فضائح الباطنية

أبو حامد الغزالي

فضائح الباطنية

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: محمد علي القطب
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٥

وسووها على شروط الجدل وحدود المنطق من حيث الظاهر وغبوا (١) مكامن التلبيس والمغالطة فيها تحت ألفاظ مجملة ، وعبارات كلية مبهمة ، قلما يهتدى الناظر الضعيف إلى فك تعقيدها وكشف الغطاء عن مكمن تدليسها ، على ما سنورد ما لفقوه ، وننبه على المسلك الّذي سلكوه ونهجوه ، ونكشف عن فساده من عدة وجوه.

(الصنف الثامن) طائفة استولت عليهم الشهوات فاستدرجتهم متابعة اللذات واشتد عليهم وعيد الشرع وثقلت عليهم تكاليفه ، فليس يتهنأ عيشهم إذا قرفوا بالفسق والفجور وتوعدوا بسوء العاقبة فى الدار الآخرة ؛ فإذا صادفوا من يفتح لهم الباب ويرفع عنهم الحجز والحجاب ويحسن لهم ما هم مستحسنون له بالطبع ، تسارعوا إلى التصديق بالرغبة والطوع ؛ وكل إنسان مصدّق لما يوافق هواه ويلائم غرضه ومناه ؛ فهؤلاء ومن يجرى مجراهم هم الذين عدموا التوفيق فانخدعوا بهذه المخاريق ، وزاغوا عن سواء الطريق وحدود التحقيق.

__________________

(١) غبوا : من غبب الشيء : غيبه وستره أى : أخفوا مكامن الخداع بالألفاظ العامة المبهمة.

٤١
٤٢

الباب الرابع

فى نقل مذهبهم جملة وتفصيلا

أما الجملة : فهو أنه مذهب ظاهره الرفض ، وباطنه الكفر المحض ، ومفتتحه حصر مدارك العلوم فى قول الإمام المعصوم ، وعزل العقول عن أن تكون مدركة للحق لما يعتريها من الشبهات ويتطرق إلى النظار من الاختلافات ، وإيجاب لطلب الحق بطريق التعليم والتعلم ، وحكم بأن المعلم المعصوم هو المستبصر ، وأنه مطلع من جهة الله على جميع أسرار الشرائع ، يهدى إلى الحق ويكشف عن المشكلات ؛ وأن كل زمان لا بدّ فيه من إمام معصوم يرجع إليه فيما يستبهم من أمور الدين.

هذا مبدأ دعوتهم. ثم إنهم بالآخرة يظهرون ما يناقض الشرع وكأنه غاية مقصدهم ، لأن سبيل دعوتهم ليس بمتعين فى فن واحد ، بل يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه بعد أن يظفروا منهم. بالانقياد لهم والموالاة لإمامهم ، فيوافقون اليهود والنصارى والمجوس (١) على جملة معتقداتهم ويقرونهم عليها ، فهذه جملة المذهب.

وأما تفصيله : فيتعلق بالإلهيات ، والنبوات ، والإمامة ، والحشر والنشر. وهذه أربعة أطراف ؛ وأنا مقتصر فى كل طرف على نبذة يسيرة من حكاية مذهبهم ، فإن النقل عنهم مختلف ؛ وأكثر ما حكى عنهم إذا عرض عليهم أنكروه ، وإذا روجع فيه الذين استجابوا لدعوتهم جحدوه.

والّذي قدمناه فى جملة مذهبهم يقتضي لا محالة أن يكون النقل عنهم مختلفا مضطربا. فإنهم لا يخاطبون الخلق بمسلك واحد ، بل غرضهم الاستتباع والاحتيال ، فلذلك تختلف كلمتهم ويتفاوت نقل المذهب عنهم ، فإن ما حكى

__________________

(١) ولقد كان هذا الأمر ظاهرا فى التاريخ من خلال الوقائع والأحداث.

٤٣

عنهم فى الخلع والسلخ لا يظهرونه إلا مع من بلغ الغاية القصوى بل ربما يخاطبون بالخلع من ينكرون معه السلخ فلنرجع إلى بيان أطراف المذهب.

(الطرف الأول) فى معتقدهم فى الإلهيات

وقد اتفقت أقاويل نقلة المقالات من غير تردد أنهم قائلون بإلهين (١) قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان ، إلّا أن أحدهما علّة لوجود الثاني ؛ واسم العلة : السابق ، واسم المعلول : التالي ؛ وأن السابق خلق العالم بواسطة التالى ، لا بنفسه. وقد يسمى الأول : عقلا ، والثانى نفسا. ويزعمون أن الأول هو التام بالفعل ، والثانى بالإضافة إليه ناقص ، لأنه معلوله ، وربما لبسوا على العوام مستدلين بآيات من القرآن عليه ، كقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا) [الحجر : ٩]. و (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) [الإنسان : ٢٣] و (نَحْنُ قَسَمْنا) [الزخرف : ٣٢] وزعموا أن هذه إشارة إلى جمع لا يصدر عن واحد (٢) ، ولذلك قال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] إشارة إلى السابق من الإلهين ، فإنه الأعلى ولو لا أن معه إلها آخر له العلوّ أيضا لما انتظم إطلاق الأعلى ، وربما قالوا : الشرع سماهما باسم القلم واللوح. والأول هو القلم ، فإن القلم مفيد واللوح مستفيد متأثر ، والمفيد فوق المستفيد. وربما قالوا : اسم «التالى» : قدر فى لسان الشرع ، وهو الّذي خلق الله به العالم حيث قال : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩].

ثم قالوا : السابق لا يوصف بوجود ولا عدم ، فإن العدم نفى والوجود سببه ، فلا هو موجود ولا هو معدوم ، ولا هو معلوم ولا هو مجهول ، ولا هو موصوف ولا غير موصوف ، وزعموا أن جميع الأسامى منتفية عنه ، وكأنهم يتطلعون فى الجملة لنفى الصانع ؛ فإنهم لو قالوا إنه معدوم لم يقبل منهم ، بل منعوا الناس من تسميته

__________________

(١) وهذه أولى علامات الشرك ؛ وهى الثنوية عينها.

(٢) انظر وتأمل إلى تلاعبهم بالألفاظ.

٤٤

موجودا ، وهو عين النفى مع تغيير العبارة ؛ لكنهم تحذقوا (١) فسمّوا هذا النفى تنزيها ، وسموا مناقضه تشبيها ، حتى تميل القلوب إلى قبوله.

ثم قالوا : العالم قديم ، أى وجوده ليس مسبوقا بعدم زماني ؛ بل حدث من السابق : التالى وهو أول مبدع ، وحدث من المبدع الأول النفس الكلية الفاشية جزئياتها فى هذه الأبدان المركبة ، وتولد من حركة النفس الحرارة ، ومن سكونها البرودة ؛ ثم تولد منهما الرطوبة واليبوسة ؛ ثم تولدت من هذه الكيفيات الاستقصات الأربع وهى : النار والهواء والماء والأرض ؛ ثم إذا امتزجت على اعتدال ناقص حدثت منها المعادن ؛ فإن زاد قربها من الاعتدال وانهدم صرفية التضاد منها تولد منها النبات ، وإن زاد تولد الحيوان ، فإن ازداد قربا تولد الإنسان ، وهو منتهى الاعتدال.

فهذا ما حكى من مذهبهم إلى أمور أخر هى أفحش مما ذكرناه لم نر تسويد البياض بنقلها ولا تبيان وجه الرد عليها لمعنيين : (أحدهما) أن المنخدعين بخداعهم وزورهم والمتدلين بحبل غرورهم فى عصرنا هذا لم يسمعوا هذا منهم ، فينكرون جميع ذلك إذا حكى من مذهبهم ، ويحدثون فى أنفسهم أن هؤلاء إنما خالفوا لأنه ليس عندهم حقيقة مذهبنا ؛ ولو عرفوها لوافقونا عليها ، فنرى أن نشتغل بالرد عليهم فيما اتفقت كلمتهم وهو إبطال الرأى والدعوة إلى التعلم من الإمام المعصوم ، فهذه عمدة معتقدهم ، وزبدة مخضهم ، فلنصرف العناية إليه ، وما عداه فمن سقم إلى هذيان ظاهر البطلان ، وإلى كفر مسترق من الثنوية والمجوس فى القول بالإلهين ، مع تبديل عبارة : «النور والظلمة» ب «السابق والتالى» ؛ ـ إلى ضلال منتزع من كلام الفلاسفة فى قولهم إن المبدأ الأول علة لوجود العقل على سبيل اللزوم عنه ، لا على سبيل القصد والاختيار ؛ وإنه حصل من ذاته بغير واسطة سواه.

نعم! يثبتون موجودات قديمة يلزم بعضها عن بعض ، ويسمونها عقولا ، ويحيلون

__________________

(١) تحذقوا : مهروا ـ ولعلها : تحذلقوا.

٤٥

وجود كل فلك على عقل من تلك العقول ؛ فى خبط لهم طويل ، قد استقصينا وجه الرد عليهم فى ذلك فى فن الكلام (١) ، ولسنا نشتغل فى هذا الكتاب إلا بما يخص هذه الفرقة ، وهو إبطال الرأى وإثبات التعليم.

(الطرف الثانى) فى بيان معتقدهم فى النبوات

والمنقول عنهم قريب من مذهب الفلاسفة ، وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق ـ بواسطة التالى ـ قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش ـ عند الاتصال بالنفس الكلية ـ بما فيها من الجزئيات ، كما قد يتفق ذلك لبعض النفوس الزكية فى المنام حتى تشاهد من مجارى الأحوال فى المستقبل : إما صريحا بعينه ، أو مدرجا تحت مثال يناسبه مناسبة ما ؛ فتفتقر فيه إلى التعبير ؛ إلا أن النبي هو المستعد لذلك فى اليقظة ؛ فلذلك يدرك النبي الكليات العقلية عند شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية ، كما ينطبع مثال المحسوسات فى القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجرام السفلية.

وزعموا أن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه ، ورمز إليه ، لا أنه شخص متجسم متركب عن جسم لطيف أو كثيف يناسب المكان حتى ينتقل من علو إلى أسفل.

وأما القرآن فهو عندهم تعبير «محمد» عن المعارف التى فاضت عليه من العقل الّذي هو المراد باسم جبريل ؛ ويسمى «كلام الله» تعالى مجازا ، فإنه مركب من جهته ، وإنما الفائض عليه من الله بواسطة جبريل بسيط لا تركيب فيه وهو باطن لا ظهور له ؛ وكلام النبي وعبارته عنه ظاهر لا بطون له. وزعموا أن هذه القوة القدسية الفائضة على النبي لا تستكمل فى أول حلولها ، كما لا تستكمل النطفة الحالة فى الرحم إلا بعد تسعة أشهر فكذلك هذه القوة : كمالها فى أن تنتقل من الرسول الناطق إلى الأساس الصامت. وهكذا تنتقل إلى أشخاص بعضهم

__________________

(١) فن الكلام : علم الكلام. والملاحظ أن الإمام الغزالى يسير في الرد على دعاويهم ومفترياتهم بأسلوب المناطقة.

٤٦

بعد بعض فيكمل فى السابع ؛ كما سنحكى معنى قولهم فى : الناطق ، والأساس ، والصامت.

وهذه المذاهب أيضا مستخرجة من مذاهب الفلاسفة فى النبوات ، مع تحريف وتغيير. ولسنا نخوض فى الرد عليهم فيه ، فإن بعضها يمكن أن يتأول على وجه لا ننكره ، والقدر الّذي ننكره قد استقصينا وجه الرد فيه على الفلاسفة (١). ولسنا فى هذا الكتاب نقصد إلا الرد على نابغة الزمان فى خصوص مذهبهم الّذي انفردوا به عن غيرهم ، وهو إيجاب التعليم وإبطال الرأى.

(الطرف الثالث) بيان معتقدهم فى الإمامة

وقد اتفقوا على أنه لا بد فى كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه فى تأويل الظواهر وحل الإشكالات فى القرآن والأخبار والمعقولات ، واتفقوا على أنه المتصدى لهذا الأمر ، وأن ذلك جار فى نسبهم لا ينقطع أبد الدهر ، ولا يجوز أن ينقطع إذ يكون فيه إهمال الحق وتغطيته على الخلق وإبطال قوله عليه‌السلام! ـ [كل سبب ونسب ينقطع إلا سببى ونسبى] ، وقوله : [ألم أترك فيكم القرآن وعترتى؟!] ـ واتفقوا على أن الإمام يساوى النبي فى العصمة والاطلاع على حقائق الحق فى كل الأمور ، إلا أنه لا ينزل إليه الوحى ، وإنما يتلقى ذلك من النبي فإنه خليفته وبإزاء منزلته ، ولا يتصور فى زمان واحد إمامان ، كما لا يتصور نبيان تختلف شريعتهما ، نعم يستظهر الإمام بالحجج والمأذونين والأجنحة ، والحجج : هم الدعاة فقالوا لا بدّ للإمام فى كل وقت من اثنى عشر حجة ينتدبون فى الأقطار متفرقين فى الأمصار ، وليلازم أربعة من جملة الاثنى عشر حضرته فلا يفارقونه ؛ ولا بد لكل حجة من معاونين له على أمره ، فإنه لا ينفرد بالدعوة بنفسه ، واسم المعاون : «المأذون» عندهم ، ولا بد للدعاة من رسل إلى الإمام ، يرفعون إليه الأحوال ، ويصدرون عنه إليهم ، واسم الرسول : «الجناح» ، ولا بدّ للداعى من أن يكون بالغا

__________________

(١) فى كتابه : تهافت الفلاسفة.

٤٧

فى العلم ، والمأذون ـ وإن كان دونه ـ فلا بأس بعد أن يكون عالما على الجملة ؛ وكذلك الجناح.

ثم إنهم قالوا : كل نبى لشريعته مدة ، فإذا انصرمت مدته بعث الله نبيا آخر ينسخ شريعته ، ومدة شرعة كل نبى سبعة أعمار ، وهو سبعة قرون ؛ فأولهم هو النبي الناطق ، ومعنى الناطق أن شريعته ناسخة لما قبله ، ومعنى الصامت أن يكون قائما على ما أسسه غيره ، ثم إنه يقوم بعد وفاته ستة أئمة : إمام بعد إمام. فإذا انقضت أعمارهم ابتعث الله نبيا آخر ينسخ الشريعة المتقدمة ، وزعموا أن أمر آدم جرى على هذا المثال ، وهو أول نبى ابتعثه الله فى فتح باب الجسمانيات وحسم دور الروحانيات.

ولكل نبى سوس ، والسوس : هو الباب إلى علم النبي فى حياته والوصى بعد وفاته ، والإمام لمن هو فى زمانه ، كما قال عليه‌السلام ، [أنا مدينة العلم ، وعلى بابها]. وزعموا أن آدم كان سوسه شيث ، وهو الثانى ، ويسمى من بعده متما ولاحقا وإماما ، وإنما كان استتمام دور آدم سبعة ، لأن استتمام دور العالم العلوى بسبعة من النجوم ، ولما استتم دور آدم ابتعث الله نوحا ينسخ شريعته ، وكان سوسه : سام ، فلما استتم دوره بمضى ستة سواه وسبعة معه ابتعث الله إبراهيم ينسخ شريعته ، وكان سوسه : إسحاق. ومنهم من يقول : لا ، بل إسماعيل ، فلما استتم دوره بالسابع معه ابتعث الله موسى ينسخ شريعته ، وكان سوسه : هارون ، فمات هارون فى حياة موسى ، فصار سوسه يوشع بن (١) نون. فلما استتم دوره بالسابع معه ابتعث الله عيسى ينسخ شريعته ، وسوسه : شمعون ، ولما استتم دوره بالسابع ابتعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوسه : عليّ عليه‌السلام ، وقد استتم دوره بجعفر بن محمد ، فإن الثانى من الأئمة : الحسن بن على (٢) ، والثالث الحسين بن

__________________

(١) يوشع بن نون ؛ هو فتى موسى عليه‌السلام الّذي رافقه فى رحلته إلى التعرف على النبي الصالح الّذي آتاه الله من لدنه علما ؛ وجاءت قصته فى سورة الكهف.

(٢) الحسن بن على بن أبى طالب.

٤٨

على (١) ، والرابع على بن الحسين (٢) ، والخامس محمد بن على (٣) ، والسادس جعفر (٤) بن محمد عليه‌السلام ، وقد استتموا سبعة معه ، وصارت شريعته ناسخة.

وهكذا يدور الأمر أبد الدهر.

هذا ما نقل عنهم مع خرافات كثيرة أهملنا ذكرها ضنّة بالبياض أن يسود بها.

(الطرف الرابع) بيان مذهبهم فى القيامة والمعاد

وقد اتفقوا عن آخرهم على إنكار القيامة ، وأن هذا النظام المشاهد فى الدنيا ، من تعاقب الليل والنهار ، وحصول الإنسان من نطفة ، والنطفة من إنسان وتولد النبات ، وتولد الحيوانات لا يتصرم أبدا الدهر ، وأن السموات والأرض لا يتصور انعدام أجسامها وأولوا القيامة وقالوا إنها رمز إلى خروج الإمام وقيام قائم الزمان وهو السابع الناسخ للشرع المغير للأمر.

وربما قال بعضهم : إن للفلك أدوارا كلية ، تتبدل أحوال العالم تبدلا كليا بطوفان عام ، أو سبب من الأسباب ، فمعنى القيامة انقضاء دورنا الّذي نحن فيه ، وأما المعاد فأنكروا ما ورد به الأنبياء ، ولم يثبتوا الحشر والنشر للأجساد ، ولا الجنة والنار ولكن قالوا : معنى المعاد عود كل شيء إلى أصله ، والإنسان متركب من العالم الروحانى والجسمانى ، أما الجسمانى منه ، وهو جسده ، فمتركب من الأخلاط الأربعة : الصفراء والسوداء والبلغم والدم ، فينحل الجسد ويعود كل خلط إلى الطبيعة العالية ، أما الصفراء فتصير نارا ، وتصير السوداء ترابا ويصير الدم هواء ، ويصير البلغم ماء ، وذلك هو معاد الجسم ، وأما الروحانى ، وهو النفس المدركة العاقلة من الإنسان ، فإنها إن صفيت بالمواظبة على العبادات ، وزكيت بمجانبة الهوى والشهوات ، وغذيت بغذاء العلوم والمعارف

__________________

(١) الحسين بن على بن أبى طالب.

(٢) على بن الحسين ـ زين العابدين.

(٣) محمد الباقر ، بن على بن الحسين.

(٤) جعفر الصادق بن محمد الباقر ـ رضى الله عنهم.

٤٩

المتلقاة من الأئمة الهداة ، اتحدت عند مفارقة الجسم بالعالم الروحانى الّذي منه انفصالها وتسعد بالعود إلى وطنها الأصلي ، ولذلك سمى رجوعا فقيل : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٨] وهى الجنة ، وإليه وقع الرمز بقصة آدم وكونه فى الجنة ثم انفصاله عنها ونزولها إلى العالم السفلانى ثم عوده إليها بالآخرة.

وزعموا أن كمال النفس بموتها ، إذ به خلاصها من ضيق الجسد والعالم الجسمانى ، كما أن كمال النطفة فى الخلاص من ظلمات الرحم والخروج إلى فضاء العالم ، والإنسان كالنطفة ، والعالم كالرحم ، والمعرفة كالغذاء. فإذا نفذت فيه صارت بالحقيقة كاملة وتخلصت ، فإذا استعدت لفيض العلوم الروحانية ، باكتساب العلوم من الأئمة وسلوك طرقها المفيدة بإرشادهم استكملت عند مفارقة الجسد ، وظهر لها ما لم يظهر. ولذلك قال عليه‌السلام : [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] (١).

وكلما ازدادت النفس عن عالم الحسيات بعدا ازدادت للعلوم الروحانية استعدادا ، وكذلك إذا ركدت الحواس بالنوم اطلعت على عالم الغيب ، واستشعرت ما سيظهر فى المستقبل : إما بعينه ، فيغنى عن المعبر ، أو بمثال فيحتاج إلى التعبير ، فالنوم أخو الموت ، وفيه يظهر علم ما لم يكن فى اليقظة ؛ فكذا بالموت تنكشف أمور لم تخطر على قلب بشر فى الحياة ، وهذا للنفوس التى قدستها الرياضة العملية والعلمية ، فأما النفوس المنكوسة المغمورة فى عالم الطبيعة المعرضة عن رشدها من الأئمة المعصومين فإنها تبقى أبد الدهر فى النار ، على معنى أنها تبقى فى العالم الجسمانى تتناسخها الأبدان (٢) ، فلا تزال تتعرض فيها

__________________

(١) الحديث رواه البخارى ومسلم ، وبصيغ مختلفة.

(٢) التناسخ أو التقمص ، مذهب فلسفى قديم ، قال به الهنود والصينيون ؛ ودرج عليه بعض دعاة الباطنية من الإسماعيلية وغيرهم. فالذى يتحلل من الجسم الإنسانى ماديته الترابية ، أما الروح فإنها تنتقل إلى ذات أخرى.

٥٠

للألم والأسقام فلا تفارق جسدا إلا ويتلقاها آخر ، ولذلك قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦] فهذا مذهبهم فى المعاد ، وهو بعينه مذهب الفلاسفة ، وإنما شاع فيهم لما انتدب لنصرة مذهبهم جماعة من الثنوية والفلاسفة ، فكل واحد نصر مذهبهم طمعا فى أموالهم وخلعهم ، واستظهارا بأتباعهم لما كان قد ألفه فى مذهبه ، فصار أكثر مذهبهم موافقا للثنوية والفلاسفة فى الباطن ، وللروافض والشيعة فى الظاهر. وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة من نفوس الخلق حتى تبطل به الرغبة والرهبة ، ثم ما أوهموه وهذوا به لا يفهم فى نفسه ، ولا يؤثر فى ترغيب وترهيب ، وسنشير إلى كلام وجيز فى الرد عليهم فى هذا الفن وأخباره فى آخر الفصل.

(الطرف الخامس) فى اعتقادهم فى التكاليف الشرعية

والمنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع ، إلا أنهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم ، وإنما الّذي يصح من معتقدهم فيه أنهم يقولون : لا بدّ من الانقياد للشرع فى تكاليفه ، على التفصيل الّذي يفصله الإمام ، من غير متابعة الشافعى وأبى حنيفة وغيرهما ، وإن ذلك واجب على الخلق والمستجيبين إلى أن ينالوا رتبة الكمال فى العلوم ، فإذا أحاطوا من جهة الإمام بحقائق الأمور ، واطلعوا على بواطن هذه الظواهر انحلت عنهم هذه القيود ، وانحطت عنهم التكاليف العملية ، فإن المقصود من أعمال الجوارح تنبيه القلب لينهض لطلب العلم ، فإذا ناله استعد للسعادة القصوى ، فيسقط عنه تكليف الجوارح ، وإنما تكليف الجوارح فى حق من يجرى بجهله مجرى الحمر التى لا يمكن رياضتها إلا بالأعمال الشاقة ، وأما الأذكياء والمدركون للحقائق فدرجتهم أرفع من ذلك ، وهذا فن من الإغواء شديد على الأذكياء ، وغرضهم هدم قوانين الشرع ، ولكن يخادعون كل ضعيف بطريق يغويه ويليق به ، وهذا من الإضلال البارد ، وهو فى حكم ضرب المثال كقول القائل : إن الاحتماء عن الأطعمة المضرة إنما يجب على من فسد

٥١

مزاجه ، فأما من اكتسب اعتدال المزاج فليواظب على أكل ما شاء أيّ وقت شاء ، فلا يلبث المصغى إلى هذا الضلال أن يمعن فى المطعومات المضرة إلى أن تتداعى به إلى الهلاك.

فإن قيل : قد نقلتم مذاهبهم ، وما ذكرتم وجه الإبطال ـ فما السبب فيه؟ ـ قلنا : إن ما نقلناه عنهم ينقسم إلى أمور يمكن تنزيلها على وجه لا ننكره ، وإلى ما يتعين من الشرع إنكاره ، والمنكر هو مذهب الثنوية والفلاسفة. والرد عليهم فيه يطول ، فليس ذلك من خصائص مذهب هؤلاء حتى نتشاغل به ، وإنما نرد عليهم فى خصوص مذهبهم : من إبطال الرأى ، وإثبات التعليم من الإمام المعصوم. ولكنا مع ذلك نذكر مسلكا واحدا هو على التحقيق قاصم الظهر ، نعنى فى إبطال مذهبهم فى جميع ما سنحكى عنهم وحكيناه. وهو أنا نقول لهم فى جميع دعاويهم التى تميزوا بها عنا كإنكار القيامة وقدم العالم وإنكار بعث الأجساد وإنكار الجنة والنار ، على ما دل عليه القرآن مع غاية الشرح فى وصفها : من أين عرفتم ما ذكرتموه؟ أعن ضرورة ، أو عن نظر ، أو عن نقل عن الإمام المعصوم وسماع؟ فإن عرفتموه ضرورة ، فكيف خالفكم فيه ذوو العقول السليمة؟ لأن معنى كون الشيء ضروريا مستغنيا عن التأمل اشتراك كافة العقلاء فى دركه ، ولو ساغ أن يهذى الإنسان بدعوى الضرورة فى كل ما يهواه لجاز لخصومهم دعوى الضرورة فى نقيض ما ادعوه ، وعند ذلك لا يجدون مخلصا بحال من الأحوال. وإن زعموا : أنا عرفنا ذلك بالنظر ، فهو باطل من وجهين : أحدهما أن النظر عندهم باطل ، فإنه تصرف بالعقل لا بالتعليم ، وقضايا العقول متعارضة ، وهى غير موثوق بها ؛ ولذلك أبطلوا الرأى بالكلية ـ ولم نصنف هذا الكتاب قصدا لإبطال هذا المذهب ـ فكيف يمكن ذلك منهم! الثانى أن يقال للفلاسفة والمعترفين بمسالك النظر : بم عرفتم عجز الصانع عن خلق الجنة والنار وبعث الأجساد كما ورد به الشرع؟ وهل معكم إلا استبعاد محض ، لو عرض مثله على من لم يشاهد النشأة الأولى لاستبعده وعرض له ذلك الإنكار؟ فالرد عليهم بالحجة المنطوية تحت قوله تعالى :

٥٢

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩]. ومن تأمل عجائب الصنع فى خلق الأدمى من نطفة قذرة لم يستبعد من قدرة الله شيئا وعرف أن الإعادة أهون من الابتداء (١).

فإن قيل : الإعادة غير معقولة ، والابتداء معقول ، إذ ما عدم كيف يعود؟ ـ قلنا : لنفهم الابتداء حتى نبنى عليه الإعادة ، ورأى المتكلمين فيه أن الابتداء يخلق الحياة فى جسم من الأجسام ، مع أن الحياة عرض يتجدد ساعة فساعة بخلق الله تعالى ؛ فلا يستحيل ـ على أصلهم ـ الإمساك عن خلق الحياة مدة فى الجسم ثم يعود إلى خلق الحياة كما لا يستحيل خلق الحركة بعد السكون والسواد بعد البياض ، ورأى الفلاسفة أن قوام الحياة استعداد جسم مخصوص ـ بنوع من الاعتدال ـ إلى الانفعال عن النفس التى هى جوهر قائم بنفسه غير متحيز ولا متجسم ولا هو منطبع فى جسم لا علاقة بينه وبين الجسم إلا بالفعل فيه ، ولا علاقة بين الجسم وبينه إلا بالانفعال عنه ، ومعنى الموت : انقطاع هذه العلاقة الفعلية ببطلان استعداد الجسم ، فإنه لا يستعد للانفعال إلا إذا كان على مزاج مخصوص ، كما لا يستعد الحديد لانطباع الصورة المحسوسة فيه أو انعكاس الأشعة عنه إلا إذا كان على هيئة مخصوصة ؛ فإذا بطلت تلك الهيئة لم ينفعل الحديد عن الصورة المحاذية له ولم ينطبع فيه ، فإذا كان هذا مذهبهم ، فالقادر على إحداث العلاقة بين نفس ، لا تتجسم ولا تختص بمكان ولا توصف بأنها متصلة بالجسم ولا بأنها منفصلة عنه ، وبين الجسم الّذي لا تناسبه بحقيقتها ولا تتصل به اتصالا محسوسا ـ كيف يعجز عن إعادة تلك العلاقة! والعجب أن أكثرهم جوزوا إثبات تلك العلاقة مع جسد آخر ، على طريق التناسخ ، فلم لا يجوز عودها إلى جسدها؟! فإن الجسد الّذي فسد مزاجه لأبعد فى أن يصلح مزاجه وتعاد تلك العلاقة إليه ، فيكون ذلك هو المراد بالإعادة ، ويضاهى التيقظ بعد المنام فإنه يعيد حركة الحواس وتذكر الأمور السالفة.

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة الروم (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [آية : ٢٧].

٥٣

فإن قيل : المزاج إذا فسد لا يعود معتدلا إلّا بأن تنحل أجزاء الجسم إلى العناصر ثم تتركب ثانيا ، ثم يصير حيوانا ، ثم يصير نطفة .. فهذا الاعتدال للنطفة على الخصوص. قلنا : ومن أين عرفتم أنه ليس فى مقدور الله جبر الخلل الواقع بطريق سوى هذا الطريق؟ ومن أين عرفتم أن هذا الّذي ذكرتموه طريق؟ فهل لكم مستند سوى مشاهدة الأحوال؟ وهل لكم فى إبطال غيره مستند سوى عدم المشاهدة؟! ولو لم تشاهدوا خلق الإنسان من نطفة لنفرت عقولكم عن التصديق به ففى الأسباب المغيرة لأحوال الأجسام عجائب يستنكرها من لا يشاهدها ، فمن منكر ينكر الخواص ، وآخر ينكر السحر ، وآخر ينكر المعجزة ، وآخر ينكر الإخبار عن الغيب ، وكل يعوّل فى إقراره على قدر مشاهدته ، لا على طريق معقول فى إثبات الاستحالة ، ثم من لم يشاهده ويستيقنه ينبئ أن نفرة طبعه عن التصديق كان لعدم المشاهدة ، وفى مقدورات الله عجائب لم يطلع عليها بشر ، فلم يستحل أن يكون لإعادة تلك الأجسام وإعادة مزاجها سبب عند الله ينفرد بمعرفته. وإذا أعاده عادت النفس متصرفة فيه كما كان بزعمهم فى الحياة.

والعجب ممن يدعى الحذق فى المعقولات ، ثم يشاهد ما فى العالم من العجائب والآيات ، ثم تضيق حوصلته عن قبول ذلك فى قدرة الله ؛ وإذا نسب ما لم يشاهده إلى ما شاهده لم ير أعجب منه. نعم! لو قال القائل : هذا أمر لا يدل العقل على إحالته (١) ، ولكن لا يدل أيضا على جوازه ، بل يتوقف عن الحكم فيه ، ويجوز أن يكون ثم محيل لا يطلع عليه أو مجوز لا يطلع عليه ، فهذا أقرب من الأول ، ويلزم بحكمه تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أخبر عنه ، فإنه أخبر عما لا يستحيل فى العقل وجوده.

وعلى الجملة فقد اشتمل على أطوار الخلق ودرجاته قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا

__________________

(١) إحالته أى : استحالته.

٥٤

الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ...) إلى قوله (... تُبْعَثُونَ) (١) فأطبق الخلق على التصديق بجملة المقدمات إلا البعث لأنهم شاهدوا جميع ذلك سوى البعث. ولو لم يشاهدوا قط موتا لأنكروا إمكان الموت ؛ ولو لم يشاهدوا خلق آدمى من نطفة لأنكروا إمكانه. فالبعث مع ما قبله فى ميزان العقل على وتيرة واحدة ، فلنصدق الأنبياء فيما جاءوا به ، فإنه لا يمتنع. وهذا كله كلام مع الفلاسفة النظار ، أما الباطنية المنكرون للنظر فلا يمكنهم التمسك بالنظر. نعم! لو قال الباطنى أخبرنى الإمام المعصوم أن البعث مستحيل فصدّقته. قيل له : وما الّذي دعاك إلى تصديق الإمام ، المعصوم بزعمك ، ولا معجزة له ، وصرفك عن تصديق محمد بن عبد الله مع المعجزات ، والقرآن من أوله إلى آخره دال على جواز ذلك ووقوعه؟ فهل لك من مانع سوى أن عصمته علمت بمعجزته ، وعصمة من يدعيه علمت بهذيانك وشهوتك؟! فإن قال : إن ما فى القرآن ظواهر هى رموز إلى بواطن لم يفهموها ، وقد فهمها الإمام المعصوم فتعلمنا منه. قلنا : تعلمتم منه بمشاهدة ذلك فى قلبه بالعين ، أو سماعا من لفظه ، ولا يمكن دعوى المشاهدة ، ولا بد من الاستناد إلى سماع لفظه؟ قلنا : وما يؤمنك أن لفظه له باطن لم تطّلع عليه فلا تثق بما فهمته من ظاهر لفظه؟ فإن زعمت أنه صرّح معك وقال : ما ذكرته هو ظاهر لا رمز فيه ، والمراد ظاهره ـ قلنا : وبم عرفت أن قوله هذا ـ وهو : أنه ظاهر لا رمز فيه ـ أيضا ظاهر وفيه رمز إلى ما لم تطلع عليه؟ فلا يزال يصرّح بلفظه. ونحن نقول : لسنا ممن يغتر بالظواهر ، فلعل تحته رمزا. وإن أنكر الباطن فنقول : تحت إنكاره رمز ؛ وإن حلف بالطلاق الثلاث على أنه ما قصد إلا الظاهر فنقول : فى طلاقه رمز ؛ وإنما هو مظهر شيئا ومضمر غيره. فإن قلت : فذلك يؤدى إلى حسم باب التفهيم ـ قلنا : فأنتم حسمتم باب التفهيم على الرسول ، فإن ثلثي القرآن فى وصف الجنة والنار ،

__________________

(١) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٣ ـ ١٦].

٥٥

والحشر والنشر مؤكد بالقسم والأيمان ، وأنتم تقولون : لعل تحت ذلك رمزا ، وأنتم تقولون : وأى فرق بين أن يطول فى تفهم الأمور التطويل الّذي عرف فى القرآن والأخبار وبين أن تقول : ما أريد إلا الظاهر؟ فإن جاز عليه أن يفهم الظاهر ويكون مراده غير ما علم قطعا أنه ما وصل إلى أفهام الخلق ويكون كاذبا فى جميع ما قال لأجل مصلحة وسر فيه جاز أن يكون إمامكم المعصوم بزعمكم يضمر معكم خلاف ما يظهره وضدّ ما يفهمه ونقيض ما يتيقن أنه الواصل إلى أفهامكم ، ويؤكد ذلك بالأيمان المغلظة لمصلحة له وسرّ فيه؟ وهذا لا جواب عنه أبد الدهر. وعند هذا ينبغى أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال ، إذ لا نجد فرقة ينقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه ، إذ مذهبها إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعاتها بدعوى الرموز. وكل ما يتصور أن ينطلق به لسانهم إما نظر أو نقل. أما النظر فقد أبطلوه ، وأما اللفظ فقد جوز أن يراد باللفظ غير موضوعة فلا يبقى لهم معتصم. فإن قيل : فهذا ينقلب عليكم ، فأنتم تجوزون أيضا تأويل الظواهر ، كما أولتم آية الاستواء وخبر النزول وغيرهما ـ قلنا : ما أبعد هذا القلب (١)! فإن لنا معيار فى التأويل ، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك بشرط أن يكون اللفظ مناسبا له بطريق التجوز والاستعارة. فقد دل الدليل على بطلان الاستواء والنزول فإن ذلك من صفات الحوادث ، فحمل على الاستيلاء وهو مناسب للغة. وأما الحشر والنشر والجنة والنار فليس فى العقل دليل على إبطاله ، ولا مناسبة بين الألفاظ الواردة فيه وبين المعنى الّذي أولوه عليه حتى يقال إنه المراد ، بل التأويل فيه تكذيب محض. فأى مناسبة بين قوله : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية : ١٢ ـ ١٦] وقوله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) ...) إلى قوله : (... لا مَقْطُوعَةٍ

__________________

(١) القلب : العكس ؛ رأسا على عقب.

٥٦

وَلا مَمْنُوعَةٍ) وبين ما اعتقدوه من اتصال الجواهر الروحانية بالأمور الروحانية العقلية التى لا مدخل فيها للمحسوسات؟! فإن جاز أن يكذب صاحب المعجزة بهذه التأويلات التى لم تخطر قط ببال من سمعها ، فلم لا يجوز تكذيب معصومكم الّذي لا معجزة له بتأويله على أمور ليس تخطر ببالهم لمصلحة أو لمسيس حاجة؟ فإن غاية لفظه التصريح والقسم ، وهذه الألفاظ فى القرآن صريحة ومؤيدة بالقسم ، وزعموا أن ذلك ذكر لمصلحة ، والمراد غير ما سبق إلى الأفهام منها ، وهذا لا مخلص عنه.

٥٧
٥٨

الباب الخامس

فى إفساد تأويلاتهم للظواهر الجلية واستدلالاتهم

بالأمور العددية وفيه فصلان

الفصل الأول

فى تأويلاتهم للظواهر

والقول الوجيز فيه أنهم لما عجزوا عن صرف الخلق عن القرآن والسنة صرفوهم عن المراد بهما إلى مخاريق (١) زخرفوها واستفادوا بما انتزعوه من نفوسهم من مقتضى الألفاظ إبطال معانى الشرع ، وبما زخرفوه من التأويلات تنفيذ انقيادهم للمبايعة والموالاة ، وأنهم لو صرحوا بالنفى المحض والتكذيب المجرد لم يحظوا بموالاة الموالين ، وكانوا أول المقصودين المقتولين.

ونحن نحكى من تأويلاتهم نبذة لنستدل بها على مخازيهم فقد قالوا : كل ما ورد من الظواهر فى التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فكلها أمثلة ورموز إلى بواطن ؛ أما الشرعيات ، فمعنى الجنابة عندهم مبادرة المستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة استحقاقه ، ومعنى الغسل : تجديد العهد على من فعل ذلك. ومجامعة البهيمة معناها عندهم معالجة من لا عهد عليه ولم يؤد شيئا من صدقة النجوى ، وهى مائة وتسعة عشر درهما عندهم ، فلذلك أوجب الشرع القتل على الفاعل والمفعول به ، وإلا فالبهيمة متى وجب القتل عليها! والزنى هو إلقاء نطفة العلم الباطن فى نفس من لم يسبق معه عقد العهد (٢). (و) (٣) الاحتلام : هو أن يسبق لسانه

__________________

(١) مخاريق : أكاذيب ومفتريات. والتخرق لغة فى التخلق من الكذب (مختار الصحاح).

(٢) هو ما يعبر به عندهم بالنكاح الروحى.

(٣) الواو بين الأقواس ناقصة فى الأصل.

٥٩

إلى إفشاء السر فى غير محله ، فعليه الغسل ، أى : تجديد المعاهدة. (و) الطهور هو التبرى والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى مبايعة الإمام. (و) الصيام : هو الإمساك عن كشف السر. (و) الكعبة هى النبي ، والباب على ؛ (و) الصفا : هو النبي ، والمروة : على ؛ والميقات : هو الأساس ؛ والتلبية : إجابة الداعى ؛ والطواف بالبيت سبعا هو الطواف بمحمد إلى تمام الأئمة السبعة ؛ والصلوات الخمس : أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام ؛ فالفجر : دليل السابق ، والظهر : دليل التالى ، والعصر : للأساس ، والمغرب : دليل الناطق ، والعشاء : دليل الإمام. وكذلك زعموا أن المحرمات عبارة عن ذوى الشر من الرجال وقد تعبدنا باجتنابهم ، كما أن العبادات عبارة عن الأخيار الأبرار الذين أمرنا باتباعهم.

فأما المعاد فزعم بعضهم أن النار والأغلال عبارة عن الأوامر التى هى التكاليف فإنها موظفة على الجهال (١) بعلم البواطن ، فما داموا مستمرين عليها فهم معذبون ؛ فإذا نالوا علم الباطن وضعت عنهم أغلال التكاليف وسعدوا بالخلاص عنها. وأخذوا يؤولون كل لفظ ورد فى القرآن والسنة فقالوا : (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ) [محمد : ١٥] ـ أى معادن الدين : العلم الباطن يرتضع بها أهلها ويتغذى بها تغذيا تدوم به حياته اللطيفة ، فإن غذاء الروح اللطيفة بارتضاع العلم من المعلم كما أن حياة الجسم الكثيف بارتضاع اللبن من ثدى الأم ، (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) [محمد : ١٥] : هو العلم الظاهر ، و (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥] هو علم الباطن المأخوذ من الحجج والأئمة.

أما المعجزات فقد أولوا جميعها وقالوا : الطوفان معناه طوفان العلم ، أغرق به المتمسكون بالسنة ؛ والسفينة : حرزه الّذي تحصن به من استجاب لدعوته ؛ ونار إبراهيم : عبارة عن غضب نمرود ، لا عن النار الحقيقية ؛ وذبح إسحاق (٢) : معناه

__________________

(١) مقابل العقال : وهذا مفهوم بعض مذاهب الباطنية (الدروز).

(٢) الأصح : إسماعيل.

٦٠