فضائح الباطنية

أبو حامد الغزالي

فضائح الباطنية

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: محمد علي القطب
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٥

الباب السابع

فى إبطال تمسكهم بالنص فى إثبات الإمامة والعصمة

وفيه فصلان

الفصل الأول

فى تمسكهم بالنص على الإمامة

وقد عجزت طائفة منهم عن التمسك بطريق النظر لمناقضة ذلك مسلكهم فى إبطال نظر العقل وإيجاب الاتباع ، فعدلوا إلى منهج الإمامية بحيث استدلوا على إمامة عليّ ـ رضى الله عنه! ـ بالنص وزعموا أنها مطردة فى عترته ؛ فطمع هؤلاء فى التمسك بالنص مع مخالفة مذهبهم مذهب الإمامية ، فزعموا أنه ـ عليه‌السلام! ـ نص على عليّ ، ونص عليّ على ولده ، حتى انتهى إلى الّذي هو الآن متصدّ للإمامة ، بكونه منصوصا عليه ممن كان قبله. وهذا غير ممكن لهذه الفرقة ، فإنهم بين التعلق فيه بأخبار آحاد لا تورث العلم ولا تفيد اليقين وثلج الصدر ، بل يحتمل فى تعمد الكذب تارة والغلط فيه أخرى ، ولمنهج هؤلاء اجتووا طرق النظر فى العقليات احترازا عما فيها من الخطأ فكيف يستتب لهم التمسك بأخبار الآحاد! فيضطرون إلى دعوى خبر متواتر فيه من صاحب الشرع صلوات الله عليه ، تجرى فى الوضوح مجرى الخبر المتواتر فى بعثته ودعوته وتحديه بالنبوة وشرعه الصلوات الخمس والحج والصوم وسائر الوقائع المستفيضة.

ومهما راجع العاقل بصيرته استغنى فى معرفة استحالة هذه الدعوى عن مرشد يرشده ويسدد منهجه على وجه الاستحالة. كيف وقد استحالت هذه الدعوى وتعذرت على الإمامية فى دعوى إمامة عليّ فقط ـ فكيف تستتب لهؤلاء دعوى إمامة

١٢١

صاحبهم مع تضاعف الشغل عليهم وكثرة دعاويهم إلى أن ينساقوا إلى إثبات الإمامة لمن اعتقدوا إمامته اليوم! ولكنا مع الاستغناء عن الإيضاح لفساد دعواهم ، ننبه على ما فيه من العسر والاستحالة ونقول : مدعى الإمامة اليوم لشخص معين من عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفتقر إلى نص متواتر عن رسول الله على عليّ ـ رضى الله عنه ـ ينتهى فى الوضوح إلى حد الخبر المتواتر عن وجود على ومعاوية وعمرو بن العاص ، فإنا بالتواتر عرفنا وجودهم ، ومهما ادعى تواتر هذا الخبر فى زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتقر إلى حد التواتر بعده فى كل عصر ينقرض ، حتى لا يزال النقل متواترا على تناسخ الأعصار وانقراض القرون بحيث يستوى فى بلوغ المخبرين حد التواتر طرف الخبر وواسطته. وهذا ممتنع ، يفتقر فى كل واحد من على وأولاده ـ رضى الله عنهم ـ إلى يومنا هذا أربعة أمور :

الأول : أن يثبت أنه مات عن ولد ولم يمت أبتر لا ولد له حتى يعرف ولده كما عرف على ـ رضى الله عنه! ـ وتعرف صحة أنسابهم كما عرف صحة أنساب عليّ.

الثانى : أن يثبت أن كل واحد منهم نص على ولده قبل وفاته ، وجعله ولى عهده ، وعينه من بين سائر أولاده فانتصب للإمامة بتوليته ؛ ولم يمت واحد إلا بعد التنصيص والتعيين على ولىّ عهده.

الثالث : أن ينقل أيضا ـ خبرا متواترا ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل نص جميع أولاده بمنزلة نصه فى وجوب الطاعة ومصادفته لمظنة الاستحقاق ووقوعه على المستحق للمنصب من جهة الله تعالى حتى لا يتصور وقوع الخطأ لواحد منهم فى التعيين.

الرابع : أن ينقل أيضا بقاء العصمة والصلاح للإمامة من وقت نصه على من نص عليه إلى أن توفى هو بعد نصه على غيره.

فلو انخرمت رتبة من هذه الرتب لم تستمر دعاويهم ، ولو أثبتوا تواتر نص كل واحد منهم ووجود ولده فى العصر الأول فلا يغنيهم حتى يثبتوا تواتره كذلك فى سائر الأعصار المتوالية بعده عصرا بعد عصر. وهذه أمور لو ثبت التواتر فيها

١٢٢

لعلمت كما يعلم وجود الأنبياء ووجود الأقطار التى لم تشاهد كالصين وقيروان المغرب ، ووجود الوقائع كحرب بدر وصفين ، ولا يشترك الناس فى دركه ، حتى كان لا يقدر أحد على أن يشكك فيه نفسه ، وليس يخفى أن الأمر فى هذه الدعاوى بالضد ، إذ لو كلف الإنسان أن يتسع لتجويز ما قالوه وإمكانه لم يتمكن ، بل علم قطعا خلافه ، فكيف يتصور الطمع فى إثباته! وكيف يتواقحون على دعواه وقد اختلف القائلون بوجوب الإمام المعصوم فى جماعة من الأئمة بزعمهم أنه خلف ولدا أو لم يخلف ؛ واختلفوا فى تعيين الإمامة فى بعضهم ؛ واختلفوا فى ظهوره ، فقال قائلون : الإمام موجود ولكنه ليس يظهر تقية ، وقال آخرون هو ظاهر ؛ فكيف خالفهم أصحابهم؟! وإن كانوا قد عرفوا ذلك بنص متواتر فكيف قبلوه من الآحاد إن لم يكن متواترا ، وقول الآحاد لا يورث إلا الظن؟! فاستبان أن ما ذكروه طمع فى غير مطمع ، وفزع إلى غير مفزع. ومثالهم فى الفرار من مسلك النظر إلى مسلك النص مثال من يميل من البلل إلى الغرق ؛ فإن المسلك الأول أقرب إلى التلبيس من هذا المسلك.

فإن قال قائل : قد طولتم الأمر عليهم وأحرجتموهم إلى إثبات النص على عليّ ، ثم إثبات النص من كل واحد من أعقابه ولدا ولدا ؛ ثم صحة نسبه ؛ ثم استفاضة هذه الأخبار أولا ووسطا وآخرا ، وهم يستغنون عن جميع ذلك بخبر واحد وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الإمامة بعدى لعلى وبعده لأولاده لا تخرج من نسبى ، ولا ينقطع نسبى أصلا ، ولا يموت واحد منهم قبل توليته العهد لولده» ـ وهذا القدر يكفيهم ـ قلنا : نعم! يكفيهم هذا القدر إن كان كل ما يخطر بالبال ويوافق شهوة الضلال يمكن اختراعه ونقله متواترا ، ولكن هذا على هذا الوجه لم يقع ولا نقل ، ولا ادعى مدّع وقوعه ، معتقدا بالباطل ولا على سبيل العناد ، فضلا عن أن ينطق به عن الاعتقاد. ونقل هذا النص ودعوى التواتر فيه كدعوى من نقل مضاده وهو أن الإمامة ليست لعلى بعدى وإنما هى لأبى بكر ، وإنما تكون بعده بالاختيار والشورى ؛ وأن من ادّعى النصّ أو اختصاص الإمامة بأولاده من سائر قريش فهو

١٢٣

كاذب مبطل. فكما نعلم أن هذا الخبر لم يكن ولم ينقل ـ لا آحادا ولا تواترا ـ نعلم ذلك فما يناقضه. ومهما فتح باب الاختراع اشترك فى الاقتدار عليه كل من يحاول اللجاج والنزاع ، وذلك مما لا يستحله ذوو الدين أصلا.

فإن قال قائل : هذه الدعاوى لا تستتب لهؤلاء ؛ فهل تستتب للإمامية فى دعوى النص على عليّ رضى الله عنه؟ ـ قلنا : لا ؛ إنما الّذي يستتب لهم دعوى ألفاظ محتملة نقلها الآحاد. فأما اللفظ الّذي هو نص صريح ، فلا. ودعوى التواتر أيضا لا يمكن ، وتيك الألفاظ كما رووا أنه قال : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» (١) ، وقوله : «أنت منى بمنزلة هارون من موسى» (٢) ـ إلى غير ذلك من الألفاظ المحتملة ، لا تجرى مجرى النصوص الصريحة. فأما دعوى النص الصريح المتواتر فمحال من وجوه موضع استقصائها فى كتاب الإمامة من علم الكلام ، وليس من غرضنا الآن ، ولكنا نذكر استحالته بمسلكين : أحدهما أنه لو كان ذلك متواترا لما شككنا فيه ، كما لم يشك فى وجود عليّ ـ رضى الله عنه ، ولا فى انتصابه للخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا فى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة والصيام والزكاة والحج. فإن قوله ـ عليه‌السلام! ـ فى التنصيص على الخلافة بعده على ملأ من الناس ليس قولا يستحقر فيستر ولا يتساهل فى سماعه فيهمل ، بل تتوفر الدواعى على إشاعته ، ولا تسمح النفوس بإخفائه والسكوت عنه ، ولم تسمح بالسكوت عن أخبار وأحوال تقع دون ذلك فى الرتبة. فهذا قاطع فى بطلان دعواهم الخبر المتواتر. وعلى هذه الجملة فلا تتميز دعواهم عن دعوى البكرية (٣) حيث قالوا : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على أبى بكر ـ رضى الله عنه! ـ نصا صريحا متواترا ، ولا عن دعوى الروندية (٤) إذ قالوا إنه نصّ على العباس نصا متواترا ، وهذه الأقاويل

__________________

(١) رواه البخارى ومسلم.

(٢) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائى وتمام الحديث : [... إلّا أنه لا نبى بعدى].

(٣) البكرية : نسبة إلى أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ أى الذين قالوا بالنص على إمامته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) الروندية : الذين قالوا بإمامة العباس بن عبد المطلب وأولاده من بعده نصا متواترا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٢٤

متعارضة لأنها لم تعرف ولم تظهر بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الخوض فى الإمامة.

فلا تبقى بعد ذلك ريبة فى بطلان هذه الدعوى.

المسلك الثانى : أن الذين نازعوا فى إمامة أبى بكر وتصدوا للنضال عن عليّ ـ رضى الله عنهما ـ تمسكوا فى نصرته بألفاظ محتملة نقلها آحاد ، كقوله عليه‌السلام : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» ، وقوله : «أنت منى بمنزلة هارون من موسى» ، وكيف سكتوا عن النص المتواتر الّذي لا يتطرق التأويل إلى متنه والطعن على سنده! ومعلوم أن النفوس فى مثل هذه المثارات تضطرب بأقصى الإمكان ولا تتعلق بالشبه إلا عند العجز عن البرهان ، فهذا أيضا يعرف المنصف ضرورة كذب المخترعين لهذه الأمور ، وإنما هداهم إلى اختراع دعوى النص المتواتر طائفة من الملحدين أرادوا الطعن على الدين ، وهم الذين لقنوا اليهود أن ينقلوا عن موسى نصا بأنه خاتم النبيين وأنه قال لليهود : «عليكم بالسبت ما دامت السموات والأرضون». وكان سبيلنا فى الردّ عليهم أن اليهود ، مع ما جرى عليهم من الذل والإرقاق والسبى للذرارى والأولاد وتخريب البلاد وسفك الدماء فى طول زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، كانوا يحتالون بكل حيلة فى طمس شريعته وتطفئة نوره ودفع استيلائه ؛ فلم لم ينقلوا عن موسى عليه‌السلام ذلك ، ولم لم يقولوا له : ما جئت إلا بتصديق موسى وأنه قال : أنا خاتم النبيين. ومعلوم أن الدواعى تتوافر على نقل مثل ذلك توفرا لا يطاق السكوت معه ؛ وقد كان فيهم الأحبار والمتقدمون ، وكلهم كانوا مضطرين تحت القهر والذل ، متعطشين إلى دفع حجته

__________________

(١) لقد هادنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحالفهم وعقد معهم العقود عند هجرته إلى المدينة لكنهم غدروا ونقضوا ؛ بنو قينقاع وبنو النضير ، وبنو قريظة ؛ ثم اتخذوا من خيبر منطلق تآمر على المسلمين ؛ وحاربهم جميعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى أجلاهم عن المدينة وخيبر.

١٢٥

بأقصى الجد ، وهذا بعينه هو الّذي يكشف عن اختراع هؤلاء وتهجمهم على الاختلاق والتخرص.

فإن قيل : لعلّه تمسك به المتمسكون ، إلا أنه اندرس ولم ينقل إلينا ، قلنا : كيف نقل إلينا التمسك بالألفاظ الظاهرة ، ونقل المنازعة فى الإمامة من الأنصار وقول قائلهم : «أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب» (١) والدواعى على نقل النص أوفر. ولو جاز فتح هذا الباب لجاز لكل ملحد ـ إذا احتججنا عليه بالقرآن وعجز الخلق عن معارضته ، وبينا به صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يقول : لعلّه عورض ولكنه لم ينقل ، وتعاطى المسلمون إخفاءه. فإن قيل : أنتم مضطرون إلى معرفة هذا الخبر المتواتر ، ولكنكم تعاندون فى إخفائه تعصبا ـ قلنا : ولم تنكرون على من يقلب عليكم ويقول : أنتم تعرفون بطلان ما ينقلون ضرورة ولكنكم تعاندون فى الاختراع؟ وبم تنفصلون عن البكرية والرّاوندية إذا ادعوا ذلك فى النص على أبى بكر والعباس رضى الله عنهما؟ ـ فإن قيل : ألستم تدعون فى معجزات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم انشقاق القمر وكلام الذئب وحنين الجذع وتكثير الطعام القليل ـ إلى غير ذلك مما أنكره كافة الكفار وطوائف من المسلمين ولم يكن خلافهم مانعا لكم من دعوى التواتر ـ قلنا : نحن لا ندّعى التواتر الّذي يوجب العلم الضرورى إلا فى القرآن ؛ أمّا ما عداه من هذه المعجزات فلو نقلها خلق كثير بلغوا حد التواتر لما تصوروا الشك فيها ؛ وإنما نقلها جماعة دون تلك الكثرة يعرف صدقهم بضروب من الأدلة النظرية والاستدلال بالقرائن الخالية من روايتهم ذلك ، وسكوت الآخرين عن الإنكار ، إلى غير ذلك من الأمور التى يتوصل إلى استفادة العلم منها عند إمعان النظر فيها بدقيق الفكر ، ومن أعرض عن النظر فى تيك الدلائل والقرائن ولم يتأملها حق التأمل لم يحصل له العلم. وأما أنتم فلا تقنعون فى خبركم بالنقل من عدد دون عدد التواتر ،

__________________

(١) تلك مقولة الحباب بن المنذر فى سقيفة بنى ساعدة عند وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واجتماع الأنصار لاختيار خليفة. والعذيق : تصغير عذق ، وهو النخلة بحملها. والجذيل المحكك : الّذي ينصب فى معاطن الإبل ، لتحتك به الجربى فتشفى. فشبه نفسه بذلك ، لأنه يلجأ إليه ويشتفى برأيه.

١٢٦

ولا بالحاجة فيه إلا النظر والاستدلال والتأمل فإنكم تبطلون طرق النظر ، فلا تستقيم هذه المقابلة منكم.

فإن قيل : انشقاق القمر من الآيات العلوية والبراهين السماوية ـ فكيف يتصور أن يختص بمشاهدته عدد دون عدد التواتر؟ ـ قلنا : ولو شاهده عدد التواتر كيف كان يتصور التردد فيه والإنكار له؟ وهل ترى أحدا يتردد فى وجود مكة ووجود أبى حنيفة والشافعى وسائر المشهورين ، وهى من الأمور الأرضية؟ وهل ترى أن أحدا يتردد فى أن الشمس كانت تطلع فى أيام نوح عليه‌السلام ضربا للمثل؟ ـ فإن ذلك لما كان من الأمور المتواترة لم تتصور الاسترابة فيه. فيبقى قولكم إنه كيف اختص بمشاهدة انشقاق القمر طائفة؟ فقد قال العلماء الأصوليون المنكرون لالتباس ما يتواتر من الأخبار : هذه آية ليلية فى وقت كان الناس فيه نياما ، أو كانوا تحت السقوف والظلال والأستار ؛ والمصحرون (١) منهم المنتبهون لا تستحيل عليهم الغفلة فى لحظة ، فيكون ذلك مثل انقضاض كوكب تختص بمشاهدته شرذمة قليلة ؛ وذلك ممكن ، فلم يكن الانشقاق أمرا دائما زمانا طويلا ، فليس يمتنع أن يختص بمشاهدته من حدّق إليه بصره ممن كان حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث احتج على قريش بانشقاق القمر. وقال قائلون أيضا : يحتمل أن يكون الله تعالى خصص برؤية ذلك من حاج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك الساعة وناظره حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آيتى أنكم ترفعون رءوسكم فترون القمر منشقا» (٢) ـ وحجب الله أبصار سائر الخلق عن رؤيته بحجاب أو سحاب أو تسليط عقله وصرف داعية النظر لمصلحة الخلق فيه حتى لا يتحدى لنفسه بعض الكذابين فى الأمصار فيستدل به على صدق نفسه ؛ أو يكون معجزة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجهين خارقين للعادة : أحدها إظهاره لهم ، والآخر إخفاؤه عن غيرهم. وهذه الاحتمالات ذكرها العلماء حتى قال بعضهم إن انشقاق القمر

__________________

(١) المصحرون ، من : أصحر القوم ، إذا أوغلوا فى الصحراء ؛ واتخذوها مقاما أو ملاذ.

(٢) رواه مسلم وأبو داود.

١٢٧

ثبت بالقرآن وهو قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١]. والكلام فيه طويل. وعلى الأحوال كلها فما بلغ حدّ التواتر لا يتصور التشكك فيه. هذه قاعدة معلومة عليها تنبنى جميع قواعد الدين ؛ ولولاه لما حصلت الثقة بأخبار التواتر ، ولما عرفنا شيئا من أقوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالمشاهدة. والكلام فى هذا يحتمل الإطناب ، ولكنه بعيد عن مقصود الكتاب ، فرأيت الإيجاز فيه أولى.

١٢٨

الفصل الثانى

فى إبطال قولهم إن الإمام لا بدّ أن يكون معصوما من

الخطأ والزلل والصغائر والكبائر

فنقول لهم : وبما ذا عرفتم صحة كونه معصوما ووجود عصمته؟ أبضرورة العقل أو بنظره أو سماع خبر متواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يورث العلم الضرورى؟ ولا سبيل إلى دعوى الضرورة ، ولا إلى دعوى الخبر المتواتر المفيد للعلم الضرورى ، لأن كافة الخلق تشترك فى دركه (١). وكيف يدعى ذلك وأصل وجود الإمام لا يعرف ضرورة ، بل نازع منازعون فيه ، فكيف تعلم عصمته ضرورة ، وإن ادعيتم ذلك بنظر العقل فنظر العقل عندكم باطل. وإن سمعتم من قول إمامكم أن العصمة واجبة للإمام فلم صدقتموه قبل معرفة عصمته بدليل آخر؟ وكيف يجوز أن تعرف إمامته وعصمته بمجرد قوله؟

على أن نقول : أىّ نظر عرفكم وجوب عصمة الإمام؟ فلا بد من الكشف عنه فإن قيل : الدليل عليه وجوب الاتفاق على كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما ، ولم نحكم بوجوب عصمته ، إلا لأنا بواسطته نعرف الحق ومنه نتلقفه ونستفيده. ولو جوزنا عليه الخطأ والمعصية سقطت الثقة بقوله. فما من قول يصدر عنه إلا ونتصور أن يقال : لعله أخطأ فيه ، أو تعمد الكذب ، فإن المعصية ليست مستحيلة عليه وذلك مما لا وجه له ـ فكذلك الإمام منه نتلقّى الحق ، وإليه نرجع فى المشكلات كما كنا نرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه خليفته وبه نستضىء فى مشكلات التأويل والتنزيل وأحوال القيامة والحشر والنشر. فإن لم تثبت عصمته فكيف يوثق به؟

قلنا : مثار غلطكم ظنكم أنّا نحتاج إلى الإمام لنستفيد منه العلوم ، ونصدّقه فيها. وليس كذلك ، فإن العلوم منقسمة إلى عقلية وسمعية. أما العقلية فتنقسم إلى قطعية

__________________

(١) دركه : إدراكه.

١٢٩

وظنية ولكل واحد من القطع والظن مسلك يفضى إليه ويدل عليه. وتعلم ذلك ممن يعلمه ، ولو من أفسق الخلق ، ممكن ، فإنه لا تقليد فيه ، وإنما المتبع وجه الدليل. وأما السمعيات فمسندها سماع : إما متواتر ، وإما آحاد ، والمتواتر تشترك الكافة فى دركه ، ولا فرق بين الإمام وبين غيره ؛ والآحاد لا تفيد إلا ظنا ، سواء كان المبلغ إليه أو المبلغ الإمام أو غيره. والعمل بالظن فيما يتعلق بالعمليات واجب شرعا ، والوصول إلى العلم فيه ليس بشرط ، ولذلك يجب عندهم تصديق الدعاة المنتشرين فى أقطار الأرض ، مع أنه لا عصمة لهم أصلا ، وكذلك كان ولاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى زمانه ، فإذا لا حاجة إلى عصمة الإمام ، فإن العلوم يشترك فى تحصيلها الكل. والإمام لا يولد عالما ولا يوحى إليه ، ولكنه متعلم. وطريق تعلم غيره كتعليمه ، من غير فرق.

فإن قيل : فلما ذا نحتاج إلى الإمام إذ كان يستغنى عنه فى التعليم؟ قلنا : ولما ذا يحتاج فى كل بلد إلى قاض؟ وهل يدل الاحتياج إليه على أنه لا بدّ أن يكون معصوما؟ فيقولون ؛ إنما نحتاج إليه لدفع الخصومات ، وجمع شتات الأمور ، وجزم القول فى المجتهدات ، وإقامة حدود الله تعالى ، واستيفاء حقوقه وصرفها إلى مستحقيها إذ لا سبيل إلى تعطيلها ، ولا سبيل إلى تفويضها إلى كافة الخلق فيتزاحمون عليها متقاتلين ويتكاسلون عنها متواكلين ومتخاذلين ، فتعطل الأمور ؛ فجملة الدنيا فى حق الإمام كبلدة واحدة فى حق القاضى ، فكما يستغنى عن عصمة القاضى فى البلد ويحتاج إلى قضائه فكذلك يستغنى عن عصمة الإمام ويحتاج إليه كما يحتاج إلى القضاة ولأمور أخر كلية سياسية : من حراسة الإسلام ، والذب عن بيضته (١) والنضال دون حوزته ، وحشد العساكر والجنود إلى أهل الطغيان والعناد ، وتطهير وجه الأرض عن الطغاة والبغاة والساعين فى الأرض بالفساد وملاحظة أطراف البلاد بالعين الكالئة ، حتى إذا ثارت فتنة بادر إلى الأمر بتطفئتها ، وإذا نبغت

__________________

(١) بيضة القوم : حوزتهم وحماهم ؛ الذب عن بيضته : الدفاع عن حماه.

١٣٠

نابغة تقدم على الفور بإزالتها قبل أن تستحكم غائلتها ، وتستطير فى الأرض نائرتها (١) ، هذا وما يجرى مجراه هو الّذي يراد لأجله الإمام ، وذلك يحتاج إلى عدالة وعلم ونجدة وكفاية وصرامة وشرائط أخر سنذكرها فى الباب التاسع.

فأما العصمة فيستغنى عنها كما فى حق القضاة والولاة ، فإن منعوا وادعوا العصمة للقضاة والولاة وكل مترشح لأمر من الأمور من جهة الإمام ـ وهذا ما اعتقده الإمامية حتى أورد عليهم الحارس والمتعسس (٢) والبواب ويرتبط بكل واحد منهم أمر ـ فأجابوا بأن هذه الأمور إن كانت أمورا دينية شرطت العصمة فى المتكلفين بها ، والمنتصب لها بنصب الإمام لا يكون إلا معصوما ، ونعوذ بالله من اعتقاد مذهب يضطر ناصره والذاب عنه إلى أن يجاحد (٣) ما يشاهده ويدركه على البديهة والضرورة ، فالظلم على طبقات الناس مشاهد من أحوال المنتصبين من جهة إمامهم. ولا ينفك أورع متدين منهم عن استحلال الأموال المغصوبة باسم الخراج والضريبة من أموال المسلمين مع العلم بتحريمه. ومهما انتهى كلام الخصم إلى مجاحدة الضرورة فلا وجه إلا الكفّ عنه ، والاقتصار على تعزيته فيما أصيب به من عقله.

__________________

(١) ثائرتها : ونائرتها بمعنى واحد.

(٢) المتعسس ؛ من : عس ، وهو : نفض الليل عن أهل الريبة ، فهو : عاس. وعسعس الليل : أقبل ظلامه.

(٣) يجاحد : يجحد وينكر.

١٣١
١٣٢

الباب الثامن

فى الكشف عن فتوى الشرع فى حقهم

من التكفير وسفك الدم

ومضمون هذا الباب فتاوى فقهية ، ونحصر مقصوده فى فصول أربعة :

الفصل الأول

فى تكفيرهم أو تضليلهم أو تخطئتهم

ومهما سئلنا عن واحد منهم ، أو جماعتهم ، وقيل لنا : هل تحكمون بكفرهم؟ لم نتسارع إلى التكفير إلا بعد السؤال عن معتقدهم ومقالتهم ، ونراجع المحكوم عليه أو نكشف عن معتقدهم بقول عدول يجوز الاعتماد على شهادتهم ؛ فإذا عرفنا حقيقة الحال حكمنا بموجبه.

ولمقالتهم مرتبتان : إحداهما توجب التخطئة والتضليل والتبديع ، والأخرى توجب التكفير والتبرّى.

فالمرتبة الأولى

وهى التى توجب التخطئة والتضليل والتبديع

هى أن نصادف عامّيا يعتقد أن استحقاق الإمامة فى أصل البيت ، وأنّ المستحق اليوم المتصدّى لها منهم ، وأن المستحق لها فى العصر الأول كان هو على ـ رضى الله عنه ـ فدفع عنها بغير استحقاق ، وزعم ، مع ذلك ، أن الإمام معصوم عن الخطأ والزلل ، فإنه لا بدّ أن يكون معصوما ، ومع ذلك فلا يستحل سفك دمائنا ولا يعتقد كفرنا ، ولكنه يعتقد فينا أنّا أهل البغى ، زلّت بصائرنا عن درك الحق خطأ ، إذ عدلنا

١٣٣

عن اتباعه ، عنادا ونكدا. فهذا الشخص لا يستباح سفك دمه ، ولا يحكم بكفره لهذه الأقاويل ، بل يحكم بكونه ضالا مبتدعا فيزجر عن ضلاله ، وبدعته بما يقتضيه رأى الإمام ، فأما أن يحكم بكفره ويستباح دمه بهذه المقالات ، فلا! وهذا إنما يقتصر على تضليله وتبديعه إذ لم يعتقد شيئا مما حكينا من مذهبهم فى الإلهيات وفى أمور الحشر والنشر ، ولكنه لم يعتقد فى جميع ذلك إلا ما نعتقده ؛ وإنما تميز عنا بالقدر الّذي حكيناه الآن. فإن قيل : هلا كفرتموهم بقولهم إن مستحق الإمامة فى الصدر الأول كان عليا دون أبى بكر وعمر ومن بعده وأنه دفع بالباطل ، وفى ذلك خرق لإجماع أهل الدين؟ قلنا : لا ننكر ما فيه من القحوم (١) على خرق الإجماع ، ولذلك ترقينا من التخطئة المجردة التى نطلقها ونقتصر عليها فى الفروع فى بعض المسائل إلى التضليل والتفسيق والتبديع ، ولكن لا تنتهى إلى التكفير ؛ فلم بين لنا أن خارق الإجماع كافر ، بل الخلاف قائم بين المسلمين فى أن الحجة هل تقوم بمجرد الإجماع؟ وقد ذهب النظام وطائفته إلى إنكار الإجماع ، وأنه لا تقوم حجة أصلا ، فمن التبس عليه هذا الأمر لم نكفره بسببه ، واقتصرنا على تخطئته وتضليله ـ فإن قيل : وهل كفرتموهم لقولهم إن الإمام معصوم ، والعصمة عن الخطأ والزلل وصغير المآثم وكبيرها من خاصية النبوة فكأنهم أثبتوا خاصية النبوة لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا : هذا لا يوجب الكفر وإنما الموجب له أن يثبت النبوة لغيره بعده ؛ وقد ثبت أنه خاتم النبيين ، أو يثبت لغيره منصب النسخ لشريعته ، فأما العصمة فليست خاصية النبوة ولا إثباتها كإثبات النبوة ، فلقد قالت طوائف من أصحابنا : العصمة لا تثبت للنبى من الصغائر ، واستدلوا عليه بقوله : تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] ، وبجملة من حكايات الأنبياء (٢). فمن يعتقد فى فاسق أنه مطيع ومعصوم عن الفسق لا يزيد على من يعتقد فى مطيع أنه فاسق ومنهمك فى الفساد ، ولو اعتقد إنسان فى عدل أنه فاسق لم يزد على تخطئة من

__________________

(١) القحوم ؛ من : قحم ، من باب : نصر. قحوما : رمى نفسه فى أمر عظيم ، يقال : قحم فى ، فهو قاحم.

(٢) كما روى عن سيدنا إبراهيم عليه‌السلام أنه كذب فى دعواه أمام الملك أن سارة أخته وليست زوجته.

١٣٤

اعتقد فى غير معصوم أنه معصوم ـ كيف يحكم بكفره؟ نعم يحكم بحماقته واعتقاده أمرا يكاد يخالف المشاهد من الأحوال وأمرا لا يدل عليه نظر العقل ولا ضرورته.

فإن قيل : فلو اعتقد معتقد فسق أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وطائفة من الصحابة فلم يعتقد كفرهم ، فهل تحكمون بكفره؟ ـ قلنا : لا نحكم بكفره ، وإنما نحكم بفسقه وضلاله ومخالفته لإجماع الأمة ، وكيف نحكم بكفره ونحن نعلم أن الله تعالى لم يوجب على من قذف محصنا بالزنى إلا ثمانين جلدة (١) ، ونعلم أن هذا الحكم يشتمل كافة الخلق ويعمهم على وتيرة واحدة ، وأنه لو قذف قاذف أبا بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ بالزنى لما زاده على إقامة حدّ الله تعالى المنصوص عليه فى كتابه ، ولم يدعوا لأنفسهم التمييز بخاصية فى الخروج عن مقتضى العموم.

فإن قيل : فلو صرح مصرح بكفر أبى بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ ينبغى أن ينزل منزلة من لو كفّر شخصا آخر من آحاد المسلمين أو القضاة والأئمة من بعدهم ـ قلنا : هكذا نقول ، فلا يفارق تكفيرهم تكفير غيرهم من آحاد الأمة والقضاة ، بل أفراد المسلمين المعروفين بالإسلام إلا فى شيئين : أحدهما فى مخالفة الإجماع وخرقه ، فإن مكفر غيرهم ربما لا يكون خارقا لإجماع معتد به ، الثانى : أنه ورد فى حقهم من الوعد بالجنة والثناء عليهم والحكم بصحة دينهم وثبات يقينهم وتقدمهم على سائر الخلق أخبار كثيرة ، فقائل ذلك إن بلغته الأخبار واعتقد مع ذلك كفرهم فهو كافر لا بتكفيره إياهم ولكن بتكذيبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن كذّبه بكلمة من أقاويله فهو كافر بالإجماع ، ومهما قطع النظر على التكذيب فى هذه الأخبار وعن خرق الإجماع نزل تكفيرهم منزلة سائر القضاة والأئمة وآحاد المسلمين ، فإن قيل : فما قولكم فيمن يكفر مسلما : أهو كافر ، أم لا؟ قلنا : إن كان يعرف أن معتقده التوحيد وتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سائر المعتقدات الصحيحة فمهما كفره بهذه المعتقدات

__________________

(١) الآية : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤].

١٣٥

فهو كافر ، لأنه رأى الدين الحق كفرا وباطلا ، فأما إذا ظن أنه يعتقد تكذيب الرسول أو نفى الصانع أو تثنيته (١) أو شيئا مما يوجب التكفير فكفره بناء على هذا الظن فهو مخطئ فى ظنه المخصوص بالشخص ، صادق فى تكفير من يعتقد ما يظن أنه معتقد هذا الشخص ، وظن الكفر بمسلم ليس بكفر ، كما أن ظن الإسلام بكافر ليس بكفر ، فمثل هذه الظنون قد تخطئ وتصيب ، وهو جهل بحال شخص من الأشخاص ، وليس من شرط دين الرجل أن يعرف إسلام كل مسلم ، وكفر كل كافر ، بل ما من شخص يفرض إلا ولو جهله لم يضره فى دينه ، بل إذا آمن شخص بالله ورسوله وواظب على العبادات ولم يسمع باسم أبى بكر وعمر ومات قبل السماع مات مسلما ، فليس الإيمان بهما من أركان الدين حتى يكون الغلط فى صفاتهما موجبا للانسلاخ من الدين.

وعند هذا ينبغى أن يقبض عنان الكلام ، فإن الغوص فى هذه المغاصة يفضى إلى إشكالات وإثارة تعصبات ، وربما لا تذعن جميع الأذهان لقبول الحق المؤيد بالبرهان لشدة ما يرسخ فيها من المعتقدات المألوفة التى وقع النشوء عليها والتحق بحكم استمرار الاعتياد بالأخلاق الغريزية التى يعتذر إزالتها. وبالجملة : القول فيما يوجب الكفر والتبرى وما لا يوجبه لا يمكن استيفاؤه فى أقل من مجلدة وذلك عند إيثار الاختصار فيه فلنقتصر فى هذا الكتاب على الغرض المهم.

المرتبة الثانية

المقالات الموجبة للتكفير

وهى أن يعتقد ما ذكرناه ويزيد عليه فيعتقد كفرنا واستباحة أموالنا وسفك دمائنا ، فهذا يوجب التكفير لا محالة ، لأنهم عرفوا أننا نعتقد أن للعالم صانعا واحدا قادرا عالما مريدا متكلما سميعا بصيرا حيا ليس كمثله شيء ، وأن رسوله محمد بن

__________________

(١) تثنيته : أى جعلهما إلهين اثنين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

١٣٦

عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فى كل ما جاء به من الحشر والنشر والقيامة والجنة والنار ، وهذه الاعتقادات هى التى تدور عليها صحة الدين ، فمن رآها كفرا هو كافر لا محالة ، فإن انضاف إلى هذا شيء مما حكى من معتقداتهم من إثبات إلهين وإنكار الحشر والنشر وجحود الجنة والنار والقيامة فكل واحد من هذه المعتقدات موجب للتكفير ، صدر منهم أو من غيرهم.

فإن قيل : لو اعتقد معتقد وحدانية الإله ونفى الشرك ولكنه تصرف فى أحوال النشر والحشر والجنة والنار بطريق التأويل للتفصيل دون إنكار الأصل ، بل اعترف بأن الطاعة وموافقة الشرع وكفّ النفس عن المحرمات والهوى سبب يفضى إلى السعادة ، وأن الاسترسال على الهوى ومخالفة الشرع فيما أمر ونهى يسوق صاحبه إلى الشقاوة ، ولكنه زعم أن السعادة عبارة عن لذة روحانية تزيد لذتها على اللذة الجسمانية الحاصلة من المطعم والمنكح اللذين تشترك فيهما البهائم وتتعالى عنهما رتبة الملكية (١) ، وإنما تلك السعادة اتصال بالجواهر العقلية الملكية ، وابتهاج بنيل ذلك الكمال ؛ واللذات الجسمانية محتقرة بالإضافة إليها ، وأن الشقاوة عبارة عن كون الشخص محجوبا عن ذلك الكمال العظيم محله الرفيع شأنه مع التشوق إليه والشغف به ، وأن ألم ذلك يستحقر معه ألم النار الجسمانية ، وأن ما ورد فى القرآن مثله ضرب لعوام الخلق لما قصر فهمهم عن درك تلك اللذات ـ فإنه لو تعدى النبي فى ترغيبه وترهيبه إلى غير ما ألفوه وتشوقوا إليه وفزعوا منه لم تنبعث دواعيهم للطلب والهرب ، فذكر من اللذات أشرفها عندهم وهى المدركات بالحواس من الحور والقصور إذ تحظى بها حاسة البصر ، ومن المطاعم والمناكح إذ تحظى بها القوة الشهوانية. وما عند الله لعباده الصالحين خير من جميع ما أعربت عنه العبارات ونبهت عليه ولذلك قال تعالى فيما حكى عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب

__________________

(١) الملكية : الملائكية.

١٣٧

بشر» (١). وكل ما يدرك من الجسمانيات فقد خطر على قلب بشر أو يمكن إخطاره بالقلب.

وزعم هذا القائل أن المصلحة الداعية إلى التمثيل للذات والآلام بالمألوف منها عند العوام كالمصلحة فى الألفاظ الدالة على التشبيه فى صفات الله تعالى ، وأنه لو كشف لهم الغطاء ووصف لهم جلال الله الّذي لا تحيط به الصفات والأسماء ، وقيل لهم : صانع العالم موجود ، ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم ، ولا هو متصل بالعالم ، ولا هو منفصل عنه ، ولا هو داخل فيه ولا خارج عنه ، وأن الجهات محصورة فى ست ، وأن سائر الجهات فارغة منه ، وليس شاغلا لواحد منها فلا داخل العالم به مشغول ، ولا خارج العالم عنه مشغول ، لبادر الخلق إلى إنكار وجوده ، فإن عقولهم لا تقوى على التصديق بوجود موجود ترده الأوهام والحواس ، فذكر لهم ما يشير إلى ضروب التمثيل ليرسخ فى نفوسهم التصديق بأصل الوجود فيسارعون إلى امتثال الأوامر تعظيما له ، وإلى الانزجار عن المعاصى مهابة منه فيمن هذا منهاجه.

قلنا : أما القول : بإلهين فكفر صريح لا يتوقف فيه ، وأما هذا فربما يتوقف فيه الناظر ويقول : إذا اعترفوا بأصل السعادة والشقاوة وكون الطاعة والمعصية سبيلا إليهما فالنزاع فى التفصيل كالنزاع فى مقادير الثواب والعقاب ، وذلك لا يوجب تكفيرا فكذلك النزاع فى التفصيل. والّذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف فى تكفير من يعتقد شيئا من ذلك لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها. فوصف الجنة والنار لم يتفق ذكر مرة واحدة أو مرتين ، ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوز بل بألفاظ صريحة لا يتمارى فيها ولا يستراب ، وأن صاحب الشرع أراد بها المفهوم من ظاهرها ، فالمصير إلى ما أشار إليه هذا القائل تكذيب وليس بتأويل ، فهو كفر صريح لا يتوقف فيه أصلا.

__________________

(١) حديث قدسى.

١٣٨

ولذلك نعلم على القطع أنه لو صرح مصرح بإنكار الجنة والنار والحور والقصور فيما بين الصحابة لبادروا إلى قتله واعتقدوا ذلك منه تكذيبا لله ولرسوله. فإن قيل : لعلهم كانوا يفعلون ذلك ويبالغون فيه حسما لباب التصريح به ، إذ مصلحة العامة تقتضى أن لا يجرى الخطاب معهم إلا بما يليق بأفهامهم ويؤثر فى نفوسهم وإثارة دواعيهم ؛ وإذا رفعت عن نفوسهم هذه الظواهر وقصرت عقولهم عن درك اللذات العقلية أنكروا الأصل وجحدوا الثواب والعقاب ، وسقط عندهم تمييز الطاعة عن العصيان والكفر عن الإيمان.

قلنا : فقد اعترفت بإجماع الصحابة على تكفير هذا الرجل وقتله لأنه مصرح به ، ونحن لم نزد على أن المصرح به كافر يجب قتله ، وقد وقع الاتفاق عليه ؛ وبقى قولكم إن سبب تكفيرهم مراعاة مصلحة العوام ، وهذا وهم وظن محض لا يغنى عن الحق شيئا ، بل نعلم قطعا أنهم كانوا يعتقدون ذلك تكذيبا لله تعالى ولرسوله وردا لما ورد به الشرع ولم يدفعه العقل ، فإن قيل : فهلا سلكتم هذا المسلك فى التمثيلات الواردة فى صفات الله تعالى من آية الاستواء وحديث النزول ولفظ «القدم» ووضع الجبار قدمه فى النار ، ولفظ «الصورة» فى قوله عليه‌السلام : «إن الله خلق آدم ـ عليه‌السلام! ـ على صورته» (١) ـ إلى غير ذلك من أخبار لعلها تزيد على ألف ، وأنتم تعلمون أن السلف الصالحين ما كانوا يؤولون هذه الظواهر ، بل كانوا يجرونها على الظاهر. ثم إنكم لم تكفروا منكم الظواهر ومؤولها ، بل اعتقدتم التأويل وصرحتم به ـ قلنا : كيف تستتب هذه الموازنة والقرآن مصرح بأنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى ، ونحن نعلم أنه لو صرح مصرح فيما بين الصحابة بأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان ولا يماس جسما ولا ينفصل عنه بمسافة مقدرة وغير مقدرة ولا يعرض له انتقال وجيئة وذهاب وحضور وأفول ، وأنه يستحيل أن يكون من الآفلين والمنتقلين

__________________

(١) متفق عليه.

١٣٩

والمتمكنين إلى غير ذلك من نفى صفات التشبيه لرأوا ذلك عين التوحيد والتنزيل ، ولو أنكر الحور والقصور والأنهار والأشجار والزبانية والنار لعد ذلك من أنواع الكذب والإنكار ، ولا مساواة بين الدرجتين ، وقد نبهنا على الفرق فى باب الرد عليهم فى مذهبهم بوجهين آخرين : أحدهما أن الألفاظ الواردة فى الحشر والنشر والجنة والنار صريحة لا تأويل لها ولا معدل عنها إلا بتعطيلها وتكذيبها ، والألفاظ الواردة فى مثل الاستواء والصورة وغيرهما كنايات وتوسعات على اللسان تحتمل التأويل فى وصفه ، والآخر أن البراهين العقلية تدفع اعتقاد التشبيه والنزول والحركة والتمكن من المكان وتدل على استحالتها دلالة لا يتمارى فيها ، ودليل العقل لا يحيل وقوع ما وعد به من الجنة والنار فى الدار الآخرة ، بل القدرة الأزلية محيطة بها مستولية عليها ، وهى أمور ممكنة فى نفسها ولا تتقاصر القدرة الأزلية عمّا له نعت الإمكان فى ذاته فكيف يشبه هذا بما ورد من صفات الله تعالى؟! ومساق هذا الكلام يتقاضى بث جملة من أسرار الدين إن شرعنا فى استقصائها ورغبنا فى كشف غطائها ، وإذا ورد ذلك معترضا فى سياق الكلام غير مقصود فى نفسه فلنقتصر على هذا القدر الّذي انطوى فى هذا الفصل ، ولنشتغل بما هو الأهم من مقاصد هذا الكتاب ، وقد بينا فى هذا الفصل من يكفر منهم ومن لا يكفر ، ومن يضل ومن لا يضل.

١٤٠