدعو على من ظلمه.

ذكروا عن مجاهد أنّه قال : هو الضيف ينزل فيحوّل رحله فإنّه يجهر لصاحبه بالسوء ويقول : فعل الله به ، لم ينزلني. قال : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (١٤٨).

قوله : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) (١٤٩) : هو كقوله : (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) [آل عمران : ٢٩].

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) : قال بعضهم : هم اليهود والنصارى. آمنت

__________________

(١) كذا في ع ود : «حجّة» ، وفي تفسير الطبريّ ، ج ٩ ص ٣٣٧ : «حجّة» ، وفي تفسير مجاهد نفسه ، ص ١٧٩ : «حجّة بيّنة».

(٢) هذا قول لقتادة ، ورد في د وع بعد تفسير قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فأثبتّه هنا في مكانه المناسب.

٣٩١

اليهود بالتوراة وبموسى وكفروا بالإنجيل وبعيسى ، وآمنت النصارى بالإنجيل وبعيسى وكفروا بالقرآن وبمحمّد على جميعهم السّلام. قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١٥٠) : أى دينا ؛ يقوله للذين اتّخذوا اليهوديّة والنصرانيّة وتركوا الإسلام. قال الله : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٥١).

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٥٢) : وهي مثل قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ...) الآية [البقرة : ١٣٦].

قوله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) : قال بعضهم : (كِتاباً مِنَ السَّماءِ) أى خاصّة عليهم. (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) : أى عيانا (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) : وهو قوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٥) [البقرة : ٥٥].

قوله : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) (١٥٣) : أى حجّة بيّنة. وقد فسّرنا ذلك في سورة البقرة (١).

قوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) : أى الجبل (بِمِيثاقِهِمْ) : أى أخذ ميثاقهم على أن يأخذوا ما أمرهم به بقوّة ، أى بجدّ (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) : قال بعضهم : هو باب حطّة. (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١٥٤) : وقد فسّرنا تعدّيهم في السبت في سورة البقرة (٢).

قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) : أى فبنقضهم ميثاقهم (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) : أى لا نفقه قولك يا محمّد. قال الحسن : (غُلْفٌ) أى : قلف لم تختن لقولك يا محمّد (٣). وقال مجاهد : يعني الطبع. قال الله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها

__________________

(١) انظر ذلك فيما سلف تفسير الآية ٥٤ من سورة البقرة.

(٢) انظر تفصيل ذلك فيما سلف تفسير الآية ٦٥ من سورة البقرة.

(٣) كذا في ع ود : «قلف لم تختن لقولك يا محمّد» ومعناها ظاهر ؛ أى : إنّ قلوبنا في غلاف لم ينزع عنها غلافها حتّى تفقه ما تقول. ويبدو في العبارة المجازيّة شيء من الغرابة. وانظر تفسير الطبري ، ج ٢ ص ٣٢٤.

٣٩٢

بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٥٥) : قال بعضهم : قلّ من آمن من اليهود.

قوله : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) (١٥٦) : هو ما قذفوا به مريم. والبهتان العظيم الكذب. وهم اليهود.

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) : أى مسح بالبركة (رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) : أى ألقى الله على رجل شبه عيسى فقتل ذلك الرجل.

وقال بعضهم : ائتمروا بقتل عيسى وزعموا أنّهم قتلوه وصلبوه.

ذكروا أنّ عيسى قال لأصحابه : أيّكم يلقى عليه شبهي وأنّه مقتول؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله. فقتل ذلك الرجل ومنع الله نبيّه ورفعه إليه.

وقال مجاهد : صلبوا رجلا غير عيسى يحسبونه إيّاه ، ورفع الله عيسى حيّا.

قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) : كان بعضهم يقول : هم النصارى اختلفوا فيه فصاروا فيه ثلاث فرق. وقال بعضهم : صارت النصارى فيه فرقتين : فمنهم من شهد أنّه قتل ، ومنهم من زعم أنّه لم يقتل.

قال الله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) (١٥٧) : أى ما قتلوا ظنّهم يقينا (١). (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٥٨) : ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر في حديث ليلة أسري به أنّه أتى على يحيى وعيسى في السماء الثانية.

قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) : يقول : قبل موت عيسى إذا نزل عليهم. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩) : أى يكون عليهم شهيدا يوم القيامة أنّه قد بلّغ رسالة ربّه ، وأقرّ بالعبوديّة على نفسه.

__________________

(١) هذا وجه من وجوه التأويل أورده المؤلّف واكتفى به ، وهو ما ذهب إليه الفرّاء في معاني القرآن ، ج ١ ص ٢٩٤ إذ قال : «وقوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) الهاء هاهنا للعلم ، كما تقول : قتلته علما وقتلته يقينا ، للرأي والحديث والظنّ». وذكر بعض المفسّرين وجها آخر من التأويل له قيمته أيضا وهو جعل الهاء في (قَتَلُوهُ) تعود على عيسى ، فيكون المعنى كما ذكره الزمخشريّ في الكشاف ، ج ١ ص ٥٨٧ : «وما قتلوه قتلا يقينا ، أو ما قتلوه متيقّنين». أى ما قتلوا عيسى حقّا.

٣٩٣

وبعضهم يقول : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) يقول : عند موت أحدهم (١).

وقال مجاهد : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) يعني كلّ صاحب كتاب قبل موت صاحب الكتاب.

ذكر الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأنبياء إخوة لعلّات ، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد. وأنا أولى الناس بعيسى ، لأنّه ليس بيني وبينه نبيّ. وإنّه نازل لا محالة ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنّه رجل مربوع الخلق ، بين ممصرتين إلى الحمرتين والبياض ، سبط الرأس ، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدقّ الصليب ويقتل الخنزير ، ويقاتل الناس على الإسلام ، فيهلك الله في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام. وتقع الأمانة في الأرض حتّى ترتع الأسد مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الغلمان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضا (٢).

قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) (١٦٠) : قال مجاهد : صدّوا أنفسهم وصدّوا غيرهم. (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) : وقد فسّرنا ذلك في سورة آل عمران. (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) : أى للظالمين (مِنْهُمْ) : من لم يؤمن (عَذاباً أَلِيماً) (١٦١) : أى موجعا. يعني من لم يؤمن من أهل الكتاب.

قال الكلبيّ : لّما نزلت (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) قالت اليهود عند ذلك : لا والله ما حرّم الله علينا حلالا قطّ ؛ وإن كان هذا الذي حرّم علينا لحراما على آدم ومن بعده إلى يومنا هذا ؛ فقال من آمن منهم : كذبتم ، وقرأوا عليهم آيات من التوراة يخصمونهم بها (٣) فقال الله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ

__________________

(١) جاء في ز ورقة ٧٦ ما يلي : «يقول : لا يموت منهم أحد حتّى يؤمن بعيسى أنّه عبد الله ورسوله فلا ينفعه ذلك عند معاينة ملك الموت».

(٢) صدر الحديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. أخرجه مثلا مسلم في كتاب الفضائل ، باب فضائل عيسى عليه‌السلام ، عن أبي هريرة (رقم ٢٣٦٥) ، وروى الحديث أحمد في مسنده ، كما رواه الحاكم وصحّحه. انظر تحقيق ذلك في تفسير الطبري ، ج ٦ ص ٤٥٩ ، والتعاليق التي بها. وانظر الأحاديث التي وردت في نزول سيّدنا عيسى عليه‌السلام إلى الأرض في آخر الزمان في تفسير ابن كثير ، ج ٢ ص ٤٣٦ فما بعدها.

(٣) في ع «يخصمونهم» ، وهذا الأخير أصحّ تعبيرا وأدلّ على المقصود. يقال : خاصمه فخصمه ، أى : ـ

٣٩٤

إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢) : أى الجنّة.

قال بعضهم : استثنى الله منهم (١) ؛ فكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم وما أنزل على نبيّ الله. قال الحسن : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) هذا كلام مستثنى.

قوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) : أى : وكما أوحينا إلى إبراهيم (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) : وهم يوسف وإخوته الأنبياء الاثنا عشر. قال : (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٦٣) : يعني كتابا. وكان داود بين موسى وعيسى.

قال بعضهم : ليس في الزبور حلال ولا حرام ، إنّما هو تمجيد وتحميد وتعظيم.

قوله : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١٦٤) : [أي كلاما من غير وحي] (٢).

ذكروا عن أبي قلابة قال : يا رسول الله : كم المرسلون؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا جمّا غفيرا (٣). قيل : يا رسول الله ، أكان آدم نبيّا مكلّما أو غير مكلّم؟ قال : بل كان نبيّا مكلّما (٤).

قوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) : أى مبشّرين بالجنّة ، ومنذرين من النار.

(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٦٥) :

__________________

ـ فغلبه بالحجّة.

(١) كذا في ع ود : «استثنى الله منهم فكان ...». وفي ز ورقة ٧٦ : «استثنى الله منهم من كان ...».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٧٧.

(٣) اختلف العلماء والمؤرّخون في عدّة الأنبياء والمرسلين ولم يثبت في عددهم حديث يوثق بصحّته. وأشهر ما روي في عددهم حديث طويل رواه ابن مردوية في تفسيره عن أبي ذرّ ، وهذا جزء منه في عدّة المرسلين بلفظ : «ثلاثمائة وثلاثة عشر جمّ غفير». وقد ضعّف بعض رجال الجرح والتعديل هذا الحديث. انظر : تفسير ابن كثير ، ج ٢ ص ٤٥٠ ، والدر المنثور ، ج ٢ ص ٢٤٦.

(٤) كذا في ع ود ، وز : «مكلّما». ويبدو أنه خطأ ، ففي تفسير ابن كثير وفي الدرّ المنثور أنّ آدم نبيّ مرسل. ولم يخصّ من الأنبياء بتكليم الله إيّاه إلّا موسى على نبيّنا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين السّلام.

٣٩٥

أى عزيزا في نقمته ، حكيما في أمره.

قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) : يعني القرآن (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) : أنّه أنزله إليك (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) (١٦٧). ثمّ قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) : أى وظلموا أنفسهم بالكفر (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) : يعني إذا ماتوا على كفرهم. وهو كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣٤) [سورة محمد : ٣٤](وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (١٦٨) : أى طريق الهدى ، يعني العامّة من أحيائهم ، وهم أهل الكتاب. (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٦٩).

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) : يعني محمّدا (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧٠) : أى عليما بخلقه حكيما في أمره.

قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) : الغلوّ تعدّي الحقّ. (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) : [أي أنّه كان من غير بشر] (١) (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) : أى : آلهتنا ثلاثة (٢) (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) : ينزّه نفسه أن يكون له ولد. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١) : أى لمن توكّل عليه.

قوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) : قال بعضهم : لن يحتشم (٣)

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٧٧.

(٢) في ع ود : «أي ثالث ثلاثة» ، وأثبتّ ما جاء في ز ، ورقة ٧٧ : «أي آلهتنا ثلاثة» ، فهو أصحّ تقديرا. وفي معاني القرآن للفرّاء ، ج ١ ص ٢٩٦ : «هم ثلاثة ، كقوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ ...) فكلّ ما رأيته بعد القول مرفوعا ولا رافع معه ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم».

(٣) كذا في ع ود ، وفي ز : «لن يحتشم». وفي مجاز أبي عبيدة ، ج ١ ص ٢٩٦ : «لن يأنف ويستكبر ويتعظّم». وهذا أدقّ لفظا وأحسن تأويلا.

٣٩٦

المسيح أن يكون عبدا لله (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) : أى أن يكونوا عبادا لله (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢) : أى الكافرين والمؤمنين.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : أى تضعيف الحسنات (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٧٣).

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) : قال مجاهد : البرهان الحجّة. وقال غيره : بيّنة. قال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (١٧٤) : يعني القرآن. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) : وهي الجنّة (وَفَضْلٍ) : وهو الرزق في الجنّة (وَيَهْدِيهِمْ) : أى في الدنيا (إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (١٧٥) : أى إلى الجنّة.

قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) : [قال بعضهم : الكلالة الذي لا ولد له ولا والد ولا جدّ] (١). (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) : من أب وأمّ أو من أب إذا لم تكن من أب وأمّ (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) : أيّهما مات توارثا إن لم يكن لهما ولد أو ولد ولد.

(فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) : فإن كانت أخت معها أخ أو إخوة لأب وأمّ كانوا عصبة ، للذكر مثل حظّ الأنثيين. وإن كانوا إخوة رجالا ونساء من أب وأمّ ، وإخوة رجالا لأب فإنّ الإخوة من الأب والأمّ أولى من الإخوة لأب ، وليس للإخوة من الأب معهم شيء.

فإن كانت أخت لأب وأمّ وأخت لأب ، فللأخت للأب والأمّ النصف وللأخت للأب السدس تكملة الثلثين. وإن كان مع الأخت للأب أخ وإخوة صار ما بقي بعد النصف للإخوة والأخوات للأب ، للذكر مثل حظّ الأنثيين. وإن كانتا أختين لأب وأمّ وأخت وأخوات لأب ، فللأختين من الأب والأمّ الثلثان ، وما بقي فهو بين الإخوة والأخوات ، للذكر مثل حظّ الأنثيين.

فإن كانتا أختين لأب وأمّ وأخت واحدة من الأب فليس لها بعد الثلثين شيء ، إلّا أن يكون معها ذكر فيصيران عصبة فيما بقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٧٧.

٣٩٧

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال : أعياني بنو الأمّ ، يتوارثون دون بني العلّات ؛ الرجل يرث أخاه لأبيه وأمّه دون أخيه لأبيه. وإن ترك إخوة لأبيه وأمّه وإخوة لأمّه فلإخوته من أمّه الثلث ، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء ، ولإخوته من الأب والأمّ أو من الأب ـ إذا لم يكن إخوة من أب وأمّ ـ الثلثان. وإن تركت امرأة زوجها وأمّها وإخوتها لأمّها وإخوتها لأبيها وأمّها فلزوجها النصف ، ولأمّها السدس ، والثلث الباقي بين الإخوة من الأمّ وبين الإخوة من الأب والأمّ ، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. وهذه المشتركة. ذكروا أنّ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت كانوا يشركون بينهم. ذكر بعضهم أنّ عمر بن الخطاب كان يشرك بينهم إذا لم يبق إلّا الثلث. ذكروا عن عليّ بن أبي طالب أنّه كان لا يشرك بينهم ويجعل الثلث الباقي للإخوة من الأمّ. ذكروا عن عقبة بن عامر الجهني (١) أنّ رجلا سأله عن الكلالة قال : ألا تعجبون من هذا؟! يسألني عن الكلالة ، فو الله ما عمّي على أصحاب محمّد شيء ما عمّي عليهم من أمر الكلالة.

ذكروا عن عمر بن الخطّاب قال : أشهدكم أنّي مفارقكم ولم أقل في الجدّ شيئا ولا في الكلالة. ذكروا عن عمر بن الخطّاب قال : ما أخلّف بعدي شيئا أهمّ إليّ من أمر الكلالة ، وما راجعت رسول الله في شيء ما راجعته فيها حتّى طعن بإصبعه في جنبي فقال : يا عمر ، أما تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر النساء؟ (٢).

ذكروا أنّ رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكلالة فقال : أما تقرأ هذه الآية؟ : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (٣).

قوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) : أى لئلّا تضلّوا (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦).

__________________

(١) هو الصحابيّ أبو عمرو ، وقيل أبو حمّاد عقبة بن عامر بن عبس ، من جهينة. أسلم بعد مقدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة. وكان راميا. ولّما مات ترك سبعين قوسا بجعابها ونبالها. نزل مصر وبنى بها دارا ، وتوفّي في آخر خلافة معاوية ، وقد روى عنه من الصحابة جابر وابن عبّاس وأبو أمامة ، ومن التابعين خلق كثير.

(٢) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الفرائض ، باب ميراث الكلالة (رقم ١٦١٧) عن عمر. وفيه : «حتّى طعن بإصبعه في صدري». وإنّما سمّيت آية الصيف لأنّها نزلت في الصيف والرسول يتجهّز للسفر إلى مكّة في حجّة الوداع.

(٣) أخرجه أبو داود مرسلا : وأخرجه البيهقيّ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وأخرجه الحاكم موصولا عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وفيه زيادة. انظر السيوطي ، الدر المنثور ، ج ٢ ص ٢٤٩.

٣٩٨

تفسير سورة المائدة وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) : يعني عقود الجاهليّة. ويقال : ما كان من عقد في الجاهليّة فإنّ الإسلام لا يزيده إلّا شدّة ، ولا حلف في الإسلام ، يقول : إلّا ما نسخ منها. وقد فسّرنا نسخ تلك الأشياء المنسوخة في مواضعها (١). منها : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [النساء : ٣٣]. قال بعضهم : كان يقال : الحلف في الإسلام لا يزيده الإسلام إلّا ذلّا ، وإنّه من تعزّز بمعاصي الله أذلّه الله. وقال بعضهم : العهد فيما بين الناس. وقال الكلبيّ : ما أخذ الله على العباد من العهد فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم.

قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) : والأنعام : الإبل والبقر والغنم. (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) : أى إلّا ما يقرأ عليكم ، أى : من الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلّا ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب. نزلت هذه الآية [المائدة : ٣] التي حرّمت هذه الأشياء قبل الآية الأولى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) من هذه الأشياء التي سمّى ، وهي قبلها في التأليف.

قال بعضهم : البهيمة : ما في بطونها ؛ إذا أشعر فكله.

قال : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) : أى من غير أن تحلّوا الصيد وأنتم حرم. قال مجاهد : لا يحلّ لأحد الصيد وهو محرم. قال : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١) : قال الحسن : هو حكم الله الذي يحكم ، والله يحكم ما يريد.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ).

ذكروا أنّ رجلا سأل ابن عمر عن أعظم الشعائر فقال : أوفي شكّ أنت منه؟ هذا أعظم الشعائر ، يعني البيت.

__________________

(١) انظر ما سلف ، تفسير الآية ٣٣ من سورة النساء.

٣٩٩

قوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) فكان هذا قبل أن يؤمر بقتال المشركين كافّة.

قوله : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) ذكروا أنّ مجاهدا قال : كانوا يعلّقون لحاء الشجر في أعناقهم ، وكان هذا من الشعائر (١) ؛ فقال أصحاب النبيّ عليه‌السلام : هذا من أعمال الجاهليّة ، فحرّم الله ذلك كلّه في الإسلام ، يعني الآية : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ، يعني الحجّاج ؛ إلّا القلائد في أعناق الناس فإنّه ترك. ثمّ أمر بقتال المشركين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر ونادى فيه عليّ بالأذان (٢).

قال بعضهم : كان أحدهم يعلّق قلادة من لحاء السمر (٣) إذا خرج من مكّة فيقول : هذا حرمي ، فلا يعرض له حيثما توجّه ؛ فنسخ (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ، وهم حجّاج المشركين فقال : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥]. وتفسير (آمِّينَ): يؤمون ، [يقصدون] البيت الحرام.

وقال الكلبيّ : إنّما كانوا يستحلّون فيصيبون الهدي وأصحاب القلائد.

وكانت القلائد أنّ الرجل إذا خرج من أهله حاجّا أو معتمرا ليس معه هدي جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر ، فأمن به ، إلى مكّة. وإذا خرج من مكّة يعلّق من لحاء شجر مكّة فأمن به إلى أرضه.

قوله : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) : قال بعضهم : الفضل والرضوان اللذان كانوا يبتغون أن يصلح الله معيشتهم في الدنيا ، ولا يعجّل لهم العقوبة فيها. وقال مجاهد : (يَبْتَغُونَ

__________________

(١) كذا في د وع ، وفي تفسير مجاهد ، ص ١٨٣ : «اللحاء في رقاب الناس والبهائم أمان لهم ، وهي من الشعائر».

(٢) يشير المؤلّف إلى خروج أبي بكر بالناس أميرا على الحجّ ، ثمّ نزول الآيات الأولى من صدر سورة التوبة ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّ بن أبي طالب بأن يلحق أبا بكر ، ويكون معه ليؤذّن بهذه الآيات في الموسم يوم عيد النحر بمنى ، وينبذ إلى كلّ ذي عهد عهده. انظر تفصيل ذلك في سيرة ابن هشام ، ج ٤ ص ٥٤٣ ـ ٥٤٨.

(٣) كذا في ع : «السمر» ، وفي د : «الشجر». والسمر واحدته سمرة ، وهي شجرة من شجر الطلح ، وخشبه من أجود الأنواع. وكانت الشجرة التي ورد ذكرها في سورة الفتح عند بيعة الرضوان سمرة. انظر : اللسان (سمر) ولحاء الشجرة : قشرها.

٤٠٠