تفسير التّستري

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري

تفسير التّستري

المؤلف:

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري


المحقق: محمد باسل عيون السود
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3631-3
الصفحات: ٢٣٩

قوله : «اخسؤوا» تباعدوا عني ، يقال للكلب اخسأ على كمال البعد والطرد ، وبهذا عاقبهم في آخر عقوباته إياهم ، كقوله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨]. قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) [٢٣٨] أي داوموا على إقامتها. وأما قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [النور : ٥٦] فعلى وجهين أحدهما الإقرار بها من غير تصديق ، كما قال في براءة : (فَإِنْ تابُوا) [التوبة : ٥] أي من الشرك ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) [التوبة : ٥] يعني وأقروا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] ، وكقوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة : ١١] ومواليكم ، ونظيرها في السجدة (١). والوجه الثاني : الإقامة ، كما قال في المجادلة : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [المجادلة : ١٣] ، ونظيرها في المزمل (٢). وقال في المائدة (٣) : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [المائدة : ٥٥] أي يتمونها. وسئل عن قوله : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [٢٣٨] ما معنى ذكرها مفردة؟ قال : إنما أفردها لاختصاص من الصلوات وإن كانت داخلة في جملتها ، كما انفرد جبريل وغيره بالذكر لاختصاصهم من جملة الملائكة. قال : وفيها وجه آخر ، وهو أن أوقات سائر الصلوات مشهورة عند العالم والجاهل ، فعلامتها واضحة ، ووقت العصر أخفى ، فحثّ على مراعاتها في وقتها بما خصها من الذكر. قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [٢٣٨] أي قاموا لله في الصلاة مطيعين. فكم من مصلّ غير مطيع كالمنافق ونحوه. وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الصلاة أفضل؟ فقال : «طول القنوت أي طول القيام» (٤) ، وقال زيد بن أرقم (٥) رضي الله عنه : القنوت السكوت ، لأنا كنا نتكلم في الصلاة ، فأنزل الله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [٢٣٨] فأمسكنا عن الكلام (٦). وكان محمد بن سوار يقول : القنوت الوتر ، سمي قنوتا لقيام الرجل فيه بالدعاء من غير قراءته القرآن ، بل هو التعظيم بالدعاء.

__________________

(١) ليس في سورة السجدة نظير ما ورد في سورة التوبة.

(٢) المزمل ، الآية ٢٠ ، وأيضا في سورة الحج ، الآية ٧٨.

(٣) في الأصل : (وقال في البقرة) والصواب ما أثبته ؛ وقد تكررت الآية في الأنفال : ٣ ؛ والنمل : ٣ ؛ ولقمان : ٤ ، وأما ما ورد في سورة البقرة : ٣ فهو قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ).

(٤) صحيح مسلم : كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم ٧٥٦ ؛ وابن ماجة : كتاب إقامة الصلاة ١ / ٤٥٦ ؛ والترمذي : كتاب الصلاة ١ / ٨٧ ؛ وأحمد ٣ / ٣٠٢ ، ٣٩١ ، ٤١٢ ؛ والنسائي : كتاب الزكاة ١ / ٣٤٩.

(٥) زيد بن أرقم الخزرجي الأنصاري (... ـ ٦٨ ه‍) : صحابي. غزا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع عشرة غزوة ، وشهد صفين مع علي. ومات بالكوفة. (الأعلام ٣ / ٥٦).

(٦) صحيح البخاري : كتاب العمل بالصلاة ١١٤٢ ؛ وصحيح مسلم : المساجد ٥٣٩ ، وانظر تأويل مشكل القرآن ٤٥٢ ؛ وعمدة الحفاظ ٣ / ٣٤٠ (قنت).

٤١

وسئل عن قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [٢٦٨] قال : هو أن يأخذوا الشيء من غير حله ، ويضعوه في غير محله.

وسئل عن قوله : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [٢٦٩] قال : روى أبو سعيد الخدري (١) رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القرآن حكمة الله عزوجل بين عباده فمن تعلم القرآن وعمل به فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه إلّا أنه لا يوحى إليه يحاسب حساب الأنبياء عليهم‌السلام إلّا في تبليغ الرسالة» (٢). وأخبرني محمد بن سوار عن عقيل (٣) عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القرآن حكمة فمن تعلم القرآن في شبيبته خلط بلحمه ودمه (٤). ألا وإن النار لا تمس قلبا وعى القرآن (٥) ، ولا جسدا اجتنب محارمه وأحل حلاله وآمن بمحكمه ووقف عند متشابهه ولم يبتدع فيه».

وقال مجاهد وطاووس (٦) : الحكمة القرآن ، كما قال في النحل : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) [النحل : ١٢٥] يعني القرآن. وقال الحسن (٧) : الحكمة : الفهم في القرآن ، والحكمة النبوة ، كما قال في ص : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) [ص : ٢٠] يعني النبوة ، وقال لداود عليه‌السلام : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [٢٥١] يعني النبوة من الكتاب.

وقال قتادة (٨) : الحكمة : هي الفقه في دين الله عزوجل ، واتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) أبو سعيد الخدري : سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري (١٠ ق ه ـ ٧٤ ه‍) : صحابي. كان من ملازمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. غزا اثنتي عشرة غزوة. (الحلية ١ / ٣٦٩).

(٢) علل ابن أبي حاتم ٢ / ٦٥ رقم ١٦٨٢.

(٣) عقيل بن خالد بن عقيل الأيلي الأموي بالولاء (... ـ ١٤١ ه‍) : من حفاظ الحديث ، ثقة. كان شرطيا بالمدينة. توفي بمصر. (تهذيب التهذيب ٧ / ٢٢٨).

(٤) السنن الصغرى رقم ٩٨٩ ؛ وشعب الإيمان رقم ١٩٥٢ ، ٢٦٩٦ ؛ ونوادر الأصول ٢ / ٩٦.

(٥) في نوادر الأصول ٣ / ٢٥٣ : (لا تغرنكم هذه الصحف المعلقة ، إن الله تعالى لا يعذب قلبا وعى القرآن) ؛ وانظر فتح الباري ٩ / ٧٩.

(٦) طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء (٣٣ ـ ١٠٦ ه‍) : من أكابر التابعين تفقها في الدين ورواية للحديث ، وجرأة على وعظ الخلفاء. توفي حاجا بالمزدلفة. (الحلية ٤ / ٣).

(٧) الحسن بن يسار البصري (٢١ ـ ١١٠ ه‍) : أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك. كان إمام أهل البصرة ، وحبر الأمة في زمنه. (الحلية ٢ / ١٣١).

(٨) قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز ، أبو الخطاب السدوسي (٦١ ـ ١١٨ ه‍) : مفسر حافظ ضرير أكمه. كان أحفظ أهل البصرة. (الأعلام ٥ / ١٨٩).

٤٢

وقال السّدي (١) : الحكمة النبوة. وقال : زيد بن أسلم (٢) : الحكمة العقل. وقال الربيع ابن أنس (٣) : الحكمة خشية الله تعالى. وقال ابن عمر : الحكمة ثلاث : آية محكمة ، وسنة ماضية ، ولسان ناطق بالقرآن. وقال أبو بكر : قال سهل : الحكمة إجماع العلوم ، وأصلها السنة ، قال الله تعالى : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب : ٣٤] فالآيات الفرض ، والحكمة السنة. وأراد سهل من ذلك أن العرب تقول : حكمت الرجل إذا منعته من الضرر والخروج عن الحق مثل قوله : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) [القمر : ٥] قال : أي تامة ، كما قال : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٤] فهي حينئذ بلغت إلى أهلها دون غيرهم ، فهم في كل حال فيها ينطقون ، وإلى أحكامها يفزعون ، وعن معانيها يكشفون ، كما قيل : زاحم الحكماء ، فإن الله يحيي القلوب الميتة بالحكم ، كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر (٤). ثم قال : رأس مال الحكمة ثلاث : الأول رياض النفس في المكروهات ، والثاني فراغ القلب عن حب الشهوات ، والثالث القيام على القلب بحفظ الخطرات ، ومن راقب الله عند خطرات قلبه عصمه عند حركات جوارحه. وقال عمر بن واصل (٥) : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [٢٦٩] أي يؤتي الإصابة في كتابه من يشاء ، كما قال الله تعالى لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند تعداد النعم عليهن : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب : ٣٤] فالآيات القرآن ، والحكمة ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المستنبط منها ، كما قال علي رضي الله عنه : الآيات رجل آتاه الله فهما في كتابه.

وسئل عن قوله : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [٢٧٣] وعن الفرق بينهم وبين المساكين. فقال : الله تعالى وصف الفقير بصفة العدم من حال سؤال الافتقار واللجأ إليه ،

__________________

(١) السدي : إسماعيل بن عبد الرحمن السدي (... ـ ١٢٨ ه‍) : تابعي ، حجازي الأصل. كان إماما عارفا بالوقائع وأيام الناس. (الأعلام ١ / ٣١٧).

(٢) زيد بن أسلم العدوي العمري (... ـ ١٣٦ ه‍) : فقيه مفسر ، من أهل المدينة. كان ثقة كثير الحديث ، وله كتاب في التفسير. (الأعلام ٣ / ٥٧).

(٣) الربيع بن أنس البكري البصري ثم الخراساني (... ـ ١٤٠ ه‍) : صدوق ، ذكره ابن حبان في الثقات. كان يتشيع فيفرط. (تهذيب التهذيب ٣ / ٢٠٧).

(٤) هذا القول من وصية لقمان الحكيم لابنه ، موطأ مالك ٢ / ١٠٠٢ ؛ وكتاب الزهد لابن أبي عاصم ١ / ١٠٧ وشرح الزرقاني ٤ / ٥٥٢.

(٥) قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١١ / ٢٢١ : «عمر بن واصل : أظنه بصريّا ، سكن بغداد ، وروى بها عن سهل التستري ، وحدّث عن عبيد الله بن لؤلؤ السلمي».

٤٣

ووصفهم بالرضا والقنوع ، فقال تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [٢٧٣] وهم أصحاب صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم نحو من أربعين رجلا ، ليست لهم في المدينة مساكن ولا عشائر ، فهذه أحوال أقوام مدحهم الله تعالى لشدة الافتقار إليه ، لا استطاعة لهم ولا قوة إلا به ومنه ، هو حولهم وقوتهم ، نزع عنهم قوة سكون قلوبهم إلى غيره ، وهو وسوسة النفس إلى شيء دون الله تعالى ، فهم بهذا الوصف أعلى حالا ، فمن ردّه الله تعالى إلى مساكنة نفسه فقال : (لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) [الكهف : ٧٩] فردهم إلى حالتهم التي قد سكنوا إليها. وأما الفقير الذي سلمه الفقر إلى الله تعالى إن حركته في موت نفسه فهو أحسن حالا من الذي سكن إلى حال له لمتابعة نفسه. قال عمر بن واصل : وإذا كان الفقير إلى الله عزوجل الراضي لا يسكن إلّا بالرضا والتسليم ، فقد كمل له الاسمان جميعا الفقر والمسكنة. قال أبو بكر سمعت سهلا يقول الفقير الفقير العاجز ، وهو الفقر بلبلبة القلب إلى الله عزوجل ، والسكون إليه بالطاعة والمسكنة ذل ، وهي المعصية لله. قال : وحكى الحسن عن أنس (١) رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لما أنزلت هذه الآية : «صانعوا الفقراء ليوم ملكهم. فقيل : يا رسول الله ومتى ملكهم؟ قال : يوم القيامة» (٢). وسئل عن قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [٢٨١] فقال : هي آخر آية ختم الله تعالى بها القرآن ، وتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزولها بثمانين يوما. ثم قال : إذا دخلت مظالم ليلة أهل الدنيا لأهل الدنيا ذهب النوم والقرار عن أهل السجن ، ما يدرون ما يصنع بهم بدعتي عليهم ، فيقتلون أو يعذبون ، أم يعفى عنهم فيطلقون ، فهذه مظالم أهل الدنيا لأهل الدنيا ، فكيف مظالم الحق لأهل العقبى؟.

قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [٢٨٦] أي طاقتها ، (لَها ما كَسَبَتْ) [٢٨٦] أي ثواب العمل الصالح ، (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [٢٨٦] يعني أوزار الذنوب. ثم قال : من لم تهمه الذنوب السالفة لم يعصم في أيامه الغابرة ، ومن لم يعصمه الله تعالى في بقية أيامه فهو من الهالكين في معاده. قيل له : متى يعرف الرجل ذنوبه؟ قال : إذا حفظ أنوار قلبه فلم يترك شيئا

__________________

(١) أنس بن مالك بن النصر الأنصاري (١٠ ق ه ـ ٩٣ ه‍) : صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخادمه. روى عنه ٢٢٨٦ حديثا. توفي بالبصرة. (الأعلام ٢ / ٢٥).

(٢) في المعجم الصغير ٢ / ١٣ ؛ والفردوس بمأثور الخطاب ٤ / ٣٩٢ رقم ٧١٣٧ : «ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة ، يقولون : ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت عليهم ، فيقول : وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأباعدنهم» وفي كشف الخفاء ١ / ٣٧ ، ٢ / ١١٤ ، والفردوس بمأثور الخطاب ١ / ٨٣ رقم ٢٦١ : (قال الحسين بن علي : اتخذوا عند الفقراء الأيادي ، فإن لهم دولة إذا كان يوم القيامة ...).

٤٤

يدخل عليه ولا يخرج منه ، إلّا بوزن ، حينئذ يعرف ذنوبه ، فمن فتح على نفسه باب حسنة فتح الله عليه سبعين بابا من التوفيق ، ومن فتح على نفسه باب سيئة فتح الله عليه سبعين بابا من الشر من حيث لا يعلمه العبد ، وما من قلب يهم بما لا يعنيه إلّا عوقب في الحال بتضييع ما يعنيه ، ولا يعرف ذلك إلّا العلماء بالله. وسئل عن قوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [١٨٠] ما هذا الخير عندك؟ قال : المال الحلال ، كما قال الله تعالى : (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) [٢١٥] أي من مال حلال في وجوهه وابتغاء مرضاته ، فقال : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) [٢٧٢] أي من مال حلال ، (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) [٢٧٢] أي توفون الجزاء من الله تعالى على فعلكم وما قصدتم به. وسئل عن قوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [١٧٧] أي في بداية الأمر بالسنة ، (وَالضَّرَّاءِ) [١٧٧] أي في اجتناب المنهي ظاهرا وباطنا في أكل الحلال ، والبأساء في الظاهر الفقر ، والضراء الشدة ، (وَحِينَ الْبَأْسِ) [١٧٧] أي عند القتال.

وسئل عن قوله : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) [٢٠٦] قال : يعني الحمية ، كما قال في ص : (فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [ص : ٢] أي في حمية واختلاف. وقوله : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [١٦٥] أي يحبون الأنداد كحبهم الله عزوجل ، فقد وصف الله تعالى شدة كفرهم وصدقهم في حال الكفر جهلا ، ووصف محبة المؤمنين وصدقهم في الإيمان بالله تعالى حقا ، ثم فضل المؤمنين بالمعرفة فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [١٦٥] بمعرفتهم وسائر أسباب العبد المؤمن إلى الإقبال عليه وإقامة الذكر له ، وتلك منزلة العارفين المحبين ، إذ المحبة عطف من الله تعالى بخالصة الحق. فقيل له : ما علامة المحبة؟ قال : معانقة الطاعة ومباينة الفاقة. وقد حكي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام : أتدري لم ألقيت عليك محبتي؟ فقال : لا يا رب. فقال : لأنك ابتغيت مسرتي. يا موسى : أنزلني منك على بال ، ولا تنس ذكري على حال ، وليكن همتك ذكري ، فإن طريقك عليّ (١) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) في المعجم الوسيط ١ / ١٤١ : (قال موسى : أنا أكون على حال من الحال ، أجلّك أن أذكرك ، الغائط والجنابة ، فقال : اذكرني على كل حال). وانظر مثل ذلك في الحلية ٦ / ٣٧.

٤٥

السورة التي يذكر فيها آل عمران

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [١ ـ ٢] قال : هو اسم الله الأعظم مكتوب على السماء بالنور الأخضر من المشرق إلى المغرب (١). قوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [٤] يعني القرآن فيه المخرج من الشبهة والضلالة. قوله : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [٧] يعني الكفر. (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [٧] يعني تفسيره على ما يوافق هوى نفوسهم. (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [٧] قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنزل القرآن على أربعة أحرف ، حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسيره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلّا الله تعالى ، فمن ادعى علمه سوى الله عزوجل فهو كاذب.

قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [٧] قال : حكي عن علي رضي الله عنه : هم الذين حجبهم العلم عن الاقتحام بالهوى والحجج المضروبة ، دون الغيوب لما هداهم الله وأشرفهم على أسراره المغيبة في خزائن العلوم فقالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [٧] فشكر الله تعالى لهم وجعلهم أهل الرسوخ والمبالغة في العلم زيادة منه لهم ، كما قال الله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] قال سهل : استثنى الله تبارك وتعالى الراسخين في العلم بقولهم : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [٧] يعني الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، وهم الكاشفون عن العلوم الثلاثة إذ العلماء ثلاثة : الربانيون والنورانيون والذاتيون ، وبعد العلوم الأربعة : الوحي والتجلي والعندي واللدني ، كما قال تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] ، (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [البقرة : ٢٦٩] أي وما يتذكر إلّا أولو الفهم والعقول الذين يقولون : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [٨] أي لا تمل قلوبنا عن الإيمان بعد إذ هديتنا بهداية منك ، (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [٨] لمن رجع إليك بالافتقار والتضرع والمسكنة. ثم قال سهل : ليس للعبد حيلة سوى أن يواظب في جميع عمره على قول : «رب سلم سلم ، الأمان الأمان ، الغوث الغوث».

__________________

(١) تقدم هذا القول في تفسير الآية ٢٥٥ من سورة البقرة.

٤٦

قال الله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩] يعني ينبغي للموحد أن يعلم يقينا أنه ليس كل من أحب الحق أحبه ، لأن إبليس قابله بعلاء الحب فقال : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [الإسراء : ٦١] وأنت الله لا يجوز أن يعبد غيرك ، حتى لعنه. فليس كل من تقرب إليه قبله وليس كل من أطاعه قبل طاعته ، إنه بصير بما في الضمير ، فلا يأمن أحد أن يفعل به كما فعل بإبليس لعنه بأنوار عصمته ، وهو عنده في حقائق لعنته ، ستر عليه ما سبق منه إليه حتى عاقبه بإظهاره عليه ، فليس للعبد إلّا استدامة الغوث بين يديه. وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا ثابت المثبتين ثبتني بثباتك ، يا ثابت الوحدانية لا إله إلّا أنت ، سبحانك إني كنت من الظالمين». وكان يقول : «يا ولي الإسلام وأهله ثبتني بالإسلام حتى ألقاك به» (١) ، قال : وموضع الإيمان بالله تعالى القلب ، وموضع الإسلام الصدر ، وفيه تقع الزيادة والنقصان.

وقوله : (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [١٥] يعني من الأحداث التي كانت تنالهن في الدنيا من الحيض وغيره ، ألا ترى إلى قوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢١] أي طهرهم به من بقاء أدناس الدنيا. قوله : (شَهِدَ اللهُ) [١٨] قال : أي علم الله وبيّن (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [١٨] شهد لنفسه بنفسه ، وهو خاص لذاته واستشهد من استشهد من خلقه قبل خلقهم بعلمه ، فنبه به أهل معرفته أنه عالم بما يكون قبل كونه ، وأن حقيقة التوحيد ما كان بدون الأكوان ، كما شهد به الحق لنفسه بنفسه قبل الأكوان. وقال عبد الواحد : كنت مع أيوب السختياني فرأى حمالا يحمل الحطب ، فقلت : هل لك برب؟ فقال : أمثلي يسأل عن ربه. فقلت له : إن كان لك خالق كما تزعم ، فلم اشتغلت بالحطب؟ فأشار الرجل إلى السماء ، فصار الحطب ذهبا ، فتعجبنا منه لذلك ، ثم قال : اللهم لا حاجة لي إلى هذا ، فتحول الذهب حطبا كما كان ، فقلنا له : ما حملك على هذا؟ فقال : لأني عبد ، فأحمل هذا كي لا أنسى نفسي (٢).

قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) [٢٦] يعني المعرفة والتوحيد وشرائع دينك الإسلام والعاقبة المحمودة ، وهو أن يتولى الله العبد ولا يكله إلى نفسه. قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [١٠٣] أي تمسكوا بعهده وهو التوحيد ، كما قال تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم : ٧٨] أي توحيدا وتمسكوا بما ملككم من تأدية فرضه وسنة نبيه ، وكذلك قوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) [١١٢] معناه إلّا بعهد من الله ودينه ، وإنما سماه

__________________

(١) مجمع الزوائد ١٠ / ١٣٦ ؛ والمعجم الأوسط ١ / ٢٠٦.

(٢) نسب مثل هذا الخبر إلى حيوة بن شريح في كرامات الأولياء ص ١٩٣ ؛ وتهذيب الحفاظ ص ٨٧ ؛ وأيضا نسب إلى التستري في الحلية ١٠ / ٢١٠.

٤٧

حبلا لأنه من تمسك به توصل إلى الأمر الذي يؤمنه. قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [٢٨] قال : أي عدله ، لأن النار عدله لمن خالفه ، والجنة فضله لمن أطاعه ، ألا ترون إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «يا من لا يرجى إلّا فضله ولا يخشى إلّا عدله».

قوله : (قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) [٣٥] أي حررته وأعتقته من رق الدنيا من متابعة هواه ومرادات نفسه ، وجعلته خادما لعباد بيت المقدس خالصا لله تعالى ، (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) [٣٧] أي وقال : الملك الأعلى أولى بالمحرر عن رقّ النفس ورقّ الدنيا. (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) [٣٧] قال : بالعمل الصالح في ذكر الله تعالى وجوارحها في خدمة الله وقلبها في معرفة الله عزوجل ، (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) [٤٣] أي لله فصلي ، وإياه بالإخلاص فاعبدي ، وإليه بالدعاء فاقنتي وتضرعي. قوله : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [٤٧] قال : إذا كان في علمه السابق الأزلي أمر فأراد إظهاره قال له كن فيكون ، قال القائل شعر : [من الطويل].

قضى قبل خلق الخلق ما هو خالق

خلائق لا يخفى عليه أمورها

قوله : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) [٦١] أي يدعو بعضنا على بعض باللعنة والمبتهل الداعي ، والابتهال الدعاء ، والمسبح الذاكر ، وهو الذي لا تكتبه إلّا الحفظة لأنه مشاهدة المذكور في الذكر بالمذكور وهو معنى قوله : «أنا جليس من ذكرني وحيثما التمسني عبدي وجدني» (١).

قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) [٦٤] يعني إلى طمع عدل بيننا وبينكم ، لأنهم كانوا مقرين بأن خالقهم وخالق السماوات والأرض هو الله تعالى ، فنوحده ولا نعبد إلّا إياه. وأصل العبادة : التوحيد مع أكل الحلال وكف الأذى ، ولا يحصل الأكل الحلال إلّا بكف الأذى ، ولا كف الأذى إلّا بأكل الحلال ، وأن تعلموا أكل الحلال وترك أذى الخلق والنية في الأعمال كما تعلموا فاتحة الكتاب ، ليصفوا إيمانكم وقلوبكم وجوارحكم ، فإنما هي الأصول. قال : حكى محمد بن سوار عن الثوري أنه قال : منزلة لا إله إلّا الله في العبد بمنزلة الماء في الدنيا ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] فمن لم ينفعه اعتقاد لا إله إلّا الله والاقتداء بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو ميت. قال سهل : وإني لأعرف رجلا من أولياء الله تعالى اجتاز برجل مصلوب وجهه إلى غير القبلة ، فقال : أين ذلك اللسان الذي كنت تقول به صادقا : «لا إله إلّا الله» ، ثم قال : اللهم هب لي ذنبه. قال سهل :

__________________

(١) تقدم الحديث في نهاية خطبة هذا الكتاب.

٤٨

فاستدار نحو القبلة بقدرة الله.

قوله : (وَجْهَ النَّهارِ) [٧٢] أي أول النهار. قوله : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [٧٣] أي كثير العطاء يقدر بقدرته الأزلية أن يعطي جميع ما يسأل ، وهو المحيط بكل شيء ، كما قال : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [طه : ٩٨].

وسئل عن قوله : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [٧٩] قال محمد بن سوار : الربّاني الذي لا يختار على ربه أحدا سواه ، وهو اسم مشتق من الربوبية. وقال سهل : الربانيون هم العالمون في الدرجة من العلم بالعلم. كما قال محمد بن الحنفية (١) ، لما مات عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : لقد مات هذا اليوم رباني هذه الأمة (٢). وإنما نسب إلى الرب لأنه عالم من علمه. كما قال : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم : ٣] ، فنسبه إلى النبوة بما علمه الله عزوجل. وكل من أنبأك بخبر موافق للكتاب والسنة فهو منبئ. والعلماء ثلاث : رباني ونوراني وذاتي بلا واسطة بينه وبين الله تعالى فيه بقية من الله عزوجل. وقال عمر بن واصل : الربانيون هم المجموعون من العلماء ، كما قال علي رضي الله عنه : الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. قوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) [٨٥] قال : الإسلام هو التفويض كقوله : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [١٠٢] أي مفوضون وكذلك قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [١٩].

وسئل عن قوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [٩٢] أي لن تبلغوا التقوى كلها حتى تحاربوا أنفسكم ، فتنفقوا بعض ما تحبون ، ولا إنفاق كإنفاق النفس في مخالفتها وطلب مرضاة الله عزوجل. وحكي عن عيسى عليه‌السلام مر بثلاثة نفر نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم ، فقال : ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا : الخوف من خالقنا ، والحذر من عقوبة عصياننا فقال : حق على الله أن يؤمن الخائف. قال : فجاوزهم إلى ثلاثة هم أشد نحولا ، فقال : ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا : الشوق إلى ربنا. فقال : حق على الله أن يعطيكم ما رجوتم. فجاوزهم إلى ثلاثة نفر هم أشد نحولا ، كأن وجوههم البدور ، قال : ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا : الحب قال : أنتم المقربون ثلاثا ، فمن أحب الله تعالى فهو المقرب ، لأن من أحب شيئا تسارع إليه ، فالمرتبة الأولى مرتبة التوابين ، والمرتبة الثانية مرتبة المشتاقين ، ثم يبلغ العبد المرتبة الثالثة ، وهي المحبة ، ألا ترون أنهم كيف اتفقوا كلهم فيمن الكل له ، وأعرضوا عن الكل إلى من له الكل؟.

__________________

(١) ابن الحنفية : محمد بن علي بن أبي طالب (٢١ ـ ٨١ ه‍) : أحد الأبطال الأشداء في الإسلام ، وهو أخو الحسن والحسين. كان واسع العلم ، ورعا ، أسود اللون. (الحلية ٣ / ١٧٤).

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ٦ / ٣٨٣ ، وفضائل الصحابة لابن حنبل ٢ / ٩٥٥.

٤٩

وقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) [٩٦] أي أول بيت وضع للناس بيت الله عزوجل بمكة هذا هو الظاهر ، وباطنها الرسول يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد من الناس. قوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) [١٠٦] يعني تبيض وجوه المؤمنين بنور إيمانهم ، (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [١٠٦] الكافرين بظلم كفرهم. وسئل عن قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) [البقرة : ٦١] فقال : هذه الأجسام الغرض منها ما أودع الله فيها من الودائع ، ابتلى الله الخليقة بها ، فمنها ما هو اعتبار للطائعين وهو الكفر ، ومنها ما هو حجة على الغافلين ، وهو المعرفة والتصديق في الأقوال والأفعال ، كما قال : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فباطن هذه الآية : النور العلم ، والظلمات الجهل ، لقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] أي ما يستبصر به القلب الإيمان بالله ، فنور الإيمان من أعظم منن الله عزوجل وكراماته. والثاني الطيب من القول ، وهو قوله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) [٦٤] الآية. والثالث إطاعة بالجوارح خالصا لله ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والقنوع والرضا ، فدعاهم بذلك إلى أطيب القول وأحسن الفعال ، ولو لم يكن الإيمان بالله والقرآن الذي هو علم الله فيه الدعوة إلى الإقرار بالربوبية والتعبد إياه في الفزع ، لم تعرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أجابهم من الخلق.

قوله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [١٤١] يعني تخليصهم من عيوب الذنوب ، كما أخلصوا له بالعمل ، وهو الجهاد في سبيل الله ، (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [١٤١] أي وليهلك الكافرين بالذنوب عن الابتلاء. قوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) [١٤٩] يعني الفئة المنهزمة يوم أحد حين لم يستأصلهم جميعا. (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [١٥٢] بالعفو عنهم وقبول التوبة منهم.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) [١٥٥] فسئل ما هذا الكسب؟ فقال : هو الإعجاب الذي كان منهم بكثرة عددهم يوم حنين ، وأخذهم العزة يوم بدر ، وكان لشرك الشيطان إياهم بعد مساكنة قلوبهم ورؤيتهم نفوسهم بما سولت لهم أنفسهم من الإعجاب ، فترك الله عصمتهم جزاء لهم. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع من أصحابه يوم حنين يقولون لن نؤتى من قلة : «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية» (١) من تدبيركم إلى نفوسكم بحال ، دون الافتقار إلى الله عزوجل ، ألا ترى أن داود عليه‌السلام لما

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الجهاد ، ٢٨٠٤ ، ٢٨٦١ ، ٢٨٦٣ ؛ وصحيح مسلم : كتاب الجهاد والسير ، ١٧٤١ ـ ١٧٤٢.

٥٠

سأل ربه اللحوق بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق فقال له : لست هناك يا داود. فقال : ولم يا رب؟ فقال : لأن أولئك ابتليتهم فصبروا ولم يعرفوا الدنيا ولا عرفتهم وإنك عرفت الدنيا وعرفتك واتخذتها أهلا. فقال داود عليه‌السلام : فأرني من عبادك من لو ابتليته صبر. فقال الله عزوجل : فإني مبتليك. فكان هو المبتدي في طلب البلاء للامتحان من الله تعالى ، يعني وذلك لعلم الله السابق في غيب مستور تفرد بمعرفته ، فأتاه إبليس في صورة حمامة ، وكان من قصته وقصة أوريا ابن حنان ما كان ، والله تعالى لم يعصمه من الهم والقصد والفعل ، وعصم يوسف من الفعل ولم يعصمه من الهم والقصد.

قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [١٥٩] يعني بتعطف من الله لنت لهم (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) [١٥٩] باللسان (غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [١٥٩] أي لتفرقوا من عندك (فَاعْفُ عَنْهُمْ) [١٥٩] أي تجاوز عن زللهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [١٥٩] هزيمتهم يوم أحد ، (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [١٥٩] أي لا تبعدهم بالعصيان عنك وأشملهم بفضلك فإنك بنا تعفو وبنا تستغفر وإيانا تطالع ، (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [١٥٩] أي إذا أردت إمضاءه بعد المشورة (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [١٥٩] أي ثق بالله مع ذلك ، وفوض إليه جميع أمورك ، وافتقر إليه دون غيره فلم يخرج من الدنيا حتى كشف الله تعالى في قلبه العلوم التي كانت بينه وبين الله تعالى بلا واسطة فيها ، لما كان يجب من النظر والتفكر اعتبارا بقدرة ربه ، كي ينال المزيد من الله تعالى كما أمره بقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] وقد حث على ذلك أمته بما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «شاوروا المتقين الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا ويؤثرون على أنفسهم في أموركم». وقال : «شاوروا العلماء الصالحين فإذا عزمتم إلى إمضاء ذلك فتوكلوا على الله». وقال : آخ من الإخوان أهل التقى ، واجعل مشورتك من يخاف الله تعالى ، ولا يكن كلامك بدلا ، ولا تعادين أحدا أبدا حتى تعلم كيف صنعه بينه وبين الله تعالى ، فإن كان حسن الصنيع فلا تعادينه ، فإن الله تعالى لا يكله إليك ، وإن كان سيئ الصنيع فلا تعادينه ، فإن الصنيع السوء يكفيه. وقال : من استشير فأشار بغير رأيه سلبه الله تعالى رأيه يعني غشه فيما أشار به عليه ، وقال : من شاور واتكل في إمضاء ما عزم ثم ندم فقد اتهم الله تعالى.

قوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [١٦٠] قال : الخذلان هو غاية الترك ، وأما الترك فإن صاحبه يذنب وهو مقر بذنبه ، فإذا أذنب على أنه ديانة فهو الخذلان ، وهو عقوبة الله تعالى صاحب الخذلان لأنه أقامه على ذنبه مع علمه به وتسويفه بالتوبة ، ألا ترى أن إبليس لما أبى وأصر عليه بعد الإباء خذله الله بعلمه السابق

٥١

فيه ، لأنه أراد منه ما علم ولم يرد منه ما أمره به ، وآدم عليه‌السلام لما لم يكن بالترك مخذولا أقر بالذنب بعد إتيانه ورجع إلى ربه جل وعز ، فقبل توبته ، فقوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [١٧٣] أي نعم الكفيل بأرزاقنا ونعم الرب. كقوله تعالى : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) [الإسراء : ٢] أي : ربا. قوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [١٨٧] أي : لم يعملوا بالكتاب (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [١٨٧] يعني اشتروا بالآخرة الباقية عرض الدنيا الفانية.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [١٩١] قال : من أراد حفظ القرآن فليختم بثلاث ختمات على شرط الآية ، ختمة قائما يصلي ، وختمة قاعدا يدرس ، وختمة مضجعا على جنبيه ، فإنه لا ينسى إن شاء الله عزوجل. ومن اشتغل بطلب العلم بالتقوى وقراءة القرآن وذكر الله عزوجل واتباع السنة واجتناب اللهو لم تصبه الأمراض والأسقام. ومن أطاع الله بالعلم وصدق النية لم يفقد عقله. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أطاع الله عزوجل فقد ذكره ومن عصاه فقد نسيه» (١). قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [٢٠٠] قال : الإيمان أربعة أركان : الأول التوكل على الله ، والثاني الاستسلام لأمره ، والثالث الرضا بقضائه ، والرابع الشكر لنعمائه والتقوى.

باب الإيمان

اليقين قلب الإيمان ، والصبر عماد الإيمان ، والإخلاص كمال الإيمان ، لأن العبد بالإخلاص ينال التصديق ، وبالتصديق ينال التحقيق ، وبالتحقيق يصل إلى الحق. والإخلاص ثمرة اليقين ، لأن اليقين مشاهدة السر ، فمن لم تكن له مشاهدة السر مع مولاه لم يخلص عمله لله ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) في مجمع الزوائد ٢ / ٢٥٨ ؛ والمعجم الكبير ٢٢ / ١٥٤ : (من أطاع الله فقد ذكره) ؛ وفي الزهد لابن المبارك ١ / ١٧ : (من أطاع الله فقد ذكر الله ، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن ، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن).

٥٢

السورة التي يذكر فيها النساء

سئل عن قوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [٤] قال : أعطوهن الصداق هبة من الله عزوجل لهن. وقد قال : إن النحلة الديانة ، وقال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقذر المعاصي عند الله تعالى منع الأجير أجرته ، ومنع المرأة مهرها». قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) [١٧] قال : التائب يتقي المعصية ويلزم الطاعة ، والمطيع يتقي الرياء ويلزم الذكر ، والذاكر يتقي العجب ويلزم نفسه التقصير. وحكي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه‌السلام أن أنين المذنبين أحب إلي من صراخ الصديقين (١). قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [٢٩] يعني لا تهلكوا أنفسكم بالمعاصي والإصرار ، وترك التوبة عند الرجوع إلى الاستقامة ، (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [٢٩] حيث حرم عليكم المعصية ، كي لا تهلكوا وهو قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [٣١] وقال : روي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر من أول النساء إلى هذه الآية. قال سهل : الكبائر ما أوعد الله تعالى النار عليه في كتابه. قوله : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [٣٦] قال : أما ظاهرها فالجار الجنب : البعيد الأجنبي ، والصاحب بالجنب : هو الرفيق في السفر ، وقد قيل الزوجة ، وابن السبيل : الضيف ، أما باطنها فالجار ذو القربى هو القلب ، والجار الجنب هو الطبيعة ، والصاحب بالجنب هو العقل المقتدي بالشريعة ، وابن السبيل هو الجوارح المطيعة لله ، هذا باطن الآية.

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [٤١] قال سهل : إن الله تعالى وكل بكل عبد مسلم ثلاثمائة وستين ملكا بعدد عروقه ، إن أراد خيرا أعانوه ، وإن أراد شرا عاتبوه عليه ، فإن عمل شيئا من ذلك حفظوه عليه ، حتى إذا كان يوم القيامة عرضوه عليه ووافقوه على ذلك ، حتى إذا صاروا إلى الله تعالى شهدوا عليه بوفاء الطاعة واقتراف الخطيئة ، قال الله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١].

__________________

(١) شعب الإيمان ٥ / ٤٥٢ (رقم ٧٢٥١).

٥٣

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) [٤٧] أي يحول الله عن الهدى والبصيرة إلى طبع الجهالة. قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [٤٨] قال : إذا لم يكن بينه وبين أحد مظلمة ، وإنما كانت ذنوبه فيما بينه وبين الله تعالى ، فإنه يغفرها وهو الجواد الكريم ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يؤتى بعبد يوم القيامة فيؤمر به إلى النار ، فيقول : ما كذا كان ظني. فيقول الله عزوجل : ما كان ظنك بي؟ فيقول : أن تغفر لي. فيقول الله عزوجل : قد غفرت لك ، فيأمر به إلى الجنة». قوله تعالى : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [٦٣] أي مبلغا بلسانك كنه ما في قلبك بأحسن العبارة عني.

قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) [٧٦] قال : المؤمنون خصماء الله على أنفسهم ، والمنافقون خصماء النفوس على الله عزوجل ، يبتدرون إلى السؤال ولا يرضون بما يختار الله لهم وهو سبيل الطاغوت ، إذ النفس أكبر الطواغيت ، إذا خلا العبد معها ، قيل له عن المعصية. قوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) [٧٧] فسئل : ما الدنيا؟ فقال : الدنيا كلها جهل إلّا موضع العلم ، العلم كله حجة إلّا موضع العمل به ، والعمل كله هباء إلّا موضع الإخلاص ، والإخلاص لا يتم إلّا بالسنة. ثم قال : دنياك نفسك ، فإذا أفنيتها فلا دنيا لك.

قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [٨١] فسئل : ما التوكل؟ فقال : التوكل طرح البدن في العبودية ، وتعلق القلب بالربوبية ، والتبري من الحول والقوة. قيل له : ما حقيقة التوكل في الأصل؟ فقال (١) : حقيقة التوكل في الأصل الإقرار بالتوحيد ، وفي الفرع علم الساعة ، وفي السكون المعاينة. ثم قال : لا تجزعوا من التوكل ، فإنه عيش لأهله. قيل : من أهله؟ قال : الذين خصوا بالخصوصية. فقيل له : لو زدت لنا وضوحا. فقال سهل : إن العلوم كلها أدنى باب من التعبد ، وجملة التعبد أدنى باب من الورع ، وجملة الزهد أدنى باب من ظهور القدرة ، ولا تظهر القدرة إلّا للمتوكل ، وليس للتوكل غاية وصف يوصف به ، ولا حد يضرب له بالأمثال ، ولا غاية ينتهى إليها. فقيل له : صف لنا بعضه. فقال : إن المتوكل له ألف منزل ، أول منزل منه المشي في الهواء. قيل له : بما ذا يصل العبد إليه؟ فقال : إن أول الأشياء المعرفة ، ثم الإقرار ، ثم التوحيد ، ثم الإسلام ، ثم الإحسان ، ثم التفويض ، ثم التوكل ، ثم السكون إلى الحقّ جلّ وعزّ في جميع الحالات ، وقال : لا يصح التوكل إلّا للمتقي. قيل : ما التقوى؟ قال : كف الأذى (٢).

__________________

(١) في الحلية ١٠ / ٢٩٨ : (سئل عن حقيقة التوكل ، فقال : نسيان التوكل).

(٢) في الحلية ١٠ / ٢٩٨ ، (قال : لا يصح التوكل إلا للمتقي ، ولا تتم التقوى إلا لمتوكل).

٥٤

قوله تعالى : (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ ، كِفْلٌ مِنْها) [٨٥] يعني الحظ منها ، لأنها تمنع رضا الله تعالى. قوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [٨٦] يعني زيادة على سلامه الصادر بالنصح لله تعالى. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «السلام اسم من أسماء الله تعالى أظهره في أرضه ، فأفشوه بينكم» (١). قوله تعالى : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) [٨٨] يعني أعادهم إلى ما جبلت عليه أنفسهم من الجهل به. وقال عليه الصلاة والسلام : «لا تستنجوا بعظم ولا روث فإنه ركس» (٢) ، يعني رجع من حاله الأول إلى أن صار طعام الجن. (أَتُرِيدُونَ) [٨٨] معشر المخلصين (أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) [٨٨] قال سهل : الإضلال من الله ترك العصمة عما نهى عنه ، وترك المعونة على ما أمر به. قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [٩٠] أي ضاقت قلوبهم عن قتالكم وقتال قومهم ، لحبهم السلامة وركونهم إلى العافية ، وهم بنو مدرج. قوله : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [١٠٥] يعني بما علمك الله تعالى من الحكمة في القرآن وشرائع الإسلام. قوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) [١١٧] يعني أصواتا وهو الحجارة والحديد. قوله عزوجل : (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) [١٢١] يعني معدلا. قوله : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) [١٣٩] يعني المنافقين يبتغون عند اليهود المنعة والقوة ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «ما نزل من السماء شيء أعز من اليقين» (٣) أي أمنع وأعظم.

قوله : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) [١٤١] يعني نغلب ونستولي عليكم. قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [١٤٢] أي يسرع لهم الجزاء على إظهار الإيمان وإضمار الكفر بترك العصمة والتوفيق ، وتمديد الأموال والبنين ، والإطراق على عاجل الدنيا ، وخاتمتهم النار ، فهذا هو المراد من قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [١٤٢]. قال سهل في قوله تعالى : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) [الصافات : ١٢] أراد به سرعة مجازاتهم على الإقامة والنفي ، فسمى قوله باسم فعلهم. وقد أخبر عنهم بالعجب في مواضع ، قال في قوله في قل أوحي : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن : ١] وفي ق : (بَلْ عَجِبُوا) [ق : ٢] وفي ص : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] وقد ذكر في الصافات : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) [الصافات : ١٢] أي رأيت جزاءهم عظيما ، فسمى تعظيم الثواب عجبا ، لأن المتعجب إنما يتعجب من أمر بلغ نهايته ، فهذا هو المراد من قوله : (بَلْ عَجِبْتَ) [الصافات : ١٢].

__________________

(١) في صحيح البخاري : كتاب صفة الصلاة ، رقم ٧٩٧ ؛ والمعجم الكبير ١٠ / ٨٢ (١٠٣٩١) ؛ والمعجم الصغير ١ / ١٥٣ (٢٠٣) ؛ والمعجم الأوسط ٣ / ٢٣١ (٣٠٠٨) : (إن الله هو السلام).

(٢) صحيح البخاري : كتاب الوضوء ، رقم ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٣) نوادر الأصول ٣ / ١٦٩.

٥٥

وقد حكي أن شقيقا قرأ على شريح : «بل عجبت» (١) فقال له شريح : «بل عجبت» إن الله لا يعجب من شيء ، إنما يعجب من لا يعلم (٢). قال شقيق : فأخبرت به إبراهيم فقال : إن شريحا يعجبه علمه ، وإن ابن مسعود أعلم منه ، وكان يقرأ : «بل عجبت» بالضم.

(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) [١٤٢] فهذه من علامات المنافقين ، حيث خانوا في هذه الأمانة التي تحمّلوها في الظاهر ، واعلم أن لله تعالى أمانة في سمعك وبصرك ولسانك وفرجك ، وظاهرك وباطنك ، عرضها عليك ، فإن لم تحفظها خنت الله ، و (اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) [الأنفال : ٥٨]. وقد حكي عن أبي حبان أنه قال : ارتحلت إلى مكة وجئت سعيد بن جبير (٣) فقلت له : جئتك من خراسان في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام : «علامة المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» (٤). ولا أرى أنها في نفسي ، فتبسم سعيد وقال : وقع في سري ما وقع في سرك ، فأتيت علي بن أبي طالب (٥) وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وقت القيلولة ، فوجدتهما عند البيت ، فسألتهما عن تأويل هذا الحديث فتبسما ، وقالا : لقد أشكل علينا ما أشكل عليك ، فذهبنا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت القيلولة ، فأذن لنا فذكرنا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «ألستما على شهادة أن لا إله إلّا الله؟ قلنا : بلى. فقال : هل رجعتما عن ذلك؟ فقلنا : لا. قال : لقد قلتما وصدقتما. ثم قال : ألستما على ما قررتكما عليه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث؟ قلنا : نعم ، كأنها رأي العين. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا من الإنجاز. ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألستما تصليان وتسجدان في الصلاة في الخلوة؟ فقلنا : نعم. فقال : هي الأمانة لا خيانة فيها».

__________________

(١) معجم القراءات القرآنية ٤ / ١٩٧ ، القراءة رقم ٧٣٧٦ ، وذكر من مصادر القراءة : النشر ٢ / ٣٥٦ ؛ والبحر المحيط ٧ / ٣٥٤ ؛ والكشاف ٣ / ٣٣٧.

(٢) في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٠٠ : (ومن قرأ «عجبت» فهو إخبار عن الله ، وقد أنكر قوم هذه القراءة ، وقالوا : الله عزوجل لا يعجب. وإنكارهم هذا غلط ... والعجب من الله ، خلافه من الآدميين ، كما قال : «ويمكر الله» [الأنفال : ٣٠] و «سخر الله» [التوبة : ٧٩] ، و «هو خادعهم» [النساء : ١٤٢]. والمكر من الله والخداع خلافه من الآدميين ...).

(٣) سعيد بن جبير الأسدي ، بالولاء ، الكوفي (٤٥ ـ ٩٥ ه‍) : تابعي ، كان أعلمهم على الإطلاق. أخذ العلم عن ابن عباس وابن عمر. قتله الحجاج لخروجه على عبد الملك بن مروان. (الحلية ٤ / ٢٧٢).

(٤) صحيح البخاري : كتاب الإيمان ، حديث رقم ٣٣ ؛ وصحيح مسلم : كتاب الإيمان ، حديث رقم ١٢٤.

(٥) ثمت شك في هذه الرواية ، لأن علي بن أبي طالب قتل سنة ٤٠ ه‍ ، أي قبل ولادة سعيد بن جبير.

٥٦

وقال سهل : إن اليقين أوتاد قلوب العارفين وأرواح المشتاقين ، كما أن جبال الدنيا مع جبل ق أوتاد الأرضين قوام للعالمين ، ثم زاد قوة قلبك حيث قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١] وقد أنزلته على قلوبهم حفظا وعليكم أمرا ، فلم يؤثر حمله فيكم لحفظي إياكم ولطفي ونظري إليكم.

ثم قال : انتهت عقول المؤمنين سائرة إلى العرش فسلمت وحفت بظرائف حكمه وفنون بره ، وسارت عقول المنافقين ، فلما بلغت رامت الغيوب ، فردت منكسة ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [٨٨ ، ١٤٣].

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) [١٧١] قال : أي لا تجاوزوا دينكم بالبدع ، وتعدلوا عن الحق ، وهو الكتاب والسنة والإجماع ، ميلا إلى هوى نفوسكم.

وقال : قوام الدين والدنيا في ثلاث : العلم والأدب والمبادرة ، وهلاك الدين والدنيا في ثلاث : الجهل والخرق والكسل.

وسمعته مرة أخرى يقول (١) : أربع من دعائم الدين : القيام بالحق على نفسك وغيرها ، والقعود عن باطل نفسك وغيرها ، والمودة لأهل طاعة الله ، والبغض لأهل معصيته.

__________________

(١) الحلية ١٠ / ١٩١.

٥٧

السورة التي يذكر فيها المائدة

سئل عن قوله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [٢] فقال : البر الطاعة لله واتقاء المعصية. قوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) [٣] يعني : فلا تخشوا الكفار في عبادتي واخشوني في اتباعهم ، فقال : أعجز الناس من خشي من لا ينفعه ولا يضره ، والذي بيده النفع والضر يخاطبه في قوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) [٣]. قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [٥] قال : الطيبات الحلال من الرزق. قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [٦] قال : الطهارة أربعة أشياء : صفاء المطعم وصدق اللسان ومباينة الآثام وخشوع السر ، وكل واحد من هذه الأربعة يقابل بكل واحد من تطهير الأعضاء الظاهرة. قوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [٦] يعني يطهركم من أحوالكم وأخلاقكم وأفعالكم ، لترجعوا إليه بحقيقة الفقر من غير تعلق بسبب من الأسباب. والطهارة على سبعة أوجه (١) : طهارة العلم من الجهل ، وطهارة الذكر من النسيان ، وطهارة الطاعة من المعصية ، وطهارة اليقين من الشك ، وطهارة العقل من الحمق ، وطهارة الظن من النميمة ، وطهارة الإيمان مما دونه ، ولكل عقوبة طهارة ، إلّا عقوبة القلب فإنها قسوة (٢). قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) [٢٣] فسئل : ما هذه النعمة؟ فقال : أنعم الله عليهما بالخوف والمراقبة ، إذ الخوف والهم والحزن يزيد في الحسنات ، والأشر والبطر يزيد في السيئات. قوله : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [٥٤] يعني غليظة عليهم. قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [٥٥] قال : ولاية الله تعالى الاختيار لمن استولاه ، ثم أعلم الرسول أنه ولي المؤمنين ، فيجب عليه أن يوالي من والى الله تعالى والذين آمنوا ، ثم قال : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) [٥٦] يعني غالبون هوى نفوسهم. قوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [٦٤] وقال : يعني حكمه وأمره ونهيه نافذ في ملكه.

__________________

(١) ذكر في الحلية ١٠ / ٢٠٨ ثلاثة أوجه فقط.

(٢) الحلية ١٠ / ٢٠٨.

٥٨

قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [٦٦] يعني لو علموا بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو عملت به لبلغت هذه المنزلة كما بلغها من عمل بها ، ولو أقبلت على الرازق لكفيت مؤنة الرزق. ثم قال : ولست أكبر من عمرو بن الليث (١) كان يمر وبين يديه ألف راكب وألف غلام ، في يد كل غلام عمود من ذهب وفضة ، فآل أمره إلى أن حبس في بيت حين حمل إلى الخليفة ، ومنع عنه الطعام والشراب ، وفتح الباب فوجدوه ميتا ، وفمه مملوء من الجص والآجر من شدة جوعه. ثم قال : إني نصحت لكم ، وإني لكم من الناصحين. وقد حكى مالك بن دينار (٢) عن حماد بن سلمة (٣) وحماد بن يزيد (٤) أنهما دخلا على رابعة (٥) فذكرا شيئا من أمر الدنيا فقالت رابعة : لقد أكثرتما ذكر الدنيا ، ما أظنكما إلّا جياعا ، فإن كنتما جياعا فاعمدا إلى القدر وذلك الدقيق ، فاصنعا لأنفسكما ما وسوس ، قال بعض من كان معها : لو كان لنا ثوم. فقال حماد : فرأيت رابعة حركت شفتيها ، فما سكتت حتى جاء طير في منقاره رأس ثوم ، فرمى به ومضى (٦).

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [٦٧] قيل : ما هذه العصمة؟ فقال : إن الله تعالى وعده أن لا يبتليه كما ابتلى سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إبراهيم بالنار ، وإسماعيل بالذبح ، وغيرهما ، إذ كان لا يشعر بما يفعل به ، كما قال : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩] فأعلمه الله تعالى أنه يعصمه من الناس.

__________________

(١) عمرو بن الليث ، الصفار (... ـ ٢٨٩ ه‍) : ثاني أمراء الدولة الصفارية ، وأحد الشجعان الدهاة. ولي بعد وفاة أخيه مؤسس الدولة يعقوب سنة ٢٦٥ ه‍ ، وأقره المعتمد العباسي على أعمال أخيه كلها ، وهي :

خراسان وأصبهان وسجستان والسند وكرمان ، وعزله المعتمد سنة ٢٧١ ، وقامت حروب بينهما ، ثم ولاه المعتمد سنة ٢٧٦ شرطة بغداد. (الأعلام ٥ / ٨٤).

(٢) مالك بن دينار البصري (... ـ ١٣١ ه‍) : من رواة الحديث. كان ورعا ، يأكل من كسبه ، ويكتب المصاحف بالأجرة. توفي في البصرة. (الحلية ٢ / ٣٥٧).

(٣) حماد بن سلمة بن دينار البصري الرّبعي بالولاء (... ـ ١٦٧ ه‍) : مفتي البصرة ، وأحد رجال الحديث ، ومن النحاة. كان حافظا ثقة مأمونا. (الحلية ٦ / ٢٤٩).

(٤) حماد بن يزيد بن درهم الأزدي الجهضمي (٩٨ ـ ١٧٩ ه‍) : شيخ العراق في عصره ، ومن حفاظ الحديث المجودين ، حفظ أربعة آلاف حديث. (الحلية ٦ / ٢٥٧).

(٥) رابعة بنت إسماعيل العدوية (... ـ ١٣٥ ه‍) : صالحة ، مشهورة ، من أهل البصرة ، ومولدها بها. لها أخبار في العبادة والنسك ، ولها شعر. (الأعلام ٣ / ١٠).

(٦) في كرامات الأولياء ص ٢٢٦ (أن رابعة كانت تطبخ قدرا ، فاشتهت بصلا ، فجاء طير في منقاره بصلة ، فألقاها إليها).

٥٩

قوله : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) [٨٣] قال : هم القسيسون والرهبان ، كان الناس يتمسحون بهم لعلمهم في الدين ، قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليهم القرآن ، فرقوا له ، ففاضت أعينهم ولم يستكبروا ، بعصمة الله إياهم عن الاستكبار ، فدخلوا في دينه لما وضع الله تعالى من علمه فيهم ، ثم قال : فساد الدين بثلاث : الملوك إذا أخذوا في السرف والشهوات ، والعلماء إذا أفتوا بالرخص ، والقراء إذا تعبدوا بغير علم (١) وإن العلماء يحتاج إليهم الخلق في الدنيا والآخرة ، وقد حكي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أهل الجنة يحتاجون إلى العلماء في الجنة كما يحتاجون إليهم في الدنيا ، يزورون ربهم في كل جمعة فيقال لهم : تمنوا ما شئتم. فينطلقون إلى العلماء ، فيقول لهم العلماء : تمنوا كذا تمنوا كذا ، فيتمنون» (٢).

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) [١٠٩] يعني لا علم لنا بما كان في قلوبهم من الإيمان بك وغيره ، إنما علمنا بما أظهروه من الإقرار باللسان (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [١٠٩] فقيل له : يطالبهم بحقيقة ما في قلوب الأمة؟ فقال : لا ، وإنما وقع السؤال بنفسه إياهم عن حقيقة الظاهر الذي لا يظهر إلّا بحقيقة الباطن ، فأجابوا بالإشارة إلى رد العلم إليه. ويحتمل أن يكون معناه : لا علم لنا بمعنى سؤالك ، مع علمك بما أجبنا : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [١٠٩].

قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [١١٦] أي لا أعلم غيبك في سؤالك ، مع علمك به. ويحتمل أن يريد : تعلم ما في سري ولا أعلم ما في نفسك المستودع في سري ، لأن سرك بينك وبينها لا يطلع عليه أحد دونك ، وهي العين التي ترى بها الحق ، وأذن تسمع بها الحق ، ولسان ينادي بالحق. والدليل عليه قوله تعالى للمنافقين : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨ ، ١٧١] لأنه لم يكن لهم هذه المستودعات ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) انظر مثل هذا القول للتستري في الحلية ١٠ / ٢٠٦.

(٢) كشف الخفاء ١ / ٢٦٣ ، ولسان الميزان ٥ / ١٥ ، وفيهما أن الحديث موضوع.

٦٠