تفسير التّستري

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري

تفسير التّستري

المؤلف:

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري


المحقق: محمد باسل عيون السود
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3631-3
الصفحات: ٢٣٩

وقال : كانت قلوبهم أعز عليهم من أن يروا فيها شيئا غير الله عزوجل ، فإن الله لما خلق القلب قال : «خلقتك لي خاصة» ، فهذه القلوب جوالة ، إما تجول حول العرش ، وإما تجول في الحش.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [٨٣] قال : تزعجهم بالمعاصي إزعاجا ، وتدعوهم إليها بما تهوى أنفسهم بترك عصمة الله ، كما قال تعالى في قصة اللعين : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] ودعاؤه على مقامات فقد يكون إلى الشر ، وقد يكون إلى الخير ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الشيطان ليورد أحدكم سبعين بابا من الخير ليوقعه في باب من الشر فيهلكه» قال : وإن اللعين يوسوس إلى جميع أهل العبادات وأصحاب الجهد ، ولا يبالي منهم إلا من لا يدخل في شىء ، حتى يعلم أنه له أو عليه ، وإنما وقع المغاليط للعباد والزهاد في العلم لا في الاجتهاد ، فلم يكن لهم حال يعرفونها فيما بينهم وبين ربهم ، فإن الله تعالى إذا حاسب العبد يوم القيامة فكل فعل عرف صاحبه حاله فيه من طاعة أو معصية ثبت عقله له ، وما جهل فيه حاله تحير ودهش لذلك لأنه إذا عرف حاله صحت الطاعة والتوبة بحجة الله ، وإذا لم يعرف يتحير ويدهش لأنه عمل بغير حجة.

وسئل سهل عن رجل يذكر الله فيخطر بقلبه : إن الله معك. قال : هو مكلف ثالث ، إما أن يكون عدوا فيريد أن يقطعه ، وإما أن يكون ذلك نفسه تريد أن تخونه وتخدعه ، فلا يلتفتن إلى الخواطر في هذه الحال ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٠١

السورة التي يذكر فيها طه عليه‌السلام

قوله تعالى : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [٧] قال : أخفى من السر ما لم يفكره العبد فيه وهو مفكره نوما.

قوله تعالى : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [١٨] قال : أول من ملك العصا آدم ، وهي من آس الجنة ، ثم انتقلت من نبي إلى نبي حتى صارت إلى شعيب ، فلما زوجه بنته أعطاها إياه ، فكان موسى عليه‌السلام يتوكأ عليها ، ويهش بها على غنمه ، وينثر الورق إلى غنمه ، ثم يأخذ بها من الشجر ما يريد ، ويرسلها على السباع والوحوش وهوام الأرض فيضربها. وإذا اشتد الحر نصبها في الأرض فتكون كالظلة ، وإذا نام حرسته حتى يستيقظ ، وإذا كانت له ليلة مظلمة أضاءت له كالسراج ، وإذا كان يوم غيم وغم عليه وقت الصلاة بينت له بشعاع طرفها ، وإذا جاع غرزها في الأرض فأثمرت من ساعتها ، فهذه مآرب عصاه (١). فقد ذكر موسى عليه‌السلام من العصا منافع ومآرب ظهرت له ، فأراد الله تعالى مآرب ومنافع كانت خافية عليه ، كانقلابها ثعبانا ، وضربها بالحجر لتنجاش عيون الماء ، وضربها بالبحر وغير ذلك ، فأراه أن علوم الخلق ، وإن كانوا مؤيدين بالنبوة ، قاصرة عن علم الحق بالأكوان.

قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [٣٩] قال : أظهر الله عليه ميراث علمه قبل العمل ، فأورثه محبة في قلوب عباده ، لأن من القلوب قلوبا تثاب قبل الفعل ، وتعاقب قبل الرأي ، كما يجد الإنسان في نفسه فرحا لا يعرف سببه ، وغما لا يعرف سببه.

قوله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [٤٠] أي فتنا لنفسك الطبيعية وبيناها حتى لا تأمن مكر الله.

قوله تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [٤١] أي تفرد إلي بالتجريد لا يشغلك عني شيء.

قوله : (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) [٤٢] أي لا تكثر الذكر باللسان ، وتغفل عن مراقبة القلب.

__________________

(١) تفسير القرطبي ١١ / ١٨٧ ؛ وكتاب التاريخ لابن حبيب ٥٦ ، وخرج محققه الخبر من تاريخ الطبري ١ / ٤٦٤ ؛ والكامل لابن الأثير ١ / ١٧٩ ؛ والبداية والنهاية ١ / ٢٤٧.

١٠٢

قوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [٤٤] قال : حكي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كان موسى عليه‌السلام إذا دخل على فرعون قال له : يا أبا مصعب قل لا إله إلا الله وإني رسول الله. قال سهل : إن الله تعالى ألبس موسى عليه‌السلام لبسة المتأوبين ، ونفى عنه عجلة المتهجمين لما رآه من الفضل والتمكين ، ولم يرد به إيمانا ، إذ لو أراد لقال : لعله يؤمن ، وإنما أراد الحق عزوجل بذلك ملاطفة موسى عليه‌السلام بأجمل الخطاب وألين الكلام ، لأن ذلك محرك لقلوب الخلائق أجمعين ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها» (١) ، ليقطع به حجته ، ويرغب من علم الله هدايته من السحرة وغيرهم.

قوله تعالى : (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [٤٦] قال : أخبر الله أنه معهما بالنظر ، مشاهد لكل حال هما عليه بالقوة والمعونة والتأييد ، لا تخافا إبلاغ الرسالة بحال.

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها) [البقرة : ٥٨] قواما ولا تشبعوا منه فتسكروا عن الذكر ، فإن السكر حرام. وقال : من جوّع نفسه انتقص بقدر ذلك دمه ، وبقدر ما انتقص من دمه بالجوع انقطعت الوسوسة من القلب ، ولو أن مجنونا جوّع نفسه لصار صحيحا. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من وعاء أبغض إلى الله من بطن ملىء طعاما» (٢).

قوله تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [١١١] قال : أي خضعت له بقدر مقامها من المعرفة بالله ، وتمكين التوفيق منه.

قوله : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) [١٢٣] قال : هو الاقتداء وملازمة الكتاب والسنة ، فلا يضل عن طريق الهدى ، ولا يشقى في الآخرة والأولى.

قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [١٣١] قال : أي لا تنظر إلى ما يورثك وسوسة الشيطان ، ومخالفة الرحمن ، وأماني النفس ، والسكون إلى مألوفات الطبع ، فإن كل واحد منها مما يقطع عن ذكر الله عزوجل.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) نوادر الأصول ١ / ١٤٩ ؛ وكشف الخفاء ١ / ٣٩٥ ؛ ومسند الشهاب ١ / ٣٥٠.

(٢) في المستدرك على الصحيحين ٤ / ٣٧٦ ، رقم ٧٩٤٥ ؛ والسنن الكبرى ٤ / ١٧٧ ، رقم ٦٧٦٨ ؛ وكشف الخفاء ٢ / ٢٦٠ : (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه ...).

١٠٣

السورة التي يذكر فيها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [٧] قال : يعني أهل الفهم عن الله ، والعلماء بالله وبأوامره وبأيامه. قيل : صفهم لنا. قال : العلماء ثلاثة : عالم بالله لا بأمر الله ولا بأيام الله ، وهو عامة المؤمنين ؛ وعالم بالله وبأمر الله لا بأيام الله ، وهم العلماء ؛ وعالم بالله وبأمر الله وبأيام الله ، وهم النبيون والصديقون (١).

قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [١٠] قال : يعني العمل بما فيه حياتكم (٢). قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [٢٧] قال : إن الله تعالى جعل الكرامات كلها للمتقين من عباده ، ثم للمبتدئين ، ووصفهم فقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) [٢٧] أي لا اختيار لهم مع اختياره ، (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [٢٧] وهو اتباع السنة في الظاهر ، ومراقبة الله في الباطن.

قوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [٣٥] قال : الشر متابعة النفس والهوى بغير هدى ، والخير العصمة من المعصية والمعونة على الطاعة.

قوله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) [٨٣] قال : الضر على وجهين : ضر ظاهر وضر باطن ؛ فالباطن حركة النفس عند الوارد واضطرابها ، والظاهر إظهار ما في السر من ذلك ، فمتى احتل الضر الباطن سكن الظاهر عن إظهاره وصبر على الآلام ، وإذا تحرك الباطن تحت الوارد انزعج الظاهر بالصياح والبكاء ، فكان شكواه إلى الله عزوجل كي يعطي المعونة على رضا قلبه بالوارد ، وذلك أن القلب إذا كان راضيا بأمر الله لم يضر العبد ما فعلت جوارحه ، ألا ترى إلى بكاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مات ابنه إبراهيم كيف بكى عليه رحمة له بطبع البشرية ، فلم يضره ما فعلت جوارحه ، لأن قلبه كان راضيا به.

__________________

(١) نسب القول للمسيح عليه‌السلام في نوادر الأصول ٤ / ١٠١.

(٢) تفسير القرطبي ١١ / ٢٧٣.

١٠٤

وكان سهل يقول لأصحابه : قولوا في دعائكم : إلهي إن طبختني فأنا قدر ، وإن شويتني فأنا محنوذ ، ولا بد أن تعرف ، فمنّ عليّ بمعرفتك.

وسئل سهل عن الدار ، دار إسلام أم دار كفر؟ فقال : الدار دار بلوى واختبار. وقال عبد الرحمن المروزي لسهل : يا أبا محمد ، ما تقول في رجل من منذ خمسة وعشرين يوما تطالبه نفسه أن تشبع ورق السدر من منذ ثمانية عشر يوما؟ فقال له سهل : ما تقول في رجل تطالبه نفسه أن يشم ورق السدر. قال : فوثب عبد الرحمن وانتفخت أوداجه (١).

قوله تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [٦٩] قال : النار مسلطة على الإحراق فمن لم تسلط عليه لم تحرقه. قال عمر بن واصل العنبري : كنت عند سهل ذات ليلة فأخرجت فتيلة السراج ، فنالت من إصبعي شيئا يسيرا أو لمت منه ، فنظر إلي سهل ووضع إصبعه نحو ساعتين ، لا يجد لذلك ألما ولا أثرا بإصبعه أثر ، وهو يقول : أعوذ بالله من النار (٢).

قوله : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [١٠٥] قال : أضافهم إلى نفسه وحلاهم بحلية الصلاح ، معناه : لا يصلح إلا ما كان خالصا لي ، لا يكون لغيري فيه أثر ، وهم الذين أصلحوا سريرتهم مع الله ، وانقطعوا بالكلية عن جميع ما دونه.

قوله : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) [١٠٦] قال : لم يجعله بلاغا لجميع عباده ، بل خصه لقوم عابدين ، وهم الذين عبدوا الله تعالى ، وبذلوا له مهجهم ، لا من أجل عوض ، ولا من أجل الجنة ، ولا من أجل النار ، بل حبا له وافتخارا بما أهّلهم لعبادتهم إياه ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) انظر مثل هذا الخبر في قوت القلوب ٢ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، الفصل ٣٩.

(٢) هذا القول لمالك بن دينار في الحلية ٢ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

١٠٥

السورة التي يذكر فيها الحج

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [٣ ، ٧] أي يخاصم في الدين بالهوى والقياس دون الاقتداء ، فعند ذلك يضل الناس ويبتدع.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [١١] قال : المؤمن وجه بلا قفا ، كرّار غير فرّار ، تراه يجاهد في دين الله وطاعته ، من إقامة توحيده واقتدائه بنبيه ، وإدامة التضرع ، واللجأ إلى الله رجاء الاتصال به من موضع الاقتداء ، كما روى زيد بن أسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أمتي إلا دخل الجنة إلا من أبى ، قلنا : ومن الذي يأبى ذلك؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى أن يدخل الجنة» (١).

قوله : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) [١١] يعني الذي يتبع الهوى إن رضي قلبه وفرحت نفسه بعاجل حظها اطمأن به ، وإلا رجع إلى ما يدعوه الهوى من الكفر.

قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) [١٤] قال : هم الذين صدقوا الله في السر والعلانية ، واتبعوا سنة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يبتدعوا بحال.

قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [١٨] قال : سجود هذه الأشياء معرفتها بالحق بالتذلل والانقياد له.

قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) [٢٦] يعني طهّر بيتي من الأوثان لعبادي الطاهرة قلوبهم من الشك والريب والقسوة ، فكما أمر الله بتطهير بيته من الأصنام ، فكذلك أمر بتطهير بيته الذي أودعه سر الإيمان ونور المعرفة ، وهو قلب المؤمن ، أمر الله تعالى المؤمن بتطهيره عن الغل والغش والميل إلى الشهوات والغفلة للطائفين فيه زوائد التوفيق والقائمين بأنوار الإيمان ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [٢٦] الخوف والرجاء ، فإن القلب إذا لم يسكن خرب ، وإذا سكنه غير مالكه خرب ، فإذا أردتم أن تعمروا قلوبكم فلا تدعوا فيها غير الله ، وإذا أردتم أن تعمروا ألسنتكم فلا تدعوا فيها غير الصدق ، وإذا أردتم أن تعمروا جوارحكم فلا تدعوا فيها شيئا إلا بالسنة.

__________________

(١) صحيح البخاري : الاعتصام بالكتاب والسنة ، رقم ٦٨٥١.

١٠٦

قوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) [٢٧] قال : إن لله تعالى عبادا يذهبون إلى المساجد بعضهم على السرير ، وبعضهم على المراكب من ذهب عليها سندس ، وتجرها الملائكة. قال أحمد بن سالم : كنت في أرض أصلحها ، فرأيت سهلا على فرش فوق ماء الفرات. وقال : دخلت يوما دار سهل وكان بابه صغيرا ، فرأيت فرسا قائما ، فخرجت فزعا ، وتعجبت كيف دخل من هذا الباب الصغير ، فرآني سهل وقال : ارجع ، فرجعت فلم أر شيئا. وحكي أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أشرف على أهل عرفات فقال : لو يعلم الجمع هنا بفناء من نزلوا لاستبشروا بالفضل بعد المغفرة.

قوله : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [٢٨] يعني الهدايا والضحايا. وحكي عن فتح الموصلي (١) أنه أشرف في يوم العيد على الموصل ، فرأى الدخان في بيوت الناس ، فقال : إلهي كم من متقرب إليك في هذه الليلة بقربان ، وقد تقربت إليك بقربان ، يعني الصلوات ، فما أنت صانع فيه يا محبوب (٢). وحكي عن عدي بن ثابت الأنصاري (٣) أنه قال : قربان المتقين الصلاة (٤) ، والله أعلم.

قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [٢٩] قال : اختلف الناس فيه. قال الحسن : إنما سماه عتيقا تكرمة له ، كما تقول العرب : جسد عتيق ، وفرس عتيق إذا كان كريما. وحكى خاله محمد ابن سوار عن الثوري أنه قال : إنما قيل ذلك لأنه أقدم مساجد الله وأعتقها ، كما قال : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) [آل عمران : ٩٦] ، وقال بعضهم : سماه عتيقا لأنه لم يقصده جبار من الجبابرة بمكيدة إلا قصمه الله تعالى ، فأعتق البيت منه. وقال بعضهم : لأنه أعتق من الغرق في زمن الطوفان ، حيث رفع إلى السماء ، وكما أعتق الله بيته كذلك أعتق قلب المؤمن

__________________

(١) فتح بن محمد بن وشاح الأزدي الموصلي (... ـ ١٦٥ ، أو ١٧٠ ه‍) : أحد الأولياء. له أحوال ومقامات وقدم راسخ في التقوى. (تاريخ بغداد ١٢ / ٣٨١ ؛ وصفوة الصفوة ٤ / ١٨١). وثمت رجل آخر يعرف بفتح الموصلي ، وهو فتح بن سعيد ، أبو نصر الموصلي (... ـ ٢٢٠ ه‍) : من كبار مشايخ الموصل ، كان من الزهاد المتصوفة. ومعظم المصادر تخلط بين أخبارهما. (تاريخ بغداد ١٢ / ٣٨١ ؛ وصفوة الصفوة ٤ / ١٨٣ ـ ١٨٩).

(٢) صفوة الصفوة ٤ / ١٨٨ ، والورع لابن حنبل ص ٩٢.

(٣) عدي بن ثابت الأنصاري (... ـ ١١٦ ه‍) : عالم الشيعة الإمامية وصالحهم في عصره. قال الذهبي : لو كانت الشيعة مثله لقلّ شرهم. مولده ووفاته في الكوفة (الأعلام ٤ / ٢١٩).

(٤) مصنف ابن أبي شيبة ٢ / ١٥٩ ؛ وتفسير القرطبي ٦ / ١٣٥.

١٠٧

من الغير ، وهو أقدم مما نصبه الله تعالى علما في أرضه وجعله في المسجد الحرام ، كذلك القلب له قلب آخر ، وهو موضع وقوف العبد بين يدي مولاه ، لا يتحرك في شيء إنما هو ساكن إليه.

قوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [٤٦] قال : أليس من نور بصر القلب يغلب الهوى والشهوة ، فإذا عمي بصر القلب عما فيه غلبت الشهوة وتواترت الغفلة ، فعند ذلك يصير البدن متخطيا في المعاصي غير منقاد للحق بحال.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [٥٢] قال : يعني إذا تلا ونفسه ملاحظة للتلاوة ألقى الشيطان في أذنه ، إذ له على النفس فيه شركة ، إذ الملاحظة فيها من هوى النفس وشهوتها ، فإذا شاهد المذكور لا الذكر لها القلب عما سواه ولم يشاهد شيئا غير مولاه ، وصار الشيطان أسيرا من أسرائه ، ألا ترى أن العبد إذا سها في قراءته ، وذكر ربه عزوجل ، فهو يسكن قلبه إلى أدنى حظ من حظوظ النفس ، حتى يجد العدو عليه سبيلا.

وقد قال الحسن : الوسواس وسواسان ، أحدهما من النفس والآخر من الشيطان ، فما كان من ذلك إلحاحا فهو من النفس يستعان عليها بالصيام والصلاة والأدب ، وما كان من ذلك نبذا فهو من الشيطان يستعان عليها بالقرآن والذكر.

قوله : (فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) [٥٤] قال : صدق الإيمان وحقيقته يورث الإخبات في القلب ، وهو الرقة والخشية والخشوع في القلب وطول التفكر وطول الصمت ، وهذا من نتائج الإيمان ، لأن الله تعالى يقول : (فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) [٥٤] ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٠٨

السورة التي يذكر فيها المؤمنون

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [١ ، ٢] قيل : ما الخشوع؟ قال : الخشوع علانية ، وهو الوقوف بين يدي الله تعالى على الإقامة على شروط آداب الآمر ، وهو تخليص الحركات والسكون عما سواه ، وأصل ذلك الخشية في السر ، فإذا أعطي الخشية ظهر الخشوع على ظاهره ، وهي من شروط الإيمان.

وقد حكي عن الحسن بن علي (١) رضي الله عنه أنه إذا فرغ من وضوئه تغير لونه ، فقيل له في ذلك ، فقال : يحق على من أراد أن يدخل على ذي العرش أن يتغير لونه. ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لمعاذ (٢) : «يا معاذ : إن المؤمن قد قيده القرآن عن كثير من هوى نفسه ، وحال بينه وبين أن يهلك فيما هوي بإذن الله ، إن المؤمن لذي الحق أسير. يا معاذ : إن المؤمن يسعى في فكاك رقبته. يا معاذ : إن المؤمن لا تسكن روعته ، ولا يؤمن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم. يا معاذ : إن المؤمن يعلم أن عليه رقباء على سمعه وبصره ولسانه ويده ورجليه وبطنه وفرجه ، حتى اللمحة ببصره ، وفتات الطينة بإصبعه ، وكحل عينه ، وجميع سعيه ، التقوى رفيقه ، والقرآن دليله ، والخوف محجته ، والشوق مطيته ، والوجل شعاره ، والصلاة كهفه ، والصيام جنته ، والصدقة فكاكه ، والصدق وزيره ، والحياء أميره ، وربه من وراء ذلك بالمرصاد. يا معاذ : إني أحب لك ما أحب لنفسي ، وأنهيت إليك ما أنهى إلي جبريل صلوات الله عليه ، فلا أعرفن أحدا يوافيني يوم القيامة أسعد بما آتاك الله تعالى منك» (٣).

__________________

(١) الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي (... ـ ٥٠ ه‍) : ثاني الأئمة الاثني عشر عند الإمامية ، أمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أكبر أولادها وأولهم. كان عاقلا حليما محبا للخير ، فصيحا. (الأعلام ٢ / ١٩٩).

(٢) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي (٢٠ ق ه ـ ١٨ ه‍) : صحابي جليل ، كان أعلم الأمة بالحلال والحرام ، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بعثه النبي قاضيا ومرشدا لأهل اليمن.

(الحلية ١ / ٢٢٨).

(٣) الفردوس بمأثور الخطاب ٥ / ٣٧١ ، ٣٧٤ ؛ ومجمع الزوائد ١ / ١٧٠ ؛ والمعجم الأوسط ٨ / ١٧٦ ؛ والحلية ١ / ٢٦ ـ ٢٧ ، ١٠ / ٣١.

١٠٩

قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) [١٧] يعني الحجب السبعة التي تحجبه عن ربه عزوجل. فالحجاب الأول عقله ، والثاني علمه ، والثالث قلبه ، والرابع خشيته ، والخامس نفسه ، والسادس إرادته ، والسابع مشيئته.

فالعقل باشتغاله بتدبير الدنيا ، والعلم بمباهاته مع الأقران ، والقلب بالغفلة ، والخشية بإغفالها عن موارد الأمور عليها ، والنفس لأنها مأوى كل بلية ، والإرادة إرادة الدنيا والإعراض عن الآخرة ، والمشيئة بملازمة الذنوب.

قوله : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) [٥١] يعني كلوا من الحلال قواما مع حفظ الأدب. والقوام ما يمسك به النفس ، ويحفظ فيه القلب والأدب فيه شكر المنعم ، وأدنى الشكر أن لا تعصيه بنعمة.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [٥٧] قال : الخشية انكسار القلب من دوام الانتصاب بين يديه ، ومن بعد هذه المرتبة الإشفاق ، وهو أرق من الخشية ، واللطف والخشية أرق من الخوف ، والخوف أرق من الرهبة ، فلكل منها صفة ومكان.

قوله : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) [٧٦] قال : ما أخلصوا لربهم في العبودية ، ولا ذلوا له بالوحدانية.

١١٠

السورة التي يذكر فيها النور

قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [١] أي جمعناها وبينا حلالها وحرامها.

قوله تعالى : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) [٢٢] يعني وليعفوا عن ظلم الناس لهم. وحكي عن سفيان الثوري أنه قال : أوحى الله تعالى إلى عزير أنك إن لم تطب نفسا أن تكون مضغة في أفواه الآدميين ، لم أكتبك عندي من المتواضعين. قال : فقال عزير : إلهي ، فما علامة من صافيته في مودتك. فقال : أقنعه بالرزق اليسير ، وأحركه للخطر العظيم ، قليل المطعم ، كثير البكاء ، يستغفرني بالأسحار ، ويبغض فيّ الفجار.

قوله : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) [٢٦] قال : الخبيثات القلوب من النساء للخبيثي القلوب من الرجال ، والخبيثو القلوب من الرجال للخبيثات القلوب من النساء.

قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [٣٠] أي غضوا أبصاركم عن محارم الله تعالى ، هو عن النظر من غير غيرة. وروي عن عبادة بن الصامت (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اضمنوا لي ستة أضمن لكم الجنة ، أصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدّوا إذا ائتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم» (٢). وحكي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل : أكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلتفت في الصلاة؟ قال : ولا في غير الصلاة.

قوله : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) [٣١] قيل : ما التوبة؟ قال : أن تبدل بدل الجهل العلم وبدل النسيان الذكر وبدل المعصية الطاعة.

قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [٣٥] يعني مزين السماوات والأرض بالأنوار ، (مَثَلُ نُورِهِ) [٣٥] يعني مثل نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الحسن البصري : عنى بذلك قلب المؤمن وضياء التوحيد ، لأن قلوب الأنبياء صلوات الله عليهم أنور من أن توصف بمثل هذه

__________________

(١) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري (٣٨ ق ه ـ ٣٤ ه‍) : صحابي ، من الموصوفين بالورع. شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد ، وحضر فتح مصر. (الأعلام ٣ / ٢٥٨).

(٢) شعب الإيمان ٤ / ٢٠٦ ، ٢٣٠.

١١١

الأنوار ، وقال : النور مثل نور القرآن مصباح ، المصباح سراجه المعرفة وفتيلته الفرائض ودهنه الإخلاص ونوره نور الاتصال. فكلما ازداد الإخلاص صفاء ، ازداد المصباح ضياء ، وكلما ازداد الفرائض حقيقة ازداد المصباح نورا.

قوله : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) [٣٧] ، يعني يوم البعث تتقلب فيه القلوب والأبصار حالا بعد حال لا يدومون على حال ، فالمؤمن الذي يخاف هذا اليوم.

وقد حكي عن الحسن أنه قال : ذكر عنده أن رجلا يخرج من النار بعد ألف عام ، فقال الحسن : يا ليتني أنا هو (١).

وحكي عن عون بن عبد الله (٢) أنه قال : أوصى لقمان ابنه قال : يا بني ارج الله رجاء لا تأمن فيه مكره ، وخف الله تعالى خوفا لا تيأس فيه من رحمته. فقال : كيف أستطيع ذلك ولي قلب واحد؟ فقال : يا بني إن المؤمن لذو قلبين : قلب يرجو الله به ، وقلب يخافه به (٣) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) قوت القلوب ١ / ٤٠١.

(٢) عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي (... ـ نحو ١١٥ ه‍) ، خطيب ، راوية ، ناسب ، شاعر ، كان من آداب أهل المدينة ، اشتهر بالعبادة والقراءة. (الحلية ٤ / ٢٤٠).

(٣) قوت القلوب ١ / ٣٨١ ، ٤٢٣ ؛ وشعب الإيمان ٢ / ١٨.

١١٢

السورة التي يذكر فيها الفرقان

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) [١] قال سهل : يعني جلّ وعلا من خصّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال الفرقان عليه ليفرق بين الحق والباطل ، والولي والعدو ، والقريب والبعيد ، (عَلى عَبْدِهِ) [١] أي على عبده الأخلص ونبيه الأخصّ وحبيبه الأدنى وصفيه الأولى ، (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [١] أي يكون للخلق سراجا ونورا نهدي به إلى أحكام القرآن ، ويستدلون به على طريق الحق ومنهاج الصدق.

قوله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) [٢٠] قال : إن الله تعالى أمر بالصبر على ما جعل للإنسان فيه فتنة ، ومن ذلك قلة الإطراق إلى ما في أيدي الناس.

وقد روى أبو أيوب (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أتاه رجل فقال : «إذا قمت إلى صلاتك فصلّ صلاة مودع ولا تكلمن بكلام تعتذر منه غدا ، واجمع اليأس مما في أيدي الناس» (٢) ، وقد كان السلف يغتنمون ذلك حتى حكي عن حذيفة (٣) أنه قال : إن أقرّ أيامي لعيني ليوم أرجع إلى أهلي ، فيشكون إلي الحاجة ، وذلك أني سمعت رسول اللهيقول : «إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي المريض أهله الطعام والشراب ، وإن الله ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير» (٤).

__________________

(١) أبو أيوب : خالد بن زيد بن كليب ، أبو أيوب الأنصاري (... ـ ٥٢ ه‍) : صحابي ، شهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد. كان شجاعا صابرا تقيا محبا للغزو والجهاد. (الحلية ١ / ٣٦١).

(٢) سنن ابن ماجة : باب الحكمة ، ٤١٧١ ؛ ومسند أحمد ٥ / ٤١٢ ؛ والمعجم الكبير ٩ / ١٥٤.

(٣) حذيفة بن اليمان (حسل) بن جابر العبسي (... ـ ٣٦ ه‍) : صحابي ، من الولاة الشجعان الفاتحين. كان صاحب سر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنافقين. (الحلية ١ / ٢٧٠).

(٤) شعب الإيمان ٧ / ٣٢١ ؛ وفيض القدير ٢ / ٢٦٠.

١١٣

قوله تعالى : (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [٢٨] قال : أصح الخلة ما لا يورث الندامة ، وليس ذلك إلا الأنس بالله تعالى ، والعزلة عن الخلق. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلازم الخلوة لما فتح الله في قلبه من العلم ، فكان يحب التفكر فيه. وما من رجل حسنت صلاته إلا واستأنس به كل شيء. والرجل يكون نائما ، فيحركه من نومه أوقات الصلاة فينتبه ، وهذا من إخوانه من الجن قد استأنس به ، وربما يسافرون معه إذا سافر ، ويؤثرونه على أنفسهم ، وربما استأنس به الملائكة. وقد سأل رجل سهلا فقال : إني أريد أن أصحبك. فقال : إذا مات أحدنا فمن يصحب الباقي فليصحبه الآن. وكان الربيع بن خيثم جالسا على باب داره يوما ، فجاء حجر فصكّ جبهته فشجه ، وقال : لقد وعظت يا ابن خيثم ، فدخل منزله وأغلق الباب على نفسه ، فما رؤي جالسا مجلسه ذلك حتى مات (١).

قوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [٥٨] سئل ابن سالم عن التوكل والكسب بأيهما تعبد الخلق؟ قال : التوكل حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكسب سنته. وإنما استنّ الكسب لهم لضعفهم حين أسقطوا عن درجة التوكل الذي هو حاله ، فلم يسقطهم عن درجة طلب المعاش بالكسب الذي هو سنته ، ولو لا ذلك لهلكوا (٢). قال سهل : من طعن في الكسب فقد طعن في السنة ، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان (٣).

قوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [٦٣] أي صوابا من القول وسدادا. وقال الحسن البصري رحمه‌الله : هذا دأبهم في النهار ، فإذا دخل الليل كانوا كما وصف الله في آخر الآية : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) [٦٤].

قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ) [٧٠] قال : لا تصح التوبة لأحدكم حتى يدع الكثير من المباح ، مخافة أن يخرجه إلى غيره ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : اجعلوا بينكم وبين الحرام سترا من الحلال ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعنا بعد الطهر ثلاثا حتى تذهب فورة الدم.

قوله : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) [٧٢] قال : الزور مجالس المبتدعين.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) صفوة الصفوة ٣ / ٦٧ ؛ وشعب الإيمان ٦ / ٢٦٤.

(٢) الحلية ١٠ / ٣٧٨ ـ ٣٧٩ ؛ وطبقات الصوفية ١ / ٣١٢ ؛ وتلبيس إبليس ١ / ٣٤٤.

(٣) الحلية ١٠ / ١٩٥ ؛ وقوت القلوب ٢ / ٩ ؛ وتلبيس إبليس ١ / ٣٤٤.

١١٤

السورة التي يذكر فيها الشعراء

قوله تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [٣] قال : أي مهلك نفسك باتباع المراد في هدايتهم ، وقد سبق الحكم منا بما يكون من إيمان المؤمن وكفر الكافر ، فلا تغيير ولا تبديل ، وباطن ذلك أنك شغلت نفسك عنا بالاشتغال بهم حرصا على إيمانهم ، ما عليك إلا البلاغ ، فلا يشغلك الحزن في أمرهم عنا.

قوله : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) [٥] قال : أي ما أحدث لهم من علم القرآن الذي لم يكونوا يعلمونه من قبل ، وهو النزول ، إلا أعرضوا عنه ، ليس أن يكون الذكر في نفسه محدثا ، لأنه من صفات ذات الحق ، ليس بمكون ولا مخلوق.

قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [٧٨] قال : الذي خلقني لعبوديته يهديني إلى قربه.

قوله : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [٧٩] قال : يطعمني لذة الإيمان ، ويسقيني شراب التوكل والكفاية.

قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [٨٠] قال : يعني إذا تحركت بغيره لغيره عصمني ، وإذا ملت إلى شهوة من الدنيا منعها عني.

قوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) [٨١] قال : الذي يميتني بالغفلة ثم يحييني بالذكر.

قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [٨٢] أخرج كلامه على شروط الأدب بين الخوف والرجاء ، ولم يحكم عليه بالمغفرة.

قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [٨٤] قال : ارزقني الثناء في جميع الأمم والملأ.

قوله عزوجل : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [٨٩] قال : الذي سلم من البدع مفوض إلى الله أمره راض بقدر الله.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [٢١٢] قال : يعني عن استماع القرآن والفهم في محل الأوامر والنواهي.

قوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [٢١٤] قال : خوّف الأقرب منك واخفض جناحك للأبعدين ، دلّهم علينا بألطف الدلالات ، وأخبرهم بأني جواد كريم.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) [٢٢٧] قال : خلق الله تعالى السر وجعل حياته في ذكره ، وخلق الظاهر وجعل حياته في حمده وشكره ، وجعل عليهما الحقوق ، وهي الطاعة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

١١٥

السورة التي يذكر فيها النمل

قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [١٠ ، ١١] قال : لم يكن في الأنبياء والرسل ظالم ، وإنما هذه مخاطبة لهم كناية عن قومهم ، كما قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] والمقصود من ذلك أمته ، فإنهم إذا سمعوا ما خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التحذير كانوا أشد حذرا.

قوله تعالى : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) [١٩] قال : ليس للعبد أن يتكلم إلا بأمر سيده ، وأن يبطش إلا بأمره ، وأن يمشي إلا بأمره ، وأن يأكل وينام ويتفكر إلا بأمره ، وذلك أفضل الشكر الذي هو شكر العباد لسيدهم.

قوله تعالى : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [١٩] قال : يعني ارزقني قربة أوليائك ، لأكون من جملتهم ، وإن لم أصل إلى مقامهم.

قوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [٥٢] قال : الإشارة في البيوت إلى القلب ، فمنها ما هو عامر بالذكر ، ومنها ما هو خرب بالغفلة ، ومن ألهمه الله عزوجل بالذكر فقد خلصه من الظلم.

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [٥٩] قال : أهل القرآن يلحقهم من الله السلام في العاجل بقوله : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ) [٥٩] وسلام في الآجل ، وهو قوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].

قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [٦٢] قيل : من المضطر؟ قال : الذي إذا رفع يديه لا يرى لنفسه حسنة غير التوحيد ، ويكون منه على خطر (١). وقال مرة أخرى : المضطر هو المتبرئ من الحول والقوة والأسباب المذمومة (٢).

__________________

(١) قوت القلوب ٢ / ٤ ، ٩.

(٢) قوت القلوب ٢ / ٩.

١١٦

والدعوة صنفان : دعاء المضطر ، ودعاء المظلوم وهي مستجابة من الناس لا محالة ، مؤمنا كان أو كافرا ، لأن الله تعالى يقول : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [٦٢] ، كقوله : (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [٦٤] ودعاء المظلوم يرفع فوق الحجاب ، ويقول الله تعالى : «وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين».

قوله : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [٦٥] قال : أخفى غيبه عن المخلوقين بجبروته ، ولم يطلع عليه أحدا ، لئلا يأمن أحد من عبيده مكره ، فلا يعلم أحد ما سبق له منه ، فيكون همهم في إبهام العواقب ومجاري السوابق ، لئلا يدعو ما لا يليق بهم من أنواع الدعاوي في المحبة والمعرفة وغير ذلك. قال : كان مائة ألف صديق ظاهرين للخلق ، حتى كان لا يسمع أصوات الميازيب ببيت المقدس من المجتهدين بالميل ، فلما ظهر شيئان ، سألوا الله تعالى فأماتهم دعوى الحب ودعوى التوكل. فقيل له في القول قول الحارث (١) حيث قال : سهرت ليلي وأظمأت نهاري (٢). فقال : يعني لا حاجة لي إلى الكشف ، لأنه حظ الكفار في الدنيا ، فأنا لا أشاركهم في حظهم ، فلذلك قلت : أنا مؤمن. قيل له : قوم يقولون مثل ما قال الحارث ، فقال : دعواهم باطلة ، وكيف تصح لهم الدعوى ، ولم يدع ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكانت شعرة في صدرهما أفضل من الحارث ، وإنما قال ذلك الحارث رضي الله عنه لا بنفسه ، وإنما أظهر الله ذلك فتنة لمن بعده من المدعين ، فكيف يصح لهؤلاء أن يدعوا ذلك لأنفسهم. قال تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) [٧٣] قال : منعه فضل ، كما أن عطاءه فضل ، ولكن لا يعرف مواضع فضله في المنع إلا خواص الأولياء.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) [٨٨] قال : إنّ الله تعالى نبه عباده على تقضي الأوقات وغفلتهم فيها ، فجعل الجبال مثلا للدنيا ، يظن الناظر أنها واقفة معه وهي آخذة بحظها منه ، ولا يبقى بعد الانقضاء إلا الحسرة على الفائت الناظر أنها واقفة معه ، وهي آخذة.

__________________

(١) الحارث بن مالك بن قيس الليثي ، المعروف بابن البرصاء : صحابي. روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنه الشعبي وعبيد بن جريج. (تهذيب التهذيب ٢ / ١٣٥).

(٢) في مصنف ابن أبي شيبة ٦ / ١٧٠ ، رقم ٣٠٤٢٥ : (عن زبيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا. قال : إن لكل قول حقيقة ، فما حقيقة ذلك؟ قال : أصبحت عزفت نفسي عن الدنيا ، وأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي قد أبرز للحساب ...).

١١٧

السورة التي يذكر فيها القصص

قوله تعالى : (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [١١] أي عن بعد عن مشاهدة عيننا فيه.

قوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [٨] أي رفعوه ليكون لهم فرحا وسرورا ولم يعلموا ، إنما أضمرت القدرة فيه من تصييره لهم عدوا وحزنا.

قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) [١٠] أي فارغا من ذكر غير الله ، اعتمادا على وعد الله ، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) [٧].

قوله : (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [٢٤] رجع إلى الله بالافتقار والتضرع ، فقال : إني لما عودتني من جميل إحسانك على الدوام ، فقير إلى شفقتك ، ونظرك إلي بعين الرعاية والكلاءة ، فردني من وحشة المخالفين إلى أنس الموافقين ، فرزقه الله صحبة شعيب صلوات الله عليهما وأولاده.

قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [٦٠] قال : من أخذ من الدنيا بشهوة منه حرمه الله في الدنيا والآخرة ما هو خير منها ، ومن أخذ منها لضرورة دخلت بنفسه أو لحق لزمه لم يحرم ما هو خير في الدنيا ، لذة العبادة ومحبة الحق عزوجل ، وفي الآخرة الدرجات العلى (١). وقيل لعامر بن عبد قيس (٢) : لقد رضيت من الدنيا باليسير. قال : أفلا أخبركم بمن رضي بدون ما رضيت؟ قالوا : بلى. قال : من رضي الدنيا حظا من الآخرة (٣).

__________________

(١) ورد مثل هذا القول في نوادر الأصول ٤ / ١٨٦.

(٢) عامر بن عبد الله ، المعروف بابن عبد قيس العنبري (... ـ نحو ٥٥ ه‍) : تابعي. أول من عرف بالنسك من عباد التابعين بالبصرة. تلقن القرآن من أبي موسى الأشعري. (الحلية ٢ / ٨٧).

(٣) كتاب الزهد لابن أبي عاصم ص ٢٢٨ ؛ ونسب هذا القول إلى داود الطائي في الحلية ٧ / ٣٥٣ ؛ وصفوة الصفوة ٣ / ١٤١.

١١٨

قوله : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [٧٦] قال : من فرح بغير مفروح استجلب حزنا لا انقطاع له ، وليس للمؤمن راحة دون لقاء الحق جل وعز. وحكي عن الأعمش (١) قال : كنا نشهد جنازة فلا ندري من نعزي من حزن القوم (٢).

قوله تعالى : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [٧٨] قال : ما نظر إلى نفسه أحد فأفلح ، ولا ادعى لنفسه حالا فتم له.

والسعيد من الخلق من صرف بصره عن أحواله ، وأفعاله سبيل الفضل والإفضال ، ورؤية منة الله في جميع الأفعال ؛ والشقي من زين نفسه وأحواله وأفعاله حتى افتخر بها ، وادعى ذلك لنفسه ، فشؤمه يهلكه يوما ما وإن لم يهلكه في الوقت ، ألا ترى الله كيف حكى عن قارون بقوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [٧٨] يعني الفضل ، وهو أنه كان أقرأهم للتوراة (٣) ، فادعى لنفسه فضلا ، فخسف الله به الأرض ظاهرا ، وكم قد خسف بالأشرار وصاحبها لا يشعر بذلك ، وخسف الأشرار هو منع العصمة ، والرد إلى الحول والقوة بإطلاق اللسان في الدعاوي العريضة ، والعمى عن رؤية الفضل ، والقعود عن القيام بالشكر على ما أعطي ، فحينئذ يكون وقت الزوال.

__________________

(١) الأعمش : سليمان بن مهران الأسدي (٦١ ـ ١٤٨ ه‍) : تابعي. نشأ في الكوفة ، وتوفي فيها. كان عالما بالقرآن والحديث والفرائض. (تاريخ بغداد ٩ / ٣).

(٢) الحلية ٥ / ٥٠ ؛ وكتاب الزهد لابن أبي عاصم ٣٦٥.

(٣) تفسير القرطبي ١٣ / ٣١٥ ، وقيل أيضا إن معنى الآية : (إنّ الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ولمحبته لي) ، انظر تفسير القرطبي ؛ وتفسير ابن كثير ٣ / ٤١٠.

١١٩

السورة التي يذكر فيها العنكبوت

وله تعالى : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [١ ، ٢] قال : أي لا يصيبهم البلاء ، وإنما البلاء باب بين أهل المعرفة وبين الحق عزوجل. وحكي أن الملائكة تقول : يا رب ، عبدك الكافر بسطت له الدنيا وزويت عنه البلاء ، فيقول للملائكة : اكشفوا لهم عن عقابه ، فإذا رأوه قالوا : لا ينعمه ما أصاب من الدنيا. وتقول : يا رب ، عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا وتعرضه للبلاء. فيقول للملائكة : اكشفوا لهم عن ثوابه ، فإذا رأوا ثوابه قالوا : لا يضره ما أصابه في الدنيا (١). وقال : اجعلوا صلاتكم الصبر على البأساء ، وصومكم الصمت ، وصدقتكم كف الأذى ، والصبر على العافية أشد منه على البلاء. ومنه قيل : طلب السلامة أن لا تتعرض للبلاء.

قوله : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) [١٧] قال : اطلبوا الرزق بالتوكل لا بالكسب ، فإن طلب الرزق بالكسب طريق العوام. وحكي عن عيسى بن مريم عليه‌السلام أنه قال : بحق أقول لكم : لا الدنيا تريدون ولا الآخرة. قالوا : بيّن لنا ذلك يا نبي الله ، وقد كنا نرى أنا نريد أحدهما. فقال : لو أطعتم رب الدنيا الذي بيده مفاتيح خزائنها لأعطاكموها ، ولو أطعتم رب الآخرة لأعطاكموها ولكن لا هذه تريدون ولا تلك (٢).

قوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [٢١] بمتابعة البدعة ، (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) [٢١] بملازمة السنة.

قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [٤٣] قال : ضرب الله الأمثال للناس عامة ، إذ شواهد القدرة تدل على القادر ، ولا يعقلها إلا خاصته ، فالعلم أعز ، والفقه عن الله أخص ، فمن عرف علم نفسه الطبيعية وحده وهم ، ومن عرفه بعلم الله فالله عرف مراده منه لنفسه ، وليس مع الخلق من معرفة الحق وراء ذلك ، وإنما وقعت الإشارة إليه لبعد قلوبهم عن المعرفة في الحقيقة ، ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [٤٥] قال : في هذه الآية تزيين الانصراف عن الفحشاء والمنكر بواحدة وهو الإخلاص في الصلاة ، وكل صلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولا يوجد فيها تزيين الانصراف عن ذلك فهي معلولة ، والواجب تصفيتها.

قوله تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [٥٦] قال : يعني إذا عمل بالمعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الفارّ بدينه عند فساد الأمة له أجر سبعين شهيدا في سبيل الله عزوجل» ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ٧ / ١٦٦ ؛ والحلية ٤ / ١١٨ ، ١٢٣ ؛ وصفوة الصفوة ٣ / ٩٤.

(٢) الحلية ٦ / ٥٧ ـ ٥٨.

١٢٠