تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ١

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٢

قوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) : أى من عبادة الأوثان وقول الزور والمعاصي. ذكروا عن عائشة أنّها قالت : كسوة البيت على الأمراء ، ولكن طيّبوا البيت ، فإنّ ذلك من تطهيره.

قوله : (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥) : الطائفون من يعتقبه (١) من الناس ، والعاكفون أهل مكّة ، والركّع السجود أهل الصلاة.

وقال بعضهم : الطائفون الذين يطوفون حوله ، والعاكفون القعود (٢) حوله ينظرون إليه ، والركّع السجود الذين يصلّون إليه. ذكروا عن مجاهد وعطاء أنّ النظر إلى البيت عبادة ويكتب له به حسنات.

قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) : قال الكلبيّ : تحمل إليه من الآفاق.

قال بعضهم : ذكر لنا أنّ سيلا أتى على المقام فاقتلعه ، فإذا في أسفله كتاب ، فدعوا إليه رجلا من حمير فزبره (٣) لهم في جريدة ، ثمّ قرأه عليهم ، فإذا فيه : هذا بيت الله المحرّم ، جعل رزق أهله من معبرة (٤) تأتيهم من ثلاثة سبل (٥) مبارك لأهله في الماء واللحم. وأوّل من يحلّه أهله.

ذكروا عن مجاهد أنّه قال : وجد عند المقام كتاب فيه : إنّي أنا الله ذو بكّة صغتها (٦) يوم خلقت

__________________

(١) في ع : «يعبد» ، وفي د بياض قدر كلمة ، وفي ق «يعتقبه» ، وهي كلمة عربيّة عريقة. والاعتقاب أن يتناوب القوم عملا ويجعلوه نوبا متعاقبة. ومنه التعقيب. انظر اللسان : (عقب) ، وانظر مجد الدين ابن الأثير : منال الطالب في شرح طوال الغرائب ص ٢٣١.

(٢) في ق وع ود : «الجلوس حوله» ، وفي ز «القعود حوله». وكلاهما جمع صحيح لجالس وقاعد ، كما أنّ السجود جمع لساجد.

(٣) في ق وع شرح لكلمة زبر «أي : كتب» ، وهي من زيادة ناسخ.

(٤) كذا في ق وع : «من معبرة تأتيهم من ثلاثة سبل» ، وفي د بياض قدر كلمة. والمعبرة ـ فيما يبدو لي من السياق ـ جماعات المسافرين الذين يعبرون المكان ولا يقيمون به.

(٥) هي الطرق الثلاث : هي من أسفل الوادي وأعلاه ومن كدى. انظر تفصيل هذه الرواية عند النويري نهاية الإرب ج ١ ص ٣١١ ـ ٣١٣.

(٦) سميت مكّة بكّة لأنّها فيما قيل تبكّ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم ، وسيأتي معنى آخر لوجه تسميتها ـ

١٤١

الشمس والقمر ، وحرّمتها يوم خلقت السماوات والأرض ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء ، وجعلت رزقها يأتي من ثلاث سبل ، مبارك لأهلها من الماء واللحم ، وأوّل من يحلّها أهلها. قال : وسمعت بعضهم يقول : ويوم وضعت هذين الجبلين ، لا تزول حتّى يزول الأخشبان (١) قال : فسألت بمكّة ما الأخشبان؟ فقيل لي : هذان الجبلان.

قوله : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٢٦) : قال الحسن : لّما قال إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً ـ آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) قال الله : إنّي مجيبك وأجعله بلدا آمنا ، ولكن لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر إلى يوم القيامة ، ومن كفر فإنّي أمتّعه قليلا وأرزقه من الثمرات وأجعله آمنا في البلد ، وذلك إلى قليل ، إلى خروج محمّد. وذلك أنّ الله أمر محمّدا عليه‌السلام أن يخرجهم من الحرم ، وهو المسجد الحرام. قال : وهو مثل قوله : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) (٢٩) [الزخرف : ٢٩] وأشباهها. قال : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) [أي أدفعه] (٢) (إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٢٦).

قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) : يعني بنيانه. ورفعهما إيّاه بالبناء : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧).

قال بعضهم : ذكر لنا أنّ قواعدهما من حراء. قال : وذكر لنا أنّ البيت بني من خمسة أجبل : من حراء ولبنان وطور سيناء وطور زيتاء والجودي (٣).

__________________

ـ كذلك في سورة آل عمران : ٩٦. وجاء في ق وع ود : «صنعتها» ، والصحيح ما أثبته إن شاء الله.

(١) الأخشب : صفة لكلّ ما هو خشن غليظ. والأخشبان هما الجبلان المطلّان على الكعبة ، وهما أبو قبيس المشرف على الصفا ، والجبل الأحمر المشرف بوجهه على قعيقعان ، انظر ياقوت الحموي ، معجم البلدان ج ٢ ص ١٢٢.

(٢) في د : «ثمّ أضطرّه أى أردده» لعلّه : أردّه ، وأثبتّ ما جاء في تفسير الطبري ج ٣ ص ٥٨ : «أدفعه إليها وأسوقه».

(٣) طور سيناء : هو الجبل الواقع في صحراء سيناء بين مصر وفلسطين ، وعليه كلّم الله موسى عليه‌السلام. وطور زيتاء جبل قرب بيت المقدس ويدعى أيضا بجبل الزيتون. والجوديّ جبل قرب الموصل من أرض العراق ، وعليه استوت سفينة سيّدنا نوح عليه وعلى نبيّنا السّلام.

١٤٢

قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً) : أى : عصبة وهي الجماعة (مُسْلِمَةً لَكَ) : ففعل الله ذلك ، فبعث الله محمّدا عليه‌السلام.

قوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) : أى : مذابحنا. قال بعضهم : أراهم مناسكهم وهي الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، والوقوف بعرفات ، والإفاضة منها ، والوقوف بجمع ، والإفاضة منها ، [ورمي الجمرات] (١).

وذكروا عن ابن عبّاس أنّ إبراهيم لّما أصّل (٢) المناسك عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه فسبقه إبراهيم ، ثمّ ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان عندها ، فرماه بسبع حصيات حتّى ذهب ، ثمّ عرض له عند الجمرة الوسطى ، فرماه بسبع حصيات حتّى ذهب (٣) ... قال : وثمّ تلّه للجبين. وعلى إسماعيل قميص أبيض. فقال إسماعيل لأبيه : يا أبت : ليس لي ثوب تكفنني فيه غير هذا. فاخلعه حتى تكفّنني فيه. فالتفت فإذا هو بكبش أبيض أقرن فذبحه. ثمّ ذهب به إلى الجمرة القصوى ، فعرض له الشيطان عندها ، فرماه بسبع حصيات حتّى ذهب. ثمّ أتى به منى فقال : هذا مناخ الناس. ثمّ أتى به جمعا فقال : هذا المشعر الحرام. ثمّ ذهب به إلى عرفات. قال : فقال : ولم سمّيت عرفة؟ قال : قال له : هل عرفت؟ قال : نعم.

وقال الحسن : إنّ جبريل أرى إبراهيم المناسك كلّها ، حتّى إذا بلغ عرفات قال : يا إبراهيم : أعرفت ما رأيت من المناسك؟ قال : نعم ؛ فلذلك سمّيت عرفات. فلمّا كان عند الشجرة ، يعني جمرة العقبة يوم النحر ، ذهب يزور البيت ، فعرض له الشيطان فسدّ عليه الطريق ، فأمره جبريل أن يرميه بسبع حصيات مثل حصى الخذف ، ففعل ، فذهب. ثمّ عرض له في اليوم الثاني في الجمار كلّها ، وفي اليوم الثالث ، وفي اليوم الرابع ، كلّ ذلك يرميه بأمر جبريل بسبع حصيات.

وقال الحسن : إنّ جبريل أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المناسك كلّها ، ولكنّه أصل (٤) عن إبراهيم. وقد كان المسلمون قبل إبراهيم يؤمّون نحو الكعبة في صلاتهم.

__________________

(١) زيادة وردت في ز أثبتّها ، لأنّ رمي الجمرات من المناسك.

(٢) كذا في د : «أصل» ، وفي ق وع : «أمل» ، ولست مطمئنّا لكلا اللفظتين. ولعلّ بهما تصحيفا لم أهتد لتصويبه.

(٣) كذا وردت هذه الرواية عن ابن عبّاس في المخطوطات ق وع ود. وفيها اضطراب وخلط بين إعلام جبريل المناسك لإبراهيم وبين بلاء الله إبراهيم بذبح ابنه. ويبدو أنّ هناك خرما لم أهتد لتقديره.

(٤) كذا في المخطوطات الثلاث : «أصل» ، وضبطت في ز : «أصل» ، بفتح فسكون فضمّ.

١٤٣

قوله : [(وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) : يعني في ذرّيّته (رَسُولاً مِنْهُمْ) : فاستجاب الله له ، فبعث محمّدا عليه‌السلام في ذرّيّة إبراهيم ، يعرفون وجهه ونسبه.

قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) : أى يطهرهم. وقال بعضهم : يأخذ صدقاتهم ، وهي الطهارة. وقال بعضهم : القرآن : الكتاب ، والحكمة : السنّة. [قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩) : العزيز في نقمته الحكيم في أمره] (١).

قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) : أى عن سنّته (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) : أى عجز رأيه عن النظر لنفسه فضلّ.

قوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) : أى : بالنبوّة ، والاصطفاء هو الاختيار (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٣٠) : وهم أهل الجنّة. (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) : أى : أخلص (قالَ أَسْلَمْتُ) : أى : أخلصت (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١). قال الحسن : ذلك حين أفلت الشمس ، ف (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨) [الأنعام : ٧٨]. قوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) : أى : بهذه الكلمة ، يعني التوحيد. (وَيَعْقُوبُ) : أى : وأوصى بها أيضا يعقوب بنيه بعد إبراهيم. (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) : أى : اختار لكم الدين ، وهو الإسلام (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٣٢) : أى : إلّا وأنتم مكملون فرائض الله وشرائعه.

وقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) : أى لم تكونوا شهداء يومئذ (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١٣٣).

ذكروا عن الحسن أنّه كان يقرأها : «وإله أبيك» (٢) إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.

__________________

(١) سقطت هذه الجملة الأخيرة من الآية في المخطوطات الثلاث فأثبتّها من ز مع تفسيرها.

(٢) في ق وع ود : «إله آبائك» وهو خطأ ، والصحيح ما أثبتّه : «أبيك» وهي قراءة نسبت إلى ابن عبّاس ويحيى بن يعمر. انظر : ابن جنّي ، المحتسب ج ١ ص ١١٢. ومعاني الفرّاء ج ١ ص ٨٢ ، وقد نقل الطبري ج ٣ ص ٩٩ ملاحظة الفرّاء على هذه القراءة وشرحها وبيّن خطأها. وانظر كذلك في الموضوع مجاز أبي عبيدة ج ١ ص ٥٧.

١٤٤

قوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٤) : يعني بذلك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.

قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) : قالت اليهود : كونوا يهودا تهتدوا ، وقالت النصارى : كونوا نصارى تهتدوا. قال الله : (قُلْ) : يا محمّد (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥) : أى إنّ اليهود والنصارى مشركون. قال الحسن : (حَنِيفاً) : مخلصا. وقال الكلبيّ : الحنيف المسلم (١).

[(قُولُوا) :] قال الحسن : ثمّ أمر الله المؤمنين أن يقولوا : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) : والأسباط : يوسف وإخوته الاثنا عشر (٢) (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١٣٦).

قال : (فَإِنْ آمَنُوا) : أى أهل الكتاب (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) : أى في فراق الإيمان. قال الحسن : فجعل الله ذلك ، يعني هذه الآية ، محنة فيما بين المسلمين واليهود والنصارى.

وسئل بعض السلف فقيل له : إنّ قوما يجالسوننا فيقولون لنا : أمؤمنون أنتم؟ فقال : إذا قالوا لكم ذلك فقولوا : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ ...) إلى آخر الآية.

وقال الحسن في قوله : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) قال : الشقاق هو التعادي إلى يوم القيامة. وقال بعضهم : الشّقاق هو الفراق ، والفراق هو العداوة.

وقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) : أى حتّى يظهرك عليهم وينصرك ، فيكونوا من تحت

__________________

(١) ذكر أبو عبيدة بعض المعاني المختلفة لكلمة الحنيف في مجاز القرآن ج ١ ص ٥٨ فرأيت من الفائدة إيرادها. قال : «الحنيف في الجاهليّة من كان على دين إبراهيم. ثمّ سمّي من اختتن وحجّ البيت حنيفا لّما تناسخت السنون ، وبقي من يعبد الأوثان من العرب قالوا : نحن حنفاء على دين إبراهيم ، ولم يتمسّكوا منه إلّا بحجّ البيت والختان. والحنيف اليوم : المسلم». وانظر ترجيح الطبري لمعنى الحنيف في تفسيره ج ٣ ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) لفظ العدد : «الاثنا عشر» ، بدل من يوسف وإخوته ، لأنّ إخوته أحد عشر.

١٤٥

يديك (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣٧).

قوله : (صِبْغَةَ اللهِ) : أى دين الله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) : أى : ومن أحسن من الله دينا (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (١٣٨) (١).

وقال بعض المفسّرين : (صِبْغَةَ اللهِ) : الإسلام ، إلّا أنّ اليهود تصبغ أولادها يهودا ، وأنّ النصارى تصبغ أبناءها نصارى ، وأنّ صبغة الله الإسلام.

قوله : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (١٣٩) : أى : إنّ ديننا هو الإخلاص الذي لا شكّ فيه.

قوله : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ) : يا محمّد لهم (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) : أى : لا أحد أظلم منه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٤٠) : قال الحسن : يعني بذلك علماءهم ؛ إنّهم كتموا محمّدا ودينه ، وفي دينه أنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا مسلمين ، ولم يكونوا مشركين. ذكروا عن الحسن قال : قد علم القوم أنّ عندهم من الله شهادة أنّ أنبياءهم برآء من اليهوديّة والنصرانيّة. وقال بعضهم : كتموا الإسلام وهم يعلمون أنّه دين الله ، وكتموا محمّدا وهم يعلمون أنّه رسول الله.

قوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) : أى : لها ثواب ما عملت ، ولكم ثواب ما عملتم (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤١) : هم. يعني بذلك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.

قوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) : وهم مشركو العرب في تفسير الحسن. وقال مجاهد : هم اليهود (٢). (ما وَلَّاهُمْ) : أى : ما حوّلهم في تفسير الحسن. وقال مجاهد : ما صرفهم؟ وهو واحد. (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) : يعني بيت المقدس.

__________________

(١) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ج ١ ص ٥٩ : «(صِبْغَةَ اللهِ) أى : دين الله ، وخلقته التي خلقه عليها ، وهي فطرته ، من فاطر ، أى : خالق».

(٢) وذكر السدّيّ قولا ثالثا : أنّهم المنافقون ، رواه عن ابن مسعود وابن عبّاس. ولهذا القول وجه من التأويل. ولفظ السفهاء يحتملهم ويشملهم جميعا.

١٤٦

نزلت هذه الآية بعد ما صرف النبيّ عليه‌السلام إلى الكعبة. وهي قبلها في التأليف ، وهي بعدها في التنزيل. وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لّما حوّله الله إلى الكعبة من بيت المقدس ، قال المشركون : يا محمّد ، أرغبت عن قبلة آبائك ثمّ رجعت إليها؟ وأيضا والله لترجعنّ إلى دينهم ؛ فأنزل الله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) يعني بيت المقدس.

قال : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢) : أى : مستقيم إلى الجنّة ، وهو الإسلام.

قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) : أى : عدلا [يعني أمّة محمّد] (١) (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) : أى يوم القيامة بأنّ الرسل قد بلّغت قومها عن ربّها (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) : على أنّه قد بلّغ رسالة ربّه إلى أمّته. قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) : يعني بيت المقدس (إِلَّا لِنَعْلَمَ) : أى : إلّا ليكون ما علمنا كما علمنا (٢). وهو علم الفعال. (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) : يعني صرف القبلة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) : يعني تحوّلهم عن بيت المقدس ؛ لأنّ العرب لم تكن قبلة أحبّ إليها من الكعبة. فقال : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) ، أى : لعظيمة ، (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ).

قال بعض المفسّرين : كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص ؛ صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إقامته بمكّة إلى بيت المقدس ، وصلّت الأنصار إلى بيت المقدس حولين قبل قدوم النبيّ عليه‌السلام المدينة ، وصلّى النبيّ بعد قدومه المدينة نحو بيت المقدس ستّة عشر شهرا ، ثم وجّهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام ، فقال قائلون : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده.

وقال أناس لّما صرفت القبلة : كيف بأعمالنا التي كنّا نعمل من قبل في قبلتنا الأولى ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، وقد يبتلي الله العباد بما يشاء من أمره ، الأمر بعد الأمر ، ليعلم من يطيعه ممّن يعصيه. وكلّ ذلك مقبول إذا كان في إيمان بالله وإخلاص له وتسليم لقضائه (٣).

__________________

(١) زيادة من ز.

(٢) كذا في ق وع : «ليكون ما علمنا كما علمنا». وفي د : «ليكون ما علمنا» فقط.

(٣) هذا قول قتادة كما في مخطوطة ز ، ورقة ٢٠ فتأمّله فإنّه كلام نفيس. وانظر تفسير الطبري ج ٣ ص ١٥٧.

١٤٧

قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) : قال الحسن : محفوظ لكم إيمانكم عند الله حيث أقررتم بالصلاة إلى بيت المقدس إذ فرضها عليكم. وقال بعضهم : عن الحسن وعن جماعة من المفسّرين : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أى : صلاتكم التي كنتم تصلّون إلى بيت المقدس. وهذا حقيقة التأويل (١) (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣).

قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) : أى فلنحوّلنّك ولنصرفنّك (قِبْلَةً تَرْضاها) : أى : تحبّها. ولم يكن قبلة أحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكعبة.

وتفسير الكلبيّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل : وددت أنّ ربّي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها. فقال جبريل : إنّما أنا عبد مثلك ؛ فادع ربّك واسأله. ثمّ ارتفع جبريل ، وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ، فأنزل الله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها).

قال : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) : أى تلقاءه.

وقال بعضهم : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) أى : قد نرى نظرك إلى السماء.

ذكروا عن محمّد بن عبد الله بن جحش أنّه قال : صلّيت القبلتين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ونحن في صلاة الظهر ، وقد صلّينا ركعتين من الظهر فاستدرنا وإنّا لفي الصلاة (٢).

__________________

(١) انظر قول المفسّرين الذين قالوا : إن الإيمان في هذه الآية يعني صلاتهم إلى بيت المقدس ، وهم كثير من الصحابة والتابعين. انظر ذلك في تفسير الطبري ج ٣ ص ١٦٧ ـ ١٧٠. أمّا ابن سلّام فلم يذكر هذا الوجه من التأويل في كتابه التصاريف ، في باب الإيمان ؛ فقد أورد وجوها أربعة لكلمة الإيمان ، ليس من بينها الصلاة. وقد أورد جمال الدين ابن الجوزي في كتابه : «نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر» هذا الوجه ص ١٤٦ فقال : «أي : صلاتكم إلى بيت المقدس».

(٢) إذا صحّت هذه الرواية التي أخرجها ابن سعد فإنّ محمّد بن عبد الله بن جحش يكون قد صلّى مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الصلاة وعمره حوالي سبع سنوات ، لأنّه ولد قبل الهجرة بخمس سنوات. ومحمّد هذا هو ابن الصحابيّ الجليل عبد الله بن جحش المجدع أنفه الذي استشهد مع حمزة عمّ النبيّ عليه‌السلام في غزوة أحد ، ودفن معه في قبر واحد. وعمّة محمّد هذا هي زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنهم أجمعين. انظر ابن عبد البر ، الاستيعاب ج ٣ ص ١٣٧٣.

١٤٨

ذكروا عن مجاهد أنّه قال : نزلت هذه الآية وهم في الصلاة ، فجاء الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال.

قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٤٤) : قال الحسن : يعلمون أنّ القبلة هي الكعبة. وقال الحسن : لم يبعث الله نبيّا إلّا وهو يصلّي إلى الكعبة.

قوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) : قال : لّما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس قالت اليهود : إنّا لنرجو أن يرجع محمّد إلى ديننا كما صلّى إلى قبلتنا ، فأنزل الله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥) : [هذا الخطاب للنبيّ عليه‌السلام ولسائر أمّته] (١).

قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤٦) : أنّه الحقّ. قال الحسن وغيره من المفسّرين : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أى : وهم يعرفون أنّ محمّدا رسول الله فكتموه (٢).

قال الكلبيّ : لّما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن سلام : إنّ الله أنزل على نبيّه ، وهو بمكّة ، أنّ أهل الكتاب يعرفون النبيّ عليه‌السلام كما يعرفون أبناءهم ، فكيف هذه المعرفة يا ابن سلام؟ فقال : نعرف نبيّ الله بالنعت الذي نعته الله به إذا رأيناه فيكم ، كما يعرف الرجل (٣) ابنه إذا رآه مع الغلمان ؛ والذي يحلف به عبد الله بن سلام لأنّا بمحمّد أشدّ معرفة منّي لابني. فقال له عمر : كيف ذلك؟ قال : عرفته بما نعته الله لنا في كتابنا أنّه هو ، وأمّا ابني فلا أدري ما أحدثت أمّه؟ فقال له عمر بن الخطاب : وفّقك الله ، فقد أصبت وصدقت.

__________________

(١) زيادة من ز للإيضاح.

(٢) قصر المؤلّف هنا عود الضمير في قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ) على النبيّ عليه‌السلام ، ولم يذكر الوجه الآخر من التأويل ، وهو عود الضمير إلى تحويل القبلة ، بينما قصره الطبريّ على أمر القبلة ولم يشر إلى الوجه الأوّل. انظر تفسير الطبري ج ٣ ص ١٨٧.

(٣) كذا في ق وع : «الرجل» ، وفي د : «الواحد».

١٤٩

قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية نزلت بمكّة أوّلا في سورة الأنعام : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠) [الأنعام : ٢٠].

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١٤٧) : أى : من الشاكّين أنّهم يعرفون أنّك رسول الله ويعرفون الإسلام.

قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) : أى : ولكلّ قوم وجهة وشريعة (١) (هُوَ مُوَلِّيها) : أى : الله موليها ، مثل قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] أى : سبيلا وسنّة ، والدين واحد وإن اختلفت الشرائع والأحكام. وقال مجاهد : ولكلّ صاحب ملّة وجهة هو مستقبلها. وقال بعضهم : ولكلّ قبلة هو مستقبلها.

قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) : قال بعض المفسّرين : لا تغبننّ (٢) عن قبلتكم (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : قوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) كقوله : (قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) [سورة محمّد : ١٣] أى أهلها ، يعني أهل مكّة (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) : أى تلقاءه (لِئَلَّا) : أى لكيلا (يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).

قال بعض المفسّرين : إنّ أهل الكتاب قالوا حين (٣) صرف النبيّ إلى الكعبة : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. قال : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) : يعني مشركي العرب في تفسير

__________________

(١) كذا في ق وع : «شريعة» ، وفي د : «شرعة».

(٢) كذا ضبطت الكلمة : «لا تغبننّ» ، وفي تفسير الطبري ج ٣ ص ١٩٦ : «لا تغلبنّ على». وفي ز ورقة ٢١ : «لا تفتننّ في قبلتكم» ولعلّ هذه الكلمة الأخيرة أنسب.

(٣) في المخطوطات الثلاث : «حيث» ، والصحيح : «حين». واستعمال حيث مكان حين لغير ضرورة خطأ شائع بين الكتّاب قديما وحديثا ، فاستعملوا الظرفين معا للزمان والمكان. والصواب أنّ «حين» للزمان ، و «حيث» للمكان لا غير. انظر تحقيقا جيّدا في الموضوع للأصمعيّ أورده ابن منظور في لسان العرب : (حيث) ، وانظر ابن هشام ، مغني اللبيب ج ١ ص ١٣١.

١٥٠

الحسن. وقال مجاهد : مشركي قريش.

قال الحسن : أخبره أنّه لا يحوّله عن الكعبة إلى غيرها أبدا ، فيحتجّ عليك محتجّون بالظلم كما احتجّ عليك مشركو العرب من قولهم لك : رغبت عن قبلة آبائك ثمّ رجعت إليها ، وأيضا والله لترجعنّ إلى دينهم ؛ فقال الله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) ، أى : لا يحتجّ بمثل تلك الحجّة إلّا الذين ظلموا.

وقال بعضهم : هم مشركو قريش يقولون : إنّهم سيحتجّون عليك بذلك. وكانت حجّتهم عليهم بانصرافه إلى البيت الحرام أنّهم قالوا : سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا ؛ فأنزل الله في ذلك هذا كلّه.

قال : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) : في أمر الله ، أى : امضوا على ما أمركم به. (وَاخْشَوْنِي) : أى في تركه. (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٠) : أى : لكي تهتدوا. ويعني بالنعمة : الجنّة.

قوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ) : أى : ويطهّركم من الشرك (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) : الكتاب : القرآن. والحكمة : السنّة.

(وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (١٥١) (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) : [يقول : كما فعلت ذلك بكم فاذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي] (١) (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢) : أى ولا تكفروني النعمة. وهذا الكفر في هذا الموضع كفر النعم.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١٥٣) : قال بعض المفسّرين : ليعلم أنّهما عون على طاعة الله. وقال بعضهم : الصبر هاهنا الصوم. وقال بعضهم : الصبر على ما أمروا به وعمّا نهوا عنه ؛ وهو حقيقة التأويل (٢).

قوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (١٥٤) : أنتم كيف تلك الحياة التي هي حياة الشهداء.

ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : إنّ أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترعى في

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٢١ ، من الفائدة إثباتها.

(٢) كأنّي بهذه الجملة الأخيرة من زيادة الشيخ الهوّاريّ وترجيحه.

١٥١

الجنّة ، ثمّ تأوي إلى قناديل معلّقة بالعرش.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما بين حياة الشهيد في الدنيا وبين حياته في الآخرة إلّا كمضغ تمرة (١).

وقال بعضهم : كنّا نحدّث أنّ أرواح الشهداء تعارف في طير بيض وخضر يأكلن من ثمار الجنّة ، وأنّ مساكنهم السدرة ، وأنّ للمجاهد في سبيل الله ثلاث خصال : من قتل في سبيل الله صار حيّا مرزوقا ، ومن غلب آتاه الله أجرا عظيما ، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الشهيد لا يجد ألم القتل إلّا كما يجد ألم القرصة(٢).

قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) : نقص الأنفس : الموت.

ذكروا عن ابن مسعود أنّه ذكر الدجّال فقال : كيف أنتم والقوم آمنون وأنتم خائفون ، والقوم شباع وأنتم جياع ، والقوم رواء وأنتم عطاش ، والقوم في الظّلّ وأنتم في الضّحّ [أي حرّ الشمس] (٣).

ذكروا عن رجاء بن حيوة (٤) قال : سيأتي على الناس زمان لا تحمل فيه النخلة إلّا تمرة واحدة ؛ قال : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ).

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ

__________________

(١) لم أجده فيما بين يديّ من مراجع التفسير والحديث والمصادر.

(٢) رواه الترمذيّ في فضائل الجهاد عن أبي هريرة. وقال الترمذيّ : «حديث حسن صحيح». ورواه ابن ماجه في كتاب الجهاد ، باب فضل الشهادة في سبيل الله (٢٨٠٢) عن أبي هريرة أيضا.

(٣) زياد في ق وع ، وهي من ناسخ ولا شكّ. والضّحّ ، بكسر الضاد : «ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض».

(٤) هو أبو المقدام رجاء بن حيوة الكندي ، من صغار التابعين. روى عن عبادة بن الصامت وابن عمر وأبي الدرداء وغيرهم. قال ابن سعد : «كان ثقة فاضلا كثير العلم». وقال مطر الوراق : «ما نعلم أحدا جازت شهادته وحده إلّا رجاء بن حيوة». مات سنة اثنتي عشرة ومائة للهجرة. انظر السيوطي ، طبقات الحفّاظ ص ٤٥ ، وابن قتيبة المعارف ص ٤٧٢.

١٥٢

(١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) : وصلاة الله على العباد الرحمة. وقال بعضهم : صلاة الله على العباد الثناء والمدح والتزكية للأعمال (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٧) : أى هدوا للاسترجاع عند المصيبة. وقوله : (صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) مثل قوله : (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) [الأعراف : ١٥٧] وهو واحد ، وهي كلمة عربيّة (١). وبعضهم يقول : الصلاة هاهنا المغفرة ؛ وكلّ صحيح جائز.

ذكر عطاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته فيّ فإنّها أعظم المصائب (٢).

ذكر الحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الصبر عند الصدمة الأولى (٣). والعبرة لا يملكها أحد ؛ صبابة المرء إلى أخيه.

ذكر عبد الله بن خليفة (٤) قال : كنت أمشي مع عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فانقطع شسع نعله فاسترجع ، فقلت : ما لك يا أمير المؤمنين؟ فقال : انقطع شسع نعلي ، فساءني ذلك ، وكلّ ما ساءك مصيبة.

قوله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) : أى : من حرمات الله (٥). (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (١٥٨).

ذكر عاصم الأحول أنّه قال : قرأت هذه الآية على أنس بن مالك ، خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ

__________________

(١) يريد أنّ اللفظين صلوات ورحمة مترادفان كما أنّ عزروه ونصروه مترادفان أو يكادان ، وهو أسلوب عربيّ.

(٢) أخرجه ابن عديّ في الكامل ، والبيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن عبّاس ، وأخرجه الطبرانيّ في الكبير عن سابط الجمحيّ.

(٣) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاري في كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور ، وأخرجه مسلم في كتاب الجنائز ، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى (٩٢٦). كلاهما يرويه عن أنس بن مالك.

(٤) هو عبد الله بن خليفة الهمدانيّ ، تابعيّ مخضرم ، وثّقه ابن حبّان. انظر الذهبي ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٤١٤.

(٥) جاء في مخطوطة ز مايلي : «قال محمّد : الشعائر واحدها شعيرة ، وهي كلّ شيء جعله الله علما من أعلام الطاعة».

١٥٣

قلت له : أكنتم تكرهون الطواف بينهما؟ قال : نعم ؛ إنّهما كانتا من شعائر الجاهليّة ؛ فلمّا أسلمنا قالوا : يا رسول الله ، هل علينا من حرج إن طفنا بينهما؟ فأنزل الله هذه الآية. قال أنس : والطواف بينهما تطوّع.

وقال بعضهم : كان حيّ لا يطوفون بينهما ، فأمر الله بالطواف بينهما ؛ وكانت ملّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل.

ذكر عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، صاحب النبيّ عليه‌السلام أنّه قال : لا حجّ لقريب ولا لبعيد إلّا بطواف بين الصفا والمروة (١).

وسئل جابر بن عبد الله : هل تحلّ النساء للرجال قبل الطواف بين الصفا والمروة؟ فقال : لا. وقال جابر : أمّا من كان من أهل الآفاق فإنّه لا يطوف بينهما قبل أن يأتي منى ، وأمّا من كان من أهل مكّة فبعد ما يرجع من منى. ذكروا عن عطاء قال : أهل مكّة يبدأون بمنى ، وأهل الآفاق يبدأون بالطواف.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) : قال الكلبيّ : يعني أهل الكتاب. قال الكلبيّ : أمّا البيّنات فالذي يكتمون من نعت نبيّ الله في كتابهم ، وأمّا الهدى فما آتاهم به أنبياؤهم. وقال بعضهم : كتموا الإسلام وكتموا محمّدا وهم يجدونه مكتوبا عندهم.

قال : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١٥٩) : أى من ملائكة الله والمؤمنين. وقال بعضهم : دوابّ الأرض ؛ والتأويل ما وصفناه أوّلا.

__________________

(١) اختلاف العلماء في السعي بين الصفا والمروة ، هل هور ركن من أركان الحجّ لا يتمّ إلّا به ، أو هو سنّة يجبر بدم ، أو هو تطوّع لا يترتّب على تركه شيء ، اختلاف مشهور. والذي عليه الجمهور أنّه فرض لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله كتب عليكم السعي فاسعوا». أخرجه الطبرانيّ عن ابن عبّاس وصحّحه الدارقطني. فقال الشافعيّة والحنابلة والمالكيّة إنّه ركن. وقال الحنفيّة : إنّه سنّة ليس بركن. وذهب بعض الإباضيّة إلى أنّه سنّة يلزم تاركه دم. انظر مثلا : الجيطالي قواعد الإسلام ج ٢ ص ١٥٥. ورجّح بعض المحقّقين من الأصحاب فرضيّته فلا يتمّ حجّ أو عمرة لمن تركه عمدا. انظر خلفان بن جميل السيابي : سلك الدرر ، ج ١ ص ٣٢٠. وانظر : اطفيّش : شرح النيل ، ج ٤ ص ١٤٦ ـ ١٤٨ نشر دار الفتح بيروت ١٣٩٢ ه‍ / ١٩٧٢ م.

١٥٤

قال الحسن : هذا الميثاق أخذه الله على العلماء ألّا يكتموا علمهم. ذكروا عن عطاء أنّه قال : من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار (١).

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) : أمر محمّد أنّه حقّ. يعني بهذا أهل الكتاب (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٦٠) : فبرحمته جعل لهم متابا ومرجعا.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٦١) : يعني بالناس هاهنا المؤمنين. (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (١٦٢) : أى ولا هم يؤخّرون بالعذاب. قوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (١٦٣) : لا إله غيره ولا معبود سواه.

قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : حين لم يكن فيها نبات فأنبتت (وَبَثَّ فِيها) : أى خلق (٢) فيها (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : والرياح أربعة : الجنوب والشّمال والصّبا والدّبور. فالجنوب ـ فيما بلغنا ـ من مطلع الشمس إلى مطلع سهيل ، والشمال من مغرب الشمس إلى بنات نعش ، والصبا من بنات نعش إلى مطلع الشمس ، والدبور من مطلع سهيل إلى مغرب الشمس. قال : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤) : وهم المؤمنون.

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) : أى أعدالا يعدلونهم بالله ، يعني ما يعبدون من دون الله (يُحِبُّونَهُمْ) : أى يحبّون آلهتهم التي يعبدون (كَحُبِّ اللهِ) : إذ جعلوهم آلهة كحبّ المؤمنين الله ، قال الله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) : من المشركين لآلهتهم.

__________________

(١) هذا نصّ حديث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه الترمذيّ في أبواب العلم ، باب ما جاء في كتمان العلم ، وأخرجه ابن ماجه في المقدّمة (٢٦٦) ، وأخرجه الحاكم ، وأخرجه أحمد في المسند كلّهم يرويه عن أبي هريرة ، ولفظه : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار».

(٢) كذا في المخطوطات ق وع ود ، وفي ز : «خلق» ، وأصحّ منه وأحسن تأويلا : «فرّق وبسط» كما في مجاز أبي عبيدة ج ١ ص ٦٢.

١٥٥

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أى الذين أشركوا (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ) : أى : القدرة (لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) (١٦٥) : قال الحسن : يقول لمحمّد عليه‌السلام : إنّك ستراهم إذا دخلوا النار ، وهنالك يعلمون أنّ القوّة ، أى القدرة لله جميعا ، وأنّ الله شديد العذاب. قال الحسن : وقد كانوا عن قدرة الله وعزّته في الدنيا غافلين.

قوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) : وهم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرك والنفاق (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) : والأتباع : الضعفاء الذين اتّبعوهم على عبادة الأوثان. قال : (وَرَأَوُا الْعَذابَ) : جميعا ، أى : القادة والأتباع (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (١٦٦) : أى : المواصلة [التي كانت بينهم] في الدنيا (١) ، لأنّهم كانوا أولياءهم. قوله : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) : أى : رجعة إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) : قال الله : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) : والحسرة الندامة (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١٦٧).

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) : أى ما يأمركم به الشيطان (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٦٨) : أى : بيّن العداوة. وقال بعضهم : خطوات الشيطان : ما حرّم عليهم من الحرث والأنعام. (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦٩) : أى ما لا تعلمون أنّه الحقّ. قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) : أى : ما وجدنا عليه آباءنا ، وهم مشركون بالله. قال الله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١٧٠) : وهذا على الاستفهام ، أى : أيتّبعونهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟ يسفّه بذلك عقول الأبناء إذا تبعوا الآباء ، وهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.

قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : فيما يدعوهم إليه النبيّ (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) : أى مثلهم كمثل الراعي الذي يصيح بالبعير والشاة. وقال الحسن : كمثل الراعي الذي يصيح بالغنم فترفع رؤوسها لا تدري ما يقول ، ثمّ تضع رؤوسها. قال : فكذلك هم إذا دعوا إلى الهدى. وقال مجاهد : هو دعاء النعق بآلهتهم (٢).

__________________

(١) في ق ود : «المواصلة في الدنيا» ، والزيادة من تفسير الطبري ج ٣ ص ٢٩٠. والقول لقتادة.

(٢) كذا في ق وع ود : «بآلهتهم». وجاء في تفسير الطبري ج ٣ ص ٣١٠ مايلي : «وقال مجاهد : (كَمَثَلِ الَّذِي ـ

١٥٦

قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٧١) : قال : صمّ عن الحقّ. أى : عن الهدى فلا يسمعونه ، وبكم عنه فلا ينطقون به ، وعمي عنه فلا يبصرونه.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١٧٢) : يعني بالطيّبات الحلال. وذلك لما حرّم أهل الجاهليّة على أنفسهم من الأنعام والحرث. مثل قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ...) إلى آخر الآية [الأنعام : ١٣٦]. وهو كقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٥٩) [يونس : ٥٩]. فأمر الله المؤمنين أن يأكلوا من طيّبات ما رزقهم ، وأخبرهم أنّه (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) : يعني ذبائح المشركين ، إلّا من كان من أهل الكتاب ؛ قال في سورة المائدة : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [المائدة : ٥] والطعام هاهنا هو الذبائح.

قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) : يأكل حتّى يشبع ولا يتزوّد. وقال بعضهم : يأكل ما يزوّد به نفسه ولا يشبع. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٧٣) : وقال بعضهم : (غَيْرَ باغٍ) : أى في أكله ، (وَلا عادٍ) : أى : لا يتعدّى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة قوتا أو قوّة. وقال الحسن : (غَيْرَ باغٍ) : يحمله على أكله ابتغاء الإثم على غير اضطرار منه إليه ، (وَلا عادٍ) : أى : لا متعدّ لما أحلّ الله له من ذلك عند الاضطرار منه إليه ، فيحرمه وهو موضوع عنه. وقال مجاهد : (غَيْرَ باغٍ) : يبغي على الناس ، (وَلا عادٍ) : يقطع عليهم الطريق (١). وكلّ ما تأوّلوه عليه يخرج صحيحا.

ذكروا عن سهل بن عبد الله بن عون (٢) قال : دخلت على الحسن فإذا عنده كتاب كتبه

__________________

ـ يَنْعِقُ) الراعي (بِما لا يَسْمَعُ) من البهائم». وهو صواب وواضح. وقد تكون كلمة «بآلهتهم» صحيحة في محلّها ؛ فيكون المعنى : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع ... وهذا هو المعنى الذي أشار إليه الطبريّ فى ج ٣ ص ٢١٢ ـ ٢١٣. ولكنّه لم يرجّحه.

(١) جاءني ز ورقة ٢٣ : «... (وَلا عادٍ) أى : قاطع سبيل ، ولا مفارق الأئمة ولا خارج في معصية الله». وهي نفس الكلمات التي جاءت في تفسير مجاهد ، ص ٩٤.

(٢) لم أجد فيما بين يديّ من كتب الرجال ترجمة لسهل هذا. وقد يكون من تابع التابعين أو من صغار التابعين.

١٥٧

سمرة (١) لولده فإذا فيه : يجزى من الضرورة أو من الضارورة صبوح أو غبوق.

ذكر الحسن أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، متى تحرم عليّ الميتة؟ قال : إذا رويت من اللبن وجاءت ميرة أهلك (٢).

ذكروا عن بعض السلف أنّ من اضطرّ فلم يأكل ولم يشرب ثمّ مات دخل النار.

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّ الله يحبّ أن تقبل رخصه كما يحبّ أن تقبل عزائمه.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٤) : فهؤلاء أهل الكتاب الذين حرّفوا كتاب الله. وهو كقوله : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) [التوبة : ٣٤]. وكانت لهم مأكلة من السلطان وكانوا يضعون (٣) لهم ما يهوون.

وقوله : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ، إِلَّا النَّارَ) ، يقول : فسوف يأكلون به النار. وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أى : بما يحبّون ؛ وقد يكلّمهم ويسألهم عن أعمالهم ويأخذهم بها.

وقال بعضهم : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أى : لا يدخل عليهم الملائكة بالسّلام من الله ؛ فأضاف (٤) ذلك السّلام الذي هو كلام الملائكة أنّه كلامه ؛ أى : فلا تأتيهم الملائكة بكلام الله الذي هو السّلام. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أى : لا يطهّرهم من آثامهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أى : موجع. وقال بعضهم : أى ولا يثني عليهم بخير ولا يمدحهم ؛ لأنّ التزكية ثناء ومدح. وكلّ ما تأوّلوا في هذا

__________________

(١) هو سمرة بن جندب بن هلال ، من بني لأي بن شمخ بن فزارة ، يكنّى أبا عبد الرحمن وقيل : أبا سعيد. كان من صغار الصحابة ، شهد أحدا وهو حدث ، وسكن البصرة فكان الحسن وابن سيرين والشعبيّ يروون عنه ويثنون عليه. قال ابن سيرين : «في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير». توفّي سنة ٥٨ ه‍. انظر ابن عبد البر الاستيعاب ج ٢ ص ٦٥٣.

(٢) لم أجده بهذا اللفظ. وقريب منه ما رواه الحاكم وصحّحه عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا روّيت أهلك من اللبن غبوقا فاجتنب ما نهى الله عنه من ميتة». وانظر السيوطي الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٩.

(٣) كذا في د : «يضعون» ، وفي ق وع : «يصنعون».

(٤) كذا في ق وع ود : «فأضاف ... أنّه» ولعلّ صوابها : «فوصف» ، حتّى تستقيم العبارة.

١٥٨

جائز صحيح.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) : أى : استحبّوا الضلالة على الهدى. وقال الحسن : اختاروا الضلالة على الهدى والعذاب على المغفرة. (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (١٧٥) : أى : فما أجرأهم على العمل الذي يدخلهم النار (١).

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (١٧٦) : أى لفي فراق ، أى لفي ضلال طويل ، وهم أهل الكتاب ، فارقوا الحقّ.

وقال بعضهم : (بَعِيدٍ) : أى : بعيد عن الحقّ.

قوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) : قال بعض المفسّرين : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) : أى : أن تكونوا نصارى فتصلّوا إلى المشرق. ولا أن تكونوا يهودا فتصلّوا إلى المغرب ، أى : إلى بيت المقدس.

قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) : ذكر بعضهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ رجلا سأله عن البرّ ، فأنزل الله هذه الآية. وذكر لنا أنّ النبيّ عليه‌السلام دعا الرجل فتلاها عليه. ذكروا عن ابن مسعود أنّه قال : (آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) : أن تنفق وأنت صحيح شحيح تأمل الحياة وتخشى الفقر (٢).

قال : (ذَوِي الْقُرْبى) : يعني القرابة. (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) : يعني الضيف (وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ) : يعني المكاتب ، (وَأَقامَ الصَّلاةَ) : الموقوتة (وَآتَى الزَّكاةَ) : المفروضة (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) : أى : فيما عاهدوا عليه من الحقّ (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) : قال بعض المفسّرين : البأساء : البؤس والفقر ، والضرّاء : السقم والوجع. قال أيّوب : (... أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) [الأنبياء : ٨٣](وَحِينَ

__________________

(١) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ج ١ ص ٦٤ : «(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) «ما» في هذا الموضع في معنى الذي ، فمجازها : ما الذي صبّرهم على النار ، ودعاهم إليها ، وليس بتعجّب». أمّا الفرّاء فأجاز الوجهين فقال في معاني القرآن ج ١ ص ١٠٣ : «فيه وجهان : أحدهما معناه : فما الذي صبّرهم على النار؟ والوجه الآخر : فما أجرأهم على النار!».

(٢) كذا في ق وع : «الفقر» ، وفي د : «الفاقة» ، وهما واحد.

١٥٩

الْبَأْسِ) أى : عند مواطن الجهاد والقتال (أُولئِكَ) أى الذين هذه صفتهم (الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم ووفائهم (وَأُولئِكَ) : الذين هذه صفتهم (هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧) : فأخبرهم بالبرّ ـ وهو الإيمان ـ وبيّنه لهم. ذكروا عن مجاهد عن أبي ذرّ أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان فقرأ عليه هذه الآية : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ـ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) إلى آخر الآية ، ثمّ سأله فأعادها عليه ، ثمّ سأله فأعادها عليه فقال : إذا عملت حسنة أحبّها قلبك ، وإذا عملت سيّئة أبغضها قلبك. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من سرّته حسناته وساءته سيّئاته فذلك المؤمن (١).

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) : أى : فرض عليكم القصاص (فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) : قال الحسن : كان أهل الجاهليّة قوم فيهم عزّ ومنعة ؛ فكان الحيّ منهم إذا قتلت امرأة منهم ، قتلتها امرأة من حيّ آخر ، قالوا : لا نقتل بها إلّا رجلا. وإذا قتل منهم عبد قتله عبد حيّ آخر ، قالوا : لا نقتل به إلّا حرّا ، فأنزل الله هذه الآية [ونهاهم عن البغي] (٢). قال : ثمّ أنزل بعد ذلك في سورة المائدة : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥]. قال الحسن : النفس التي قتلت بالنفس التي قتلت.

قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) : قال : من وجبت له الدية فليتبع بالمعروف ، ومن وجبت الدّية عليه فليؤدّ بإحسان. قال : وتؤخذ الدية في ثلاثة أعوام. والنصف في عامين ، والثلث في عام (٣). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الدية مائة بعير ، يعني دية الخطأ ، فمن ازداد بعيرا فهو من أمر الجاهليّة (٤).

ذكر بعضهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : العقل على العصبة ، والدية على الميراث (٥). ذكر بعض

__________________

(١) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي ذرّ بلفظ : «المؤمن إذا عمل الحسنة سرّته رجاء ثوابها ، وإذا عمل السيّئة أحزنته وخاف عقابها».

(٢) زيادة من ز. ورقة ٢٣.

(٣) أي : «ترك له». كما في مجاز أبي عبيدة ج ١ ص ٦٦. وفي ز ، ورقة ٢٣ : «يقول : من قتل عمدا فعفي عنه وقبلت منه الدية».

(٤) رواه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ج ٣ ص ٣٧١ عن قتادة مرسلا ، وليس فيه الجملة الأولى.

(٥) كذا ورد هذا الحديث في ق وع ود بهذا اللفظ مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دون ذكر لراويه. ولم أجده فيما ـ

١٦٠