تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٢

رجلا فقال له : سر مع هذا الرجل إلى مواطن مزاتة. فجاءهم وأخبرهم القصّة. وتسارعوا فيما يصنعون له ، ويجمعون له من الأموال ، فبسطوا بساطا ، فطفق الرجال والنساء يرمون فيه الدنانير والدراهم وما أمكن كل واحد منهم. فجمع من ذلك مالا كثيرا. فلمّوا أطراف البساط فرفعوه ، فأتوا به هود بن محكّم. فعمد الرجل صاحب الكتب إلى الخمسة دنانير فأخذها وترك الباقي. فقال لهود : أنت أولى به يا شيخ ؛ فإنّ المؤونة عليك كبيرة ممّن يقصدونك ويعترونك.

وفي هذه الرواية تصديق لقول الإمام عبد الوهّاب ، رضي الله عنه : إنّما قام هذا الدين بسيوف نفوسة وأموال مزاتة» (١).

نستخلص من هذه القصّة فضل عالمنا وقيمته بين قومه ، ومركزه بين أفراد قبيلته من هوّارة ، وعظيم منزلته في قبيلة مزاتة المجاورة.

أمّا عن نسبه في الدين وشيوخه الذين جلس إليهم وأخذ عنهم ، فليس لدينا أى علم بأسمائهم إذا استثنينا أباه محكّما. وكذلك الأمر بالنسبة لتلاميذه الذين تلقّوا عنه العلم أو تربّوا على يديه ، لأنّ المصادر التي بين أيدينا لم تشر إلى شيء من ذلك.

وحاولت جاهدا أن أجد إشارة إلى بعض شيوخه في ثنايا تفسيره فلم أعثر على أى واحد منهم.

وأمّا عن سنة وفاة الشيخ هود فلم تذكر أيضا بالتحديد في أى مصدر. وأقدّر أنّها كانت في العقد الثامن أو التاسع من القرن الثالث الهجري ، أى حوالي سنة ثمانين ومائتين. فإنّ كلّ من ذكره من المؤرّخين وكتّاب السير يؤكّد أنّه من علماء الطبقة السادسة : (٢٥٠ ـ ٣٠٠ ه‍). فهل كان أدرك نهاية الدولة الرستميّة سنة ستّ وتسعين ومائتين للهجرة؟ أنا أستبعد ذلك ، ولكن لا أستطيع أن أجزم بشيء في الموضوع.

هذا كلّ ما أوردته المصادر الإباضيّة عن حياة الشيخ هود الهوّاريّ وعن شخصيته العلميّة ، وهو ـ كما ترى ـ شيء قليل جدّا عن شيخ وصفه بعض المؤرّخين وكتّاب التراجم بأنّه «صاحب التفسير المعروف».

__________________

(١) أبو زكرياء ، كتاب السيرة وأخبار الأئمّة ، ص ٣٦٠. وقد أورد الدرجينيّ هذه القصّة في كتاب الطبقات ، ج ٢ ، ص ٣٩٨ ، باختلاف يسير في ألفاظها ، كما أوردها الشمّاخي في السير ، ص ٣٨١.

٢١

كتابه في التفسير :

إنّ الحديث عن تفسير الشيخ هود الهوّاريّ يقتضي منّا الوقوف عند مسائل يثير البحث فيها أسئلة نحاول الإجابة عنها ، لنبيّن وجه الصواب فيها ، متحرّين الحقيقة والموضوعيّة إن شاء الله.

ولعلّ أوّل هذه المسائل وأولاها بالنظر : البحث عن الطريق التي وصل بها إلينا هذا التفسير بعد أحد عشر قرنا من عصر تأليفه ، وعن الذين رووه مباشرة أو بواسطة عن مؤلّفه ، وعن أقدم المصادر التي تحدّثت عنه.

وللجواب نلاحظ بادئ ذي بدء أن مؤرّخين معاصرين للشيخ هود الهواريّ ، وهما ابن الصغير ولوّاب بن سلّام اللواتي لم يشيرا إلى هذا التفسير ، ولم يذكرا مؤلّفه. فما معنى هذا الإغفال؟

إنّ ما يبدو لي بعد التأمّل أنّ ذلك قد يكون راجعا إلى سببين رئيسيّين :

ـ الأوّل : أنّ ابن سلّام اللواتيّ عاش في المنطقة الشرقيّة الجنوبيّة من إفريقية ، ما بين جبل نفوسة وبلاد الجريد ، وأنّ ابن الصغير كان مقيما بالمنطقة الغربيّة في تاهرت ، بينما عاش الشيخ هود الهواريّ في الوسط بجبل أوراس. ولعلّ الظروف لم تسمح بلقاء بينهما رغم العلاقات العلميّة والسياسيّة التي كانت قائمة بين جبل نفوسة وتاهرت وما بينهما.

ـ والسبب الثاني : هو أنّ التاريخ لا يحفظ عادة للعلماء ذكرا ، ولا تعرف آثار هؤلاء إلّا بعد وفاتهم بعشرات السنين ؛ لذلك لا نعجب إذا لم يرد في تاريخ ابن الصغير ولا في كتاب بدء الإسلام وشرائع الدين أى ذكر للشيخ هود أو لكتابه.

ونعود الآن فنتساءل : ما هو أقدم مصدر ورد فيه ذكر لهذا التفسير؟

لقد بحثت أغلب المصادر الإباضية التي وصلتنا إلى حدّ الآن ، وقارنت بينها ، فوجدت أنّ أقدم مصدر أشار إلى تفسير الشيخ هود الهوّاريّ هو كتاب «السيرة وأخبار الأئمّة» لأبي زكرياء ؛ وهذا ما جاء فيه : «وذكر أنّ رجلين اختصما على تفسير هود بن محكّم الهواريّ حتّى بلغ تشاجرهما قبيلتيهما ، وحتّى كادت الثورة تقوم بينهم. وتصافّ الفريقان ، وكاد الشرّ يقع بينهم. فلمّا رأى ذلك أبو محمّد جمال نزع المصحف (التفسير) من بينهم ، فقسمه نصفين ، فوافق قرطاسا بين النصفين لم

٢٢

يكتب ، وأعطى لكلّ نصفا ، وزال الشرّ واصطلحوا» (١).

هذا أقدم نصّ ذكر هذا التفسير ، فيما أعلم ؛ ولي عليه الملاحظات التالية :

ـ أوّلا : إذا كان هذا أقدم نصّ أشار إلى هذا التفسير فإنّ الدرجينيّ بعده أورد هذا الخبر نفسه بتفصيل أكثر (٢). ولعله رواه من طريق آخر غير الطريق الذي رواه منه أبو زكرياء. فالدرجينيّ يفيدنا مثلا أنّ راوي الخبر إنّما هو أبو الربيع سليمان بن يخلف المزاتي المتوفّى سنة ٤٧١ ه‍ / ١٠٧٤ م ، وهو شيخ أبي زكرياء. وهذا يؤكّد صحّة الخبر الذي أورده أبو زكرياء مختصرا ، وجاء به الدرجينيّ مفصّلا.

ـ ثانيا : تتّفق الروايتان على أنّ الذي فصل بين المتخاصمين إنّما هو أبو محمّد جمال (٣) ، وهو من علماء النصف الأوّل من القرن الرابع الهجري ، أى جاء بعد وفاة الشيخ هود الهوّاريّ بحوالى نصف قرن.

ـ ثالثا : نستنتج من هذا الخبر أنّ كتاب التفسير هذا كان معروفا إذ ذاك ومنسوبا إلى الشيخ هود الهوّاريّ ، وأنّه بلغ من النفاسة مبلغا جعل شريكين في التجارة ـ حسب رواية الدرجينيّ ـ يتنازعان على اقتنائه ، فيحتدم النزاع بينهما حتّى يتجاوزهما إلى قبيلتيهما ، وكادت الفتنة أن تؤدّي بهما إلى القتال ، لولا أن منّ الله عليهما بالشيخ محمّد جمال المديوني ، فعالج الأمر بحكمة ، وفصل في القضيّة برأيه السديد.

بعد هذا لا بدّ أن أقول : إنّ هذه الروايات المؤكّدة ، وهذه المصادر القديمة التي أشارت إلى الكتاب لم تبيّن لنا كيف روي هذا التفسير خلفا عن سلف ، ومن أى طرق من طرق التلقّي والسّماع تمّ نقله عبر الأجيال حتّى وصلت إلينا مخطوطاته ، في القرون الأربعة الأخيرة ، متفرّقة

__________________

(١) أبو زكرياء ، كتاب السيرة وأخبار الأئمّة ، ص ٣٥٩.

(٢) الدرجيني ، طبقات المشايخ بالمغرب ، ج ٢ ، ص ٣٤٥.

(٣) هو أبو محمد جمال المزاتي المديوني ، نسبة إلى مديونة ، وهي قبيلة بربريّة إباضيّة سكنت ما بين تلمسان وجنوب وجدة. وقد ذكرها ابن حزم في «جمهرة أنساب العرب» ، ص ٤٩٦ وص ٥٠٠. أمّا أبو محمّد جمال فكان مقيما بين وارجلان وبلاد أريغ ، حسبما تذكره بعض الروايات ، وقد صنّفته المصادر الإباضيّة في الطبقة السابعة من طبقات العلماء. اقرأ بعض أخباره التي جمعها الشيخ علي يحيى معمّر في كتابه الإباضيّة في موكب التاريخ ، الحلقة الثالثة ، الإباضيّة في تونس ، ص ٧١ ـ ٧٥.

٢٣

أجزاؤها ، متعدّدة نسخها ، ولكنّها ـ والحمد لله ـ متكاملة. وهذا يؤدّي بنا إلى أن نقف عند مسألة جديرة بالبحث ، هي مسألة نسبة الكتاب ؛ وهي المسألة الثانية التي أودّ توضيحها.

نسبة التفسير إلى الشيخ هود الهوّاريّ :

وأقول بادئ ذي بدء : إنّ كلّ المخطوطات التي علمت بوجودها قد حصلت عليها بتوفيق من الله ، ثمّ بسعي حثيث تطلّب منّي سنوات عديدة لجمعها ، إلّا واحدة أعياني أمرها (١). وكل هذه المخطوطات نسبت الكتاب إلى الشيخ هود الهوّاريّ ، وإن اختلف ناسخوها في تحديد عصر المؤلّف ، فقد ذكر بعضهم مثلا أنه عاش في عهد الإمام عبد الوهّاب الرستميّ.

كما أخطأ بعض الكتّاب المعاصرين حين قال : إنّه كان قاضيا ، أو إنّ تفسيره توقّف في سورة البقرة. والصحيح أنّه عاش في عهد الإمام أفلح المتوفّى سنة ٢٦١ ه‍ / ٨٧٥ م. وفي عهد ابنه أبي اليقظان المتوفّى سنة ٢٨١ ه‍ / ٨٩٤ م على أصحّ الأقوال ، وأنّ أباه هو الذي كان قاضيا ، كما أسلفت ، وأنّ التفسير كامل بين أيدينا الآن ، وإنّما الذي كان ناقصا إنّما هو حاشية له شرع فيها الشيخ أبو ستّة محمّد بن عمر ولم يتمّها ، كما ذكر ذلك في بعض المصادر ، ولم أطّلع عليها (٢).

فالكتاب الذي أقدّمه اليوم هو للشيخ هود بن محكّم الهوّاريّ ولا شكّ. ولا أدلّ على ذلك من كثرة الروايات والأقوال التي جاءت فيه منسوبة إلى جابر بن زيد ، وإلى أبي عبيدة مسلم خاصّة ، وإلى عامّة علماء الإباضيّة وفقهائهم ، والذين يصفهم الشيخ هود دائما بقوله : «أصحابنا».

فإذا ثبت هذا فما معنى التساؤل عن نسبة الكتاب إذن؟

إنّ الذي يثير هذا التساؤل ويفرضه على الباحث هو ما اكتشفته من صلة وثيقة بين تفسير الشيخ الهوّاريّ وبين تفسير آخر سبقه بنحو قرن من الزمن ، وأعني به تفسير يحيى بن سلّام

__________________

(١) هي مخطوطة موجودة بإحدى مدن ميزاب. وقد أكّد لي أحد مشايخنا أنّه كان كثيرا ما يرجع إليها. وقد سألت عنها مرارا وطلبتها بواسطته وبآخرين ، ولكنّ القائمين على الخزانة التي كانت المخطوطة بها اعتذروا بعلل واهية ، ولا أدري الآن مصير هذه المخطوطة.

(٢) ومن الذين وهموا وخلطوا في حديثهم عن هذا التفسير وعن التفسير عند الإباضيّة عامّة الدكتور محمّد حسين الذهبي ، فقد جاءت معلوماته في كتابه «التفسير والمفسرون» ج ٢ ، ص ٣١٥ ـ ٣٣١ ناقصة جدّا ، وجاءت بعض أحكامه مجانبة للحقّ والصواب.

٢٤

البصريّ (١). وهي علاقة لم يشر إليها أى مصدر من مصادر التفسير أو التاريخ ، إباضيّا كان هذا المصدر أو غير إباضيّ. وفيما يلي بيان ذلك.

كان أوّل عمل قمت به حين تعرّفت على الكتاب هو نسخه أجزاء وقطعا من مخطوطاته المتفرّقة ، من غير تتابع ، وبدون انتظار لاستكمال الكتاب ، خوفا على المخطوطات من عوادي الزمن.

وممّا لفت نظري أثناء النسخ الأوّل كثرة الروايات عن علماء البصرة صحابة وتابعين ، مثل : أنس بن مالك وعمران بن حصين ، ومثل : الحسن البصري وقتادة ، بجانب أسماء جابر بن زيد وأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة. فوجّهت عنايتي إلى البحث عن سلسلة السند التي تربط بين الشيخ الهوّاريّ ، وهو من علماء القرن الثالث الهجريّ ومن المغرب الأوسط ، وبين جابر بن زيد وأبي عبيدة مسلم ، وهما من علماء القرن الأول والثاني ، ومن البصرة.

وفي أثناء ذلك قرأت الفصل الذي كتبه أستاذنا الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور عن يحيى بن سلّام ، والذي أشاد فيه بقيمة هذا المفسّر ، وقال عن تفسيره إنّه : «أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق» (٢). ثم قرأت الدراسة القيّمة التي قام بها الأستاذ حمادي صمود ، والتي نشرها بالفرنسيّة في مجلّة معهد الآداب العربيّة تحت عنوان : «مفسّر مشرقيّ بإفريقية : يحيى بن

__________________

(١) هو أبو زكرياء يحيى بن سلّام بن أبي ثعلبة التيميّ ، تيم ربيعة ، مولاهم. ولد بالكوفة سنة ١٢٤ ه‍ / ٧٤٢ م ، ثمّ نشأ بالبصرة ، وهي في أوج ازدهارها العلميّ. ولقي بها بعض التابعين وكثيرا من العلماء. ثم انتقل إلى القيروان حيث طاب له المقام زمنا ، وبها سمع الناس تفسيره. ثمّ رحل عنها بسبب سفارة قام بها بين عمران بن مجالد الربعي وبين أبي العبّاس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب فاخفر فيها العهد على يده. ثمّ قصد مكّة للحجّ ، ثمّ رجع إلى مصر حيث توفّي سنة ٢٠٠ ه‍ / ٨١٥ م. أهمّ مصادر ترجمته وأخباره : أبو العرب ، طبقات علماء إفريقية ، ص ٣٧ ـ ٣٩ ؛ المالكي : رياض النفوس ، ص ١٢٢ ـ ١٢٥ ؛ ابن خير الإشبيلي : فهرسة ، ص ٥٦ ـ ٥٧ ؛ الداودي ، طبقات المفسّرين ، ج ٢ ، ٣٧١ ؛ ابن الجزري ، غاية النهاية في طبقات القرّاء ، ج ٢ ، ص ٣٧٣ ؛ ابن الأبار ، الحلّة السيراء ، ج ١ ، ص ١٠٥ ؛ الذهبي ، ميزان الاعتدال ، ج ٤ ، ص ٣٨٠ ؛ الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، ج ٩ ، ص ٣٩٦ ، ط. بيروت ؛ الزركلي ، الأعلام ، ج ٩ ، ص ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٢) محمد الفاضل ابن عاشور ، التفسير ورجاله ، ص ٢٧. وقد وجدت الآن تفاسير مطبوعة أقدم منه عهدا مثل : تفسير مجاهد بن جبر ، وتفسير مقاتل بن سليمان.

٢٥

سلّام (٧٤٢ ـ ٨١٥) (١). فتاقت نفسي إلى الاطّلاع على هذا التفسير عن كثب ، وذلك ما تمّ لي ـ والحمد لله ـ أثناء ثلاث زيارات دراسيّة قمت بها إلى تونس ما بين سنتي : ١٩٧٦ و ١٩٨١ م. وهنالك تحقّق بعض ما كنت أصبو إليه ، واقتنيت أوّل نسخة مصوّرة من قطعة تفسير ابن سلّام التي كانت في خزانة الأستاذ حسن حسني عبد الوهّاب ، والتي تحمل الآن رقم ١٨٦٥٣ في فهرست المخطوطات بدار الكتب الوطنيّة بتونس.

وبينما كنت ذات يوم أنسخ تفسير الشيخ هود الهوّاريّ إذ استعصت عليّ عبارة في تفسير آية من سورة النمل ؛ فبدا لي أن أرجع إلى مخطوطة ابن سلّام لعلّها تسعفني بإيضاح ما أشكل عليّ. وكم كانت دهشتي عظيمة حين وجدتني أقرأ في تفسير ابن سلّام كلاما لم يكن غريبا عنّي ، وكأنّني أعرف عباراته من قبل. وما إن قارنت في صفحة أو صفحتين بين التفسيرين حتى تبيّن لي أنّ هنالك علاقة ظاهرة بينهما. ثمّ تأكّد ذلك عندي على مرّ الأيّام وعلى توالي السور. وهكذا وجّهت عنايتي نحو دراسة تفسير ابن سلّام والبحث عن مخطوطاته لأستعين بها على عملي في التحقيق.

وقد أبديت ملاحظتي هذه لأستاذنا الإمام المرحوم إبراهيم بيّوض ، فعجب وقال : ما كنّا نعلم هذا ولا سمعنا به. وأوصاني بالتثبّت وزيادة البحث ؛ وهذا ما قمت به والتزمته طوال سنوات ، ومن أوّل الكتاب إلى آخره. فبعد أن أتممت نسخ تفسير الشيخ هود وشرعت في تحقيقه ، صرت أرجع إلى ما أمكنني الحصول عليه من مخطوطات ابن سلّام البصري (٢) ، وإلى تفسير محمد بن أبي زمنين (٣) وهو مختصر تفسير ابن سلام.

__________________

(١) (. Annee ٥١٨ ـ ٢٤٧ IBLA, Un exegete Oriental en Ifriqiya, Yahya Ibn Sallam,) ٢٤٢ ـ ٧٢٢, pp. ٢ / ٦٢١, n ٣٣.

(٢) لقد قدّم لي إخوان كرام بتونس يد المساعدة للحصول على بعض المخطوطات والوثائق ، وعلى رأسهم صديقي العزيز الدكتور فرحات الجعبيري. وتفضّل الأستاذ الدكتور سعد غراب فبعث إليّ ببعض أجزاء من مخطوطة العبدليّة التي تحمل رقم ٧٤٤٧ في المكتبة الوطنيّة بتونس ، والتي يبتدئ التفسير بها من أوائل سورة النحل ، فتمّ لي بذلك جمع ما يقرب من ثلث تفسير ابن سلّام.

(٣) كانت الدكتورة الفاضلة هند شلبي أوّل من أطلعني وأنا بتونس على مخطوطة تفسير ابن أبي زمنين ، ثمّ تفضّل السيّد مدير المكتبة الوطنيّة بالجزائر الدكتور محمود بوعياد فحصّل لي على المخطوطة كاملة مصوّرة ـ

٢٦

واليوم ، وبعد أكثر من عشر سنوات من التحقيق والمقارنة والاستقراء ، أستطيع أن أقول بدون تردّد : إنّ الشيخ هودا الهوّاريّ اعتمد اعتمادا كثيرا ، إن لم أقل اعتمادا كلّيّا ، على تفسير ابن سلّام البصريّ. ولو جاز لي أن أضع للكتاب عنوانا غير الذي وجدته في المخطوطات لكان العنوان هكذا : «تفسير الشيخ هود الهوّاريّ (مختصر تفسير ابن سلّام البصريّ)» ؛ لأنّ تفسير ابن سلّام أصل لتفسير الشيخ هود الهوّاريّ ، ما في ذلك شكّ. وهذا هو عين الحقيقة والصواب. والأمانة العلميّة تقتضيني أن أجلو هذا وأبيّنه في تقديمي للكتاب.

وقد يقول قائل : إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا لم تشر مخطوطات تفسير الهوّاريّ التي وصلتنا إلى هذه العلاقة بين التفسيرين؟

إنّه من العسير تقديم جواب شاف على هذا السؤال ما دمنا لا نعرف شيئا عن إسناد رواية هذا التفسير كما ذكرت.

إنّه من المستبعد جدّا أن يكون الشيخ هود الهوّاريّ هو الذي كتم هذه العلاقة أو تجاهلها. إنّ تفسير ابن سلّام كان قد انتشر وذاع أمره في القيروان وفي المغرب الإسلامي عامّة ، طوال القرنين الثالث والرابع من الهجرة فما بعدهما ؛ فلا يمكن أن يجرؤ عالم فينسج على منواله وتخفى على الناس نسبة الكتاب إلى مؤلّفه الأوّل.

فهل يكون بعض تلاميذ الشيخ الهوّاريّ الأوائل من الذين رووا تفسيره هم الذين أهملوا ذكر ابن سلام عن قصد أو عن غير قصد؟ هذا احتمال قد يرد ، ولكنه فيما يبدو مستبعد أيضا.

والذي أميل إليه ، ولعلّه يكون أقرب إلى المنطق والواقع ، هو أنّ الشيخ الهوّاريّ يكون قد أشار في ديباجة تفسيره إلى أنّه اعتمد تفسير ابن سلّام واختصره ، وقد يكون الرواة والنسّاخ الأوائل قد نقلوا ذلك ، ولكنّ الورقة أو الورقات الأولى من مخطوطات هذا التفسير قد ضاعت في القرن الثالث الهجري أو الرابع ولم تصلنا. فإنّ أقدم المخطوطات التي بين أيدينا من تفسير الهوّاريّ يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر الهجريّ ، وهذه المخطوطات مخرومة كلّها من أوّلها. هذا رأي أسجّله ولا أجزم به ، لأنّني لا أملك من الوثائق التاريخيّة ومن الأدلّة الموضوعيّة الكافية ما يسمح بتقديم جواب شاف ورأي يطمأنّ إليه.

__________________

ـ من هذا التفسير الموجود بالقرويّين تحت رقم ٣٤. فجزى الله جميعهم عنّي وعن الإسلام كلّ خير.

٢٧

ومهما يكن الأمر فهذان تفسيران بين أيدينا الآن : الأوّل تفسير ابن سلّام ، والثاني تفسير الهوّاريّ ، توفّي ابن سلّام بإجماع سنة مائتين للهجرة ، وتوفّي الهوّاريّ بعده بنحو ثمانين سنة. وفي التفسير الثاني كثير ممّا جاء في الأوّل وزيادة ، فلا بدّ أن يكون هذا المتأخّر زمانا هو الذي اختصر من السابق ونقل عنه. ولكلّ من المؤلّفين فضل وأجر ، ولكلّ من الكتابين مميّزات ومزايا كما سنبيّنه فيما يلي (١).

تفسير ابن سلام :

إنّ تفسير ابن سلّام أصبح الآن معروفا لدينا بعد أن قدّمت حوله دراسات ضافية وأبحاث قيّمة (٢).

وبعد أن حقّقت بعض أجزائه تحقيقا علميّا كافيا لتقديم صورة تقريبيّة عن محتواه ومنهجه (٣). ولكنّه مع ذلك لا يزال غير كامل فيما أعلم.

لقد تتبّعت بعناية كلّ قطع المخطوطات المصوّرة الموجودة بالقاهرة (٤) وقد شملت هذه

__________________

(١) لقد كان لي شرف بسط هذه المسالة وأنا بالقاهرة سنة ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م بين يدي العالم الجليل والمحّقق الكبير الأستاذ الشيخ محمود محمّد شاكر ، فأكّد لي أنّ عادة اختصار الكتب ونقل المؤلّفين بعضهم عن بعض موجودان كثيرا في تاريخ التأليف. وقد يذكر اللاحق من سبقه ممّن نقل عنه وقد لا يذكره. وضرب لي مثالا ممّا حقّقه هو مؤخّرا ممّا كان يظنّ أنّه لمؤلّف وتبيّن له أنّ أصله لمؤلّف آخر سبقه. وقال : «وهذا لا ينقص من قيمة المؤلّف الثاني مطلقا». وهذا ما لمسته فعلا كلّما تقدّمت في دراسة تفسير الشيخ الهوّاريّ.

(٢) إنّ أحسن دراسة علميّة وأوفاها في الموضوع هي تلك الأعمال الممتازة التي نشرتها الباحثة الفاضلة الدكتورة هند شلبي في تقديمها وتحقيقها لكتاب «التصاريف» لابن سلّام ، وفي أطروحتها : «القراءات بإفريقية من الفتح إلى منتصف القرن الخامس الهجري». وأنا أحيل القارئ عليها ، فهي من خير ما كتب حول الدراسات القرآنيّة في القرون الإسلاميّة الأولى بإفريقية. ولعلّ الباحثة الفاضلة أصدرت أعمالا أخرى لم أطّلع عليها. فجزاها الله عنّا وعن الإسلام وعن لغة القرآن وعلومه خير الجزاء.

(٣) حقّق الأساتذة الفضلاء السادة حمود صمود ، والبشير المخينيني ، ورشيد الغزي تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمّد طالبي ستّة أجزاء من تفسير ابن سلّام مصدّرة بدراسات حول ابن سلّام ، وذلك منذ سنوات ، ولكنّي لم أطّلع عليها إلّا أخيرا ، فبارك الله فيهم ووفّقهم لمزيد من البحث والتحقيق.

(٤) هي قطع غير مرتّبة توجد بدار الكتب المصريّة ضمن ملفّات تحمل الأرقام التالية : ب ٢٤٧٩١ ، ب ٢٤٧٩٢ ، ب ٢٤٨٣١ ، وب ٢٤٨٣٢. وقد وصلت هذه القطع المصوّرة دار الكتب المصريّة سنة ـ

٢٨

القطع ما كان موجودا في خزائن القيروان ، والعبدليّة بتونس ، وفي خزانة الأستاذ حسن حسني عبد الوهّاب ، وقارنتها بما جمعته من تفسير الهوّاريّ ، فوجدت أنّ تلك القطع المصوّرة لا تكفي وحدها لإتمام الكتاب. فسورة البقرة مثلا التي تملأ في تفسير الهوّاريّ نحو سبعين ورقة لا يوجد منها إلّا نيّف وثلاثون لوحة من القطع الصغير فيما اطّلعت عليه من مخطوطات القاهرة. وقد بحثت طويلا فيها عن المقدّمة وعن تفسير سورة الفاتحة فلم أعثر على شيء منهما ، مع أنّ المقدّمة موجودة في تفسير ابن سلّام أصلا ، فقد وصل إلينا أكثرها مع تفسير سورة الفاتحة كاملة في مخطوطتين من تفسير الشيخ الهوّاريّ.

وكأنّي بالشيخ محمّد الفاضل ابن عاشور كان حسن الظنّ كثيرا فيما قدّره من مجموع ما هو موجود من تفسير ابن سلّام حين كتب يقول : «ويوجد جزء لعلّه يتمّم به بعض نقص النسخة هو من المقتنيات الخاصّة لبعض العلماء الأفاضل» (١). وفهمت من عبارته هذه أنّه يشير إلى مخطوطة الأستاذ حسن حسني عبد الوهّاب ، وكأنّي به علم بوجودها ولكنّه لم يطّلع عليها ، لأنّه لو كان اطّلع عليها لعلم أنّها لا تزيد عمّا في مخطوطة العبدليّة شيئا ، بل تنقص عنها بكثير.

إنّ أغلب تفسير ابن سلّام مفرّق بين القطع القيروانيّة المخطوطة.

وهذه القطع مع ما يقرب من عشرة أجزاء من مخطوطة العبدليّة لا تجمع ـ حسب تقديري ـ إلّا حوالى ثلثي الكتاب ؛ لذلك يكون من الصعب الوصول إلى جمع تفسير ابن سلّام وتحقيقه كلّه إذا لم يعثر على قطع أخرى من مخطوطات الكتاب.

رواية تفسير ابن سلّام :

أشهر من روى تفسير ابن سلّام تلميذان له : ابنه محمّد بن يحيى المتوفّى سنة ٢٦٢ ه‍ / ٨٧٥ م (٢) وأبو داود أحمد بن موسى بن جرير الأزدي العطّار المتوفّى

__________________

ـ ١٩٥٠ حسبما أفادني به السيّد الفاضل الأستاذ علي عبد المحسن ، مدير قسم المخطوطات.

(١) محمّد الفاضل ابن عاشور ، التفسير ورجاله ، ص ٢٨.

(٢) أبو العرب ، طبقات علماء إفريقية ، ص ٣٨ ـ ٣٩. وكان أبو العرب ممّن روى تفسير ابن سلّام عن حفيد المؤلّف يحيى بن محمّد ، بل ذكر عياض في ترتيب المدارك ج ٢ ص ٣٣٥ أنّه كان اختلف أيّاما إلى دار أبيه محمّد بن يحيى بن سلّام في أوّل طلبه للعلم.

٢٩

سنة ٢٧٤ ه‍ / ٨٨٧ م (١).

وكان هذا الأخير من كبار أصحاب سحنون.

ويبدو لي من مقارنة المخطوطات القيروانيّة وغيرها أنّ القطع التي وصلتنا برواية أبي داود العطّار أكثر من التي وصلتنا برواية محمّد بن يحيى. وبواسطة هذين التلميذين انتشر الكتاب وتناقلته الأجيال تلاميذ عن شيوخ ، وخلفا عن سلف عبر القرون والأمصار.

وقد أورد ابن خير الإشبيلي (٢) أسماء كثير من العلماء الذين رووا تفسير ابن سلّام بأسانيد مختلفة عن طريق أبي الحسن عليّ بن الحسن المرّي البجّاني المتوفّى سنة ٣٣٤ ه‍ / ٩٤٦ م. وقد تلقّاه عن أبي داود العطّار وعن يحيى بن محمّد بن يحيى بن سلّام (٣). كما أورد ابن الفرضيّ كثيرا من العلماء الذين رووا تفسير ابن سلّام (٤).

أمّا المفسّرون والمحدّثون الذين اقتبسوا من تفسير ابن سلّام ونقلوا آراءه وأقواله فإنّهم لا يحصيهم عدّ. منهم على سبيل المثال : أبو عبد الله محمّد بن أحمد القرطبيّ ، صاحب «الجامع لأحكام القرآن» (٥) ، وأبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن ابن الجوزي ، صاحب «زاد المسير» (٦) ، والحافظ ابن حجر ، صاحب «فتح الباري» (٧) ، وغيرهم كثير.

أما ابن جرير الطبريّ فلم أعثر في تفسيره على ذكر لابن سلّام أو لأقواله إلّا مرّة واحدة من

__________________

(١) أهمّ مصادر ترجمته : أبو العرب ، ص ٢٠٣ ؛ الدبّاغ ، معالم الإيمان ، ج ٢ ص ٢٨٨ ؛ القاضي عياض ، ترتيب المدارك ، ج ٣ ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ؛ ابن فرحون ، الديباج المذهّب ، ص ٣٢.

(٢) ابن خير ، الفهرست ، ص ٥٦ ـ ٥٧.

(٣) هو حفيد المؤلّف ، روى تفسير جدّه عن أبيه محمّد بن يحيى ، وأخبر أنّ لأبيه محمّد زيادات على تفسير جدّه ، كما ذكره ابن خير في الفهرست ، ص ٥٧. وقد توفّي يحيى الحفيد سنة ٢٨٠ ه‍ / ٨٩٣ م ، حسبما رواه أبو العرب في ص ٣٩.

(٤) ابن الفرضي ، تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس ، ج ١ ص ٣٥٧.

(٥) انظر : مثلا تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢٧٩ ، وج ١٣ ص ٢٤٧.

(٦) انظر : زاد المسير ، ج ٨ ص ٣٠٥ ، وقد نقل عبارات ابن سلّام هذه ابن القيّم في كتابه «الأمثال في القرآن» ص ٢٦٦ ، وانظر أيضا ، زاد المسير ج ٩ ص ٣٣ ، وص ١٩٥.

(٧) انظر : فتح الباري ، ج ٨ ص ٦٣٢.

٣٠

الأجزاء الستّة عشر التي رجعت إليها من تحقيق الأستاذ الشيخ محمود محمّد شاكر (١) ولعلّ ذلك راجع إلى أنّ تفسير ابن سلّام روي أوّلا وانتشر أكثر في إفريقية والمغرب والأندلس.

منهج تفسير ابن سلام :

يعدّ تفسير ابن سلام من أقدم ما وصل إلينا من كتب التفسير بالمأثور ؛ فقد تتبّع فيه المؤلّف سور القرآن كلّها آية آية ، يذكر سبب نزولها إن وجد ، ويذكر ما يناسبها من الآية أو الآيات المشابهة لها إن كانت. وتفسير القرآن بالقرآن هي القاعدة الأساسية التي التزم بها في تفسيره. وهي في رأيي الطريقة المثلى في مناهج تفسير القرآن. وقديما قيل : ما فسّر القرآن مثل القرآن.

ثم يذكر بأسانيد متّصلة في أغلب الأحيان الأحاديث التي تبيّن الآية وتعين على فهمها ؛ يرويها عمّن حدّثه بها مباشرة ، فيقول مثلا : «حدّثني حمّاد بن سلمة عن الحسن» ، أو «الحسن بن دينار عن الحسن» ، أو «أبو الأشهب عن الحسن» ، أو «حدّثني سعيد عن قتادة» ، أو «همّام عن قتادة». وربما حدّث ابن سلّام عن «صاحب» له من غير ذكر لاسمه. وأحيانا يتحدّث عن نفسه بهذه العبارة : «قال يحيى» : بلغني أنّه كذا وكذا. ويذكر أخبار الصحابة أو التابعين ويروي أقوالهم بالسند أحيانا وبدونه أخرى. وربما اكتفى بقوله : «وفي تفسير الحسن». أو «في تفسير مجاهد» كذا وكذا. وإذا أراد ترجيح رأي على رأي ، أو الإدلاء برأيه هو قال : «قال يحيى» ، أو : «وبه يأخذ يحيى وعليه يعتمد». وإذا كان للآية قراءتان أو أكثر أشار إلى ذلك وذكر باختصار شديد مدلول كلّ قراءة من دون تعمّق في التعليل.

وأهمّ مصادر تفسير ابن سلّام من تفاسير الصحابة : تفسير ابن عبّاس ، وتفسير ابن عمر ، وتفسير ابن مسعود ، وتفسير عليّ بن أبي طالب وغيرهم ؛ يذكر ما أثر عنهم ويروي أقوالهم ، وخاصّة في تفسير آيات الأحكام. ومن تفاسير التابعين اعتمد ابن سلّام خاصّة تفسير الحسن وتفسير مجاهد.

وابن سلّام يكثر الرواية عن الكلبيّ وعن السدّيّ ، لذلك لا نعجب إذا وجدنا في تفسيره بعض الإسرائيليّات التي يوردها بدون أن ينقدها أو يعلّق عليها ، كما فعل بعض المفسّرين الذين أتوا من بعده ، مثل الطبريّ ، ومثل ابن كثير وأضرابهم.

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٤ ص ١٠٠ في تفسير الآية ١٩٦ ، من سورة البقرة.

٣١

وقد ألّف المؤلّف كتابه هذا في التفسير بعد كتاب له في الحديث ذكره ابن الجزريّ وآخرون باسم «الجامع» (١) ، ولم يذكره ابن سلّام بهذا العنوان ، ولكنّه يشير إليه أحيانا إثر تفسيره لبعض آيات الأحكام فيقول مثلا : «وقد ذكرنا ذلك في أحاديث الزكاة» (٢).

أمّا كتابه «التصاريف» ، وهو كتاب في علم الأشباه والنظائر ، فلم أعثر على ذكر له أو إشارة إليه في كامل التفسير. وكأنّي به قد وضعه بعد تأليفه للتفسير. وممّا يقوّي هذا الظنّ عندي ويرجّحه هو أنّ أغلب الوجوه المختلفة التي صرف إليها اللفظ القرآنيّ في كتاب «التصاريف» موجودة فعلا في كتاب التفسير ، إمّا بنصّها وعبارتها أو بمعناها. فكأنّ كتاب «التصاريف» زبدة استخرجها المؤلّف من تفسيره وتناول بها جانبا من جوانب التفسير فأفرده بمؤلّف خاصّ.

هكذا وصل إلينا تفسير ابن سلّام ، وهو يمثّل بمنهجه ومحتواه صورة حيّة لطور من أطوار التفسير في مراحله الأولى ، أى في القرن الثاني الهجري.

وقبل أن أعود إلى الحديث عن تفسير الشيخ الهوّاريّ لا بد أن أقول كلمة مختصرة عن تفسيرين آخرين لهما علاقة بتفسير ابن سلّام.

ـ الأوّل : تفسير عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن أبي المطرّف الأنصاريّ القنازعيّ القرطبيّ (٣). والمصادر التي ترجمت لأبي المطرّف عبد الرحمن القرطبيّ تذكر أنّه صنّف مختصر تفسير القرآن لابن سلّام ، ولكنّنا لا نجد في أى مصدر خبرا مفصّلا عن هذا الكتاب ، عن منهجه أو عن محتواه.

وأغلب الظنّ أنّ مخطوطات هذا المختصر غير معروفة ، ولعلّ الأيّام المقبلة تكشف عنه إن شاء الله. أمّا المؤلّف فقد ولد سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة للهجرة ، ومات في رجب سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. وكان ممّن روى عنه أبو عمر يوسف بن عبد البرّ ، صاحب «الاستيعاب».

__________________

(١) ابن الجزري ، غاية النهاية في طبقات القرّاء ، ج ٢ ص ٣٧٣.

(٢) انظر مثلا تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة في هذا الجزء ، وتفسير الآية الأخيرة من سورة الحجّ في الجزء الثالث.

(٣) أهمّ من ترجم له : ابن الجزري في طبقات القرّاء ، ج ١ ص ٣٨٠ ، ابن فرحون في الديباج ص ١٥٢ ، والداودي في طبقات المفسّرين ، ج ١ ص ٢٨٧.

٣٢

ـ والتفسير الثاني : هو تفسير محمّد بن عبد الله بن عيسى المرّي الإمام أبو عبد الله الإلبيري المعروف بابن أبي زمنين. وقد ولد ابن أبي زمنين سنة ٣٢٤ ه‍ / ٩٣٥ م ، وتوفّي بإلبيرة سنة ٣٩٩ ه‍ / ١٠٠٨ م (١). ومن مؤلّفاته الكثيرة «مختصر تفسير ابن سلّام» الذي حفظت لنا مكتبة جامعة القرويّين بفاس نسخة مخطوطة منه كاملة (٢).

وقد ذكر المؤلّف الأسباب التي دفعته إلى اختصار تفسير ابن سلّام وبيّن منهجه في الديباجة قائلا : «وبعد فإنّي قرأت كتاب يحيى بن سلّام في تفسير القرآن فوجدت تكرارا كثيرا ، وأحاديث ذكرها يقوم علم التفسير دونها ، فطال بذلك الكتاب ... ، نظرت فيه فاختصرت فيه مكرّره وبعض أحاديثه ، وزدت فيه على غير كتاب يحيى ما لم يفسّره يحيى ، وأتبعت ذلك إعرابا كثيرا ولغة على ما نقل عن النحويّين وأصحاب اللغة السالكين لمناهج الفقهاء في التأويل زائدا على الذي ذكره يحيى من ذلك ...».

ولئن كان ابن أبي زمنين اختصر الكتاب اختصارا مخلّا أحيانا ، ونقص من محتواه كثيرا ، كحذفه لبعض ما يتعلّق بالأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين وأخبارهم ، فقد أضاف إلى تفسير ابن سلّام شيئا هامّا وهو الشرح اللغويّ والملاحظات النحويّة أو الصرفيّة التي تزيد الآية بيانا وتوضيحا. ومن مزايا تفسير ابن أبي زمنين أنّ المؤلّف حافظ فيه على الأسانيد فيما ينقل من تفسير ابن سلّام ، وفرّق بين ما هو من أقوال ابن سلّام بقوله : «قال يحيى» ، وبين ما هو من زياداته بقوله : «قال محمّد» (٣).

__________________

(١) انظر : ابن فرحون ، الديباج ، ص ٢٦٩ ، الحميدي ، جذوة المقتبس ، ص ٥٦ ، القاضي عياض ، ترتيب المدارك ج ٢ ص ٦٧٢ ، الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، ج ١٧ ص ١٨٨ ط بيروت ، الداودي ، طبقات المفسّرين ، ج ٢ ص ١٦١ ، السيوطي ، طبقات المفسّرين ص ٨٩. وكان ممّن روى عن ابن أبي زمنين أبو عمر الداني.

وقد بلغني أنّ الأستاذ محمّد إبراهيم بن محمّد هارون ، من الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة قد حقّق أخيرا كتاب أصول السنّة لابن أبي زمنين ، وقدّم دراسة حوله ؛ ولم أتمكّن من الاطّلاع على هذا العمل الذي لا أشكّ في أنّه مفيد.

(٢) بلغني أنّ هذا المختصر قد حقّق في المغرب تحت إشراف الدكتورة عائشة عبد الرحمن.

(٣) لقد بيّن ابن أبي زمنين طريق روايته لتفسير ابن سلّام أجلى بيان عند ما كتب في المقدّمة ما يلي : «وجميع ما نقلته من كتاب يحيى فقد أخبرني به أبي رحمه‌الله عن أبي الحسن عليّ بن الحسن عن أبي داود أحمد بن ـ

٣٣

وقد كان تفسير ابن أبي زمنين أحسن مساعد لي على التحقيق ، وخفّف عنّي كثيرا من العناء الذي كنت أشعر به قبل حصولي على مخطوطة الكتاب.

تفسير العلّامة هود الهوّاريّ ؛ ميزته وقيمته :

إذا كان تفسير ابن سلّام البصريّ أصلا لتفسير الشيخ هود بن محكّم الهوّاريّ كما بيّنت ، فكيف رواه الشيخ الهوّاريّ أو وصل إليه حتّى عني به واختصره؟ ما هو الدافع له؟ وما هو الغرض من عمله هذا؟ ماذا نجد في تفسيره من جديد؟ بماذا يمتاز تفسيره عن مختصر ابن أبي زمنين؟ وما هي قيمته بين كتب التفسير؟ هذه الأسئلة وغيرها واردة في الموضوع ولا شكّ. وقد لا نتمكّن من الإجابة عنها كلّها إجابة شافية ؛ لأنّ الوثائق الضروريّة والدلائل الكافية مفقودة ، لضياع الأوراق الأولى من مخطوطات تفسير الهوّاريّ ، ولكنّنا نحاول ذلك ، والله الموفّق الهادي بمنّه وفضله.

تجمع المصادر التي بأيدينا على أنّ تفسير يحيى بن سلّام سمع بالقيروان ، ورواه الناس بها مباشرة عن مؤلّفه ، وخاصّة ابنه محمّد وتلميذه أبو داود العطّار. وكان أواسط القرن الثالث الهجريّ هي الفترة التي ملأ فيها هذا التفسير مجالس العلم وحلق الدروس والمناظرة بالقيروان خاصّة ، وفي إفريقية الإسلاميّة عامّة. وكانت دار محمّد بن يحيى مركزا من مراكز العلم ، كما يفهم من رواية القاضي عياض (١) ، ومفتوحة للطلبة الذين يقصدونها ، وهم يرتدون زيّا خاصّا ، للتفقّه على هذا العالم الذي ورث علم أبيه ، ويؤمّها الفقهاء والعلماء للمناظرة وتلقّي بعضهم عن بعض في مجلس هذا العالم «الثقة النبيل» كما وصفه أبو العرب (٢) فهل كان الشيخ الهوّاريّ من بين هؤلاء الطلبة والعلماء؟.

ثمّ إنّ تفسير ابن سلّام في أوائل القرن الثالث الهجري وأواسطه كان التفسير الجديد الكامل الذي طبّقت شهرته إفريقية الإسلاميّة وذاع صيته ؛ فحداثته كافية لأن تجذب الأنظار والهمم إليه ،

__________________

ـ موسى عن يحيى بن سلّام ، ومنه ما حدّثني به عن أبي الحسن عن يحيى بن محمّد بن يحيى بن سلّام عن أبيه عن جدّه ...».

(١) عياض ، ترتيب المدارك ، ج ٢ ص ٣٣٥.

(٢) أبو العرب ، طبقات علماء إفريقية ، ص ٣٨.

٣٤

وكون مؤلّفه بصريّا استوطن القيروان تمنح الكتاب ميزة خاصّة تزيد الناس إغراء بالاطّلاع عليه ، وولوعا بتلقّيه. وهذه القيمة العلميّة إنّما اكتسبها من قبل أنّ مؤلّفه بصريّ المنشأ والتعلّم ، عاش ريعان شبابه وكهولته في وسط من أكثر الأوساط الإسلاميّة ازدهارا ونشاطا في علوم القرآن والحديث ، واللغة والأدب ، وها هو ذا يقدّم ثمرة علمه وعصارة جهده تفسيرا قريبا عهده بالمنابع الأولى من القرآن والسنّة ، عاليا سنده في الرواية ، موصولة أخباره وآثاره بالصحابة والتابعين وتابعيهم.

كلّ هذا يقوّي ظنّنا أنّ الشيخ الهوّاريّ قد رحل الى القيروان طلبا للعلم ، وهو في عنفوان شبابه أو أوائل كهولته. وسواء أكان بلغه خبر هذا التفسير وهو في أوراس ، أو علمه وهو في القيروان ، فإنّه يكون ، وهو في القيروان ، تلقّاه مباشرة من محمّد بن يحيى المتوفّى سنة ٢٦٢ / ٨٧٥ ، أو من أبي داود العطّار المتوفّى سنة ٢٧٤ / ٨٨٧. وأستبعد أن يكون تلقّاه من يحيى بن محمّد بن يحيى الحفيد المتوفّى سنة ٢٨٠ / ٩٨٣ (١).

ها هو ذا الكتاب بين يديه ، يدرسه ويستفيد منه ، ولكنّه يكتشف فيه أحيانا آراء وأفكارا لا تنسجم مع ما تعلّمه من قبل وآمن به. إنّ مسائل الكفر والإيمان مثلا ليست دائما في هذا التفسير الجديد على ما استقرّ في نفسه ، وحسبما تلقّاه من أسلافه ، ودرسه على أساتذته ومربّيه. لقد تعلّم أنّ النفاق ليس هو إظهار الإيمان وإضمار الكفر فحسب ، ولكنّه أيضا أن ينطق الإنسان بالشهادتين ولا يستكمل الفرائض ولا يفي لله بما أقرّ به. وإذا كانت الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله ، فإنّها لا تنفع إلّا المؤمن الموفّي ، أمّا الكافر الذي يتمادى في غيّه ، ويموت مصرّا على ذنبه ولم يتب ، فهو خالد في النار.

هذه المسائل وشبيهاتها جعلت الشيخ هودا يعيد النظر في تفسير ابن سلّام فهو وإن كان معجبا به ، مقدّرا لمؤلّفه إلّا أنّه لا يقبله على علّاته ، ولا يتبنّاه بكلّ ما فيه. فما العمل؟ يبدو أنّ الشيخ الهوّاري لا يريد أن يؤلّف تفسيرا من عنده ، مستقلّا بذاته ، ولعلّه كان من أولئك الذين يتهيّبون التفسير (٢) مخافة أن يتقوّلوا على الله أو يتأوّلوا كلامه على غير وجوهه ، الله أعلم. وكأنّه يرى أنّه ما

__________________

(١) والثابت عندي الآن أنّه تلقّاه من يحيى الحفيد.

(٢) كتب إليّ الأستاذ الشيخ ناصر المرموري بما نصّه : «كان علماء الإباضيّة يهابون تفسير القرآن. قال لي الإمام غالب رواية عن بعض مشايخه : إنّ الشيخ أبا نبهان جاعد بن خميس حاول ذلك ، فبدأ من سورة الناس ، ـ

٣٥

دام قد وجد تفسير مرويّ متداول ، فليعد هو كتابته على ما يعتقد أنّه الحقّ والصواب ؛ يبقي على ما ارتضاه ووافق أصول عقيدته ، وهو جلّ التفسير ، ويصحّح أو يحذف ما يراه غير صواب ، ويضيف من علمه ومعارفه ما يرى فيه فائدة للقارئ المستفيد.

ذلك هو الموقف الذي اتّخذه الشيخ الهوّاري إزاء تفسير ابن سلّام ، وذلك هو عمله طوال الكتاب ، حسبما يستنتجه الباحث إذا قارن تفسير الهواري بأصله.

إنّ الشيخ الهوّاري لا يفتأ يؤكّد في كلّ مناسبة على أنّ الإيمان بالقول وحده لا يكفي ، بل لا بدّله من العمل الذي يحقّقه ويتمّ به. وهو يردّ بذلك على كلّ من يقول بالإرجاء ، وإن لم يصرّح بلفظه.

وكان ابن سلّام قد رمي بالإرجاء ، وإن أقسم أنّه بريء منه ، حسبما رواه أبو العرب(١). والحقّ أنّ رواية أبي العرب توحي أنّه فعلا بريء منه ، ولكن لّما كانت التهمة صدرت خطأ من سحنون بن سعيد فإنّها انتشرت بين الخاصّة والعامّة ، على حدّ قول الشاعر :

قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا

فما اعتذارك من قول إذا قيلا

فهل كان الهوّاريّ يقصده بالذات؟ وهل كان من أغراض كتابه أن يتعقّب ابن سلّام في هذه المسألة خاصّة؟ إنّ كثيرا من زيادات الهوّاريّ على أصل التفسير توحي بذلك ، ولكن لا يستطيع الباحث أن يجزم في الموضوع بشيء ما دام الشيخ الهوّاريّ لم يبيّن غرضه من تأليف الكتاب ، أو قد بيّنه ولم يصل إلينا.

ومهما يكن فإنّ وقوفه ضدّ من يقول بالإرجاء شيء بارز في ثنايا الكتاب وهي من إحدى ميزاته. وهذه أمثلة من ذلك ، وهي تبيّن أيضا نماذج من زيادات الشيخ هود على أصل الكتاب.

عند ما يقول ابن سلّام مثلا في قول الله تعالى من سورة النحل ، الآية ٩٣ (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) : «قال الحسن : كما صنع المنافقون ، فلا تصنعوا كما صنع المنافقون ، فتظهروا

__________________

ـ فلمّا بلغ سورة الحاقّة عند قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الآيات : ٤٤ ـ ٤٧] قطع أوراقه وترك التفسير هيبة وخوفا».

(١) طبقات علماء إفريقية ، ص ٣٧ ـ ٣٨. وانظر ما كتبته هند شلبي في مقدّمتها لكتاب يحيى بن سلّام ، التصاريف ، ص ٧٨ ـ ٨٢ ، فقد بحثت الموضوع من جميع جوانبه.

٣٦

الإيمان وتسرّوا الشرك ، والدّخل إظهار الإيمان وإسرار الشرك» (١). يقول الهوّاريّ : «(دخلا بينكم) أى : خيانة وغدرا كما صنع المنافقون الذين خانوا الله إذ نقضوا الإيمان فقالوا ولم يعملوا ، وتركوا الوفاء بما أقرّوا لله به ، والدخل الخيانة».

وإذا قال ابن سلّام في ريب المنافقين الذي ورد في الآية ٤٥ من سورة التوبة : «(وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أى : شكّت في الله عزوجل وفي دينه» ، كما جاء في مختصر ابن أبي زمنين ، ورقة ١٢٧ ، قال الشيخ الهوّاريّ : «أي : وشكّت قلوبهم في أن لا يعذّبهم الله بالتخلّف عن الجهاد بعد إقرارهم بالله وبالنبيّ ... ولم يكن ارتيابهم شكّا في الله وإنّما كان ارتيابهم وشكّهم في أن لا يعذّبهم الله بتخلّفهم عن نبيّ الله بعد إقرارهم وتوحيدهم».

وفي تفسير قول الله تعالى من سورة فاطر ، الآية ١٠ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) يكتفي ابن سلّام بقوله : «(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أى : التوحيد (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) التوحيد ، لا يرتفع العمل إلّا بالتوحيد». يزيد الشيخ الهوّاريّ : «ولا التوحيد إلّا بالعمل ، كقوله تعالى : (وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [سورة الإسراء : ١٩] ، والإيمان قول وعمل ، لا ينفع القول دون العمل».

وأحيانا نجد الشيخ الهوّاري يضيف زيادات لتأكيد هذا المعنى ، وربّما بالغ أحيانا فحمّل الآية ما لا تحتمل. لنستمع إليه يعلّق على الآية ٢٧ من سورة الأنعام : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، فهو يرى في معنى التكذيب الذي ورد في الآية رأيا خاصّا. قال : «وقال بعضهم : هم المنافقون ، وليس تكذيبهم هذا تكذيبا بالبعث ، ولكنّه بالعمل الذي لم يكملوه ، ولم يتمّوا فرائضه. ومن قال إنّها في المنافقين فيقول : التكذيب تكذيبان : تكذيب بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، وهو تكذيب المشركين ، والمنافقون منه برآء. وتكذيب آخر ، هو تكذيب المنافقين ، وهو ترك الوفاء وانتقاص الفرائض التي لا يكون أهلها مؤمنين إلّا باستكمالها. فالمنافقون مكذّبون بهذه الجهة ، وبهذا المعنى ؛ لا على الإنكار والجحود ، لكن على ترك الوفاء واستكمال الفرائض كان تكذيبهم».

والحقّ أنّ من تدبّر هذه الآية من سورة الأنعام يدرك أنّها لا تعني المنافقين بالمعنى العامّ

__________________

(١) مخطوطة العبدلية ، ورقة ٣ ظ.

٣٧

للنفاق ، الذي نقرأ صورا عنه في سورة براءة مثلا أو غيرها من السور. فإنّ السورة هنا مكّيّة ، وسياق الآيات قبلها وبعدها يوحي بأنّها نزلت في مشركي قريش الذين ينكرون نبوّة سيّدنا محمّد عليه‌السلام ورسالته ، وينكرون البعث ويكذبون به. ولكنّ الشيخ هودا يرى في هذا التكذيب هنا معنى انتقاص الفرائض ، ويسمّي أصحابه منافقين ، وهو معنى بعيد متكلّف لا ينتزع من الآية إلّا باقتسار.

وهناك زيادات أخرى يضيفها الشيخ الهوّاريّ القصد منها إيضاح معنى يغمض ، أو دحض شبهة تعترض ، أو إسناد رأي إلى قائل به ، وهذه أمور يجدها القارئ في أجزاء التفسير كلّها ، خاصّة في تفسير آيات الأحكام ، وهي زيادات هامّة تدلّ على فقه واسع لدى الشيخ الهوّاريّ ، وإدراك عميق لأسرار التشريع.

أمّا ما يتعلّق بحذف الشيخ الهوّاريّ لأحاديث وأخبار وردت في تفسير ابن سلّام ، فالملاحظ أنّه يحذف الأحاديث التي لم تصحّ عنده ، والتي لا تتّفق وأصول مذهبه. لقد حذف أحاديث في تفسير قوله تعالى من سورة مريم ، الآية ٨٧ : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) وهي أحاديث في الشفاعة. وحذف أحاديث متتابعة في تفسير قوله تعالى من أوائل سورة الحجر : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [سورة الحجر : ٢] وهي أحاديث حول من سمّوا بالجهنّميّين ، أو بعتقاء الرحمن (١) لم تصح عنده كذلك. وقد أشرت إلى ذلك على الهامش في مواضع كثيرة من هذا التفسير.

إذا كانت هذه الزيادات المفيدة والآراء الخاصّة التي تنبئ عن فكر الهواريّ وعن شخصيّته العلميّة تمثّل جانبا إيجابيّا هامّا في تفسير الهوّاريّ ، فمن الإنصاف أن نقول : إنّ حذف المؤلّف لأسانيد الرواة هو جانب من جوانب النقص فيه. لقد اختصر المؤلّف أغلب سلاسل الإسناد أو حذفها ، واكتفى بذكر الصحابيّ الذي روى الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أمّا عن أسماء التابعين وتابعيهم وعن شيوخه هو فلا نعلم عنهم إلّا قليلا. وكان الهوّاريّ يبدأ الكلام أحيانا بقوله : «قال بعضهم» ، أو «ذكر عن بعضهم» ثمّ يأتي بالخبر. وربما قال أحيانا : «بلغني كذا وكذا» فيظنّ القارئ أنّ العبارة من قوله هو ، ولكن عند المقارنة يتبيّن أنّ العبارة لابن سلّام. وهذا خطأ منهجيّ ما كان

__________________

(١) هي موجودة في القطع القيروانيّة لمخطوط تفسير ابن سلّام ، قطعة رقم ١٧٧ ، ملف ٥٦.

٣٨

ينبغي أن يقع فيه الهوّاريّ ، خاصّة وهو يؤلّف في عهد كان فيه الإسناد والرواية من العلوم التي يعنى بها عناية بالغة.

وهنالك جانب نقص آخر : هو التكرار المملّ أحيانا ، أو وجود بعض عبارات في التفسير بلغت من البساطة حدّا لا يليق بمستوى تفسير كتاب الله.

هذا هو رأينا في تفسير الشيخ الهوّاريّ وقيمته.

أمّا عن منزلته فهو يعدّ بحقّ أوّل مختصر لتفسير ابن سلّام البصريّ ، ولو لم يكن له من مزيّة إلّا أنّه حفظ لنا تفسير ابن سلّام في صورته الكاملة أو القريبة من الكمال لكفاه فخرا وفضلا ، لأنّ مخطوطات تفسير ابن سلّام لا تزال ناقصة. وإذا ما قورن تفسير الهوّاريّ بتفسير ابن أبي زمنين فإنّه يعتبر أقدم عهدا منه ، وأقرب إلى زمن المؤلّف ، وأكبر حجما ، وأغزر مادّة وأكثر فائدة ، لأنّه حوى من الآثار ومن الأخبار المفيدة ما لا يوجد في تفسير ابن أبي زمنين ، وهذا لا يتبيّن إلّا لمن تتبّع المختصرين بالقراءة المتأنّية ، والمقارنة الدقيقة المستوعبة. والمقام لا يتّسع لتقديم بعض الأمثلة.

عملي في الكتاب :

كان أوّل عمل قمت به إثر تعرّفي على المخطوطة الأولى من تفسير الهوّاريّ هو السعي لاستكمال الكتاب وجمعه من الخزائن المتفرّقة ، ولم يكن ذلك ـ علم الله ـ سهلا ميسّرا. وكنت كلّما حصلت على جزء أو بعضه بادرت إلى نسخه بنفسي نسخا أوّلا بدون تحقيق أو تعليق ، إلّا ما جاء عفوا ، مخافة ضياع المخطوطة أو فسادها.

ولّما اكتمل التفسير عندي بعد سنين شرعت في التحقيق. وكانت جميع هذه النسخ المخطوطة يشيع فيها التحريف والتصحيف والسقط. وقد بذلت ما في وسعي لتصحيح الأخطاء ، وتدرعت بالصبر على ما وجدته من مسخ النسّاخ. فإذا لم يتبيّن لي وجه الصواب في كلمة أو في عبارة رجعت إلى المظانّ من كتب التفسير والحديث والسير.

وكان اعتمادي في التصحيح والتحقيق على تفسير الطبري وأمّهات كتب التفسير والحديث. واعتمدت في شرح المفردات والعبارات على كتب غريب القرآن والحديث وعلى أمّهات كتب اللغة ، وأخصّ بالذكر منها كتابي أبي عبيدة والفرّاء : «مجاز القران» و «معاني القرآن». لأنّهما من أقدم كتب التفسير اللغويّ البيانيّ ؛ لأنّ مؤلّفيهما معاصران لابن سلّام البصريّ. ولّما اكتشفت

٣٩

علاقة تفسير الهوّاريّ بتفسير ابن سلّام صرت ألجأ إلى ما استطعت الحصول عليه من قطع تفسير ابن سلّام المخطوطة وإلى مختصر ابن أبي زمنين. وهكذا استمرّ عملي سنوات إلى أن تمّ التحقيق بفضل الله وحسن معونته.

أمّا ما يتعلّق بتخريج الأحاديث فإنّني اكتفيت بعزو الحديث إلى مصادره ، ولم أستطع أن أخرّج جميع الأحاديث تخريجا علميّا كاملا ، فلم يكن ذلك بوسعي ولا من اختصاصي ، لأنّ بضاعتي من علوم الحديث مزجاة ، لا يجمل بي أن أتكلّف علما لم أستوف أصوله وفروعه ، ولم أتلقّه من أفواه العلماء المحدّثين ؛ فإذا كان الحديث مرويّا في بعض كتب الصحاح أشرت إلى الكتاب وإلى الباب الذي يوجد فيه ، وإذا لم أجد له مصدرا أشرت إلى ذلك في الهامش.

وأمّا ما يتعلّق بأعلام الرجال والأماكن فإنّني لم أعرّف إلّا بالمهمّ منها وبإيجاز ، ورأيت من الأحسن ألّا أقف طويلا عند تراجم العلماء والرواة ، صحابة كانوا أو تابعين أو غيرهم ، لئلّا تكثر الهوامش أو تطول.

وفي تفسير آيات الأحكام أحلت القارئ على بعض المصادر والمراجع الإباضيّة وغيرها من المدارس الفقهيّة ، لمن يريد مزيدا من التفصيل والتوسّع في الفروع.

وهنالك زيادات أضفتها إلى النص وجعلتها بين قوسين معقوفين ، الغرض منها إيضاح معنى أو تصحيح خطأ. وهي في أغلبها مأخوذة من تفسير ابن سلّام أو من مختصر ابن أبي زمنين. أمّا إذا كانت من مصدر غيرهما فقد جعلتها في الهوامش ؛ وهي زيادات تشير إلى وجه من وجوه التأويل تحتمله الآية ولم يرد في الأصل ، أو إعراب كلمة مختلف فيه فرجّحت ما بدا لي أولى بالصواب. ولم أتتبّع كلّ ما جاء في تفسير ابن أبي زمنين من شروح أو شواهد لغويّة ؛ لأنّ ذلك ممّا يثقل النصّ.

وفي التعاليق سجّلت بعض خواطر تعنّ ، أو ملاحظات تبدو ؛ والغرض من ذلك لفت نظر القارئ ، والطلبة بصفة أخصّ ، إلى ربط حياتنا الدينيّة والاجتماعيّة أو السياسيّة بكتاب الله لإصلاح النفوس وإصلاح مجتمعاتنا الإسلاميّة على ضوء كتاب الله وسنّة نبيّنا عليه الصلاة والسّلام.

وإذا أكثرت من ذكر المصادر والمراجع فللتوثيق أوّلا ، ثمّ لدعوة طلّابنا وطالباتنا في

٤٠