تفسير التّستري

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري

تفسير التّستري

المؤلف:

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري


المحقق: محمد باسل عيون السود
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3631-3
الصفحات: ٢٣٩

السورة التي يذكر فيها يوسف عليه‌السلام

قوله تعالى : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [٦] يعني بتصديق الرؤيا التي رأيتها لنفسك.

قوله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [١٨] قال : الصبر مع الرضا. قيل : ما علامته؟ قال : أن لا يجزع فيه. فسئل : بأي شيء يحصل التجمل بالصبر؟ قال : بالمعرفة بأن الله تعالى معك ، وبراحة العافية ، فإنما مثل الصبر مثل قدح أعلاه الصبر وأسفله العسل. ثم قال : عجبت ممن لم يصبروا كيف لم يصبروا للحال ، ورب العزة يقول : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٣].

قوله تعالى : (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) [٢١] يعني عسى أن يكون شفيعنا في الآخرة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [٢٤] يعني همّ بنفسه الطبيعية إلى الميل إليها ، وهمّ بنفس التوفيق والعصمة الفرار منها ومخالفتها. ومعناه أنه عصمه ربه ، ولو لا عصمة ربه لهمّ بها ميلا إلى ما دعته نفسه إليه ، وعصمه ما عاين من برهان ربه عزوجل ، هو أنه جاءه جبريل صلوات الله عليه في سورة يعقوب عليه‌السلام عاضا إصبعه ، فولى عند ذلك نحو الباب مستغفرا.

قوله تعالى : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) [٤٢] قال : حكي أن جبريل صلوات الله عليه دخل على يوسف في السجن ، فقال له جبريل : يا طاهر ابن طاهر ، إن الله تعالى أكرمني بك وبآبائك ، وهو يقول لك : يا يوسف ، أما استحييت مني حيث استشفعت إلى غيري ، فوعزتي لألبثنك بضع سنين. قال : يا جبريل ، هو عني راض؟ قال : نعم. قال : إذن لا أبالي. وكان علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يقول : ما أنا ونفسي إلا كراعي غنم ، كلما ضمها من جانب انتشرت من جانب.

قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [٥٣] قال : إن النفس الأمارة هي الشهوة ، وهي موضع الطبع ، (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [٥٣] موضع العصمة ، والنفس

٨١

المطمئنة هي نفس المعرفة ، وأن الله تعالى خلق النفس وجعل طبعها الجهل ، وجعل الهوى أقرب الأشياء إليها ، وجعل الهوى الباب الذي منه تدخل هلاك الخلق. فسئل سهل عن معنى الطبع ، وعما يوجب العصمة عنه. فقال : طبع الخلق على أربع طبائع : أولها طبع البهائم البطن والفرج والثاني طبع الشياطين اللعب واللهو ، والثالث طبع السحرة المكر والخداع ، والرابع طبع الأبالسة الإباء والاستكبار. فالعصمة من طبع البهائم الإيمان ، والسلامة من طبع الشياطين التسبيح والتقديس وهو طبع الملائكة ، والسلامة من طبع السحرة الصدق والنصيحة والإنصاف والتفضل ، والسلامة من طبع الأبالسة الالتجاء إلى الله تعالى بالتضرع والصراخ ، وطبع العقل العلم ، وطبع النفس الجهل ، وطبع الطبع الدعوى (١).

قوله تعالى : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) [٣٦] قال : إنما قال الله تعالى : «فتيان» لأنهما لم يتجاوز واحدهما في الدعوى ، ورجعا في كل ما كان لهما إلى صاحبهما ، فسماهما فتيان. قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [٥٢] قال : لم أنقض له عهدا ، ولم أكشف له سترا.

قوله تعالى : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) [٦٧] فسئل ما حقيقة التوكل؟ قال : الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد. فقيل : ما حق التوكل؟ فقال : أوله العلم وحقيقته العمل ، ثم قال : إن المتوكل إذا كان على الحقيقة لا يأكل طعاما ، وهو يعلم أن غيره أحق منه.

قوله تعالى : (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) [٨٨] يعني يا أيها الملك العظيم ، وباطنها يا أيها المغلوب في نفسه ، كما قال الله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [ص : ٢٣] أي غلبني فيه.

قوله تعالى : (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) [٨٥] قال : حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال : الحرض هو البلاء لتألم القلب. وقال ابن عباس رضي الله عنه : الحرض دون الموت. وقال سهل : أي فاسد الجسم والعمل من الحزن. وإنما كان حزنه على دين يوسف ، لا على نفسه ، لأنه علم أنه لو مات على دينه اجتمع معه في الآخرة الباقية ، وإذا تغير دينه لم يجتمعا أبدا. وقد حكي عن سفيان أنه قال : إن يعقوب عليه‌السلام لما جاءه البشير قال له يعقوب : على أي دين تركت يوسف؟ فقال : على دين الإسلام. قال : الآن تمت النعمة.

قوله تعالى : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [٨٦] يعني همي وحزني. قال سهل : لم يكن حزن يعقوب على يوسف ، إنما كان مكاشفا لما وجد من قلبه الوجد على مفارقة يوسف

__________________

(١) الحلية ١٠ / ٢٠٦.

٨٢

فقال : كيف يكون وجد فراق الحق عزوجل. وقد عمل بمفارقة مخلوق كل هذا ، فشكى بثه وحزنه إلى الله تعالى لا إلى غيره.

قوله تعالى : (قالَ كَبِيرُهُمْ) [٨٠] أي في العقل لا في السن.

قوله تعالى : (لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) [٨٧] قال سهل : أفضل الخدمة وأعلاها انتظار الفرج من الله تعالى ، كما حكي عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «انتظار الفرج بالصبر عبادة» (١) وانتظار الفرج على وجهين : أحدهما قريب ، والآخر بعيد ؛ فالقريب في السر فيما بين العبد وربه ، والبعيد في الخلق ؛ فينظر إلى البعيد فيحجب عن القريب.

قوله تعالى : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [١٠١] قال سهل : فيه ثلاثة أشياء ، سؤال ضرورة وإظهار فقر واختيار فرض ، ومعناه : أمتني وأنا مسلم إليك أمري ، مفوض إليك شأني ، لا يكون لي إلى نفسي رجوع بحال ولا تدبير بسبب من الأسباب.

قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [١٠٦] قال : يعني شرك النفس الأمارة بالسوء كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا» (٢) ، هذا باطن الآية ، وأما ظاهرها مشركو العرب يؤمنون بالله ، كما قال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] وهم مع ذلك مشركون يؤمنون ببعض الرسل ولا يؤمنون ببعضهم.

قوله تعالى : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) [١٠٨] أي أبلغ الرسالة ولا أملك الهداية ، وإنما الهداية إليك. وقد سئل سهل عن قوله عليه‌السلام : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» (٣) ، فقال : أي من جد في الطلب ، وكان منك المنع ، لم ينفعه جده في الطلب. وقال : إن الخلق لم يكشف لهم سر ، ولو كشف لهم لأبصروا ، ولم يشاهدوا وإن شاهدوا تم الأمر ، وهذا شيء عظيم. ثم قال : أهل لا إله إلا الله كثير ، والمخلصون منهم قليل ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) شعب الإيمان ٧ / ٢٠٤ ؛ ومسند الشهاب ١ / ٦٢ ؛ وفيض القدير ٣ / ٥٢ ، وفيه الشرح الآتي : (أي إذا حل بعبد بلاء ، فترك الجزع والهلع ، وصبر على مر القضاء ، فذلك منه عبادة يثاب عليها ، لما فيه من الانقياد للقضاء).

(٢) المستدرك على الصحيحين ٢ / ٣١٩ ؛ ونوادر الأصول ٤ / ١٤٧ ؛ والترغيب والترهيب ٤ / ١٦ ، وسيعاد في تفسير سورة : المنافقون.

(٣) صحيح البخاري : صفة الصلاة رقم ٨٠٨ ؛ وصحيح مسلم : المساجد ومواضع الصلاة رقم ٥٩٣.

٨٣

السورة التي يذكر فيها الرعد

قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [١١] يعني ملائكة الليل والنهار يعقب بعضهم بعضا (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [١١] مقاديره على عبده من خير وشر ، ويشهدون له بالوفاء ، وعليه بالجفاء يوم القيامة.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) [١٢] قال : روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الرعد ملك ، وهو الذي تسمعون صوته ، والبرق سوط من نور يزجر به الملك السحاب (١) ، وكذا قال مجاهد (٢). وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : البرق مخاريق الملائكة ، والرعد صوت ملك (٣). وقال قتادة : الرعد صوت السحاب.

قوله تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [١٣] فأفرد الملائكة ذكرا. وقال عكرمة (٤) : الرعد ملك موكل بسحاب يسوقه ، كما يسوق راعي الإبل إبله. وحكى كعب (٥) عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله ينشئ السحاب فينطق بأحسن النطق ويضحك بأحسن الضحك فمنطقه الرعد ومضحكه البرق» (٦) قاله أبو بكر

__________________

(١) سنن البيهقي الكبرى : باب ما جاء في الرعد ، ٣ / ٣٦٣ (رقم ٧٢٦٧).

(٢) في المصدر السابق (أن مجاهدا كان يقول : الرعد ملك ، والبرق أجنحة الملك ، يسقن السحاب) ؛ وفي التاريخ الكبير ٢ / ١٠٤ أنه قال : (البرق مخاريق من نار).

(٣) في المصدر السابق أنه قال : (الرعد ملك ، والبرق مخراق من حديد).

(٤) عكرمة بن عبد الله البربري المدني ، مولى ابن عباس (٢٥ ـ ١٠٥ ه‍) : تابعي ، كان من أعلم الناس بالتفسير والمغازي. روى عنه زهاء ثلاثمائة رجل. (الحلية ٣ / ٣٢٦).

(٥) كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري (... ـ ٣٢ ه‍) : تابعي. كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن ، وأسلم في زمن أبي بكر. أخذ عنه الصحابة وغيرهم كثيرا من أخبار الأمم الغابرة ، وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة. (الحلية ٥ / ٣٦٤ ، ٦ / ٣).

(٦) مسند أحمد ٥ / ٤٣٥ ؛ والفردوس بمأثور الخطاب ٥ / ٢٦٥ (رقم ٨١٣٩).

٨٤

فقلت له : ما تقول أنت؟ وكان في يوم وابل وصوت رعد شديد ، فقال : هذا خبر رضا الله عزوجل ، فكيف خبر غضبه ، نعوذ بالله من غضبه.

قوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [٢٨] قال : الذكر من العلم السكون ، والذكر من العقل الطمأنينة. قيل : وكيف ذاك؟ قال : إذا كان العبد في طاعة الله فهو الذاكر ، فإذا خطر بباله شيء فهو القاطع ، وإذا كان في فعل نفسه فحضر بقلبه ما يدله على الذكر والطاعة فهو موضع العقل. ثم قال : كل من ادعى الذكر فهو على وجهين : قوم لم يفارقهم خوف الله عزوجل ، مع ما وجدوا في قلوبهم من الحب والنشاط ، فهم على حقيقة من الذكر ، وهم لله والآخرة والعلم والسنة. وقوم ادعوا النشاط والفرح والسرور في جميع الأحوال ، فهم للعدو والدنيا والجهل والبدعة ، وهم شر الخلق.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) [٣٦] سئل سهل : متى يصح للعبد مقام العبودية؟ قال : إذا ترك تدبيره ورضي بتدبير الله تعالى فيه.

قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [٣٩] قال : يمحو الله ما يشاء من الأسباب ، ويثبت الأقدار ، وعنده أم الكتاب. قال : القضاء المبرم الذي لا زيادة فيه ولا نقصان.

قوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [٤٣] قال سهل : الكتاب عزيز ، وعلم الكتاب أعز ، والعمل به أعز ، والعمل عزيز ، والإخلاص في العمل أعز ، والإخلاص عزيز ، والمشاهدة في الإخلاص أعز ، والمرافقة عزيزة ، والأنس في المرافقة أعز ، والأنس عزيز ، وآداب محل الأنس أعز ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٨٥

السورة التي يذكر فيها إبراهيم عليه‌السلام

قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [٧] قال : شكر العلم العمل ، وشكر العمل زيادة العلم ، فهو أبدا في هذا ، وهذه حاله. وقال : الشكر أن تريد المزيد ، وإلا شكر مطعون. قال : وحقيقة العجز الاعتراف به. وقد حكي أن داود عليه‌السلام قال : يا رب كيف أشكرك ، وشكري إياك تجديد منّة منك عليّ؟ قال الله تعالى : الآن شكرتني (١).

قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ) [١١] يعني بتلاوة كتابه والفهم فيه.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) [١٩] قال : خلق الأشياء كلها بقدرته ، وزينها بعلمه ، وحكمها بحكمته ؛ فالناظر من الخلق إلى الخالق تبين له عجائب الخلقة ، والناظر من الخالق إلى الخلق يكشف له عن آثار قدرته وأنوار حكمته وبليغ صنعته.

قوله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) [٢٥] قال : كان ابن المسيب يقول : الحين ستة أشهر ، وقد سأله رجل فقال : إني حلفت أن لا تدخل امرأتي على أهلها حينا ، فما الحين؟ قال سعيد : الحين من حين أن تطلع النخلة إلى أن ترطب ، ومن أن ترطب إلى أن تطلع. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كل حين أراد به غدوة وعشية (٢) ، وهو على طريق سهل بن عبد الله ، فإنه قال : هذا مثل ضربه الله لأهل المعرفة في الله عليهم من إقامة فروضه بالليل والنهار.

وسئل سهل عن معنى قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [٢٤] قال : حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه وهم يذكرون الشجرة الطيبة فقال : «ذلك المؤمن أصله في الأرض وفرعه في السماء» ، يعني عمله مرفوع إلى السماء مقبول. فهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فقال :

__________________

(١) الحلية ٦ / ٥٦ ؛ وشعب الإيمان ٤ / ١٠١ (رقم ٤ / ٤٤ ـ ٤٤١٥) ؛ وجامع العلوم والحكم ١ / ٢٤٤.

(٢) في تفسير ابن كثير ٢ / ٥٥٠ : (تؤتي أكلها كل حين ، قيل : غدوة وعشيا ، وقيل : كل شهر ، وقيل : كل شهرين ، وقيل : كل ستة أشهر ، وقيل : كل سبعة أشهر ، وقيل : كل سنة). وفي عمدة الحفاظ ١ / ٤٧٦ :

(قيل : معناه ساعة ، وقيل : أربعون سنة).

٨٦

(كَلِمَةً طَيِّبَةً) [٢٤] يعني كلمة الإخلاص (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) [٢٤] يعني النخلة (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [٢٤] يعني أغصانها مرفوعة إلى السماء ، فكذلك أصل عمل المؤمن كلمة التوحيد ، وهو أصل ثابت ، وفرعه وهو عمله مرفوع إلى السماء مقبول ، إلا أن فيه خللا وإحداثا ، ولكن لا يزول أصل عمله ، وهو كلمة التوحيد ، كما أن الرياح تزعزع أغصان النخلة ، ولا يزول أصلها ، وشبه عمل الكافر كشجرة خبيثة فقال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) [٢٦] يعني شجرة الحنظل أخبث ما فوق الأرض ليس لها أصل في الأرض ، كذلك الكفر والنفاق ليس له في الآخرة من ثبات ، وليس في خزائن الله أكبر من التوحيد.

وسئل عن تفسير : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] فقال : لا نافع ولا دافع إلا الله تعالى. وسئل عن الإسلام والإيمان والإحسان ، فقال : الإسلام حكم ، والإيمان وصل ، والإحسان ثواب ؛ ولهذا الثواب ثواب. فالإسلام الإقرار وهو الظاهر ، والإيمان هو الغيب ، والإحسان هو التعبد. وربما قال : الإيمان يقين. وسئل عن شرائع الإسلام فقال : قال العلماء فيه فأكثروا ، ولكن هي كلمتان : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] ثم قال : هي كلمة واحدة : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠].

قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [٣٤] بأن جعل السفير فيما بينكم وبينه الأعلى والواسطة الكبرى.

٨٧

السورة التي يذكر فيها الحجر

قوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [٣] قال : إذا اجتمعت أربعة في عبد قيل له : إنك لن تنال شيئا من هذا الأمر ، إذا أحب أن يأكل شيئا طيبا ، ويلبس ثوبا لينا ، وينفذ أمره ، ويكثر شيئه يقال : هيهات هذا الذي قطع الخلق عن الله تعالى. وقد حكي أن الله أوحى إلى داود عليه‌السلام : حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة (١). وقال سهل : الأمل أرض كل معصية ، والحرص بذر كل معصية ، والتسويف ماء كل معصية ، والقدرة أرض كل طاعة ، واليقين بذر كل طاعة ، والعمل ماء كل طاعة. قال : وكان سهل يقوى على الوجد سبعين يوما لا يأكل فيها طعاما ، وكان يأمر أصحابه أن يأكلوا اللحم في كل جمعة مرة ، كيلا يضعفوا عن العبادة ، وكان إذا أكل ضعف ، وإذا جاع قوي ، وكان يعرق في البرد الشديد في الشتاء وعليه قميص واحد ، وكان إذا سألوه عن شيء من العلم يقول : لا تسألوني فإنكم لا تنتفعون في هذا الوقت بكلامي. وفد عباس بن عصام يوما وهو يقول : أنا منذ ثلاثين سنة أكلم الله ، والناس يتوهمون أني أكلمهم (٢).

قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [٤٠] قال : الناس كلهم أموات إلا العلماء ، والعلماء كلهم نيام إلا العاملين ، والعاملون كلهم مغترون إلا المخلصين ، والمخلصون على خطر عظيم. قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [٧٢] أي في جهلهم وضلالتهم يعصون ، واعلم أن المعاصي كلها منسوبة إلى الجهل ، والجهل كله منسوب إلى السكر ، ويقال هو نفس المسكر.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [٧٥] قال : يعني المتفرسين ، وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [٧٥]» (٣) ، ومعناه المتفسرون في السرائر وهو كما قال

__________________

(١) الحلية ٥ / ٣٨٢.

(٢) انظر مثل هذا القول في صفوة الصفوة ٣ / ١٨٣.

(٣) نوادر الأصول ٣ / ٨٦ ؛ وكشف الخفاء ١ / ٤٢ ـ ٤٣ ؛ والمعجم الكبير ٨ / ١٠٢ ؛ والمعجم الأوسط ٣ / ٣١٢ ، ٨ / ٢٣.

٨٨

عمر رضي الله عنه لسارية (١) : «الجبل الجبل» (٢).

قوله : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [٨٥] قال : حكى محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [٨٥] قال : هو الرضا بلا عتاب (٣). وقال سهل : بلا حقد ولا توبيخ بعد الصفح ، وهو الإعراض الجميل.

قوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) [٩١] قال : ظاهر الآية ما عليه أهل التفسير وباطنها ما أنزل الله تعالى من أحكامه في السمع والبصر والفؤاد وهو قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] فأعرضوا عن العمل به ميلا إلى دواعي نفس الطبع. قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [٩٢] قال : هذه الآية فيها خصوص فإن من هذه الأمة من يحشر من القبر إلى الجنة لا يحضر الحساب ولا يشعر بالأهوال وهم الذين قال الله تعالى : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١] وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أولياء الله يخرجون من قبورهم إلى الجنة لا يقفون للحساب ولا يخافون طول ذلك اليوم ، أولئك هم السابقون إلى الجنة (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة : ١١٩]».

قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [٩٤] أي أظهر القرآن في الصلاة بما أوحينا إليك. قيل : ما الوحي؟ قال : المستور من القول ، قال الله تعالى : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) [الأنعام : ١١٢] أي يسر بعضهم إلى بعض وقد يكون بمعنى الإلهام كما قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] يعني ألهم النحل.

قوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [٩٧ ، ٩٨] أي صلّ لله تعالى واذكره ، فكأن الله تعالى قال له : إن ضاق صدرك بقرب الكفار بكذبهم ، بما وصفوا لك من الضد والند والشريك بجهلهم وحسدهم ، فارجع إلى مشاهدتنا وقربنا بذكرنا ، فإن قربك فينا ، وسرورك بذكرنا ومشاهدتنا ، واصبر على ذلك ، فإن رضاي فيك. وقد حكي أن موسى عليه‌السلام قال : إلهي دلني على عمل إن أنا عملته نلت به رضاك. قال : فأوحى إليه : يا ابن عمران ، إن رضاي في كرهك ولن تطيق ذلك. قال : فخر موسى عليه‌السلام ساجدا باكيا ، وقال : إلهي خصصتني منك بالكلام ، فلم تكلم بشرا قبلي ، ولم تدلني على عمل أنال به رضاك. فأوحى الله تعالى إليه : إن رضاي في رضاك بقضائي.

__________________

(١) سارية بن زنيم الدؤلي (... ـ نحو ٣٠ ه‍) : صحابي ، من الشعراء ، القادة ، الفاتحين. كان من العدائين ، جعله عمر أميرا على جيش ، وسيره إلى بلاد فارس ، ففتح بلادا ، منها : أصبهان. (الأعلام ٣ / ٦٩ ـ ٧٠).

(٢) كشف الخفاء ٢ / ٥١٤ ـ ٥١٥ ؛ وفضائل الصحابة ١ / ٢٦٩ ؛ والإصابة ٣ / ٥ ، ٦.

(٣) قوت القلوب ١ / ٣٩٣.

٨٩

السورة التي يذكر فيها النحل

سئل عن قوله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [٨] قال : أما ظاهر الآية ما حكاه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن مما خلق الله تعالى أرضا من لؤلؤة بيضاء مسيرة ألف عام في ألف عام ، عليها جبل من ياقوتة حمراء ، تحيط بها سماء تلك الأرض ، فيها ملك قد ملأ شرقها وغربها ، له ستمائة وستون ألف رأس ، في كل رأس ستمائة وستون فم ، في كل فم ستمائة ألف لسان ، يثني على الله بكل لسان ستمائة وستين ألف مرة في كل يوم ، فإذا كان يوم القيامة نظر إلى عظمة الله تعالى فقال : وعزتك وجلالك ما عبدتك حق عبادتك» ، قال الله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [٨] وباطنها علمك الحق جل جلاله الوقوف عند ما لا يدركه عقلك من آثار الصنع وفنون العلم أن يقابله بالإنكار ، فإنه خلق ما لا تعلمه أنت ، ولا أحد من خلقه إلا من علمه الحق عزوجل.

وسئل عن قوله : (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) [١١] وقال بعدها : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) [١٢] فقال : لأن الثمرات من نوع واحد ، والليل والنهار نوعان ، وكذلك الشمس والقمر ، فقال : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [١٢]. واعلم أن الله تعالى لما أراد إظهار علمه أودع علمه العقل ، وحكم أنه لا يصل أحد إلى شيء منه إلا بالعقل ، فمن فاته العقل فقد فاته العلم.

قوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ) [٢١] قال سهل : خلق الله تعالى الخلق ، ثم أحياهم باسم الحياة ، ثم أماتهم بجهلهم بأنفسهم ، فمن كانت حياته بالعلم فهو الحي ، وإلا فهم الأموات بجهلهم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [٣٦] قال : العبادة زينة العارفين ، وأحسن ما يكون العارف إذا كان في ميادين العبودية والخدمة ، يترك ما له لما عليه.

قوله : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [٥٣] قال سهل : لو أن الله تعالى طالب حملة العرش ، فمن دونهم من الملائكة ومن النبيين والمرسلين ، بما جهلوا من

٩٠

نعمة الله عليهم لعذبهم عليها ، وهو غير ظالم. قيل لسهل : أي شيء يفعل الله بعبده إذا أحبه؟ قال : يلهمه الاستغفار عند التقصير ، والشكر له عند النعمة ، وإنما أرادوا بالنية أن يتعرفوا بها نعم الله تعالى عليهم ، فيدوم لهم الشكر ويدوم لهم المزيد. (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [٥٣] يعني إياه تدعون عند الفقر والبلاء ، وربما يكون ذلك نعمة من الله عليكم ، إذ لو شاء لابتلاكم بأشد منه ، فيصير ذلك عند أشد البلاء نعمة ، فيجزعون منه ، ولا يصبرون ولا يشكرون. وبلغنا أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه‌السلام فقال : اصبر على المئونة تأتك مني المعونة (١).

قوله تعالى : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [٥٥] قال : هذا وعد من الله تعالى لكفار مكة على تكذيبهم ، مع ما أنعم الله عليهم في الدنيا ، أنهم سيعلمون جزاء ذلك في الآخرة ، وهذه الآية أيضا وعيد شديد للغافلين على ما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أخذ من الدنيا نهمته حيل بينه وبين نهمته في الآخرة حلالها حساب وحرامها عقاب» (٢) ، وإنما يحاسب المؤمنون بما أخذوا من الحلال فضلا على ما يكفيهم ، فأما من أخذ البلغة من الحلال فهو داخل تحت قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس من الدنيا كسرة يسد بها المؤمن جوعته ، وثوب يواري به عورته ويؤدي فيه فرضه ، وبيت يكنه من حر الشمس وبرد الشتاء» (٣).

قوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [٦٧] قال : هذه الآية نسخت بآية الخمر ، كذا قال إبراهيم (٤) والشعبي (٥). قال سهل : السكر عندي ما يسكر النفس في الدنيا ، ولا تؤمن عاقبته في الآخرة. وقد دخل على سهل أبو حمزة الصوفي (٦) فقال : أين كنت يا أبا حمزة؟ قال :

__________________

(١) فيض القدير ٢ / ٣١٨ ، وأعاده في ٢ / ٣١٩ وبعده : (وإذا رأيت لي طالبا فكن له خادما).

(٢) الترغيب والترهيب ٤ / ٧٧ (رقم ٤٨٦٨) ؛ وشعب الإيمان ٧ / ١٢٥ (رقم ٩٧٢٢).

(٣) في الترغيب والترهيب ٤ / ٧٧ (رقم ٤٨٧٠) : (روي عن ثوبان رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، ما يكفيني من الدنيا؟ قال : ما سدّ جوعتك ، ووارى عورتك ، وإن كان لك بيت يظلك فذاك ، وإن كانت لك دابة فبخ. رواه الطبراني في الأوسط).

(٤) إبراهيم بن أدهم بن منصور ، التميمي ، البلخي (... ـ ١٦١ ه‍) : زاهد مشهور ، تفقه ورحل إلى بغداد ، وجال في العراق والشام والحجاز ، وأخذ عن كثير من العلماء فيها. (الحلية ٧ / ٣٦٧).

(٥) الشعبي : عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار الشعبي الحميري (١٩ ـ ١٠٣ ه‍) : راوية ، من التابعين ، يضرب المثل بحفظه. كان فقيها ، شاعرا. استقضاه عمر بن عبد العزيز. (الحلية ٣ / ٤١٠ ، وتاريخ بغداد ١٢ / ٢٢٧).

(٦) أبو حمزة الصوفي : محمد بن إبراهيم الصوفي (... ـ ٢٧٠ ه‍) : أستاذ البغداديين في التصوف ، وكان عالما بالقراءات. (تاريخ بغداد ١ / ٣٩٠).

٩١

كنا عند فلان أخبرنا أن السكر أربعة. فقال : اعرضها علي. فقال : سكر الشراب وسكر الشباب وسكر المال وسكر السلطنة. فقال : وسكرتان لم يخبرك بهما. فقال : ما هما؟ فقال : سكر العالم إذا أحب الدنيا وسكر العابد إذا أحب أن يشار إليه.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) [٧٢] قال : روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الحفدة الأختان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : البنون الصغار الصغار ، والحفدة الذين يعينون الوالد على عمله. وعن الضحاك (١) قال : الحفدة الخدمة لله إيجابا بغير سؤال منهم غيره.

قوله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [٨٨] قال : حكى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الزيادة ما هي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الزيادة خمسة أنهار تخرج من تحت العرش على رؤوس أهل النار الجاحدين بالله ورسوله ، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار تجري نارا أبدا ما داموا فيها» (٢).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [٩٠] قال : العدل قول لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والاقتداء بسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَالْإِحْسانِ) [٩٠] أن يحسن بعضكم إلى بعض ، (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) [٩٠] أي من رزقه الله فضلا فليعط من استرعاه الله أمره من أقاربه ، و (الْفَحْشاءِ) [٩٠] الكذب والغيبة والبهتان ، وما كان من الأقوال ، (وَالْمُنْكَرِ) [٩٠] ارتكاب المعاصي ، وما كان من الأفعال ، (يَعِظُكُمْ) [٩٠] يؤدبكم بألطف أدب ، وينبهكم بأحسن الانتباه ، (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [٩٠] أي تتعظون وتنتهون. قال سهل : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا (٣).

قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [٩٧] قال : الحياة هي أن ينزع من العبد تدبيره ، ويرد إلى تدبير الحق فيه (٤).

__________________

(١) الضحاك بن مزاحم البلخي الخراساني (... ـ ١٠٥ ه‍) : مفسر ، كان يؤدب الأطفال ، ويقال : كان في مدرسته ثلاثة آلاف صبي. (الأعلام ٣ / ٢١٥).

(٢) لم أجد الحديث في مصادر الحديث ، وفي تفسير ابن كثير ٢ / ٦٠٣ عن ابن عباس قال : (هي خمسة أنهار تحت العرش يعذبون ببعضها في الليل ، وببعضها في النهار).

(٣) في كتاب الزهد الكبير ٢ / ٢٠٧ أنه قال : (الناس نيام فإذا انتبهوا ندموا ، وإذا ندموا لم تنفعهم ندامتهم) ، وفي كشف الخفاء ٢ / ٤١٤ ، ٥٢٥ أنه من قول علي بن أبي طالب ، ثم قال في ٢ / ٤١٤ : (عزاه الشعراني في الطبقات إلى سهل التستري ؛ وفي فيض القدير ٥ / ٥٦ أنه حديث نبوي ، وفي الحلية ٧ / ٥٢ أنه لسفيان الثوري.

(٤) تفسير القرطبي ١٠ / ١٧٤.

٩٢

قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) [١١٠] قال سهل : هاجروا يعني هجروا قرناء السوء بعد أن ظهرت الفتنة منهم في صحبتهم ، ثم جاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير ، ثم صبروا على ذلك ، ولم يرجعوا إلى ما كانوا عليه في بدء الأحوال. وقد سأل رجل سهلا فقال : إن معي مالا ، ولي قوة وأريد الجهاد ، فما تأمرني؟ فقال له سهل : المال العلم ، والقوة النية ، والجهاد مجاهدة النفس ، لا يقبل العافية فيما حرم الله تعالى إلا نبي أو صديق ، فقيل لأبي عثمان : ما معنى قوله : «إلا نبي أو صديق»؟ فقال : لا يدخل في شيء لا تقوم له.

قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) [١١٩] قال سهل : ما عصى الله تعالى أحد إلا بجهل ، وربّ جهل أورث علما ، والعلم مفتاح التوبة ، والإصلاح صحة التوبة ، فمن لم يصلح توبته فعن قريب تفسد توبته ، لأن الله تعالى يقول : (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) [١١٩] ، وسئل سهل عن الجاهل ، فقال : الذي يكون إمام نفسه ، ولا يكون له إمام صالح يقتدي به.

قوله : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [١٢٧] قال سهل : واصبر واعلم أنه لا معين على الأمور إلا الله تعالى ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٩٣

السورة التي يذكر فيها الإسراء

قوله تعالى : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [٨] قال سهل : يعني إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغفرة ، وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم ، وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطرق عليكم ، ارجعوا إلينا فإن الطريق علينا.

قوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [١١] قال سهل : أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار بالسؤال والدعاء ، لأن في الذكر الكفاية ، وربما يدعو الإنسان ويسأل ما فيه هلاكه وهو لا يشعر ، ألا ترى أن الله تعالى يقول : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [١١] والذاكر على الدوام التارك للاختيار والدعاء والسؤال مبذول له أفضل الرغائب ، وساقط عنه آفات السؤال والاختيار ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله : من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» (١).

قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [١٣] قال : علمه أي ما كان من خير وشر.

قوله : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [١٤] قال : حكي عن الحسن البصري أنه قال : أعد للسؤال جوابا وللجواب صوابا ، وإلا فأعد للنار جلبابا. وقال عمر رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر قبل أن تعرضوا (٢). فسئل سهل عن المحاسبة والموازنة ، فقال : المحاسبة على وجهين : محاسبة فيما بين العبد وربه ، وهو سر ، ومحاسبة فيما بينه وبين الخلق وهي علانية ، والموازنة إذا استقبلك فرضان أو سنتان أو نافلتان نظرت أيهما أقرب إلى الله وأوزن عنده ، فابتدأت به.

__________________

(١) نوادر الأصول ٣ / ٦٤ ، ٢٥٩ ؛ ومسند ابن أبي شيبة ٦ / ٣٤ ؛ وفتح الباري ١١ / ١٣٤ ؛ ومسند الشهاب ١ / ٣٤ ، ٢ / ٣٢٦.

(٢) تقدم قول عمر بن الخطاب في نهاية تفسير سورة التوبة.

٩٤

قوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) [٢٥] أي بما في قلوبكم ، لأن القلب يجمع العقل والنفس والهوى.

قوله : (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) [٢٥] قال ابن المسيب : الأواب الذي يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب ، ويموت على توبته (١). وقال الحسن : الأواب التائب الذي لا يكون معه وقتان ، إنما هو مهيئ للتوبة كل لمحة ولحظة. وحكي عن ضمرة بن حبيب (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه» (٣) يعني فليعتبر وقته ولا يؤخر.

قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [٣٦] أي لا تبغ ما ليس لك به علم كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا» (٤) ، يعني آباء العرب.

قوله تعالى : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [٥٧] قال : رحمته جنته في الظاهر وفي الباطن حقيقة المعروف. ثم قال : إن الخوف والرجاء زمان للإنسان فإذا استوى قامت له أحواله ، وإذا رجح أحدهما بطل الآخر (٥) ، ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا» (٦).

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [٦٧] أي ما تسألون كشفه إلا منه ، وتتبرؤون من حولكم وقوتكم ، وتعترفون بحوله وقوته ، وهذه الآية رد على أهل القدر الذين يدّعون الاستطاعة لأنفسهم دون الله تعالى. (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) [٦٨] ، وقال : (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ) [٦٩] فإن كانت لهم استطاعة فليدفعوا عن أنفسهم العذاب.

__________________

(١) لسان العرب (أوب).

(٢) ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي ، أبو عتبة الحمصي (... ـ ١٣٠ ه‍) : تابعي ، شامي ، كان ثقة ، وكان مؤذن المسجد الجامع بدمشق. (تهذيب التهذيب ٤ / ٤٠٢).

(٣) مسند الشهاب ١ / ٢٦٨.

(٤) مسند أحمد ٥ / ٢١١ ـ ٢١٢ ؛ والمعجم الكبير ١ / ٢٣٥ ، ٢ / ٢٨٦ ؛ وسنن ابن ماجة ٢ / ٨٧١ رقم ٢٦١٢.

(٥) تفسير القرطبي ١٠ / ٢٨٠.

(٦) مصنف ابن أبي شيبة ٧ / ١٧٨ ؛ وشعب الإيمان ٢ / ١٢.

٩٥

قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [٧٢] أي من كان في الدنيا أعمى القلب عن أداء شكر نعم الله تعالى عليه ظاهرة وباطنة فهو في الآخرة أعمى عن رؤية المنعم.

قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) [٨٠] يعني أدخلني في تبليغ الرسالة مدخل صدق ، وهو أن لا يكون لي إلى أحد ميل ، وإني لا أقصر في حدود التبليغ وشروطه ، وأخرجني من ذلك على السلامة وطلب رضاك منه على الموافقة ، (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) [٨٠] أي زيّنّي بزينة جبروتك ليكون الغالب عليهم سلطان الحق لا سلطان الهوى. وسمعت سهلا مرة أخرى يقول : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) [٨٠] لسانا ينطق عنك ، ولا ينطق عن غيرك (١).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) [١٠٧] قال سهل : لا يؤثر شيء على السر مثل ما يؤثر عليه سماع القرآن ، فإن العبد إذا سمع خشع سره ، وأنار ذلك قلبه بالبراهين الصادقة ، وزين جوارحه بالتذلل والانقياد ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) الحلية ١٠ / ١٩٥ ؛ وقوت القلوب ١ / ٢٨١.

٩٦

السورة التي يذكر فيها الكهف

قوله تعالى : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [٧] قال : أيهم أحسن إعراضا عن الدنيا ، وما يوجب الاشتغال عن الله تعالى ، وإخباتا وسكونا إلينا ، وعلينا توكلا وإقبالا.

وسئل عن قوله : (الرَّقِيمِ) [٩] فقال : الرقيم هو رئيسهم ، وهو المسمى بالكلب ، وليس بكلب لهم ، قال الله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [١٨] أي باسط ذراعيه بالأمر والنهي. وقال عكرمة : الرقيم الدواة بلسان الروم. وقال الحسن : الرقيم الوادي الذي فيه الكهف. وقال كعب : الرقيم لوح من رصاص فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا ، وأما الوصيد فهو فناء الباب.

قوله تعالى : (آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) [١٠] أي احفظنا على ذكرك.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) [١٣] قال سهل : إنما سماهم فتية لأنهم آمنوا به بلا واسطة ، وقاموا إليه بإسقاط العلائق عن أنفسهم.

قوله تعالى : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) [١٣] أي بصيرة في الإيمان.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [١٧] قال : من يرد الله منه إظهار ما علم منه من الشقاوة بترك العصمة إياه ، فلن تجد له عاصما منه.

قوله تعالى : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) [١٨] يعني لو اطلعت عليهم بنفسك لوليت منهم فرارا ، ولو اطلعت عليهم بالحق لوقفت على حقائق الوحدانية فيهم منه.

قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) [٢١] قال : ظاهرها الولاية ، وباطنها نفس الروح وفهم العقل وفطنة القلب بالذكر لله عزوجل.

قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) [٢٨] قال : الغفلة إبطال الوقت بالبطالة. وقال : إن للقلب ألف موت ، آخرها القطيعة عن الله عزوجل ، وإن للقلب ألف حياة ، آخرها لقاء الحق عزوجل ، وإن في كل معصية للقلب موتا ، وفي كل طاعة للقلب حياة.

٩٧

قوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [٣٠] قال : حسن العمل الاستقامة عليه بالسنة ، وإنما مثل السنة في الدنيا مثل الجنة في الآخرة ، ومن دخل الجنة سلّم ، كذلك من لزم السنة في الدنيا سلم من الآفات. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه : لو أن رجلا ارتكب جميع الكبائر ثم لم يكن فيه شيء من هذه الأهواء والبدع لرجوت له. ثم قال : من مات على السنة فليبشر ثلاث مرات. وقال سهل : لا يرفع الحجاب عن العبد حتى يدفن نفسه في الثرى. قيل له : كيف يدفن نفسه في الثرى؟ قال : يميتها على السنة ، ويدفنها في اتباع السنة ، لأن لكل شيء من مقامات العابدين مثل الخوف والرجاء والحب والشوق والزهد والرضا والتوكل غاية ، إلا السنة فإنه ليست لها غاية ونهاية. وسئل عن معنى قوله : «ليست للسنة غاية» متى بن أحمد فقال : لا يكون لأحد مثل خوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو حبه أو شوقه ، أو زهده أو رضاه أو توكله أو أخلاقه ، وقد قال الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤]. وسئل عن معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أجيعوا أنفسكم وأعروها» (١) ، فقال : أجيعوا أنفسكم إلى العلم وأعروها عن الجهل.

قوله : (قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) [٣٩] أي ما شاء الله في سابق علمه ، لا يقف عليه أحد إلا الله تعالى ، (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) [٣٩] أي لا قوة لنا على أداء ما أمرتنا به في الأصل ، والسلامة منه في الفرع ، والخاتمة المحمودة إلا بمعونتك ، وكذا تفسير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حول ولا قوة إلا بالله» (٢) أي لا حول عن السلامة من الجهل في الأصل ، ومن الإصرار في الفرع إلا بعصمتك ولا قوة لنا على أداء ما أمرتنا به في الأصل والسلامة منه في الفرع والخاتمة المحمودة إلا بمعونتك. وسئل سهل : ما أفضل ما أعطي العبد؟ قال : علم يستزيد به افتقارا إلى الله عزوجل.

قوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) [٥٥] قال : جاءهم الهدى وطرق الهداية كانت مسدودة عليهم ، فمنعهم الهدى والإيمان الحكم الذي جرى عليهم في الأزل.

قوله : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ) [١٠٩] قال : أي بعلم ربي وعجائبه ، ثم قال : إن من علمه كتابه ، لو أن عبدا أعطي لكل حرف من القرآن ألف فهم لما بلغ نهايته علم الله فيه ، لأنه كلامه القديم ، وكلامه صفته ، ولا نهاية لصفاته ، كما لا نهاية له ، وإنما يفهم على قدر ما يفتح الله على قلوب أوليائه من فهم كلامه.

قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [١١٠] قال : العمل الصالح ما كان خاليا عن الرياء مقيدا بالسنة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) هذا القول للنبي عيسى عليه‌السلام في الحلية ٢ / ٣٧٠.

(٢) صحيح البخاري : التهجد ، رقم ١٠٦٩.

٩٨

السورة التي يذكر فيها مريم عليها‌السلام

قوله تعالى : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) [١٣] أي فعلنا ذلك رحمة من لدنا بأبويه ، (وَزَكاةً) [١٣] أي طهرناه من ظنون الخلق إليه فيه ، (وَكانَ تَقِيًّا) [١٣] أي مقبلا علينا ، معرضا عما سوانا. وقال : إن أحوال الأنبياء كلها محضة.

وقوله : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) [٣١] يعني آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأرشد الضال ، وأنصر المظلوم ، وأغيث الملهوف.

قوله عزوجل : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) [٣٢] أي جاهلا بأحكامه متكبرا على عبادته ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكبرياء رداء الله من نازع الله فيه أكبه على منخره في النار» (١).

وسئل عن قوله عزوجل : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [٢٦] فقال : صمتا عن الكل ، إلا عن ذكرك ، إذا سأل الصائم أن تقر عينه بك ، ويسكن قلبه إليك لا إلى غيرك ، (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [٢٦].

قوله : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [٥٢] أي مناجيا للمكاشفة التي لا تخفى من الحق على القلوب محادثة وودا ، كما قال تعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [٩٦] أي مكاشفة تتخذ الأسرار من غير واسطة. وهذا مقام من الله للذين صدقوا الله في السر والعلانية.

قوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) [٦١] يعني معاينة الحق بمعنى القرب الذي جعله بينه وبينهم ، فيرى العبد قلبه في قرب الحق مشهودا في غيب الغيب ، وغيب الغيب هو نفس الروح وفهم العقل وفطنة المراد بالقلب ، فإن نفس الروح موضع العقل ، وهو موضع القدس ، والقدس متصل بالعرش ، وهو اسم من أسماء العرش ، وجعل الله تعالى للنفس جزءا من ألف جزء من الروح ، بل أقل من ذلك ، فإذا صارت إرادة الروح إرادة النفس أعطيا فيما بينهما الفطنة والذهن ، والفطنة إمام الذهن ، والفهم إمام الذهن ، والفطنة حياة ،

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ١ / ١٢٩ ؛ وسنن أبي داود : باب ما جاء في الكبر ، رقم ٤٠٩٠ ؛ وسنن ابن ماجة :

باب البراءة من الكبر ، رقم ٤١٧٤ ؛ ومسند أحمد ٢ / ٢٤٨ ، ٣٧٦ ، ٤١٤ ، ٤٢٧ ، ٤٤٢.

٩٩

والفهم عيش ، وإنما يفهم الكلام رجلان : واحد يحب أن يفهم لكي يتكلم به في موضع ، فليس له حظ منه إذ ذاك ، وآخر يسمعه فيشغله العمل به عن غيره ، وهذا أعز من الكبريت الأحمر ، وأعز من كل عزيز ، وهو في المتحابين في الله. والتفهم بكلف والفطنة لا تنال بالتكلف ، وهو العمل بالإخلاص له ، فإن لله تعالى عبادا في الجنة لو حجبوا عن اللقاء طرفة عين لاستغاثوا فيها كما يستغيث أهل النار في النار ، لأنهم عرفوه ، أفلا ترون إلى الكليم عليه‌السلام حيث لم يصبر عن رؤيته لما وجد حلاوة مناجاته حتى قال : «إلهي ، ما هذا الصوت العيراني الذي غلب على قلبي منك؟ قد سمعت صوت الوالدة الشفيقة ، وصوت الطير في الهواء ، فما سمعت صوتا أجلب لقلبي من هذا الصوت».

وكان موسى عليه‌السلام بعد ذلك كلما رأى جبلا أسرع إليه ، وصعد عليه ؛ شوقا إلى كلامه جل جلاله.

وقد كان رجل من بني إسرائيل لا يذهب موسى إلى مكان إلا مشى بحذائه ، ولا يجلس مجلسا إلا جلس بحذائه ، حتى تأذى موسى عليه‌السلام منه ، قيل له : إنك أذيت نبي الله. قال : إنما أريد أن أنظر إلى الفم الذي كلّم الله به. فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] فقال : يا موسى ، إنه لن يراني خليقة في الأرض إلا مات. فقال : «رب أرني أنظر إليك وأموت ، أحب إلي من أن لا أنظر إليك وأحيى». فمن أخلص لله قلبه له فاشتاق إليه وصل إليه.

وقد كان أبو عبيد الله الخواص يصيح ببغداد فيقول : أنا من ذكرك جائع لم أشبع ، أنا من ذكرك عطشان لم أرو ، ووا شوقاه إلى من يراني ولا أراه ، ثم يأتي دجلة وعليه ثياب فيرمي نفسه فيها ، فيغوص في موضع ويخرج من موضع آخر وهو يقول : أنا من ذكرك جائع لم أشبع ، أنا من ذكرك عطشان لم أرو ، ووا شوقاه إلى من يراني ولا أراه ، والناس على الشط يبكون.

وجاء رجل إلى سهل يوما والناس مجتمعون عليه فقال : يا أبا محمد انظر إيش عمل بك وإيش يوقع لك ، فلم يؤثر ذلك على سهل ، وقال : هو المقصود هو المقصود.

قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [٧٦] قال : أي يزيد الله الذين اهتدوا بصيرة في إيمانهم بالله ، وفي اقتدائهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو زيادة الهدى والنور المبين.

قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [٨٥] أي ركبانا. والمتقون هم الذين يتقون ما سوى الله عزوجل. وقال : لا يكمل للعبد شيء حتى يحصن عمله بالخشية ، وفعله بالورع ، وورعه بالإخلاص ، وإخلاصه بالمشاهدة ، والمشاهدة بالتقوى عما سوى الله.

١٠٠