فضائح الباطنية

أبو حامد الغزالي

فضائح الباطنية

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: محمد علي القطب
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٥

بد من معلم معصوم ، ولا معجزة للمعصوم وإنما يعرف بالدعوى ، وصاحب الباطنية لا يدعى الربوبية ـ كيف وصاحب الشاباسية يدعى الربوبية؟ فأتباعه أولى ، فإن قلتم : من يدعى الربوبية يعرف بطلان قوله ضرورة ؛ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه إنما يدعى ذلك بطريق الحلول (١) ويزعم أن ذلك توارث فى نسبهم ؛ وقد استمر ذلك فى بيتهم عصرا طويلا. والمدعى الآن كان جده مدعيا لذلك ، والحلول قد ذهب إليه طوائف كثيرة ، فليس بطلان مذهب الحلولية ضروريا ؛ فكيف يكون ضروريا وفيه من الخلاف المشهور ما لا يكاد يخفى ، حتى مال إلى ذلك طائفة كبيرة من محققى الصوفية وجماعة من الفلاسفة ، وإليه أشار الحسين بن منصور (٢) الحلاج الّذي صلب ببغداد حيث كان يقول : «أنا الحق ، أنا الحق» ؛ وكان يقرأ فى وقت الصلب : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء : ١٥٧]. وإليه أشار أبو يزيد البسطامى (٣) بقوله : «سبحانى ، سبحانى! ما أعظم شأنى!». وقد سمعت أنا شيخا من مشايخ الصوفية تعقد عليه الخناصر ويشار إليه بالأصابع فى متانة دين ، وغزارة علم ، حكى لى عن شيخه المرموق فى الدين والورع أنه قال : ما تسمعه من أسماء الله الحسنى ، التى هى تسعة وتسعون ، كلها يصير وصفا للصوفى السالك بطريقه إلى الله ، وهو يعد من جملة السائرين إلى الله لا من زمرة الواصلين ، وكيف ينكر هذا وعليه مذهب النصارى فى اتحاد اللاهوت بناسوت (٤) عيسى عليه‌السلام حتى سماه بعضهم إلها وبعضهم ابن الإله وبعضهم قالوا هو

__________________

(١) الحلول ؛ أى : حلول الذات الإلهية فى الإنسان ؛ فيتحد فيه اللاهوت بالناسوت! وهى فلسفة هندية (بوذية) قديمة ؛ ثم يتوارث ذلك فى السلالة والذرية.

(٢) الحلاج : صلب أيام الخليفة المقتدر العباسى سنة ٣٠٩ ه‍. كان كما قال عنه ابن النديم : محتالا يتعاطى مذاهب الصوفية ، ويدعى كل علم جورا على السلاطين ، مرتكبا للعظائم ويراه آخرون فيلسوفا إشراقيا ، يقول بالحلول.

(٣) أبو يزيد البسطامى : طيفور بن عيسى البسطامى ـ أبو يزيد ، ويقال : بايزيد زاهد مشهور ، له أخبار كثيرة.

نسبته إلى «بسطام» بلدة بين خراسان والعراق ، أصله منها ووفاته فيها (١٨٨ ـ ٢٦١) ه.

(٤) الناسوت : الجانب البشرى الإنسانى فى كيان ابن آدم (المادية الترابية).

١٠١

نصف الإله ، واتفقوا على أنه لما قتل إنما قتل منه الناسوت دون اللاهوت ، كيف وقد تخيل جماعة من الروافض ذلك فى على رضى الله عنه وزعموا أنه الإله (١). وكان ذلك فى زمانه حتى أمر بإحراقهم بالنار ، فلم يرجعوا وقالوا : بهذا يبين صدقنا فى قولنا إنه الإله لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يعذب بالنار إلا ربها». فبهذا يبين أن بطلان هذا المذهب ليس بضرورى ، ولكنه ضرب من الحماقة ، ويعرف بطلانه بالنظر العقلى ، كما يعرف بطلان مذهبهم ، فإذا قد بطل قولهم : لا مدعى للعصمة سوى صاحبنا ، بل قد ظهر من يدعى العصمة وزيادة.

(الوجه الثانى) فى الجواب عن قولهم إن بطلان مذهبهم معلوم ضرورة ، ولا فرق بين ما يعرف بطلانه ضرورة وبين ما يعرف بطلانه مشاهدة أو تواترا ، وعدم العصمة فيمن ادعيتم عصمته معلوم بمشاهدة ما يناقض الشرع من وجوه : أولها جمع الأموال وأخذ الضرائب والمواصير (٢) واستئداء (٣) الخراجات الباطلة وهو الأمر المتواتر فى جميع الأقطار ؛ ثم الترفه فى العيش ، والاستكثار من أسباب الزينة ، والإسراف فى وجوه التجمل واستعمال الثياب الفاخرة من الإبريسم (٤) وغيرها ؛ وعدالة الشهادة فتحرم بعشر عشر ذلك ، فكيف العصمة! فإن أنكروا هذه الأحوال أنكروا ما شاهده خلق كثير من تلك الأقطار وتواتر على لسانهم إلى سائر الأمصار. ولذلك لا ترى لأحد من أهل تلك البلاد اغترارا وانخداعا بهذه التلبيسات لمشاهدتهم ما يناقضها. ومن وجوه حيلهم أنهم لا يبثون الدعوة إلا فى بلاد نائية ، يحتاج المستجيب إلى قطع مسافة شاسعة لو اعترضت له ريبة فيها ، حتى تدفعه العوائق عن النهضة والرحلة. فإنهم لو شاهدوا لانكشف لهم عوار تلك التلبيسات المزخرفة والحيل الملفقة.

__________________

(١) ذكرنا من قبل أن ابن السوداء ـ عبد الله بن سبأ اليهودى الأصل ؛ كان أول من زعم ذلك فى على ـ كرم الله وجهه ـ.

(٢) المواصير : أقل العطاء.

(٣) استئداء : طلب الأداء.

(٤) الإبريسم : كلمة معرّبة ؛ فارسية الأصل ؛ نوع من القماش الحريرى الفاخر.

١٠٢

أما (المقدمة الثانية) وهى قولهم : إذا بان أن المدعى للعصمة مهما كان واحدا وقع الاستغناء عن الاستدلال على كونه معصوما ؛ فصاحبنا إذا هو المدعى للعصمة وحده ؛ فإذا هو الإمام المعصوم ؛ فهذه مقدمة نكذبهم فيها ، ولا نسلم أن صاحبهم يدعى لنفسه العصمة ، فإنا لم نسمعه البتة ، ولم يتواتر إلينا من لسان من سمعه منه ، بل إنما سمع ذلك من آحاد دعاتهم وليسوا معصومين ولا هم بالغون حدّ التواتر ، ولو أنهم بلغوا حد التواتر فلا يحصل العلم بقولهم وخبرهم لوجهين : أحدهما أن المشافهين لهذه الدعوة من جهة صاحبهم قليل ، فإنه محتجب لا يظهر إلا للخواص ، ثم لا يشافه بالخطاب إلا خواص الخواص ، ثم لا يفشى هذه الدعوة إلا مع خاص من جملة خواص الخواص ، فالذين يسمعون عنه لا يبلغون عدد التواتر ؛ وإن بلغوا فكلهم إن انتشروا لم يكن فى بلدة منهم إلا واحد ؛ وأكثر البلاد أيضا يخلو عن آحادهم.

الوجه الثانى : أنهم وإن بلغوا حد التواتر فقد شرط التواتر فى خبرهم ، إذ شرط ذلك الخبر ألا يتعلق بواقعة ينتشر التواطؤ فيها من طائفة كبيرة لمصلحة جامعة لهم ، كما يتعلق بالسياسات. فإن أهل معسكر واحد قد يجمعهم غرض واحد فيحدثون على التطابق بشيء واحد ، ولا يورث ذلك العلم ، ورب واحد أو اثنين يخبر عن أمر فيعلم أنه لا يجمعهما غرض فيحصل له العلم ، وهؤلاء الدعاة لعلهم قد تواطئوا على هذا الاختراع ليتوصلوا به إلى استتباع العوام واستباحة أموالهم ، فيتوصلون بها إلى آمالهم.

وعلى الجملة فحسن الظن بصاحبهم يقتضي تكذيبهم ، فإنهم لو حدثوا بذلك عن مريض فى دار المرضى لاعتقدنا كذبه ، إلا أن يعتقد الجنون فى ذلك المريض ، إذ لا يدعى عاقل العصمة عن المحرمات وتناول المحظورات مع مشاهدة أهل العلم تناوله لها ومباشرته لها ، فأقل آثار العقل الحياء عن فضيحة الاجتراء ؛ ومن تحلى بغير ما هو فيه ، وكان ذلك جليا ظاهرا لمن يتأمل فيه ، استدل به على اختلال

١٠٣

عقله. فإذا ليس يبين لنا صدقهم فى نسبتهم هذه الدعوى إلى صاحبهم ، وهى مقدمتهم الأخيرة.

فإن قيل : لو أنكر الناس فى أطراف العالم فى عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق الدعاة من رسول الله وقالوا لا نصدقكم فى قولكم إن محمدا يدّعى الرسالة ، بل لا يظن بعقله ذلك ـ ما ذا كان يقال لهم؟ ـ قلنا : بئس ما شبّهتم الملائكة بالحدادين ، إذ لا مساواة فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ظاهرا بنفسه وأشياعه ، مبرزا للقتال ، مترددا فى الأقطار ، مظهرا للدعوة على ملأ من الناس غير محتجب ولا متستر ، ثم كان يظهر المعجزات الخارقة للعادة ، فانتشرت دعوته لانتشار خروجه ومقاتلته وانتشار وجوده ؛ وليس الآن فى صاحبكم كذلك. نعم ، تواتر وجوده وترشحه مع آبائه للخلافة ودعواهم أنهم أولى بها من غيرهم ، أما دعواه ودعوى من سبق من آبائه العصمة عن المعاصى وعن الخطأ والزلل والسهو ومعرفة الحق فى جميع أسرار العقليات والشرعيات ، فلم يظهر ذلك لنا ، بل لم تظهر دعواه العلم أصلا بفنّ من الفنون كالفقه أو الكلام أو الفلسفة على الوجه الّذي يدعيه آحاد العلماء فى البلاد. فكيف ظهرت دعواه معرفة أسرار النبوة والاطلاع على علوم الدنيا والآخرة؟! وهذا ما تواطأ على اختراعه توصلا إلى استدراج المستجيب وخداعه.

هذا تمام الرد عليهم فى المقدمات تفصيلا ، مع أن فى المنهج الأول المنطوى على الرد عليهم جملة كافية ومقنعا. ولم يبق إلا القول فى إفساد أدلتهم المذكورة لإبطال النظر.

أما (الدلالة الأولى) وهى قولهم من صدق عقله فقد كذبه إذ صدق عقل خصمه ، وخصمه يصرح بتكذيبه. فنقول : هذا تخييل باطل من وجوه :

الأول المعارضة بمثال ، وهو أنا نقول : نحن صدقنا العقول فى نظرياتها ، وأنتم صدقتموها فى ضرورياتها ؛ وخصومكم من السوفسطائية يكذبونكم فيها ، فإن اقتضى ذلك لزوم الاعتراف بكذب العلوم الضرورية لزمنا من خلافكم الاعتراف

١٠٤

بكذب العلوم النظرية ؛ فإن العقل إن صدق فى الضروريات ، فما بال عقل السوفسطائية كذب ؛ وما الفرق بين عقلكم وعقلهم؟ أفتقولون إن ذلك منهم حماقة وسوء مزاج؟ ـ قلنا : وكذلك حالكم فى إنكار النظريات ، وهو كمن ينكر الحسابيات من العلوم ؛ فإنه لا يشككنا فى البراهين الحسابية وإن كان البليد لا يفهم ، ومنكر النظر أصلا يجحده ؛ ولكن طريقنا معه أن نورد عليه المقدمات ، وهى ضرورية ، فإذا أدركها أدرك النتيجة فكذلك خصمنا إذا كذبنا فى مسألة من المسائل كإنكار ثبوت واجب الوجود عرضنا عليه مقدمات القياس الدالة عليه وقلنا : أتمارى فى قولنا : لا شك فى أصل الوجود؟ أو فى قولنا : إن كل موجود إما جائز وإما واجب؟ أم فى قولنا : إن كان واجبا فقد ثبت واجب الوجود؟ أم فى قولنا : إن كان جائزا فكل جائز مستند إلى واجب الوجود فى آخر الأمر لا محالة؟ ـ وإذا لم يمكنه التشكك فى المقدمات لم يمكنه التشكك فى النتيجة ، وإنما يختلف الناس فيها لأن الفطرة غير كافية فى تعريف الترتيب لهذه المقدمات ، بل لا بدّ من تعلمها من الأفاضل ، وذلك الفاضل لا بدّ أن يكون تعلم أكثرها أو استأثر باستنباط بعضها ، وهكذا حتى ينتهى الأمر إلى معلم معصوم هو نبى موحى إليه من جهة الله تعالى ، هكذا تكون العلوم كلها.

فإن زعموا أنكم اعترفتم بالحاجة إلى المعلم ومن لم يعترف فهو معاند للمشاهدة ، فالافتقار إليه معترف به ، ولكنه كالافتقار إليه فى علم الحساب ، فإنه لا يحتاج فيه إلى معصوم ، إذ لا تقليد فيه ، ولكن يحتاج إلى حاسب ينبه على طريق النظر ، فإذا تنبه المعلم ساوى المعلم فى العلم الضرورى المستفاد من المقدمات بعضها على بعض. ولا شك فى أن معلم الحساب أيضا يعلم أكثر مما يعلّم ، وإن استقل باستنباط ترتيب البعض ، وكذا القول فى معلم المعلم إلى أن ينتهى مبدأ العلم الحسابى إلى نبى من الأنبياء مؤيد بالوحى والمعجزة ، ولكن بعد إفاضة الله علم الحساب فيما بين الخلق استغنى فى تعلمه عن معلم معصوم ، فكذا العلوم العقلية النظرية ، ولا فرق.

١٠٥

(الاعتراض الثانى) أن يقال لهم : أنكرتم من خصومكم تصديق العقل فى نظره واخترتم تكذيبه ، فبما ذا تعرفون الحق وتميزون بينه وبين الباطل؟ أبضرورة العقل ولا سبيل إلى دعواها ، أو بنظره فتضطرون إلى الرجوع إلى النظر؟ فقد صدقتموه إذا بعد تكذيبه فتناقض كلامكم. فإن قلتم : نحن نأخذه من الإمام المعصوم ـ قلنا : وبم تعرفون صدقه؟ فإن قلتم : لأنه معصوم ، قلنا : وبم تعرفون عصمته؟ ـ فإن قلتم بضرورة العقل لم يخف عليكم خزيكم وعرفتم فى الباطن من أنفسكم خلاف ما أظهرتم ، فإن عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع معجزته لم تعرف بضرورة العقل ، حتى أنكر رسالته طوائف ، بل أنكر بعثة الرسل جميع البراهمة (١) ، وأنكر الأكثرون من المسلمين عصمة الأنبياء ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١]. إلى غير ذلك مما اشتمل القرآن على حكايته من أحوال الأنبياء. فإذا لم تعرف عصمة صاحب المعجزة ضرورة فكيف تعرف عصمة صاحبكم ضرورة؟

فإن قيل : نحن نعرفه بالنظر ، ولكن النظر تعلم منه ، والنظر ينقسم إلى صحيح وفاسد ؛ وتمييز صحيحه عن فاسده ممتنع على كافة الخلق إلا على الإمام الحق ، فهذا الميزان الموضح للفرقان بين الشبهة والبرهان ، فقد عرفنا صحة النظر الّذي استفدنا منه فاطمأنت نفوسنا إليه بتزكيته وتعليمه.

قلنا : والنظر الّذي علمكموه هل افتقرتم فى فهمه إلى تأمل ، أم هو مدرك على البديهة؟ فإن ادعيتم البديهة فما أشد جهلكم إذ يرجع حاصله إلى أن معرفة عصمته عرفت بالبديهة ، وهو كذب صريح. وإن افتقرتم إلى التأمل فذلك التأمل يعرف بالعقل ، أم لا؟ ولا بدّ أن يقال : إنه بالعقل. فنقول : والعقل إذا قضى عند التأمل بقضية فهو صادق أم لا؟ فإن قالوا : لا ، فلم صدقوه؟ وإن قالوا : نعم هو صادق ، فقد أبطلوا أصل مذهبهم وهو قولهم : إن العقول لا سبيل إلى تصديقها.

__________________

(١) البراهمة : إحدى الطوائف الإلحادية القديمة : منشؤها فى الهند.

١٠٦

فإن قيل : الإمام يعرف من بواطن أسرار الله أمورا إذا ذكرها حصل للمتعلم عند سماعها علم بديهى ضرورى بصدقه ، ويستغنى به عن تدقيق النظر والتأمل.

فنقول : ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل عرف ذلك ، أم لا؟ فإن قلتم : لا ـ فقد فضلتم الخليفة على الأصل ؛ وإن قلتم : نعم؟ فلم أخفاها ، وهلا أظهرها وأفشاها ، حتى كانت العقول تضطر على البديهة إلى ذكرها وكانت تتسارع إلى التصديق له فى دعاويه؟ ولم ترك طوائف الخلق مضطربين فى مغاصات الشبه متعثرين فى أذيال الضلالات ، مجاهدين بأموالهم وأنفسهم فى نصرة الخيالات الباطلة؟ كيف وأنتم إذا تعلمتم من إمامكم ذلك ، وقدرتم على ذكره حتى يعرف بالبديهة صدقه فتلك الدقيقة لما ذا أخفيت ، ولأى يوم أجلت؟ وكتمان الدين من أكبر الكبائر؟! ثم كيف انقسم المستمعون فنون ضلالكم : إلى قائل مستمع ، وراد ، ومنخدع ، ومنتبه ؛ وهلا أسلك الكل فى ربقة التصديق والانقياد؟! وعلى الجملة فدعوى مثل هذا الكلام لا تدلّ إلا على الوقاحة وقلة الحياء ؛ وإلا فنحن بالضرورة نعلم أنكم على البديهة لم تدركوا صدق إمامكم وعصمته ، ولكنكم ربما تضطرون ، فى تمشية التلبيس ، إلى خلع جلباب الحياء ؛ وكذلك يفعل الله بذوى الضلال والأهواء فنعوذ بالله من سقطة الأغبياء ، فما هذه الكذبة الصادرة منكم قولة تقال أو عثرة تقال ، أو خدعة يسبق إليها الجهّال فضلا عن أفاضل الرجال.

(الاعتراض الثالث) وهو أن نقول للمسترشد مثلا ، إذا شك فى صحة النظر واستدل بالاختلاف المجمل : ينبغى أن تعين المسألة التى تشك فيها فإن المسائل منقسمة إلى ما لا يمكن أن يعلم بنظر العقل ، وإلى ما يمكن أن يعلم علما ظنيا ، وإلى ما يعلم يقينيا ، ولا معنى لقبول السؤال المجمل ، بل لا بدّ من تعيين المسألة التى فيها الإشكال حتى يكشف الغطاء عنها وينبه السائل على أن المخالف فيها جهل وجه ترتيب المقدمات المنتجة له ، ونحن لا ندعى الآن

١٠٧

المعرفة إلا فى مسألتين : إحداهما وجود الصانع الواجب الوجود المستغنى عن الصانع والمدبر ؛ والثانية : صدق الرسول. ويكفينا فى باقى المسائل أن نتلقاها تقليدا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهذا القدر الّذي لا بدّ منه فى الدين. وباقى العلوم لا يتعين تحصيلها ، بل الخلق مستغنون عنها وإن كان ذلك ممكنا كالعلوم الحسابية والطبية والنجومية والفلسفية ، وهاتان المسألتان نعرفهما يقينا.

أما ثبوت واجب الوجود فبالمقدمات التى عرفناها ؛ وأما صدق الرسول فبمقدمات تماثلها ، ومن أحاط بها لم يشك فيها ، وعلم غلط المخالف فيها ، كما يعلم غلط المحاسب فى الحساب ، وخصومنا أيضا مضطرون إلى معرفة هاتين المسألتين بالنظر ، وإلا فقول النبي لا يغنى فيهما ، فكيف يغنى فيهما قول المعصوم؟

فإن قيل : معرفة صفات الله ومعرفة الشرائع ومعرفة الحشر والنشر ـ كل ذلك لا بدّ منه ، فمن أين يعرف؟ ـ قلنا : يتعلم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعصوم المؤيد بالمعجزة ونصدقه فيما يخبر عنه كما تقلدون أنتم صاحبكم الّذي لا عصمة له ولا معجزة.

فإن قيل : وبم تفهمون كلامه؟ قلنا : بما نفهم به كلامكم هذا فى أسئلتكم ، وتفهمون كلامنا فى أجوبتنا ، وهو معرفة اللغة وموضوع الألفاظ ، كما تفهمون أنتم من المعصوم عندكم ، فإن قيل : ففى كلام الرسول وفى القرآن المشكلات والمجملات كحروف أوائل السور ، والمتشابه كأمر القيامة ـ فمن يطلعكم على تأويله والعقل لا يدل عليه؟

قلنا : للألفاظ الشرعية ثلاثة أقسام : ألفاظ صريحة لا يتطرق إليها الاحتمال فلا حاجة فيها إلى معلم ، بل نفهمها كما تفهمون أنتم كلام المعلم المعصوم ، إذ لو اقتصر صريح كلام الشارع إلى معلم ومؤول لاقتصر صريح كلام المعلم المعصوم إلى مؤول ومعلم آخر ، ولتسلسل إلى غير نهاية.

١٠٨

الثانى : ألفاظ مجملة ومتشابهة كحروف أوائل السور فمعانيها لا يمكن أن تدرك بالعقل ، إذ اللغات تعرف بالاصطلاح ، ولم يسبق اصطلاح من الخلق على حروف التهجى ، وإن «الر» و«حم عسق» عبارة عما ذا؟ فالمعصوم أيضا لا يفهمه ، وإنما يفهم ذلك من الله تعالى إذا بين المراد به على لسان رسوله فيفهم ذلك سماعا ، وذلك لا يخلو إما : أن لم يذكره الرسول لأنه لا حاجة إلى معرفته ، ولم يكلف الخلق به ؛ فالمعصوم شريك فى أنه لا يعرفه إذ لم يسمعه من الرسول وإن عرفه وذكره فقد ذكر ما بالخلق مندوحة عن معرفته ، فإنهم لم يكلفوه. وإن ذكره الرسول فقد اشترك فى معرفته من بلغه الخبر ـ متواترا كان أو آحادا ، وفيه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين نقل ، فإن كان متواترا أفاد علما ، وإلا أفاد ظنا ، والظن فيه كاف ، بل لا حاجة إلى معرفته فإنه لا تكليف فيه ، وأما وقت القيامة فلم يذكره الله تعالى ، ولا ذكره رسوله عليه‌السلام ، وإنما يجب التصديق بأصل القيامة ولا يجب معرفة وقتها ، بل مصلحة الخلق فى إخفائها عنهم ولذلك طوى منهم.

فالمعصوم من أين عرف ذلك الكلام ولم يذكره الله ولا رسوله ، ولا مجال لضرورة العقل ولا لنظره فى تعيين الوقت؟! ثم لنقدر أنه عرف ذلك وزعم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكره سرا مع على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ وذكره كل إمام مع سوسه فأى فائدة للخلق فيه وهو سرّ لا يجوز أن يذكر إلا مع الأئمة؟ فإن ذكره معصومكم وأفشى هذا السر الّذي أمر الله تعالى بكتمانه إذ قال تعالى : (أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] ، كان معاندا لله ورسوله ؛ وإن كان لا يفشيه فكيف يتعلم منه ما لا يجوز تعليمه؟ فدلّ على أن الأمور العقلية محتاجة إلى التعليم. ولكن المعلم إن كان ينبه على طريق النظر فيه فلا يشترط عصمته ؛ وإن كان يقلد من غير دليل فلا بد أن تعرف بالمعجزة عصمته وهو النبي ، وناهيك به معلما ، فلا حاجة إلى غيره.

القسم الثالث : الألفاظ التى ليست مجملة ولا صريحة ، ولكنها ظاهرة فإنها تثير

١٠٩

ظنا ، ويكتفى بالظن فى ذلك القبيل والفن ، وسواء كان ذلك فى الفقهيات وأمور الآخرة أو صفات الله فليس يجب على الخلق إلا أن يعتقدوا التوحيد ، والألفاظ فيه صريحة ، وأن يعتقدوا أنه قادر عليم سميع بصير ليس كمثله شيء. وكل ذلك اشتمل القرآن عليه ، وهو مصرح به.

أما النظر فى كيفية هذه الصفات وحقيقتها وأنها تساوى قدرتنا وعلمنا وبصرنا أم لا ـ فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] دال على نفى المماثلة لسائر الموجودات ، وهذا قد اكتفى من الخلق به ، فلا حاجة بهم إلى معصوم. نعم! الناظر فيه والمستدل عليه بالأدلة العقلية قد يتوصل إلى اليقين فى بعض ما ينظر فيه وإلى الظن فى بعضه ؛ ويختلف ذلك باختلاف الذكاء والفطنة واختلاف العوائق والبواعث ومساعدة التوفيق فى النظر ، والعارف يذوق اليقين. وإذا تيقن لم يتمار فيه ، ولم يشككه قصور غيره عن الدرك ، وربما تضعف نفسه ، ويشككه خلاف غيره. وكل ذلك لا مضرة له ، لأنه ليس مأمورا به ، والمعصوم لا يغنى عنه شيئا لو تابعه ، فإن محض التقليد لا يكفيه ، وإن ذكر وجه الدليل فذلك لا يختلف صدوره عن معصوم أو غيره كما سبق.

وأما (الدلالة الثانية) وهى قولهم : إذا جاءكم مسترشد متحير وسألكم عن العلوم الدينية أفتحيلونه على عقله ليستقل بالنظر وهو عاجز ، أو تأمرونه باتباعكم فى مذهبكم وينازعكم المعتزلى والفلسفى وكذا سائر الفرق ـ فبما ذا يتميز مذهب عن مذهب وفرقة عن فرقة؟

فالجواب من وجهين (الأول) هو أنا نقول لهم : لو جاءكم متحير فى أصل وجود الصانع وصدق الأنبياء ؛ انقلب عليكم هذا الإشكال ، فما ذا تقولون؟ إن ذكرتم دليلا عقليا لم نثق بنظره ، وإن رددتموه إلى عقله فكمثل ، فعساكم تشفون غليله بالحوالة على المعصوم ، فما أبرد هذا الشفاء! فإنه يقول : قدرونى قد جئت مسترشدا فى زمان محمد بن عبد الله ومعه معجزته ، فمعصومكم لا يقدر على معجزة ؛ أو قدروا

١١٠

أنى شاهدت معصومكم قلب العصا ثعبانا ، أو أحيا الموتى ، أو أبرأ الأكمه والأبرص وأنا أشاهده ، فلا يبين لى صدقه بضرورة العقل ولا أثق بالنظر. وكم من أصناف الخلائق شاهدوا ذلك وأنكروه ، فحمله بعضهم على السحر والمخرقة ، وبعضهم على غيره ، فلعلكم تشبعون غصته بأن تقولوا له : قلد الإمام المعصوم ولا تسأل عن السبب ؛ فيقول : ولم لا أقلد المخالفين لكم فى إنكار النبوة والعصمة ، وهل بينهما فرق من طول لحية أو بياض وجه ـ إلى غير ذلك مما هذوا به؟! وهذا قلب لو اجتمع أولهم مع آخرهم على الخلاص منه دون الأمر بالتفكر والنظر فى الدليل لم يجدوا إليه سبيلا.

(الجواب الثانى) وهو التحقيق : هو أنّا نقول للمسترشد : ما ذا تطلب؟ فإن كنت تطلب العلوم كلها ، فما أشد فضولك وأعظم خطبك وأطول أملك! فاشتغل من العلوم بما يهمك : وإن قال : أريد ما يهمنى. قلنا : ولا مهم إلا معرفة الله ورسوله ؛ وهذا معنى قوله : «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» ، فهاتان مسألتان يسهل علينا تعليمك إياهما ، عند ذلك تذكر له المقدمات الضرورية التى ذكرناها فى إثبات واجب الوجود ، ثم مثلها فى دلالة المعجزة على صدق الرسول ، فإن زعم أن خلاف المخالفين هو الّذي يشككنى فى هذه المعرفة ، أفأتبعكم أو أتبع مخالفيكم؟ فنقول له : لا تتبعنا ولا تتبع مخالفينا ، فإن تعلم طريق التقليد مباح ، والتقليد فى النتيجة غير موثوق به. فشكك فى أى مقدمة من مقدماتنا : أفي قولنا إن أصل الوجود معترف به؟ فإن كان كذلك فعلاجك فى دار المرضى فإن هذا من سوء المزاج ، فإن من شك فى أصل الوجود فقد شك أولا فى وجود نفسه ، وإن قلت : لا أشك فى هذا بخلاف السوفسطائية ، قلنا : فقد تيقنت مقدمة واحدة ، فهل تشك فى الثانية وهى قولنا : إن كان هذا الوجود واجبا فقد ثبت واجب الوجود ، فنقول : هذا أيضا ضرورى ، قلنا : فهل تشك فى قولنا إن كان جائزا فلا يتخصص أحد طرفى الجواز من الطرف المماثل له إلا بمخصص ، فهذه أيضا مقدمة ضرورية عند من يدرك معنى اللفظ ؛ وإن كان فيه توقف فالتوقف فى درك مراد المتكلم من

١١١

لفظه ، فإن قال : نعم! لا شك فيه ، قلنا : فذلك المخصص المفتقر إليه إن كان جائزا فالقول فى ذلك لا كالقول فيه فيفتقر إلى مخصص غير جائز ، وهو المراد بواجب الوجود ، ففى ما ذا تتشكك؟ فإن قال : قد بقى لى شكّ ـ عرف به بلادته وسوء فهمه وقطع الطمع عن رشده. وليس هذا بأول بليد لا يدرك الحقائق فنخلّيه. وهو كمن يطلب علم الحساب فذكرنا له الغوامض من مقدمات الحساب من الشكل (القطاع) الّذي هو فى آخر كتاب «أقليدس» فلم يفهمه لبلادته ، بل فى الشكل الأول الّذي مضمونه إقامة البراهين على مثلث متساوى الأضلاع فلم يدركه ؛ عرفنا أن مزاجه ليس يحتمل هذا العلم الدقيق ؛ فليس كل خلقه يحتمل العلوم ، بل الصناعات والحرف ـ فهذا لا يدل على فساد هذا الأصل.

فإن قال المسترشد : لست أشك فى هذه المقدمات ولا فى النتيجة ، ولكن لم يخالفكم من يخالفكم؟ قلنا : لجهله ترتيب هذه المقدمات ، أو لعناده ، أو لبلادته ، وينكشف الغطاء بأن نشافه واحدا منهم يميل إلى الإنصاف ونراجعه فى هذه المقدمات حتى يتبين لك أنه بين أن يفهم ويصف ويعترف ، أو لا يفهم لبلادته ، أو يمنعه التعصب والتقليد عن حسن الإصغاء إليه فلا يدركه ، وعند ذلك يطلع على خطئه.

وكذلك يصنع به فى كل مسألة وينظر فيه إلى ما تحتمله حاله ويقبله ذكاؤه وفطنته ، ولا يحمّله ما لا يطيقه بل ربما يقنعه بما يورث له اعتقادا فى الحق مصمما ، فإن أكثر عوام الخلق قنع منهم الشرع بذلك ؛ ولا يكشف له عن وجه البراهين فربما لا يفهمها.

وأما (الدلالة الثالثة) وهى قولهم : الوحدة دليل الحق ، والكثرة دليل الباطل ؛ ومذهب التعليم تلزمه الوحدة ، ومذهبكم تلزمه الكثرة ، إذ لا تزال الفرقة المخالفة للتعليم يكثر اختلافهم ، ولا تزال الفرقة القابلة للتعليم يتحد طريقهم.

فالجواب من وجوه : أحدها المعارضة ، والآخر الإبطال ، والثالث التحقيق. أما

١١٢

المعارضة فتقول : والصائرون إلى الافتقار إلى معلم معصوم اختلفوا فى ذلك المعصوم ، فقالت الإمامية : إنه ليس بظاهر وليس يعرف عينه ، ولكن أخفى نفسه تقية ، وقال آخرون : ليس موجودا ، ولكنه منتظر الوجود وسيوجد إذا احتمل الزمان إظهار الحق ، ولو كان يحتمل الزمان إظهاره لوجد ، فإنه لا فائدة فى كونه موجودا مع تعذر الإظهار للتقية ، وقال آخرون فى بعض الخلفاء الذين مضوا لسبيلهم إنهم أحياء وسيظهرون فى أوانه ، واختلفوا فى تعيينه حتى اعتقد فريق أن الملقب بالحاكم (١) هو حي بعد. وقال آخرون ذلك فى غيره ، إلى نوع من الخبط طويل ، فإن قيل : هؤلاء جماعة من الحمقى غير معدودين فى زمرتنا فإذا ضممتموهم إلينا وجمعتم بيننا وبينهم تطرقت الكثرة إلينا ؛ فلم تجمعون إلينا من يخالفنا كما يخالفكم؟ بل الإنصاف أن تنظروا إلينا وحدنا ونحن لا تختلف كلمتنا أصلا ؛ قلنا : ونحن أيضا إذا اعتبرنا وحدنا فنحن لا نخالف أنفسنا ، وقد يرد هذا الاعتراض لا محالة من يعتقد مذهبا فى جميع المسائل لا يخالف نفسه ، ومع جماعة من الخلق يوافقونه فى معتقده فى الجميع ؛ فإذا اعتبرتموه مع فرقته ولم تجمعوا إليهم من يخالفهم فبالحماقة والبلادة وقصور النظر ألفيت كلمتهم متحدة ؛ فلا يدل على أن الحق فيهم ، فإن قلتم : وبم عرفتم حماقة مخالفيكم؟ انقلب ذلك عليكم من مخالفتكم القائلين بوجوب التعليم من المعصوم ، وإن زعمتم أن القائلين بأن النظر صحيح فرقة واحدة وإن اختلفوا فى تفاصيل المذهب ، قلنا : والقائلون بإن الإمام المعصوم لا بدّ منه فرقة واحدة ، وإن اختلفوا فى التفصيل ، وهذا لا محيص عنه أبد الدهر.

الجواب الثانى : وهو أنا نقول : قولكم الوحدة أمارة الحق ، والكثرة أمارة الباطل ؛ باطل فى الطرفين : فربّ واحد باطل ، وربّ كثير لا ينفك عن الحق. فإنا إذا قلنا : العالم حادث أو قديم ، فالحادث واحد والقديم واحد ؛ فقد اشتركا فى

__________________

(١) الحاكم بأمر الله الفاطمى.

١١٣

لزوم الوحدة ، وانقسما فى الحق والباطل. وإذا قلنا : الخمسة والخمسة عشرة ، أم لا؟ فقولنا : لا ، نفى واحد ، كقولنا عشرة : إثبات واحد ، ثم اختلفنا فكان أحدهما حقا والآخر باطلا. فإن قلتم : إن قولكم عشرة لا يمكنكم أن تقسم وتفصل إلا بواحد وقولكم لا يفصل بالتسعة والسبعة وسائر الأعداد ففيه الكثرة ؛ قلنا : ولزوم الكثرة فى مثل هذا التفصيل لا يدل على البطلان ، فإنا إذا عمدنا إلى جسمين متقاربين قلنا : إنهما متساويان أم لا؟ فقولنا : متساويان واحد وهو باطل ، ولا يمكن أن يفصل إلا بواحد ، وقولنا : لا ، إذ قلنا متفاوتان ، حق ، وهو واحد ويقبل التفصيل بما ينقسم إلى الحق والباطل ، إذ يقال : هذا الجسم مفاوت لذلك الجسم ، أى هو أكبر ؛ أو يفسر بأنه أصغر والحق أحدهما والباطل يقابله فى كونه واحدا وفى مشاركته فى الاندراج تحت لفظ واحد هو حق يدل على أن ما ذكروه تلبيس.

(الجواب الثالث) عن قولهم إن الكثرة أمارة الباطل ، فمذهبنا واحد لا كثرة فيه ، وإنما الكثرة فى الأشخاص الذين اجتمعوا على مسألة ثم افترقوا فى مسائل ؛ فلم قابلوا هذا بكثرة فى جواب المسألة وهو فى قولنا : كم الخمسة والخمسة؟ بل ورأيه من المذهب أن يفتى فى مسألة واحدة بفتاوى كثيرة متناقضة ؛ فعند ذلك يقال : الكثرة دليل الباطل ؛ ولسنا نفتى فى كل مسألة إلا بواحد ، فإنا نقول : الله واحد ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسوله ، وهو صادق ومؤيد بالمعجزة فهذه فتوى واحدة فلتكن حقا ؛ وإن كان باطلا فهو موافق لمذهبهم.

وقولنا : إن نظر العقل طريق يوصل إلى درك ما لا يدرك اضطرارا ، مذهب واحد لا كثرة فيه فليكن حقا ، كما أن قولنا : العلوم الحسابية علوم صادقة ، قول واحد وكان حقا. وليتعجب من إبعادهم فى التلبيس إذ أخذوا لفظة «الكثرة» وهى لفظة مضافة مشتركة ، تارة يراد بها الكثرة فى الأجوبة عن مسألة واحدة كالجواب عن الخمسة والخمسة ، والسبعة والستة وغيرها ، وتارة تطلق ويراد كثرة الأشخاص

١١٤

المتفقين فى مذهب والمختلفين فيه ، فرأوا مفارقة الباطل للكثرة المضافة إلى عدد الأجوبة فى مسئلة واحدة ، فاستدلوا به على بطلان قول واحد فى مسألة واحدة اجتمع عليها جماعة كثيرة اختلفت كلمتهم فى مسائل سوى تلك المشكلة.

ولكن هذا وإن كان تلبيسا بعيدا عن المحصل فمقصود واضعه التلبيس على العوام ، وذلك مما يتوقع رواجه ، فالحيلة على العوام فى استدراجهم ليست ممتنعة على جماعة من الحمقى قد ادعوا الربوبية ؛ فكيف تتعسر عن غيرها! وأما قول الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، فهو من هذا الطراز فى التلبيس ، فإن المراد به تناقض الكلمات فى المتكلم الواحد إذا تناقض كلامه فسد ؛ ونحن لم يتناقض كلام الواحد منا فى مسألة ، بل اجتمع طائفة على مسألة وهى إثبات النظر ، كما اجتمع طائفة على التعليم وإثباته ، ثم اختلفوا فى مسائل أخر. فأين هذا من اختلاف الكلام الواحد؟!

فإن قيل : المتعلمون إذا أجمعوا على التعليم وعلى معلّم واحد وأصغوا بأجمعهم إليه لم يكن بينهم خلاف وإن كانوا ألف ألف ، قلنا : والناظرون إذا أجمعوا على النظر فى الدليل وعلى تعيين دليل واحد فى كل مسألة ووقفوا عليها لم يتصور بينهم خلاف. فإن قلتم : فكم من ناظر فى ذلك الدليل بعينه قد خالف؟! قلنا فكم من مصغ إلى معلمكم وقد خالف؟! فإن قلتم : لأنه لم يصدقه فى كونه معصوما ، قلنا : ولأن الناظر لم يعرف وجه دلالة الدليل ، فإن قلتم : ربما يعرف وجه الدلالة ثم ينكر ، قلنا : هذا لا يتصور إلا عنادا ، كما يعتقد واحد كون الإمام المعصوم حقا ثم يخالفه فلا يكون ذلك إلا عن عناد ، ولا فرق بين المسلكين.

وأما (الدلالة الرابعة) وهى قولهم إن كان لا يدرك الناظر المساواة بينه وبين خصمه فى الاعتقاد ، فلم يدرك المساواة بين حالتيه؟ وكم من مسألة اعتقدها نظرا ثم تغير اعتقاده ، فبم يعرف أن الثانى ليس كالأول؟ قلنا : يعرف ذلك معرفة ضرورية لا يتمارى فيها. وهذا معتقدكم أيضا فى مثالين ، ولا كلام أقوى من

١١٥

القلب (١) والمعارضة فى مثل هذه المقالات ؛ فإن عادتهم مديد الاعتصام إلى إشكالات لا تختص بمذهب فريق. فيحيرون عقول العوام به ويخيلون أنه من خاصة مذهب مخالفيهم ، والعامى المسكين متى يتنبه لانقلاب ذلك عليه فى مذهبه! فنقول : هذا القائل اعتقد مذهب التعليم وإبطال النظر تقليدا سماعا من أبويه ، أو سمع من الأبوين مذهبا ثم تنبه بعد ذلك لبطلانه؟ فإن قال : اعتقدته سماعا من الأبوين ، قلنا : وأولاد النصارى واليهود والمجوس وأولاد مخالفيكم فى مسألة النظر وقع نشوؤهم على خلاف معتقدكم ، فبما ذا تفرقون به بين أنفسكم وبينهم؟ أبطول اللحى أو سواد الوجوه ، أم بسبب غيره والتقليد شامل؟

وإن قلتم : لا ، بل اعتقدنا مذهبكم ثم تركنا التقليد وتنبهنا لصحة مذهب التعليم ، قلنا : تنبهتم لبطلان مذهبنا : على البديهة ، أو بنظر العقل؟ فإن كان على البديهة فكيف خفى عليكم البديهى فى أول أمركم وعلى آبائكم وعلينا ونحن العقلاء وقد طبقنا وجه الأرض ذات الطول والعرض؟ وإن عرفتم ذلك بنظركم فلم وثقتم بالنظر ولعل حالكم اللاحقة كحال السابقة ، فما الفارق؟ فإن قلتم : عرفنا من المعلم ، قلنا : إن كان تقليدا فما الفرق بين التقليد للأول ، وبين تقليدكم وتقليد طوائف المخالفين من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين؟ وإن فهمتم بالنظر فما الفرق بينكم وبين سائر النظار؟ وهذا مما لا جواب عنه إلا أن يقال : بالضرورة ندرك التفرقة بين ما علم يقينا لا يمكن فيه الخطأ ، وبين ما يمكن ، فهكذا جوابنا.

المثال الثانى : إن من غلط فى مسألة حسابية ثم تنبه لها : هل يتصور أن يزول شكّه بعد التنبيه؟ نجيب : أنه ليس مخطئا وأن الخطأ غير جائز عليه ؛ وإنما كان الخطأ فيما تقدم لمقدمة شذت عنه ، فإن قلتم : لا ؛ فقد أنكرتم المشاهدة. وإن قلتم : نعم ، فبما ذا تدرك التفرقة إلا بالضرورة؟! وقد انقلب الإشكال بعينه. وكيف

__________________

(١) القلب : رد الحجة عليه بمثلها.

١١٦

تنكر ذلك وقد رأيت من يدعى الذكاء والفطنة فى علم الحساب حكم بأن التيامن فى القبلة واجب ببلد «نيسابور» ، وأنه لا بدّ من الميل عن محرابها المتفق عليه إلى اليمين. واستدل عليه بمقدمة مسلمة وهى أن الشمس تقف وسط السماء على سمت الرأس بمكة فى أطول النهار وقت الزوال ، ثم قال : ترى الشمس فى أطول النهار وقت الزوال بنيسابور مائلة قليلا إلى يمين المستقبل فى محرابها فليعلم أنه على سمت رأس الواقف بمكة ، وأن مكة مائلة إلى اليمين. فتابعه على ذلك جماعة من الحساب ، واعتقدوا أن ذلك هو الواجب بحكم هذا الدليل ، حتى تنبهوا على محل الغلط فيه وإحلالهم بمقدمة أخرى ، وهى أن ذلك إنما يلزمه لو كان وقت الزوال بنيسابور هو وقت الزوال بمكة ؛ وليس كذلك ، بل يقع بعد ساعة ، وتكون الشمس قد أخذت إلى صوب المغرب فى جانب اليمين عرضا ، فيرى وقت الزوال مائلا عن قبلة نيسابور ، لأنه ليس وقت الزوال والغروب فى جميع المواضع متفقا ، ويعرف ذلك باختلاف ارتفاع القطبين وانخفاضهما ، بل باستتارهما وانكشافهما فى البقاع المختلفة ، فهذا الغلط وأمثاله فى الحساب أفيدل ذلك على أن النظر فى الحساب ليس طريقا موصلا إلى معرفة الحق؟ ، أو يتشكك المتنبه بعدها فيقول : لعله شذّت عنى مقدمة أخرى وأنا غافل عنها كما فى الأول ، هذا لو فتح بابه فهو السفسطة المحضة ويدعو ذلك إلى بطلان العلوم والاعتقادات كلها فكيف يبقى معه وجوب التعلم ومعرفة العصمة ، ومعرفة إبطال النظر!

وأما (الدلالة الخامسة) وهى قولهم إن صاحب الشرع صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الناجى من الفرق واحدة وهم أهل السنة والجماعة» ثم قال : «ما أنا الآن عليه وأصحابى» ـ فهذا من عجيب الاستدلالات فإنهم أنكروا النظر فى الأدلة العقلية لاحتمال الخطأ فيه ، وأخذوا يتمسكون بأخبار الآحاد والزيادات الشاذة فيها ، فأصل الخبر من قبيل الآحاد ؛ وهذه الزيادة شاذة ، فهو ظن على ظن ؛ ثم هو لفظ محتمل من وجوه التأويل ما لا حصر له ، فإن ما كان عليه هو وأصحابه إن اشترط جميعه فى الأقوال والأفعال والحركات والصناعات كان محالا ؛ وإن أخذ بعضه فذلك البعض من

١١٧

يعينه ويقدره؟ وكيف يدرك ضبطه ، وهل يتصور ذلك إلا بظن ضعيف؟ وربما لا يرتضى مثله فى الفقهيات مع خفّة أمرها ، فكيف يستدل على القطعيات بمثلها؟ على أنا نقول : هم كانوا على اتباع نبى مؤيد بالمعجزة. فلستم إذن من الفرقة الناجية ، فإنكم اتبعتم من ليس هو نبيا ولا مؤيدا بالمعجزة ، فسيقولون : ليس تجب مساواته من كل وجه ؛ قلنا : فنحن على مساواتهم من كل وجه : فإنا نأمر باتباع الكتاب والسنة والاجتهاد عند العجز عن التمسك بهما ، كما أمر معاذا به ، وكما استمر عليه الصحابة بعد وفاته من المشاورة والاجتهاد فى الأمور ، فالحديث قاض لنا بالنجاة ولكم بالهلاك ، فإنكم انحرفتم عن اتباع النبي المعصوم إلى غيره ، فإن قيل : ومعانى الكتاب والسنة كيف تفهمونها؟ قلنا : قد بينا أنها ثلاثة أقسام : صريحة ، وظاهرة ، ومجملة ؛ وبينا أن معرفتنا لها كمعرفة سائر الصحابة ، وكمعرفة من تدعون له العصمة من غير فرق. فإن قيل : وأنتم تدعون إلى نظر العقل ، وما كان هذا من دأب الصحابة. قلنا : هيهات! فإنا ندعو إلى الاتباع ، وإلى تصديق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله. فمن صدّق بذلك سبقا إليه من غير منازعة ومجادلة قنعنا منه كما يقنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به من أجلاف العرب.

والناس على ثلاثة أقسام : قسم هم العوام المقلدون نشئوا على اعتقاد الحق سماعا من آبائهم ، فهم مقرّون عليه بصحة إسلامهم ، الثانى : الكفار الذين نشئوا على ضد الحق سماعا عن آبائهم وتقليدا ؛ فهم مدعوون عندنا إلى تقليد النبي المعصوم المؤيد بالمعجزة واتباع سنته وكتابه ، وأنتم تدعونه إلى معصومكم. فليت شعرى! أينا أشبه بصحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمن يدعو إلى النبي المؤيد بالمعجزة ، أم من يدعو إلى من يدعى العصمة بشهوته من غير معجزة؟! ـ القسم الثالث : من فارق حيز المقلدين وعرف أن فى التقليد خطر الخطأ ، فصار لا يقنع به ، فنحن ندعوه إلى النظر فى خلق السموات والأرض ليعرف به الصانع ، وإلى التفكر فى معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعرف به صدقه ، وأنتم تدعونه إلى تقليد المعصوم وتكذبون نظر العقل وتزخرفونه ، فليت شعرى أى الدعوتين أوفق لدعوة أصحاب

١١٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم!؟ فمتى قالوا للمسترشد المتشكك : إياك ونظر العقل وتأمله فإن فيه خطر الخطأ ، ولذلك اختلف الناظرون ؛ بل عليك أن تقلد ما تسمعه منا من غير بصيرة وتأمل ، هذا لو صدر من مجنون لضحك منه ، ولقيل له : لم نقلدك ولا نقلد من يكذبك؟ فإذا طوى بساط الدليل المفرق بطريق النظر بينك وبين خصمك ، ولم يمكن درك التفرقة بالضرورة فبم تميز عن مخالفك المكذب؟! فليت شعرى من فتح باب النظر الّذي يسوق إلى معرفة الحق متبعا فيه ما اشتمل عليه القرآن من الحث على التدبر والتفكر فى الآيات وفى القرآن وعجز الخلق عن الإتيان بمثله واستدلاله به ، هو أقرب إلى موافقة الصحابة وأهل السنة والجماعة ، أو من يؤيس الخلق عن النظر فى الأدلة بالتكذيب حتى لا يبقى للدين عصام يتمسك به إلّا الدعاوى المتعارضة؟ وهل هذا إلا صنع من يريد أن يطفئ نور الله ويغطى شرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسدّ طريقه المفضى إليه؟! فإن قيل : فنراكم تميلون تارة إلى الاتباع ، وتارة إلى النظر. قلت : هكذا تعتقده. ولكنه فى حق شخصين. فالذين سعدوا بالولادة بين المسلمين فأخذوا الحق تقليدا مستغنون عن النظر ؛ وكذا الكفار إذا تيسر لهم تصديق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقليدا ، كما كان يتيسر لأجلاف العرب ، والّذي يتشكك ويعرف غرر التقليد فلا بد له من معرفة صدقنا فى قولنا : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، ثم بعد هذا قدر على اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولن يعرف التوحيد والنبوة إلا بالنظر فى دليله الّذي دل عليه الصحابة ودعا الرسول الخلق به ؛ فإنه ما دعاهم بالتحكم المحض والقهر المجرد ، بل بكشف سبل الأدلة. فهذا صورة القول مع كل متشكك ؛ وإلا فليبرز الباطنى معتقده فى حقّه وأنه كيف ينجو عن شكه إذا حسم عليه باب التأمل والنظر!

فهذا حلّ هذه الشبهات. وهى أركّ عند المحصل من أن يفتقر فى حلها إلى كل هذا الإطناب ، ولكن اغترار بعض الخلق به وظهور التلبيس فى هذا الزمان يتقاضى هذا الكشف والإيضاح. والله تعالى يوفقنا للعلم والعمل والرشد والإرشاد ، بمنه ولطفه.

١١٩
١٢٠