فضائح الباطنية

أبو حامد الغزالي

فضائح الباطنية

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: محمد علي القطب
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٥

الباب الثانى

فى بيان ألقابهم والكشف عن السبب الداعى لهم على

نصب هذه الدعوة وفيه فصلان

الفصل الأول

فى ألقابهم التى تداولتها الألسنة على اختلاف الأعصار والأزمنة

وهى عشرة ألقاب : الباطنية ، (والقرامطة والقرمطية) (١) ،

(والخرمية والخرمدينية) (٢) ، والإسماعيلية ، والسبعية ،

والبابكية ، والمحمرة ، والتعليمية

ولكل لقب سبب : أما «الباطنية» فإنما لقبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجرى فى الظواهر مجرى اللب من القشر ، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية ، وهى عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة ؛ وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار ، والبواطن والأغوار ، وقنع بظواهرها مسارعا إلى الاغترار ؛ كان تحت الأواصر والأغلال معنى بالأوزار (٣) والأثقال ؛ وأرادوا ب «الأغلال» التكليفات الشرعية. فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عن التكليف واستراح من أعبائه ، وهم المرادون بقوله

__________________

(١) القرامطة والقرمطية : مسمى واحد.

(٢) الخرمية ، والخرمدينية : مسمى واحد أيضا ؛ ومعهم البابكية.

أ. القرامطة : نسبة إلى حمدان قرمط.

ب. الخرمية : نسبة إلى بابك الخرمى.

(٣) الأوزار : الآثام.

٢١

تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧] الآية ؛ وربما موهّوا بالاستشهاد عليه بقولهم إن الجهّال المنكرين للباطل هم الذين أريدوا بقوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [الحديد : ١٣]. وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع ، فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر قدروا على الحكم بدعوى الباطن على حسب ما يوجب الانسلاخ عن قواعد الدين ، إذ سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى للشرع عصام (١) يرجع إليه ويعول عليه.

وأما «القرامطة» فإنما لقبوا بها نسبة إلى رجل يقال له حمدان قرمط (٢) ، وكان أحد دعاتهم فى الابتداء ، فاستجاب له فى دعوته رجال ، فسموا قرامطة وقرمطية. وكان المسمى حمدان قرمط رجلا من أهل الكوفة مائلا إلى الزهد ، فصادفه أحد دعاة الباطنية فى طريق وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقها ، فقال حمدان لذلك الداعى ـ وهو لا يعرفه ولا يعرف حاله : «أراك سافرت من موضع بعيد ، فأين مقصدك؟» فذكر موضعا هو قرية «حمدان». فقال له حمدان : اركب بقرة من هذه البقر لتستريح عن تعب المشى. فلما رآه مائلا إلى الزهد والديانة أتاه من حيث رآه مائلا إليه فقال : إنى لم أومر بذلك ؛ فقال حمدان : وكأنك لا تعمل إلا بأمر؟ قال : نعم. قال حمدان : وبأمر من تعمل؟ فقال الداعى : بأمر مالكى ومالكك ، ومن له الدنيا والآخرة. فقال حمدان : ذلك إذن هو رب العالمين. فقال الداعى : صدقت ؛ ولكن الله يهب ملكه لمن يشاء. قال حمدان : وما غرضك فى البقعة التى أنت

__________________

(١) عصام : من العصمة ، أى المنع من الزلل والإثم والخطأ.

(٢) قرمط : رأس القرامطة فى الباطنية ، وإليه نسبتهم. قيل اسمه : حمدان أو الفرج بن عثمان أو الفرج بن رغبى وقرمط : لقبه.

أصله من خوزستان ، ظهر فى الكوفة سنة ٢٥٨ ، وأظهر الزهد والتقشف ، واستمال إليه بعض الناس ، وأراهم كتابا قيل أوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، يقول الفرج بن عثمان ، وهو عيسى وهو الكلمة ، وهو المهدي ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية وهو جبريل. وفى الكتاب كثير من كلمات الكفر والتحليل والتحريم.

وكثر أتباعه والمغترون به ، وقبض عليه أيام الخليفة المتوكل وقتل سنة ٢٦٣ ه‍.

٢٢

متوجه إليها؟ قال : أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الشقاوة إلى السعادة ؛ وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر ، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب. فقال له حمدان : أنقذنى! أنقذك الله! وأفض على من العلم ما يحببنى به ، فما أشد احتياجى إلى مثل ما ذكرته! فقال الداعى : وما أمرت بأن أخرج السر المخزون (١) لكل أحد إلّا بعد الثقة به والعهد عليه. فقال حمدان : وما عهدك؟ فاذكره لى ، فإنى ملتزم له. فقال الداعي : أن تجعل لى وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه أن لا يخرج سر الإمام الّذي ألقيته إليك ، ولا تفشى سرى أيضا.

فالتزم حمدان سره ، ثم اندفع الداعى فى تعليمه فنون جهله حتى استدرجه واستغواه واستجاب له فى جميع ما دعاه. ثم انتدب حمدان للدعوة ، وصار أصلا من أصول هذه الدعوة ، فسمى أتباعه «القرمطية».

وأما الخرمية فلقبوا بها نسبة لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته ، فإنه راجع إلى طى بساط التكليف ، وحطّ أعباء الشرع عن المتعبدين ، وتسليط الناس على اتباع اللذات وطلب الشهوات ، وقضاء الوطر من المباحات والمحرمات. و«خرم» لفظ أعجمى ينبئ عن الشيء المستلذ المستطاب ، الّذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته ، ويهتز لرؤيته. وقد كان هذا لقبا للمزدكية (٢) ، وهم أهل الإباحة من المجوس ، الذين نبغوا فى أيام قباذ (٣) ، وأباحوا النساء وإن كن من المحارم ، وأحلّوا كل محظور. وكانوا يسمون «خرمدينية». فهؤلاء أيضا لقبوا بها لمشابهتهم إياهم فى آخر المذهب ، وإن خالفوهم فى المقدمات وسوابق الحيل فى الاستدراج.

__________________

(١) السر المخزون : اعتمدت الباطنية ، من خلال دعاتها على الغموض فى الكلمات والحركات ، والأقوال والأفعال ، والأسرار ؛ والإشارات ، والرموز .. إلخ.

(٢) المزدكية : نسبة إلى مزدك الفارسى.

(٣) قباذ : أحد أكاسرة الفرس.

٢٣

وأما البابكية فاسم لطائفة منهم بايعوا رجلا يقال له بابك الخرمى (١) ، وكان خروجه فى بعض الجبال بناحية أذربيجان فى أيام المعتصم بالله ، واستفحل أمرهم واشتدت شوكتهم. وقاتلهم أفشين ، صاحب حبس المعتصم ، مداهنا له فى قتاله ومتخاذلا عن الجد فى قمعه ، إضمارا لموافقته فى ضلاله. فاشتدت وطأة البابكية على جيوش المسلمين حتى مزقوا جند المسلمين وبددوهم منهزمين ، إلى أن هبت ريح النصر ، واستولى عليهم المعتصم المترشح للإمامة فى ذلك العصر ، فصلب بابك وصلب أفشين بإزائه (٢).

وقد بقى من البابكية جماعة يقال إن لهم ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون سرجهم وشموعهم ، ثم يتناهبون النساء ، فيثب كل رجل إلى امرأة يظفر بها ؛ ويزعمون أن من استولى على امرأة استحلها بالاصطياد ، فإن الصيد من أطيب المباحات. ويدعون ـ مع هذه البدعة ـ نبوة رجل كان من ملوكهم قبل الإسلام ، يقال له شروين ويزعمون أنه كان أفضل من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن سائر الأنبياء قبله.

وأما الإسماعيلية فهى نسبة لهم إلى أن زعيمهم محمد بن إسماعيل بن جعفر (٣) ، ويزعمون أن أدوار الإمامة انتهت به ، إذ كان هو السابع من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأدوار الإمامة سبعة سبعة عندهم ؛ فأكبرهم يثبتون له منصب النبوة ، وأن ذلك يستمر فى نسبه وأعقابه. وقد أورد أهل المعرفة بالنسب فى كتاب «الشجرة» (٤) أنه مات ولا عقب له (٥).

__________________

(١) بابك الخرمى : أصله من فارس كان بدء خروجه أيام الخليفة المأمون واستفحل أمره طوال عشرين سنة حتى أيام الخليفة المعتصم إلى أن وقع فى يد الأفشين ؛ فساقه إلى المعتصم حيث قتل أبشع قتله.

(٢) هذه مغالطة تاريخية ، تابع فيها الإمام الغزالى ـ البغدادى ـ فى كتابه «الفرق بين الفرق».

إذ لم تكن غضبة المعتصم على الأفشين لممالأته بابك الخرمى ، بل لأمور مالية ومخالفات أخذ بها الأفشين ، ذكرها ابن الأثير فى حوادث سنتى (٢٢٥ ـ ٢٢٦) ه. (ج : ٢) (ص : ١٧٣ ـ ١٧٥).

أما الّذي صلب إلى جانب بابك فهو المازيار بن مازن ، صاحب جبال «طبرستان» ، الّذي خرج أيضا على المعتصم.

(٣) ابن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب.

(٤) شجرة النسب.

(٥) من الثابت تاريخيا أنه مات ولا عقب له.

٢٤

وأما «السبعية» فإنما لقّبوا بها لأمرين : أحدهما : اعتقادهم أن أدوار الإمامة سبعة ، وأن الانتهاء إلى السابع هو آخر الدور ، وهو المراد بالقيامة ؛ وأن تعاقب هذه الأدوار لا آخر لها قط. والثاني : قولهم إن تدابير العالم السفلى ، أعنى ما يحويه مقعر فلك القمر منوطة بالكواكب السبعة التى أعلاها زحل ، ثم المشترى ، ثم المريخ ، ثم الشمس ، ثم الزهرة ، ثم عطارد ، ثم القمر. وهذا المذهب مسترق من ملحدة المنجمين وملتفت إلى مذاهب الثنوية فى أن النور يدبر أجزاؤه الممتزجة بالظلمة بهذه الكواكب السبعة ؛ فهذا سبب هذا التلقيب (١).

وأما «المحمرة» فقيل إنهم لقبوا به لأنهم صبغوا الثياب بالحمرة أيام بابك ولبسوها ، وكان ذلك شعارهم ؛ وقيل سببه أنهم يقررون أن كل من خالفهم من الفرق وأهل الحق : حمير ؛ والأصح هو التأويل الأول (٢).

وأما «التعليمية» فإنهم لقبوا بها لأن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأى وإبطال تصرف العقول ، ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم ، وأنه لا مدرك للعلوم إلا التعليم.

ويقولون فى مبتدأ مجادلتهم : الحق إما أن يعرف بالرأى ، وإما أن يعرف بالتعليم ، وقد بطل التعويل على الرأى لتعارض الآراء وتقابل الأهواء واختلاف ثمرات نظر العقلاء ؛ فتعين الرجوع إلى التعليم والتعلم.

وهذا اللقب هو الأليق بباطنية هذا العصر ، فإن تعويلهم الأكثر على الدعوة إلى التعليم وإبطال الرأى وإيجاب اتباع الإمام المعصوم ، وتنزيله ـ فى وجوب التصديق والاقتداء به ـ منزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) لعل اهتمام الإمام جعفر بن محمد رضي الله عنه بعلم الفلك ـ وقد كان أحد اهتماماته ـ قد جرهم إلى هذا التوهم ، وهذا السقوط.

(٢) ورغم ما ذهب إليه الإمام الغزالى فى اعتماد الرأي الأول وتصحيحه ، فإن المحمرة قد شاعت عنهم وذاعت فكرة الاستعلاء ودمغ العامة من المخالفين لهم بأنهم كالحمر.

٢٥

الفصل الثانى

فى بيان السبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة

وإفاضة هذه البدعة

مما تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقد لنحلة معتضد بنبوة ، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين. ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية ، وشرذمة من الثنوية (١) الملحدين ، وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين ، وضربوا سهام الرأى فى استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين ، وينفس عنهم كربة ما دهاهم من أمر المسلمين ، حتى أخرسوا ألسنتهم عن النطق بما هو معتقدهم من إنكار الصانع وتكذيب الرسل ، وجحد الحشر والنشر والمعاد إلى الله فى آخر الأمر ، وزعموا أنّا بعد أن عرفنا أن الأنبياء كلهم ممخرقون ومنمسون (٢). فإنهم يستعبدون الخلق بما يخيلونه إليهم من فنون الشعبذة والزرق (٣).

وقد تفاقم أمر محمد ، واستطارت فى الأقطار دعوته ، واتسعت ولايته ، واتسقت أسبابه وشوكته حتى استولوا عل ملك أسلافنا ، وانهمكوا فى التنعم فى الولايات مستحقرين عقولنا ؛ وقد طبقوا وجه الأرض ذات الطول والعرض ، ولا مطمع فى مقاومتهم بقتال ، ولا سبيل إلى استنزالهم عما أصروا عليه إلا بمكر واحتيال ؛ ولو شافهناهم بالدعاء إلى مذهبنا لتنمروا علينا ، وامتنعوا من الإصغاء إلينا ، فسبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم هم أركهم عقولا وأسخفهم رأيا وألينهم عريكة لقبول المحالات ، وأطوعهم للتصديق بالأكاذيب المزخرفات وهم

__________________

(١) الثنوية : مذهب فلسفي قديم يقوم على الإلحاد.

(٢) منمسون : محتالون.

(٣) الزرق : الخداع.

٢٦

الروافض (١) ؛ ونتحصن بالانتساب إليهم والاعتزاء إلى أهل البيت عن شرهم ، ونتودد إليهم بما يلائم طبعهم ، من ذكر ما تم على سلفهم من الظلم العظيم والذل الهائل ، ونتباكى لهم على ما حلّ بآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونتوصل به إلى تطويل اللسان فى أئمة سلفهم الذين هم أسوتهم وقدوتهم ؛ حتى إذا قبحنا أحوالهم فى أعينهم وما ينقل إليهم شرعهم بنقلهم وروايتهم ، اشتد عليهم باب الرجوع إلى الشرع ، وسهل علينا استدراجهم إلى الانخلاع عن الدين ؛ وإن بقى عندهم معتصم من ظواهر القرآن ومتواتر الأخبار أوهمنا عندهم أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن ؛ وأن أمارة الأحمق الانخداع بظواهرها ، وعلامة الفطنة اعتقاد بواطنها ؛ ثم نبث إليهم عقائدنا ، ونزعم أنها المراد بظواهر القرآن. ثم إذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج سائر الفرق بعد التحيز إلى هؤلاء والتظاهر بنصرهم.

ثم قالوا : طريقنا أن نختار رجلا ممن يساعدنا على المذهب ، ونزعم أنه من أهل البيت ، وأنه يجب على كافة الخلق مبايعته وتتعين عليهم طاعته ، فإنه خليفة رسول الله ، ومعصوم عن الخطأ والزلل من جهة الله تعالى ، ثم لا نظهر هذه الدعوة على القرب من جوار الخليفة (٢) الّذي وسمناه بالعصمة ، فإن قرب الدار ربما يهتك هذه الأستار ؛ وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب إلى الدعوة أن يفتش عن حاله ، وأن يطلع على حقيقة أمره ، ومقصدهم بذلك كله الملك والاستيلاء والتبسط فى أموال المسلمين وحريمهم ، والانتقام منهم فيما اعتقدوه فيهم وعاجلوهم به من النهب والسفك ، وأفاضوا عليهم من فنون البلاء.

فهذه غاية مقصدهم ، ومبدأ أمرهم. ويتضح لك مصداق ذلك بما سنجليه من خبائث مذهبهم ، وفضائح معتقدهم.

__________________

(١) الروافض : نسبة إلى ما لقيه على ـ كرم الله وجهه ـ من رفض لتأييده ومؤازرته فى مواجهة «معاوية بن أبى سفيان» يوم صفين ؛ من الخوارج وغيرهم.

(٢) والملاحظ أن كل تلك الدعوات إنما ظهرت بعيدا عن مركز الخلافة ، وفى عمق بلاد فارس وخراسان وغيرهما.

٢٧
٢٨

الباب الثالث

فى درجات حيلهم ، وسبب الاغترار بها

مع ظهور فسادها وفيه فصلان

الفصل الأول

فى درجات حيلهم

وقد نظموها على تسع درجات مرتبة ، ولكل مرتبة اسم ؛ أولها : الزرق والتفرس ، ثم التأنيس ، ثم التشكيك ، ثم التعليق ، ثم الربط ، ثم التدليس ، ثم التلبيس ، ثم الخلع ، ثم السلخ.

ولنبين الآن تفصيل كل مرتبة من هذه المراتب ، ففى الاطلاع على هذه الحيل فوائد جمة لجماهير الأمة.

أما الزرق (١) والتفرس فهو أنهم قالوا : ينبغى أن يكون الداعى فطنا ذكيا ، صحيح الحدس ، صادق الفراسة ، متفطنا للبواطن بالنظر إلى الشمائل والظواهر ، وليكن قادرا على ثلاثة أمور : (الأول) وهو أهمها : أن يميز بين من يجوز أن يطمع فى استدراجه ويوثق بلين عريكته لقبول ما يلقى إليه على خلاف معتقده. فرب رجل جمود على ما سمعه لا يمكن أن ينتزع من نفسه ما يرسخ فيه ، فلا يضيعن الداعى كلامه مع مثل هذا. وليقطع طمعه منه ؛ وليلتمس من فيه انفعال وتأثر بما يلقى إليه من الكلام ، وهم الموصوفون بالصفات التى سنذكرها فى الفصل الّذي يلى هذا الفصل. وينبغى أن نتقى ، بكل حال ، بث البذر فى السّبخ (٢) ، والدخول إلى بيت فيه

__________________

(١) الزرق : الخداع.

(٢) السبخة : واحدة السباخ وأرض سبخة : ذات ملح ونز ، لا تصلح للزرع والنماء.

٢٩

سراج ـ يعنى به الزجر عن دعوة العباسية ـ مد الله دولتهم إرغاما لأنوف أعدائها فإن ذلك لا ينغرس أبد الدهر فى نفوسهم ، كما لا ينغرس البذر فى الأرض السبخة بزعمهم ؛ ويزجرون أيضا عن دعوة الأذكياء من الفضلاء وذوى البصائر بطرق الجدال ومكامن الاحتيال ، وبه يعنون الزجر عن بيت فيه سراج.

(الثانى) أن يكون مشتعل الحدس ، ذكى الخاطر فى تعبير الظواهر وردها إلى البواطن ؛ إما اشتقاقا من لفظها ، أو تلقيا من عددها ، أو تشبيها لها بما يناسبها.

وبالجملة فإذا لم يقبل المستجيب منه تكذيب القرآن والسنة فينبغى أن يستخرج من قلبه معناه ، الّذي فهمه ، ويترك معه اللفظ منزلا على معنى يناسب هذه البدعة ، فإنه لو شافهه بالتكذيب لم يقبل منه.

(الثالث) ـ من الزرق والتفرس ـ ألا يدعو كل أحد إلى مسلك واحد ، بل يبحث أولا عن معتقده وما إليه ميله فى طبعه ومذهبه ؛ فأما طبعه فإن رآه مائلا إلى الزهد والتقشف والتقوى والتنظف دعاه إلى الطاعة والانقياد واتباع الأمر من المطاع وزجره عن اتباع الشهوات ، وندبه إلى وظائف العبادات ، وتأدية الأمانات من الصدق وحسن المعاملة والأخلاق الحسنة ، وخفض الجناح لذوى الحاجات ، ولزوم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ؛ وان كان طبعه مائلا إلى المجون والخلاعة قرر فى نفسه أن العبادة بله وأن الورع حماقة ، وأن هؤلاء المعذبين بالتكاليف مثالهم مثل الحمر المعناة بالأحمال الثقيلة ؛ وإنما الفطنة فى اتباع الشهوة ونيل اللذة وقضاء الوطر من هذه الدنيا المنقضية التى لا سبيل إلى تلافى لذاتها عند انقضاء العمر.

وأما حال المدعو من حيث المذهب فإن كان من الشيعة فلنفاتحه بأن الأمر كله فى بغض بنى تيم (١) وبنى عدى (٢) وبنى أمية (٣) وبنى العباس (٤) وأشياعهم ، وفى

__________________

(١) بنو تيم : عشيرة أبي بكر رضى الله عنه ، فهو تيمي.

(٢) بنو عدى : عشيرة عمر رضى الله عنه ، ويقال عدوى.

(٣) بنو أمية بن عبد شمس ـ الأمويون ـ.

(٤) بنو العباس بن عبد المطلب ـ الهاشمى ـ.

٣٠

التبرى منهم ومن أتباعهم ، وفى تولى الأئمة الصالحين وفى انتظار خروج المهدي ؛ وإن كان المدعو ناصبيا ذكر له أن الأمة إنما أجمعت على أبى بكر وعمر ، ولا يقدم إلا من قدمته الأمة ؛ حتى إذا اطمأن إليه قلبه ابتدأ بعد ذلك يبث الأسرار على سبيل الاستدراج المذكور بعد ؛ وكذلك إن كان من اليهود والمجوس والنصارى حاوره بما يضاهى مذهبهم من معتقداته ، فإن معتقد الدعاة ملتقط من فنون البدع والكفر ، فلا نوع من البدعة إلا وقد اختاروا منه شيئا ، ليسهل عليهم بذلك مخاطبة تلك الفرق على ما سنحكى من مذهبهم.

أما حيلة «التأنيس» فهو أن يوافق كل من هم بدعوته فى أفعال يتعاطاها هو ومن تميل إليه نفسه وأول ما يفعل الأنس بالمشاهدة على ما يوافق اعتقاد المدعو فى شرعه ؛ وقد رسموا للدعاة والمأذونين أن يجعلوا مبيتهم كل ليلة عند واحد من المستجيبين ، ويجتهدون فى استصحاب من له صوت طيب فى قراءة القرآن ليقرأ عندهم زمانا ، ثم يتبع الداعى ذلك كله بشيء من الكلام الرقيق وأطراف من المواعظ اللطيفة الآخذة بمجامع القلوب ؛ ثم يردف ذلك بالطعن فى السلاطين وعلماء الزمان وجهال العوام ، ويذكر أن الفرج منتظر من كل ذلك ببركة أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فيما بين ذلك يبكى أحيانا ويتنفس الصعداء.

وإذا ذكر آية أو خبرا ذكر أن لله سرا فى كلماته لا يطلع عليه إلا من اجتباه الله من خلقه وميزه بمزيد لطفه ، فإن قدر على أن يتهجد بالليل مصلّيا وباكيا عند غيبة صاحب البيت بحيث يطّلع عليه صاحب البيت ، ثم إذا أحسّ بأنه اطلع عليه عاد إلى مبيته واضطجع كالذى يقصد إخفاء عبادته ، وكل ذلك ليستحكم الأنس به ويميل القلب إلى الإصغاء إلى كلامه ، فهذه هى مرتبة التأنيس.

وأما حيلة «التشكيك» فمعناه أن الداعى ينبغى له بعد التأنيس أن يجتهد فى تغيير اعتقاد المستجيب بأن يزلزل عقيدته فيما هو مصمم عليه.

وسبيله أن يبتدئه بالسؤال عن الحكمة فى مقررات الشرائع وغوامض (١)

__________________

(١) غوامض المسائل : عويصها.

٣١

المسائل وعن المتشابه من الآيات وكل ما لا ينقدح فيه معنى معقول. فيقول فى معنى المتشابه : ما معنى «الر» و«كهيعص» و«حم عسق» ، إلى غير ذلك من أوائل السور؟ ويقول : «أترى أن تعيين هذه الحروف جرى وفاقا بسبق اللسان ، أو قصد تعيينها لأسرار هى مودعة تحتها لم تصادف فى غيرها؟ وما عندى أن ذلك يكون هزلا وعبثا بلا فائدة».

ويشكك فى الأحكام : ما بال الحائض تقضى الصوم دون الصلاة؟ ما بال الاغتسال يجب من المنى الطاهر ولا يجب من البول النجس؟ ويشككه فى أخبار القرآن فيقول : ما بال أبواب الجنة ثمانية ، وأبواب النار سبعة؟ وما معنى قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] ، وقوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] أفترى ضاقت القافية فلم يكمل العشرين؟ أو جرى ذلك وفاقا بحكم سبق اللسان ، أو قصدا لهذا التقييد ليخيل أن تحته سرا ، وأنه فى نفسه لسرّ ليس يطلع عليه إلا الأنبياء والأئمة الراسخون فى العلم ، ما عندى أن ذلك يخلو عن سر وينفك من فائدة كامنة ؛ والعجب من غفلة الخلق عنها لا يشمرون عن ساق الجد فى طلبها.

ثم يشككه فى خلقة العالم وجسد الآدمى ويقول : لم كانت السموات سبعا دون أن تكون ستا أو ثمانى؟ ولم كانت الكواكب السيارة سبعة والبروج اثنى عشر؟ ولم كان فى رأس الآدمى سبع ثقب : العينان والأذنان والمنخران والفم وفى بدنه ثقبان فقط؟ ولم جعل رأس الآدمى على هيئة الميم ويداه إذا مدّها على هيئة الحاء ، والعجز على هيئة الميم والرجلان على هيئة الدال بحيث إذا جمع الكل يشكل بصورة محمد؟ أفترى أن فيه تشبيها ورمزا؟ ما أعظم هذه العجائب! وما أعظم غفلة الخلق عنها! ولا يزال يورد عليه هذا الجنس حتى يشككه وينقدح فى نفسه أن تحت هذه الظواهر أسرارا سدّت عنه وعن أصحابه ، وينبعث منه شوق إلى طلبه.

وأما حيلة التعليق فبأن يطوى عنه جوانب هذه الشكوك إذا هو استكشفه عنها ،

٣٢

ولا ينفس عنه أصلا ، بل يتركه معلقا ويهول الأمر عليه ويعظمه فى نفسه ويقول له : لا تعجل ، فإن الدين أجل من أن يعبث به ، أو أن يوضع فى غير موضعه ويكشف لغير أهله ، هيهات ، هيهات!

جئتمانى لتعلما سر سعدى

تجدانى بسر سعدى شحيحا

ثم يقول له لا تعجل! إن ساعدتك السعادة سنبث إليك سر ذلك ، أما سمعت قول صاحب الشرع : إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهر (١) أبقى (٢).

وهكذا لا يزال يسوقه ثم يدافعه حتى إن رآه أعرض عنه واستهان به وقال : ما لي ولهذا الفضول ، وكان لا يحيك فى صدره حرارة هذه الشكوك ، قطع الطمع عنه ؛ وإن رآه متعطشا إليه وعده فى وقت معين ، وأمره بتقديم الصوم والصلاة والتوبة قبله ؛ وعظّم أمر هذا السر المكتوم. حتى إذا وافى الميعاد قال له : إن هذه الأسرار مكتومة لا تودع إلّا فى سر محصن ؛ فحصن حرزك ، وأحكم مداخله حتى أودعه فيه. فيقول المستجيب : وما طريقه؟ فيقول : أن آخذ عهد الله وميثاقه على كتمان هذا السر ومراعاته عن التضييع فإنه الدر الثمين والعلق النفيس ؛ وأدنى درجات الراغب فيه صيانته عن التضييع ؛ وما أودع الله هذه الأسرار أنبياءه إلا بعد أخذه عهدهم وميثاقهم ؛ وتلا قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] الآية وقال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] ؛ وقال تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [النحل : ٩١]. وأما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يفشه إلا بعد أخذ العهد على الخلفاء وأخذ البيعة على الأنصار تحت الشجرة (٣). فإن كنت راغبا فاحلف لى على كتمانه ، وأنت

__________________

(١) كذا فى المطبوعة ؛ والصحيح : ولا ظهرا.

(٢) رواه مسلم فى صحيحه ؛ وأبو داود والنسائى وابن حبان.

(٣) وتسمى بيعة الرضوان ؛ وكانت يوم الحديبية وشملت المهاجرين والأنصار جميعا يقول تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨].

٣٣

بالخيرة (١) بعده ، فإن وفقت لدرك حقيقته سعدت سعادة عظيمة ، وإن اشمأزت نفسك عنه فلا غرو فإن كلا ميسر لما خلق له ؛ ونحن نقدر كأنك لم تسمع ولم تحلف ، ولا ضير عليك فى يمين صادقة ، فإن أبى الحلف خلاه ، وإن أنعم وأجاب فيه ، وجّه الحلف واستوفاه.

وأما حيلة الربط فهو أن يربط لسانه بأيمان مغلظة وعهود مؤكدة ، لا يجسر على المخالفة لها بحال. وهذه نسخه العهد :

يقول الداعى للمستجيب : «جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله عليه‌السلام ، وما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق ، أنك تسر ما سمعته منى وتسمعه ، وعلمته وتعلمه من أمرى وأمر المقيم بهذه البلدة لصاحب الحق الإمام المهدى ، وأمور إخوانه وأصحابه وولده وأهل بيته ، وأمور المطيعين له على هذا الدين ، ومخالصة المهدى ومخالصة شيعته من الذكور والإناث ، والصغار والكبار ؛ ولا تظهر من ذلك قليلا ولا كثيرا تدل به عليه ، إلا ما أطلقت لك أن تتكلم به أو أطلق لك صاحب الأمر المقيم فى هذا البلد أو فى غيره ؛ فتعمل حينئذ بمقدار ما نرسمه لك ولا تتعداه ؛ جعلت على نفسك الوفاء بما ذكرته لك وألزمته نفسك فى حال الرغبة والرهبة ، والغضب والرضى ، وجعلت على نفسك عهد الله وميثاقه أن تتبعنى وجميع من أسميه لك وأبينه عندك مما تمنع منه نفسك ، وأن تنصح لنا وللإمام ولى الله نصحا ظاهرا وباطنا ، وألا تخون الله ولا وليه ولا أحدا من إخوانه وأوليائه ومن يكون منه ومنا بسبب من أهل ومال ونعمة ؛ وأنه لا رأى ولا عهد تتناول على هذا العهد بما يبطله. فإن فعلت شيئا من ذلك وأنت تعلم أنك قد خالفته ، فأنت بريء من الله ورسله الأولين والآخرين ، ومن ملائكته المقربين ، ومن جميع ما أنزل من كتبه على أنبيائه السابقين ، وأنت خارج من كل دين ، وخارج من حزب الله وحزب أوليائه ، وداخل فى حزب الشيطان وحزب أوليائه ، وخذلك الله خذلانا بيّنا يعجل لك بذلك النقمة والعقوبة إن خالفت شيئا مما حلفتك عليه ـ بتأويل أو بغير تأويل ـ فإن خالفت شيئا من ذلك فلله عليك أن تحج إلى بيته ثلاثين

__________________

(١) يعنى : بالخيار.

٣٤

حجة نذرا واجبا ، ماشيا حافيا. وإن خالفت ذلك فكل ما تملكه فى الوقت الّذي تحلف فيه صدقة على الفقراء والمساكين الذين لا رحم بينك وبينهم. وكل مملوك يكون لك فى ملكك يوم تخالف فيه فهم أحرار ؛ وكل امرأة تكون لك أو تتزوجها فى قابل فهى طالق ثلاثا بتة إن خالفت شيئا من ذلك ، وإن نويت أو أضمرت فى يمينى هذه خلاف ما قصدت فهذه اليمين من أولها إلى آخرها لازمة لك. والله «الشاهد على صدق نيّتك وعقد ضميرك. وكفى بالله شهيدا بينى وبينك. قل : نعم!» ـ فيقول : «نعم!».

فهذا هو الربط (١).

وأما حيلة التدليس فهو أنه بعد اليمين وتأكيد العهد لا يسمح ببث الأسرار إليه دفعة ، ولكن يتدرج فيه ويراعى أمورا : (الأول) أنه يقتصر فى أول وهلة على ذكر قاعدة المذهب ويقول : منار الجهل تحكيم الناس عقولهم الناقصة وآرائهم المتناقضة ، وإعراضهم عن الاتباع والتلقى من أصفياء الله وأئمته وأوتاد أرضه ، والذين هم خلفاء رسوله من بعده. فمنهم الذين أودعهم الله سره المكنون ودينه المخزون ؛ وكشف لهم بواطن هذه الظواهر وأسرار هذه الأمثلة ؛ وإن الرشد والنجاة من الضلال بالرجوع إلى القرآن وأهل البيت. ولذلك قال عليه‌السلام لما قيل : ومن أين يعرف الحق بعدك؟ فقال : «ألم أترك فيكم القرآن وعترتى؟» (٢) ـ وأراد به أعقابه ، فهم الذين يطلعون على معانى القرآن.

ويقتصر فى أول وهلة على هذا القدر ، ولا يفصح عن تفصيل ما يقوله الإمام.

(الثانى) أن يحتال لإبطال المدرك الثانى من مدارك الحق وهو ظواهر القرآن.

فإن طالب الحق إما أن يفزع إلى التفكر والتأمل والنظر فى مدارك العقول ، كما أمر

__________________

(١) الربط : العهد والميثاق ، والدخول فى الحوزة بحيث يصبح المعاهد واحدا من الجماعة ؛ يأتمر بأمرهم وينفذ مشيئتهم.

(٢) الحديث المشهور : «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدى : كتاب الله وسنتى».

٣٥

الله سبحانه به ، فيفسد نظر العقل عليه بإيجاب التعلم والاتباع ؛ أو يفزع إلى ظواهر القرآن والسنة. ولو صرح له بأنه تلبيس ومحدث. لم يسمع منه ؛ فليسلم له لفظه ؛ ولينتزع عن قلبه معناه بأن يقول : «هذا الظاهر له باطن هو اللباب ، والظاهر قشر بالإضافة إليه ، يقنع به من تقاعد به القصور عن درك الحقائق ، حتى لا يبقى له معتصم من عقل ومستروح من نقل».

(الثالث) ألا يظهر من نفسه أنه مخالف للأمة كلهم ، وأنه منسلخ عن الدين والنحلة ، إذ تنفر القلوب عنه ، ولكن يعتزى إلى أبعد الفرق عن المسلك المستقيم وأطوعهم لقبول الخرافات ، ويتستر بهم ، ويتجمل بحب أهل البيت ؛ وهم الروافض.

(الرابع) : هو أن يقدم فى أول كلامه أن الباطل ظاهر جلي ، والحق دقيق بحيث لو سمعه الأكثرون لأنكروه ونفروا عنه ؛ وأن طلاب الحق والقائلين به من بين طلاب الجهل أفراد وآحاد ، ليهون عليه التميز عن العامة فى إنكار نظر العقل وظواهر ما ورد به النقل.

(الخامس) إن رآه نافرا عن التفرد عن العامة ، فيقول له : «إنى مفش إليك سرا ، وعليك حفظه». فإذا قال : «نعم!» ـ قال : «إن فلانا وفلانا يعتقدون هذا المذهب ، ولكنهم يسرونه» ـ ويذكر له من الأفاضل من يعتقد المستجيب فيه الذكاء والفطنة. وليكن ذلك المذكور بعيدا عن بلده ، حتى لا يتيسر له المراجعة ، كما جعلوا الدعوة بعيدة عن مقر إمامهم ووطنه ، فإنهم لو أظهروها فى جواره لافتضحوا بما يتواتر من أخباره وأحواله.

(السادس) أن يمنيه بظهور شوكة هذه الطائفة وانتشار أمرهم وعلوّ رأيهم ، وظفر ناصريه أعدائهم ، واتساع ذات يدهم ووصول كل واحد منهم إلى مراده حتى تجتمع لهم سعادة الدنيا والآخرة ؛ ويعزى بعض ذلك إلى النجوم ، وبعضه إلى الرؤيا فى المنام إن أمكنة وضع منامات تنتهى إلى المستجيب على لسان غيره.

٣٦

(السابع) ألا يطول الداعى إقامته ببلدة واحدة ، فإنه ربما اشتهر أمره وسفك دمه ، فينبغى أن يحتاط فى ذلك فيلبس على الناس أمره ، ويتعرف إلى كل قوم باسم آخر ، وليغير فى بعض الأوقات هيئته ولبسته خوف الآفات ليكون ذلك أبلغ فى الاحتياط.

ثم بعد هذه المقدمات يتدرج قليلا قليلا فى تفصيل المذهب للمستجيب وذكره له على ما سنحكى من معتقده.

وأما حيلة التلبيس ـ فهو أن يواطئه على مقدمات يتسلمها منه مقبولة الظاهر مشهورة عند الناس ذائعة ، ويرسخ ذلك فى نفسه مدة ، ثم يستدرجه منها بنتائج باطلة ، كقوله : إن أهل النظر لهم أقاويل متعارضة الأحوال متساوية ، وكل حزب بما لديهم فرحون. والمطلع على الجوهر : الله. ولا يجوز أن يخفى الله الحق ، ولا يوجد أحد [.......] (١) كل الأمر إلى الخلق يتخبطون فيه خبط العشواء ويقتحمون فيه العماية العمياء ، إلى غير ذلك من مقدمات يت [.......] (٢) مستعضلة.

وأما حيلة الخلع والسلخ ، وهما متفقان ؛ وإنما يفترقان فى أن الخلع يختص بالعمل ، فإذا أفضوا بالمستجيب إلى ترك حدود الشرع وتكاليفه يقولون : وصلت إلى درجة الخلع.

أما السلخ فيختص بالاعتقاد الّذي هو خلع الدين ، فإذا انتزعوا ذلك من قلبه دعوا ذلك سلخا وسميت هذه الرتبة : البلاغ الأكبر. فهذا تفصيل تدريجهم الخلق واستغوائهم فلينظر الناظر فيه وليستغفر الله من الضلال فى دينه.

__________________

(١) كلمتان ممحوتان في مخطوطة القرويين.

(٢) كلمتان ممحوتان أيضا فى نفس المخطوطة.

٣٧

الفصل الثانى

فى بيان السبب فى رواج حيلتهم وانتشار دعوتهم

مع ركاكة حجتهم وفساد طريقتهم

فإن قيل : ما جليتموه من العظائم لا يتصور أن يخفى على عاقل ، وقد رأينا خلقا كثيرا وجمّا غفيرا من الناس يتابعونهم فى معتقدهم وتابعوهم فى دينهم ؛ فلعلكم ظلمتموهم بنقل هذه المذاهب عنهم فى خلاف ما يعتقدونه! وهذا هو القريب الممكن ؛ فإنهم لو أظهروا هذه الأسرار نفرت القلوب عنهم واطلعت النفوس على مكرهم ؛ وما باحوا بها إلا بعد العهود والمواثيق وصانوها إلا عن موافق لهم فى الاعتقاد ـ فمن أين وقع لكم الاطلاع عليها وهم يسترون ديانتهم ويستبطنون بعقائدهم؟

قلت : أما الاطلاع على ذلك فإنما عثرنا عليه من جهة خلق كثير تدينوا بدينهم واستجابوا لدعوتهم ، ثم تنبهوا لضلالهم فرجعوا عن غوايتهم إلى الحق المبين فذكروا ما ألقوا إليهم من الأقاويل.

وأما سبب انقياد الخلق إليهم فى بعض أقطار الأرض فإنهم لا يفشون هذا الأمر إلا إلى بعض المستجيبين لهم ويوصون الداعى ويقولون له : «إياك أن تسلك بالجميع مسلكا واحدا ، فليس كل من يحتمل قبول هذه المذاهب يحتمل الخلع والسلخ ، ولا كل من يحتمل الخلع يحتمل السلخ ؛ فليخاطب الداعى الناس على قدر عقولهم». فهذا هو السبب فى تعلق هذه الحيل ورواجها.

فإن قيل : هذا أيضا مع الكتمان ظاهر البطلان ؛ فكيف ينخدع بمثله عاقل؟ قلنا :

لا ينخدع به إلا المائلون عن اعتدال الحال واستقامة الرأي. فللعقلاء عوارض تعمى عليهم طرق الصواب وتقضى عليهم بالانخداع بلامع السراب ، وهم ثمانية أصناف :

٣٨

(الصنف الأول) طائفة ضعفت عقولهم وقلت بصائرهم وسخفت فى أمور الدين آراؤهم لما جبلوا عليه من البله والبلادة ، مثل السواد وأفجاج العرب والأكراد وجفاة الأعاجم وسفهاء الأحداث ، ولعل هذا الصنف هم أكبر الناس عددا. وكيف يستبعد قبولهم لذلك ونحن نشاهد جماعة فى بعض المدائن القريبة من البصرة يعبدون أناسا يزعمون أنهم ورثوا الربوبية من آبائهم المعروفين بالشباسية. وقد اعتقدت طائفة فى على ـ رضى الله عنه ـ أنه إله السموات والأرض رب العالمين (١) ؛ وهم خلق كثير لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد ؛ فلا ينبغى أن يكثر التعجب من جهل الإنسان إذا استحوذ عليه الشيطان واستولى عليه الخذلان.

(الصنف الثانى) طائفة انقطعت الدولة عن أسلافهم بدولة الإسلام ، كأبناء الأكاسرة والدهاقين وأولاد المجوس المستطيلين ، فهؤلاء موتورون ، قد استكن الحقد فى صدورهم كالداء الدفين فإذا حركته تخاييل المبطلين اشتعلت نيرانه فى صدورهم فأذعنوا لقبول كل محال تشوقا إلى درك ثأرهم وتلافى أمورهم.

(الصنف الثالث) طائفة لهم همم طامحة إلى العلياء متطلعة إلى التسلط والاستيلاء ؛ إلا أنه ليس يساعدهم الزمان ، بل يقصر بهم عن الأتراب والأقران طوارق الحدثان ؛ فهؤلاء إذا وعدوا بنيل أمانيهم وسول لهم الظفر بأعاديهم سارعوا إلى قبول ما يظنونه مفضيا إلى مآربهم وسالكا إلى أوطارهم ومطالبهم ، فلطالما قيل : «حبك الشيء يعمى ويصم». ويشترك فى هذا كل من دهاه من طبقة الإسلام آمر يلم به. وكان لا يتوصل إلى الانتصار ودرك الثأر إلا بالاستظهار بهؤلاء الأغبياء الأغمار ، فتتوفر دواعيه على قبول ما يرى الأمنية فيه.

(الصنف الرابع) طائفة جبلوا على حب التميز عن العامة والتخصص عنهم ترفعا عن مشابهتهم وتشرفا بالتحيز إلى فئة خاصة تزعم أنها مطلعة على الحقائق ، وأن

__________________

(١) أول من قال بذلك عبد الله بن سبأ ـ المعروف بابن السوداء ؛ وكان ذلك فى حياة على ـ رضى الله عنه ـ ؛ وقد أنكر عليه ذلك ؛ وأهدر دمه.

٣٩

كافة الخلق فى جهالتهم كالحمر المستنفرة والبهائم المسيبة. وهذا هو الداء العضال المستولى على الأذكياء فضلا عن الجهال الأغبياء ؛ وكل ذلك حب للنادر الغريب ونفرة عن الشائع المستفيض ؛ وهذه سجيّة لبعض الخلق ، على ما شهدت به التجربة ، وتدل عليه المشاهدة.

(الصنف الخامس) طائفة سلكوا طرق النظر ولم يستكملوا فيه رتبة الاستقلال ، وإن كانوا قد ترقوا عن رتبة الجهال فهم أبدا متشوقون إلى التكاسل والتغافل وإظهار التفطن لدرك أمور تتخيل العامة بعدها وينفرون عنها ، لا سيما إذا نسب الشيء إلى مشهور بالفضل ، فيغلب على الطبع التشوق إلى التشبه به ، فكم من الطوائف رأيتهم اعتقدوا محض الكفر تقليدا لأفلاطن وأرسطاطاليس (١) وجماعة من الحكماء قد اشتهروا بالفضل! وداعيهم إلى ذلك التقليد وحب التشبه بالحكماء والتحيز إلى غمارهم والتحيز عمّن يعتقد أنه فى الذكاء والفضل دونهم. فهؤلاء يستجرون إلى هذه البدعة بإضافتها إلى من يحسن اعتقاد المستجيب فيه فيبادر إلى قبوله تشفعا بالتشبه بالذى ذكر أنه من منتحليه.

(الصنف السادس) طائفة اتفق نشوؤهم بين الشيعة والروافض ، واعتقدوا التدين بسب الصحابة ، ورأوا هذه الفرقة تساعدهم عليها ، فمالت نفوسهم إلى المساعدة لهم والاستئناس بهم ، وانجرّت معهم إلى ما وراء ذلك من خصائص مذهبهم.

(الصنف السابع) طائفة من ملحدة الفلاسفة والثنوية والمتحيرة فى الدين ، اعتقدوا أن الشرائع نواميس مؤلفة ، وأن المعجزات مخاريق مزخرفة ، فإذا رأوا هؤلاء يكرمون من ينتمى إليهم ويفيضون ذخائر الأموال عليهم انتدبوا لمساعدتهم طلبا لحطام الدنيا ، واستحقارا لأمر العقبى.

وهذه الطائفة هم الذين لفقوا لهم الشبه وزينوا لهم بطريق التمويه الحجج ،

__________________

(١) أفلاطون ، وأرسطو فيلسوفى اليونان ولقد كان الإمام الغزالى أشهر من سفه الفلسفة وهاجمها فى كتابه : [تهافت الفلاسفة].

٤٠