فضائح الباطنية

أبو حامد الغزالي

فضائح الباطنية

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: محمد علي القطب
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٥

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

إن الحمد لله نحمده تعالى ونشكره ، ونتوب إليه ونستغفره ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير ، ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبد الله ورسوله ، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فبلغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة ، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يضل عنها إلا زائغ هالك ؛ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين.

أما بعد :

فإن العداوة بين الحق والباطل قائمة دائمة ، والصراع بينهما مستمر ما استمرت السموات والأرض ، وإلى أن تقوم الساعة ...!

والحق واحد لا يتلون ولا يتبدل ، فالله تعالى هو الحق الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، أما الباطل فإنه يتلبس صورا وأشكالا وألوانا ، حسب مقتضيات أحوال المعارك التى يخوضها ، فلكل حال لبوسها ، ولكل معركة جندها وسلاحها وأعوانها من شياطين الإنس والجنّ.

ولقد نفخ إبليس نفخته الأولى حين وسوس لآدم ـ عليه‌السلام ـ فعصى ربه ثم غوى ، وكان الخروج من الجنة ، والهبوط إلى الدنيا ، وشقاء بنى آدم.

ثم إن الله تعالى رحم الإنسانية والبشرية برسله وأنبيائه يهدونهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم ؛ وأنذر المخالفين بسوء العاقبة.

٣

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧) [طه : ١٢٣ ـ ١٢٧].

وعلى مدى قرون طوال ، وأجيال استمرت المعركة ، وأوار الحرب بين الحق والباطل ، فمن الناس من آمن ووقى العثار ، ومنهم من سقط فى الدرك الأسفل من النار.

منهم من لاذ بالفرار إلى ظل ظليل ، فاتبع الرسل ، ومنهم ـ بل أكثرهم ـ لجوا فى عتو ونفور ، وغرقوا فى لجج البحور ، أو زلزلت بهم الأرض أو خسفت ، فكانوا عبرة للأولين والآخرين.

قوم نوح وقوم لوط وعاد وثمود ، وأصحاب الأيكة وقوم تبع وغيرهم كثير.

وكانت نفخة إبليس ووسوسته ـ وما تزال ـ من داخل النفس البشرية وباطنها ؛ (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٧ ـ ١٠].

وكما تنوعت أشكال حروب الباطل مع الحق ، عبر مسيرة الحياة الإنسانية ، تنوعت أيضا مع بزوغ فجر الإسلام ، وسطوعها على الدنيا ، واتخذ سبيله إلى الميدان من خلال النفس ، من الباطن أيضا.

واضطرمت واشتعلت منذ أبى جهل الّذي تلبّسه إبليس إلى عهود متقدمة.

ولقد كان من شأن إمامنا الجليل أبى حامد الغزالى ـ عليه الرحمة والرضوان ـ أن يكون جنديا من جنود الحق ، وعلى مستوى عال ، فى الدفاع عن حوزة الإسلام ، وبروزه إلى الميدان ، متسلحا بالإيمان والمعرفة والنباهة ، وقد درس ووعى ، ثم شرع قلمه ليسطر تحفته العلمية : «فضائح الباطنية».

٤

ولسوف ترى عزيزى القارئ من خلال الكتاب نموذجا رائعا راقيا للعالم ، بكل ما فى كلمة العالم الغيور من معنى وحقيقة.

ويشرفنى أن أعيد إلى المكتبة الإسلامية كتابا تراثيا له قيمته وأثره ، إذ طال حجبه واحتجابه.

ويسعدنى أن تكون (المكتبة العصرية) ـ لبنان ـ صاحبة الفضل فى النشر والإذاعة ، وكم لها من أياد بيضاء فى هذا المجال.

والله أسأل أن ينفع به ، وأن يجعله فى ميزان حسناتى يوم القيامة.

والحمد لله رب العالمين

محمد على القطب

٥

نبذة عن الكتاب

أول دراسة تحقيقية له كانت على يد المستشرق جولد تسهير ؛ ولكنها لم تكن كاملة ، فقد أتى بمقطعات منها ؛ معتمدا على نسخة المتحف البريطانى [مخطوط رقم (٧٧٨٢) ـ شرقى ـ].

ثم كانت الدراسة الوافية المستكملة على يد الدكتور «عبد الرحمن بدوى» أجزل الله له الثواب ؛ وقد نشرت فى الخمسينات.

اقتنيت واحدة ولكنها استعيرت منى ، ولم تعد. رحم الله الصديق وغفر له.

وظللت أتمنى العثور على نسخة أخرى ، تكون فى مكتبتى ، ولكن على غير طائل.

ووفقت أخيرا إلى نسخة ، يقول محققها إنها تعتمد على نسختى : المتحف البريطانى ، ونسخة القرويين بفاس تحت رقم (٤٤٢٨).

وقد بذل فيها ـ أجزل الله ثوابه ـ جهدا مشكورا ، ولكنها مع الأسف سيئة الطباعة لا تستوى أبدا مع قيمة الكتاب العلمية.

فعولت مستعينا بالله تعالى على إعادة المراجعة والضبط والشرح ، وإتقان ذلك بجهد المقل ، راجيا حسن القبول.

٦

تعريف بالإمام أبى حامد الغزالى ـ عليه رحمة الله ـ

اسمه ونسبه :

هو : محمد بن محمد بن محمد الطوسى الملقب : زين الدين ؛ والطوسى ، نسبة إلى طوس ؛ وكانت من المدن الشهيرة بخراسان.

وفى غزالة إحدى قرى طوس كان مولده رحمه‌الله سنة خمسين وأربعمائة (٤٥٠) ه.

وكان والده يغزل الصوف ويبيعه فى دكانه بطوس ؛ ومن هنا كان الاختلاف فى النسبه ، هل هى الغزّالى بالتشديد أم الغزالى ـ بالتخفيف؟

ولكن صاحب سير أعلام النبلاء نقل عن ابن الصلاح ، بسنده عن الإمام الغزالى قوله : الناس يقولون لى : الغزالى ، ولست الغزّالى ، وإنما الغزالى ، منسوب إلى قرية «غزالة».

النشأة :

كان والد الإمام الغزالى شغوفا بالعلم ، محبا للعلماء ، كثير التردد على مجالسهم ، ولكنه لم يكن عالما ، ولعل ظروف الحياة المعيشية كانت صعبة وقاسية عليه ، مضطرا إلى الانصراف للعمل ، فحرم من طلب العلم ، ولما حضرته الوفاة ، وصى صديقا له من أهل الخبرة والفضل أن يتولى من بعده رعاية ولديه محمد وأحمد ، ولو أنفق فى ذلك كل ما يخلفه لهما من مال وثروة.

وفعل الصديق بوصية الأب ، ولكن قصرت يداه عن إتمام الغاية ، فنصحهما بالالتحاق بمدرسة يكون لهما فيها طلب العلم وكفاية المسعى ؛ ففعلا ذلك.

وبدأ الإمام الغزالى ـ رحمه‌الله ـ رحلته الكبرى فى طلب العلم ، وتنقل بين طوس وجرجان ونيسابور ، وتزود بالمعرفة ، وكانت فيه نباهة وذكاء ، وذهن وقاد ،

٧

فأوتى ما لم يؤت غيره ؛ واشتهر ذكره ، وذاع صيته ؛ وأصبح علما يشار إليه بالبنان.

يقول الحافظ عبد الغفار إسماعيل :

(وجد واجتهد حتى تخرج فى مدة قريبة وبز الأقران ، وحمل القرآن ، وصار أنظر أهل زمانه وأوحد أقرانه ، وكان الطلبة يستفيدون منه ، ويدرس لهم ويرشدهم ، ويجتهد فى نفسه ، وبلغ به الأمر إلى أن أخذ فى التصنيف).

إلى بغداد. إلى المدرسة النظامية :

وكان الوزير نظام الملك الحسن بن على الطوسى عالى الهمة واسع المعرفة أنشأ العديد من المدارس ، ودور العلم ، فلما التقى بالإمام الغزالى وسبر غوره ، أعجب به وقدمه ، ثم وجهه إلى بغداد ؛ وكانت المدرسة النظامية أشبه بالجامعات فى مستواها ورقيها.

وهناك قام بالتدريس. فالتف حوله كبار العلماء ، وطلاب المعرفة ، ينهلون من علمه الجم ، وغزير معرفته.

وبلغ الإمام الغزالى فى تلك الأيام قمة المجد ، وأتته الدنيا خاضعة ذليلة ، أتته بالمال والشهرة وذيوع الاسم ، كما أتته بالجاه ، ونفوذ الكلمة.

التحول :

يقول الإمام الغزالى رحمه‌الله فى كتابه المنقذ من الضلال :

(... ثم لاحظت أحوالى ، فإذا أنا منغمس بالعلائق ، وقد أحدقت بى من كل الجوانب ، ولاحظت أعمالى ـ وأحسنها التدريس والتعلم ـ فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمّة ، ولا نافعه فى طريق الآخرة).

(فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ، ودواعى الآخرة ، قريبا من ستة أشهر ، أولها شهر رجب سنة ثمان وثمانية وأربعمائة (٤٨٨ ه‍) ؛ وفى هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار ، إذ قفل الله على لسانى حتى اعتقل عن

٨

التدريس ، فكنت أجاهد نفسى أن أدرس يوما واحدا تطييبا للقلوب المختلفة إلى ، فكان لسانى لا ينطق بكلمة واحدة ، ولا أستطيعها البتة).

عزلته :

قصد إلى مكة المكرمة فأدى فريضة الحج ثم أتى دمشق.

وفى دمشق عاش أكثر وقته طوال عشر سنين فى عزلة وخلوة ، ومجاهدة للنفس ، واشتغال بتزكيتها وتطهيرها مما علق بها من الدنيا وزخرفها وزينتها ، وتصفية للقلب بالذكر الدائم ، وكان اعتكافه وإقامته فى أسفل منارة المسجد الأموى ، فى غرفة ضيقة صغيرة. يقضى فيها سحابة النهار

العودة إلى طوس :

بعد هجرة وعزلة ورياضة للنفس عاد الإمام الغزالى إلى وطنه طوس بقلب جديد ، وروح جديدة.

وتحت ضغط الطلب ، اضطر إلى التدريس ثانية ، فالعلم لا يحبس عن طالبيه ؛ ولكنه عاد بروح جديدة قال عنها :

(... وأما الآن فأدعو إلى العلم الّذي يترك به الجاه ، ويعرف به سقوط مرتبة الحياة ، هذا هو الآن نيتى وقصدى وأمنيتى ، يعلم الله ذلك منى)

وإلى نيسابور :

كان لا بدّ للإمام الغزالى رحمه‌الله أن يوسع مدى العطاء العلمى ، فعاد من طوس إلى نيسابور ، وسكنها ؛ واتخذ بجوار بيته مدرسة لطلبة العلم ، ومنزلا «خانقاه» للصوفية ، ونظم أوقات عمله على : ختم القرآن ، ومجالسة أهل القلوب ، وتدريس طلبه العلم ، ومداومة العبادة صوما وصلاة ؛ وكان ذلك عام تسعة وتسعين وأربعمائة (٤٩٩ ه‍).

وفاته رحمه‌الله :

ولما كان يوم الإنثين ـ الرابع عشر من جمادى الآخرة ، سنة خمس وخمسمائة

٩

(٥٠٥ ه‍) ، وقت الصبح ، توضأ وصلى ، وقال لأخيه أحمد «أبو الفتوح» : على بالكفن ، فأخذه وقبله ، ووضعه على عينيه ؛ وقال : سمعا وطاعة للدخول على الملك ، ثم مد رجليه ، واستقبل القبلة ، ففاضت روحه قبل الإسفار.

تراثه العلمى :

إحياء علوم الدين ، المنقذ من الضلال ، تهافت الفلاسفة ، البسيط ، الوسيط ، الوجيز ، الخلاصة فى الفقه الشافعى ، المنخول ، المستصفى (فى الأصول) ؛ مقاصد الفلاسفة ؛ فضائح الباطنية.

١٠

مقدمة المؤلف

الحمد لله الحى القيوم الّذي لا يستولى على كنه قيامه وصف واصف ؛ الجليل الّذي لا يحيط بصفة جلاله معرفة عارف ، العزيز الّذي لا عزيز إلا وهو بقدم الصغار على عتبة عزه عاكف ؛ الماجد الّذي لا ملك إلا وهو حول سرادق مجده طائف ؛ الجبار الّذي لا سلطان إلا وهو لنفحات عفوه راج وسطوات سخطه خائف ؛ المتكبر الّذي لا ولى إلا وقلبه على محبته وقف وقالبه لخدمته واقف ؛ الرحيم الّذي لا شيء إلا وهو ممتط متن الخطر فى هول المواقف ، لو لا ترصده لرحمته بوعده السابق السالف ؛ المنعم الّذي إن يردك بخير فليس لفضله راد ولا صارف ؛ المنتقم الّذي إن يمسسك بضر فما له سواه كاشف ؛ جل جلاله ، وتقدست أسماؤه ، فلا يغره مؤالف ولا يضره مخالف ؛ وعز سلطانه فلا يكيده مراوغ ولا يناوئه مكاشف ؛ خلق النار أحزابا وأحسابا ، ورتبهم فى زخارف الدنيا أرذالا وأشرافا ، وقربهم فى حقائق الدين ارتباطا وانحرافا وجهلة وعرافا ؛ وفرقهم فى قواعد العقائد فرقا وأصنافا ، يتطابقون ائتلافا ويتقاطعون اختلافا ، فافترقوا فى المعتقدات جحودا واعترافا ، وتعسفا وإنصافا ، واعتدالا وإسرافا ، كما تباينوا أصلا وأوصافا : هذا غنى يتضاعف كل يوم ما له أضعافا ، وهو يأخذ جزافا وينفق جزافا ؛ وهذا ضعيف يعول ذرية ضعافا ، يعوزه قوت يوم حتى يسأل الناس إلحافا ؛ وهذا مقبول فى القلوب لا يلقى فى حاجته إلا إجابة وإسعافا ؛ وهذا مبغض للخلق تهتضم حقوقه ضيما وإجحافا ؛ وهذا تقى موفق يزداد كل يوم فى ورعه وتقواه إسرافا وإشرافا ؛ وهذا مخذول يزداد على مر الأيام فى غيه وفساده تماديا واعتسافا ، ذلكم تقدير ربكم القادر الحكيم الّذي لا يستطيع سلطان عن قهره انحرافا ؛ القاهر العليم الّذي لا يملك أحد لحكمه خلافا ، رغما لأنف الكفرة الباطنية الذين أنكروا أن يجعل الله بين أهل الحق اختلافا ، ولم يعلموا أن الاختلاف بين الأمة يتبعه الرحمة كما تتبع العبرة اختلافهم مراتب وأوصافا.

١١

وشكرا لله الّذي وفقنا للاعتراف بدينه إعلانا وإسرارا ، وسددنا للانقياد لحكمه إظهارا وإضمارا ، ولم يجعلنا من ضلال الباطنية الذين يظهرون باللسان إقرارا ، ويضمرون فى الجنان تماديا وإصرارا ، ويحملون من الذنوب أوقارا (١) ، ويعلنون فى الدين تقوى ووقارا ، ويحتقبون (٢) من المظالم أوزارا ، لأنهم لا يرجون لله وقارا ، ولو خاطبهم دعاة الحق ليلا ونهارا لم يزدهم دعاؤهم إلا فرارا ؛ فإذا أطل عليهم سيف أهل الحق آثروا الحق إيثارا ، وإذا انقشع عنهم ظله أصرّوا واستكبروا استكبارا فنسأل الله أن لا يدع على وجه الأرض منهم ديارا (٣) ؛ ونصلى على رسوله المصطفى ، وعلى آله وخلفائه الراشدين من بعده صلوات بعدد قطر السحاب تهمى مدرارا ، وتزداد على ممر الأيام استمرارا ، وتتجدد على توالى الأعوام تلاحقا وتكرارا.

أما بعد : فإنى لم أزل مدة المقام بمدينة السلام (٤) متشوفا إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية ضاعف الله جلالها ، ومدّ على طبقات الخلق ظلالها ـ بتصنيف كتاب فى علم الدين أقضى به شكر النعمة ، وأقيم به رسم الخدمة ، وأجتنى بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة ؛ لكني جنحت إلى التوانى لتحيرى فى تعيين العلم الّذي أقصده بالتصنيف وتخصيص الفن الّذي يقع موقع الرضى من الرأى النبوى الشريف ، فكانت هذه الحيرة تغبر فى وجه المراد ، وتمنع القريحة عن الإذعان والانقياد ، حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية (٥) بالإشارة إلى

__________________

(١) أوقارا : أحمالا.

(٢) يحتقبون : يجمعون ويحتبسون.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى على لسان نوح عليه‌السلام بدعائه على قومه : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦].

(٤) مدينة السلام : بغداد. سماها بذلك أبو جعفر المنصور الذي بناها.

(٥) نسبة إلى الخليفة العباسى أحمد المستنصر بالله (كان خيّرا فاضلا ذكيا بارعا ، وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد ، وكان راغبا في البر والخير ، مسارعا إلى ذلك ، لا يرد سائلا ؛ وكان جميل العشرة لا يصغى إلى

١٢

الخادم (١) فى تصنيف كتاب فى الرد على الباطنية مشتمل على الكشف عن بدعهم وضلالاتهم ، وفنون مكرهم واحتيالهم ، ووجه استدراجهم عوام الخلق وجهالهم ، وإيضاح غوائلهم فى تلبيسهم وخداعهم ، وانسلالهم عن ربقة الإسلام ، وانسلاخهم وانخلاعهم وإبراز فضائحهم وقبائحهم ، بما يفضى إلى هتك أستارهم وكشف أغوارهم. فكانت المفاتحة بالاستخدام فى هذا المهم فى الظاهر نعمة أجابت قبل الدعاء ولبّت قبل النداء ، وإن كانت فى الحقيقة ضالّة كنت أنشدها وبغية كنت أقصدها ، فرأيت الامتثال حتما ، والمسارعة إلى الارتسام حزما. وكيف لا أسارع إليه!؟ وإن لاحظت جانب الأمر ألفيته أمرا مبلغه زعيم الأمّة وشرف الدين ، ومنشؤه ملاذ الأمم أمير المؤمنين ، وموجب طاعته خالق الخلق رب العالمين ، إذ قال الله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] وإن التفت إلى المأمور به فهو ذب عن الحق المبين ونضال ، دون حجة الدين ، وقطع لدابر الملحدين. وإن رجعت إلى نفسى ، وقد شرفت بالخطاب به من بين سائر العالمين ، رأيت المسارعة إلى الإذعان والامتثال فى حقى من فروض الأعيان ، إذ يقل على بسيط الأرض من يستقل فى قواعد العقائد بإقامة الحجة والبرهان بحيث يرقيها من حضيض الظن والحسبان إلى يفاع (٢) القطع والاستيقان ، فإنه الخطب الجسيم والأمر العظيم الّذي لا تستقل بأعيانه بضاعة الفقهاء ، ولا يضطلع بأركانه إلا من تخصص بالمعضلة الزباء (٣) ، لما نجم فى أصول الديانات من الأهواء ، واختلط بمسالك الأوائل من الفلاسفة والحكماء فمن بواطن غيهم كان استمداد هؤلاء فإنهم بين مذاهب الثنوية (٤) والفلاسفة يترددون ، وحول حدود

__________________

أقوال الوشاة من الناس ، وقد ضبط أمور الخلافة جيدا وأحكمها ، وكان لديه علم كثير) توفي سنة ٥١٢ ه‍. (البداية والنهاية) (ج ١٢ / ٢٢٥).

(١) يعنى الإمام الغزالى نفسه.

(٢) اليفاع : كل ما ارتفع من الأرض.

(٣) الزباء : الكثيرة الفروع.

(٤) الثنوية : مذهب الذين يجعلون مع الله إلها آخر (قديما أو حديثا).

١٣

المنطق فى مجادلاتهم يدندنون. ولقد طال تفتيشى عن شبه خصمه لما تقدر على قمعه وخصمه ، وفى مثل ذلك أنشد :

عرفت الشر لا للش

ر لكن لتوقيه

ومن لا يعرف الش

ر من الناس يقع فيه (١)

تظاهرت عليّ أسباب الإيجاب والإلزام ، واستقبلت الآتى بالاعتناق والالتزام ، وبادرت إلى الامتثال والارتسام وانتدبت لتصنيف هذا الكتاب مبنيا على عشرة أبواب ، سائلا من الله سبحانه التوفيق لشاكلة الصواب. وسميته [فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية]. والله تعالى الموفق لإتمام هذه النية.

وهذا ثبت الأبواب :

الباب الأوّل : فى الإعراب عن المنهج الّذي استنهجته فى سياق هذا الكتاب.

الباب الثانى : فى بيان ألقابهم والكشف عن السبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة المضلّة.

الباب الثالث : فى بيان درجات حيلهم فى التلبيس والكشف عن سبب الاغترار بحيلهم مع ظهور فسادها.

الباب الرابع : فى نقل مذهبهم جملة وتفصيلا.

الباب الخامس : فى تأويلاتهم لظواهر القرآن واستدلالهم بالأمور العددية (٢) ، وفيه فصلان : الفصل الأول فى تأويلهم للظواهر ، والفصل الثانى فى استدلالاتهم بالأعداد والحروف.

__________________

(١) وقد أثر عن عمر رضى الله عنه أنه كان يردد هذين البيتين أيضا.

(٢) ولقد ظهرت كراسة منذ بضع سنوات تحمل عنوان (عليها تسعة عشر) ؛ كاتبها يدعى رشاد خليل. زوق فيها كثيرا كثيرا من التأويلات والتفسيرات العددية للآيات والسور القرآنية. خدع بها العامة ، وتداولوها ، وهي ولا شك بدعة ليست مستحدثة ، بل مردها ومنبتها أصول الباطنية ، وقد ردها على صاحبها كثير من العلماء الفضلاء ، وبينوا عوارها ، وأغراضها الخبيثة.

١٤

الباب السادس : فى إيراد أدلتهم العقلية على نصرة مذهبهم والكشف عن تلبيساتهم التى زوقوها بزعمهم فى معرض البرهان على إبطال النظر العقلي.

الباب السابع : فى إبطال استدلالهم بالنص على نصب الإمام المعصوم.

الباب الثامن : فى مقتضى فتوى الشرع فى حقهم من التكفير والتخطئة وسفك الدم.

الباب التاسع : فى إقامة البرهان الفقهى الشرعى على أن الإمام الحق فى عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله حرس الله ضلاله.

الباب العاشر : فى الوظائف الدينية التى بالمواظبة عليها يدوم استحقاق الإمامة.

هذه ترجمة الأبواب. والمقترح على الرأى الشريف النبوى (١) مطالعة الكتاب جملة ، ثم تخصيص الباب التاسع والعاشر لمن يريد استقصاء ليعرف من الباب التاسع قدر نعمة الله تعالى عليه ، وليستبين من الباب العاشر طريق القيام بشكر تلك النعمة ويعلم أن الله تعالى إذا لم يرض أن يكون له على وجه الأرض عبد أرفع رتبة من أمير المؤمنين ، فلا يرضى أمير المؤمنين أن يكون لله على وجه الأرض عبد أعبد وأشكر منه. نسأل الله تعالى أن يمده بتوفيقه ويسدده لسواء طريقه. هذه جملة الكتاب ، والله المستعان على سلوك جادة الحق واستنهاج مسلك الصدق.

__________________

(١) كذا فى الأصل ؛ والصواب : النبوى الشريف.

١٥
١٦

الباب الأول

فى الإعراب عن المنهج

الّذي استنهجته فى هذا الكتاب

لتعلم أن الكلام فى التصانيف يختلف منهجه ، بالإضافة إلى المعنى : غوصا وتحقيقا ، وتساهلا وتزويقا. وبالإضافة إلى اللفظ : إطنابا وإسهابا واختصارا وإيجازا ، وبالإضافة إلى المقصد : تكثيرا وتطويلا ، واقتصارا وتقليلا. فهذه ثلاثة مقامات. ولكل واحد من الأقسام فائدة وآفة.

وأما المقام الأول فالغرض ـ فى الغوص والتحقيق والتعمق فى أسرار المعانى إلى أقصى الغايات ـ التوقى من إزراء المحققين وقدح الغواصين ، فإنهم إذا تأملوه فلم يصادفوه على مطابقة أوضاع الجدال وموافقة حدود المنطق عند النظار استركوا (١) عمل المصنف واستغثوا (٢) كلامه واعتقدوا فيه التقاعد عن شأو التحقيق فى الكلام والانخراط فى سلك العوام. ولكنّ له آفة وهى قلة جدواه وفائدته فى حق الأكثرين. فإن الكلام إذا كان على ذوق المراء والجدال ، لا على مساق الخطاب المقنع ، لم يستقل بدركه إلا الغواصون ، ولم يتفطن لمغاصاته إلا المحققون. وأما سلوك مسلك التساهل والاقتصار على فن من الكلام ليستحسن فى المخاطبات ففائدته أن يستلذ وقعه فى الأسماع ، ولا تكلّ عن فهمه والتفطن لمقاصده أكثر الطباع ، ويحصل به الإقناع لكل ذى حجى (٣) وفطنة وإن لم يكن متبحرا فى العلوم. وهذا الفن من جوالب المدح والإطراء ولكن من الظاهريين ، وآفته أنه من دواعى القدح والإزراء ولكن من الغواصين. فرأيت أن أسلك المسلك المقتصد بين الطرفين ، ولا أخلى الكتاب عن أمور برهانية ، يتفطن لها

__________________

(١) استركوا : استضعفوا من : رك الشيء ، يرك ركة وركاكة : رق وضعف ، فهو ركيك.

(٢) استغثوا : الغثيث والغث : اللحم المهزول ، وهو أيضا : الحديث الردىء الفاسد.

(٣) ذو الحجى : (الحجا) العقل ، وألفه بالمد وليس بالقصر. (مختار الصحاح للجوهرى).

١٧

المحققون ، ولا عن كلمات إقناعية يستفيد منها المتوهمون ، فإن الحاجة إلى هذا الكتاب عامة فى حق الخواص والعوام ، وشاملة جميع الطبقات من أهل الإسلام ، وهذا هو الأقرب إلى المنهج القويم ، فلطالما قيل :

كلا طرفى قصد الأمور ذميم

المقام الثانى

فى التعبير عن المقاصد إطنابا وإيجازا

وفائدة الإطناب الشرح والإيضاح المغنى عن عناء التفكر وطول التأمل ، وآفته الإملال ؛ وفائدة الإيجاز جمع المقاصد وترصيفها وإيصالها إلى الأفهام على التقارب ، وآفته الحاجة إلى شدة التصفح والتأمل لاستخراج المعانى الدقيقة من الألفاظ الوجيزة الرشيقة ؛ والرأى فى هذا المقام الاقتصاد بين طرفى التفريط والإفراط ، فإن الإطناب لا ينفك عن إملال ، والإيجاز لا يخلو عن إخلال ، فالأولى الميل إلى الاختصار ؛ فلرب كلام قل ودل وما أمل.

المقام الثالث

فى التقليل والتكثير

ولقد طالعت الكتب المصنفة فى هذا الفن فصادفتها مشحونة بفنين من الكلام : فن فى تواريخ أخبارهم وأحوالهم من بدء أمرهم إلى ظهور ضلالهم ، وتسمية كل واحد من دعاتهم فى كل قطر من الأقطار ، وبيان وقائعهم فيما انقرض من الأعصار ، فهذا فن أرى التشاغل به اشتغالا بالأسمار ، وذلك أليق بأصحاب التواريخ والأخبار ، فأما علماء الشرع فليكن كلامهم محصورا فى مهمات الدين وإقامة البرهان على ما هو الحق المبين ؛ فلكل عمل رجال (١).

__________________

(١) يقصد الإمام الغزالى رحمه‌الله : الاختصاص.

١٨

والفن (١) الثانى ـ فى إبطال تفصيل مذاهبهم من عقائد تلقوها من الثنوية والفلاسفة وحرفوها عن أوضاعها وغيروا ألفاظها قصدا للتغطية والتلبيس ، وهذا أيضا لا أرى التشاغل به ، لأن الكلام عليها وكشف الغطاء عن بطلانها بإيضاح حقيقة الحق وبرهانها ليس يختص بالطائفة الذين هم نابتة الزمان. فتجريد القصد إلى نقل خصائص مذهبهم التى تفردوا باعتقادها عن سائر الفرق هو الواجب المتعين ، فلا ينبغى أن يؤم (٢) المصنف فى كتابه إلا المقصد الّذي يبغيه والنحو الّذي يرومه وينتحيه ، فمن حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه (٣) ، وذلك مما لا يعنيه فى هذا المقام ، وإن كان الخوض فيه على الجملة ذبا عن الإسلام ، ولكن لكل مقال مقام. فلنقتصر فى كتابنا على القدر الّذي يعرب عن خصائص مذهبهم ، وينبه على مدارج حيلهم ، ثم نكشف عن بطلان شبههم بما لا يبقى للمستبصر ريب فيه ، فتنجلى عن وجه الحق كدورة التمويه. (٤)

ثم نختم الكتاب بما هو السر واللباب ، وهو إقامة البراهين الشرعية على صحّة الإمامة للمواقف القدسية النبوية المستظهرية ، بموجب الأدلة العقلية والفقهية ، على ما أفصح عن مضمونه ترجمة الأبواب.

__________________

(١) الفن : العلم.

(٢) يؤم : يقصد.

(٣) جزء من حديث نبوي شريف.

(٤) كدورة التمويه ؛ الكدورة : ضد الصفو ، والتمويه : التلبيس ؛ أو الطلاء بالذهب والفضة وتحته نحاس أو حديد.

١٩
٢٠