تفسير التّستري

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري

تفسير التّستري

المؤلف:

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري


المحقق: محمد باسل عيون السود
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3631-3
الصفحات: ٢٣٩

السورة التي يذكر فيها الدخان

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [٣] قال : أنزل الله ليلة القدر القرآن جملة إلى بيت العزة في سماء الدنيا من اللوح المحفوظ على أيدي الملائكة السفرة ، وأنزل على روح محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الروح المبارك ، فسماها ليلة القدر مباركة لاتصال البركات بعضها ببعض.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [١٠] قال : الدخان في الدنيا قسوة القلب والغفلة عن الذكر ، ولا عقوبة أعظم في الدنيا من فساد القلب. وقد حكي عن أويس القرني (١) وهرم بن حيان (٢) أنهما التقيا يوما ، فقال هرم لأويس : ادع الله. فقال : يصلح لك نيتك وقلبك (٣) فلن تعالج شيئا أشد منهما ، بينما قلبك مقبل إذ هو مدبر ، وبينما هو مدبر إذ هو مقبل ، ولا تنظر إلى صغير الخطيئة ، وانظر إلى عظمة من عصيت ، فإنك إن عظمتها فقد عظمت الله تعالى ، وإن صغرتها فقد صغرت الله تعالى.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) [٨] قال : لا إله على الحقيقة إلا من يقدر على الإيجاد من العدم ، وعلى العدم من الإيجاد.

قوله : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) [٢٤] طريقا ساكنا ، وباطنها : اجعل القلب ساكنا إلى تدبيري (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) [٢٤] يعني المخالفين عن توالي تدبير أنفسهم.

قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) [٤٢] أي من علم الله في سابق علمه أنه مرحوم ، أدركته في العاقبة بركة تلك الرحمة ، حيث جعل المؤمنين بعضهم شفعاء بعض.

__________________

(١) أويس القرني : أويس بن عامر بن جزء بن مالك (... ـ ٣٧ ه‍) : أحد النساك العباد المقدمين ، من سادات التابعين. أدرك حياة النبي ولم يره. شهد صفين مع علي. (الحلية ٢ / ٧٩).

(٢) هرم بن حيان العبدي الأزدي (... ـ بعد ٢٦ ه‍) : قائد فاتح ، من كبار النساك. من التابعين. (الأعلام ٨ / ٨٢).

(٣) في صفوة الصفوة ٣ / ٥٥ : (قال هرم لأويس : أوصني. قال : توسد الموت إذا تمت ، واجعله نصب عينيك ، وإذا قمت فادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك ...).

١٤١

السورة التي يذكر فيها الجاثية

قوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) [٣] قال : العلامات لمن أيقن بقلبه واستدل بكونها على مكونها.

قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [١٣] قال : إذا سكن قلب العبد إلى مولاه قويت حال العبد ، فسخر له كل شيء ، بل أنس به كل شيء ، حتى الطيور والوحوش. وحكي عن الثوري قال خرجت مع شيبان (١) الراعي إلى مكة فعرض لنا الأسد. فقلت : يا شيبان أما ترى هذا الكلب. فقال : لا تخف. فما هو إلا أن سمع الأسد كلام شيبان الراعي ، حتى جعل يبصبص بذنبه ، فأتاه شيبان فأخذ بأذنه وعركها. فقلت له : ما هذه الشهرة يا شيبان؟ فقال : وأي شهرة ترى يا ثوري ، والله لو لا مخافة الشهرة ما حملت زادي إلى مكة إلا على ظهره (٢). وكان شيبان يحضر صلاة الجمعة ، فبصر بذئب عند الغنم ، فقال له : اقعد عند الغنم حتى إذا رجعت أعطيتك حملا ، فرجع من صلاة الجمعة ، فإذا هو بالذئب قاعد يحفظ له الغنم ، فأعطاه حملا له. وكان سهل يقول لشاب يصحبه : إن كنت تخاف السباع فلا تصحبني. وسئل سهل : كيف يدرك الرجل منزلة الكرامات؟ فقال : من زهد في الدنيا أربعين يوما صادقا مخلصا فقد ظهرت الكرامات من الله عزوجل له ، ومن لم تظهر له فهو لما فقد من زهده من الصدق والإخلاص ، أو كلاما نحو هذا.

__________________

(١) شيبان أبو محمد الراعي : كان في العبادة فائقا ، وبالتوكل على ربه واثقا. كان في عصر هارون الرشيد.

(الحلية ٨ / ٣١٧ ؛ وصفوة الصفوة ٤ / ٣٧٧).

(٢) صفوة الصفوة ٤ / ٣٧٧ ، والحلية ٧ / ٦٨ ـ ٦٩ ؛ وسير أعلام النبلاء ٧ / ٢٦٨. وروي أن مثل هذا الخبر جرى مع ابن عمر ، (لسان الميزان ٢ / ٤٩) ؛ ومع إبراهيم بن الأدهم ، (التدوين في أخبار قزوين ٢ / ٢٤٦) ؛ ومع أم هارون (صفوة الصفوة ٤ / ٣٠٤).

١٤٢

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) [١٧] قال : فتحنا أسماعهم لفهم خطابنا ، وجعلنا أفئدتهم وعاء لكلامنا ، وأعطيناهم فراسة صادقة يحكمون بها في عبادنا حكم يقين وأخبار صدق ، فهذه هي البينات من الأمر في طريق الباطن.

قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) [١٨] قال : يعني منهاج سنن من كان من قبلكم من الأنبياء ، فإنهم على منهاج الهدى والشريعة الشارع الممتد الواضح إلى طريق النجاة وسبيل الرشد.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [١٩] من استغنى بغير الله فبغناه افتقر ومن اعتز بغيره فبعزه ذل ، ألا ترى أن الله يقول : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [١٩].

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) [٢١] الآية ، قال : ليس من أقعد على بساط الموافقة كمن أقيم في مقام المخالفة ، فإن بساط الموافقة يجر بصاحبه إلى مقاعد الصدق ، ومقام المخالفة يهوي بصاحبه في لظى.

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [٢٣] قال : يعني أفرأيت من كان مغمورا في لذة نفسه من الدنيا ، غير ورع ولا تقي ، فاتبع مراده ولم يسلك مسالك الاقتداء ، وآثر شهوات الدنيا على نعيم العقبى ، أنى تكون له في الآخرة من الدرجات الرفيعة والمنازل السنية (١) (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [٢٣] قال : أي على علم الله السابق فيه بترك عصمته ومعونته.

قوله : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ) [٢٦] قال : يحييكم في بطون أمهاتكم ، ثم يميتكم بجهالة ، ويجمعكم إلى يوم القيامة أولكم وآخركم لا ريب فيه.

قوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) [٢٨] قال : على ركبها تجادل عن نفسها عند المرافقة الصادق يجتهد في تحقيق صدقه ، والجاحد يجتهد في الدفع عن نفسه ، وكلّ محكوم عليه في الذي أملاه ، مدده ريقه ، وقلمه لسانه ، وقرطاسه جوارحه.

قوله : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [٣٧] قال : العلو والقدرة والعظمة والحول والقوة له في جميع الملك ، فمن اعتصم به أيّده بحوله وقوته ، ومن اعتمد على نفسه وكلّه الله إليها.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) في تفسير القرطبي ١٦ / ١٦٨ بعد تفسير الآية المذكورة ، أن سهل التستري قال : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك).

١٤٣

السورة التي يذكر فيها الأحقاف

قوله تعالى : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) [٦] قال : في نفوسهم التي أقادتهم إلى متابعتها في الجزاء على أحكام هواها ، لأنها تشهد عليهم. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعدى عدو المرء نفسه التي بين جنبيه» (١).

قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [٩] قال : أي كانت قبلي رسل يأمرون بما آمر به ، وينهون عما أنهى عنه ، وما كنت عجبا من الرسل ، فإني لم أدعكم إلا إلى التوحيد ، ولم أدلكم إلا على مكارم الأخلاق ، وبهذا بعثت الأنبياء قبلي.

قوله تعالى : (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) [النمل : ١٩] قال : أي ألهمني التوبة والعمل بالطاعة.

قوله : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [١٥] قال : اجعلهم لك عبيد حق ، ولي خلف صدق.

قوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [٣٠] قال : أي يدل على طريق الحق بالخروج عن المعاملات والرسومات والتحقيق بالحق ، وهو الصراط المستقيم.

قوله : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [٣١] قال : لا يجيب الداعي إلا من سمع النداء ، فوفق للخيرات وأيقن ، وإلا فمن يحسن إجابة الدعوة. وقال : إن في قلب كل مؤمن داعيا يدعوه إلى رشده ، فالسعيد من سمع دعاء الداعي فاتبعه.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [٣٥] قال : يعني اصبر صبر أهل المعرفة ، كما صبر أولو العزم من الرسل الذين كانوا قبلك رضى وتسليما من غير شكوى ولا جزع. وقال : أولو العزم من الرسل إبراهيم صلوات الله عليه ، ابتلي بالنار وذبح الولد فرضي وسلم ؛ وأيوب عليه‌السلام بالبلاء ؛ وإسماعيل بالذبح فرضي ؛ ونوح بالتكذيب فصبر ؛ ويونس ببطن الحوت فدعا والتجأ ؛ ويوسف صلوات الله عليه بالسجن والجب فلم يتغير ؛ ويعقوب بذهاب البصر وفقدان الولد ، فشكا بثه إلى الله ، ولم يشك إلى غيره ، وهم اثنا عشر نبيا صلوات الله عليهم ، صبروا على ما أصابهم ، فهم أولو العزم من الرسل ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) رواية الحديث : (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) ؛ انظره في : تحفة الأحوذي ٢ / ٤٨١ ، ٩ / ٣١٩ ؛ وشرح سنن ابن ماجة ١ / ٢٠ ؛ وعون المعبود ٤ / ٢٨٥ ؛ وكشف الخفاء ١ / ١٤٨ ، ١٦٠ ، ٢ / ٢٢٢.

١٤٤

السورة التي يذكر فيها محمد

صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [١] قال : أضلها في إطلاق القول بلا حقيقة معه.

قوله : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [٥] قال : يعني سيهديهم في قبورهم لجواب منكر ونكير ويصلح بالهم. قال : أي صلح يسرع لهم في القلب بمباشرة الجزاء ، وفي الآخرة بلذة اللقاء عند تجلي المكاشفة كفاحا ، والتولي لهم عند ذلك ، كما قال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [١١] أي بالرضى والمحبة والحفظ على مقام القرب.

قوله : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [١٥] قال : المغفرة من ربهم في الجنة ما يغشاهم عند النظر إلى الحق من أنواره.

قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [١٩] قال : يعني استغفر من همة نفس الطبع. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منا إلا من همّ فعصى» ، يعني همت نفسه عليه على قلبه بحظها من عاجل شهوتها بشيء دونه ، ثم أعرض عن ذلك واستغفر الله ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله تعالى في كل يوم سبعين مرة» (١).

قوله : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [٢٤] قال : إن الله تعالى خلق القلوب وأقفل عليها بأقفال ، وجعل مفاتيحها حقائق الإيمان ، فلم يفتح بتلك المفاتيح على التحقيق إلا قلوب أوليائه والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين والصديقين وسائر الناس يخرجون من الدنيا ، ولم تفتح أقفال قلوبهم ، والزهاد والعباد والعلماء خرجوا منها وقلوبهم مقفلة ، لأنهم طلبوا مفاتيحها في

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الدعوات ، رقم ٥٩٤٨ ؛ وشرح سنن ابن ماجة ١ / ٢٧٠ (رقم ٣٨١٥) ؛ ومسند أحمد ٤ / ٢١١.

١٤٥

العقل ، فضلوا الطريق ، ولو طلبوه من جهة التوفيق والفضل لأدركوه ، والمفتاح أن تعلم أن الله قائم عليك ، رقيب على جوارحك ، وتعلم أن العمل لا يكمل إلا بالإخلاص مع المراقبة.

قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) [١٣] في الآية دليل على تفضيله على الكليم ، لأنه لم يخرج خوفا منهم ، كما خرج موسى عليه‌السلام ، ولكنه خرج كما قال الله تعالى : (أَخْرَجَتْكَ) [١٣] ولم يقل خرجت ولا جزعت ، لأنه لله وبالله في جميع أوقاته ، فلم يجز منه التفات إلى الغير بحال ما.

قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) [١٤] قال : المؤمن على بيان من ربه ، ومن كان على بينة من ربه لزم الاقتداء بالسنن.

قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [١٩] قال : الخلق كلهم موتى إلا العلماء ، ولذلك دعا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى محل الحياة بالعلم بقوله : (فَاعْلَمْ) [١٩].

قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [٣٣] أي في تعظيم الله ، (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [٣٣] أي برؤيتها من أنفسكم ومطالبة الأعواض من ربكم ، فإن العمل الخالص الذي لم يطلب به العوض.

قوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [٣٨] قال : معرفة السر كله في الفقر ، وهو سر الله ، وعلم الفقر إلى الله تعالى تصحيح علم الغنى بالله عزوجل.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٤٦

السورة التي يذكر فيها الفتح

قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [١] قال : يعني أسرار العلوم في قلبك حتى ظهر عليك آثارها ، وهي من أعلام المحبة وتمام النعمة. (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [٢] قال : أي ما تقدم من ذنب أبيك آدم صلوات الله عليه وأنت في صلبه ، وما تأخر من ذنوب أمتك ، إذ كنت قائدهم ودليلهم.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) [٤] يعني الطمأنينة. فأول ما كاشف الله به عباده المعارف ، ثم الوسائل ، ثم السكينة ، ثم البصائر. فمن كاشفه الحق بالبصائر عرف الأشياء بما فيها من الجواهر ، كأبي بكر الصديق رضي الله عنه ما أخطأ في نطق.

قوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [٤] قال : جنوده مختلفة ، فجنوده في السماء الأنبياء ، وفي الأرض الأولياء ؛ وجنوده في السماء القلوب ، وفي الأرض النفوس ؛ ما سلط الله عليك فهو من جنوده ؛ وإن سلط الله عليك نفسك أهلك نفسك بنفسك ، وإن سلط عليك جوارحك أهلك جوارحك بجوارحك ، وإن سلط نفسك على قلبك قادتك إلى متابعة الهوى ، وإن سلط قلبك على نفسك وجوارحك زمها بالأدب ، وألزمها العبادة ، وزينها بالإخلاص في العبودية ، فهذا كله جنود الله.

قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) [٨] قال : شاهدا عليهم بالتوحيد ، ومبشرا لهم بالمعونة والتأييد ، ومحذرا عن البدع والضلالات.

قوله : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [٩] قال : أي تعظموه غاية التعظيم في قلوبكم ، وتطيعوه بأبدانكم ؛ ولهذا سمى التعزير تعزيرا لأنه أكبر التأديب.

قوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [١٠] قال : أي حول الله وقوته فوق قوتهم وحركتهم ، وهو قولهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند البيعة : «بايعناك على أن لا نفر ونقاتل لك». وفيها وجه آخر : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [١٠] أي منة الله عليهم في الهداية لبيعتهم وثوابه لهم فوق بيعتهم وطاعتهم لك.

١٤٧

قوله : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [١١] اعتذروا به ، فحكاه الله لك لتعلم أن الإقبال على الله عزوجل بترك الدنيا وما فيها ، فإنها تشغل عن الله ؛ ألا ترى المنافقين كيف اعتذروا بقولهم : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [١١].

قوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) [٢٥] قال : المؤمن على الحقيقة من لا يغفل عن نفسه ، وقلبه يفتش أحواله ويراقب أوقاته ، فيرى زيادته من نقصانه ، فيشكر عند رؤية الزيادة ، ويتفرغ ويدعو عند النقصان ، هؤلاء الذين بهم يدفع الله البلاء عن أهل الأرض ، ولا يكون المؤمن متهاونا بأدنى التقصير ، فإن التهاون بالقليل يستوجب الكثير. قال : فإن العبد لا يجد طعم الإيمان حتى يدع ست خصال : يدع الحرام والسحت والشبهة والجهل والمسكر والرياء ، ويتمسك بالعلم وتصحيح العمل والنصح بالقلب والصدق باللسان والصلاح مع الخلق في معاشرتهم والإخلاص لربه في معاملته. قال : وكتاب الله مبني على خمس : الصدق والاستخارة والاستشارة والصبر والشكر.

قوله : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) [٢٦] قال : هي كلمة لا إله إلا الله فإنها رأس التقوى. ثم قال : خير الناس المسلمون ، وخير المسلمين المؤمنين ، وخير المؤمنين العلماء العاملون ، وخير العاملين الخائفون ، وخير الخائفين المخلصون المتقون الذين وصلوا إخلاصهم وتقواهم بالموت ، فإن مثله كمثل راكب السفينة بالبحر ، لا يدري أينجو منه أن يغرق فيه ، والذين تم لهم ذلك أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [٢٦].

قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [٢٧] قيل : ما هذا الاستثناء؟ قال : هذا تعليم للعباد وتأديب لهم بشدة الافتقار إليه في كل وقت وحال وتأكيد ، فإن الحق إذا استثني مع كمال علمه لم يكن لأحد من عباده مع قصور علمهم أن يحكم في شيء من غير استثناء.

قوله تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [٢٩] قال : المؤمن بالله وجه بلا قفا ، مقبل عليه غير معرض عنه ، ذلك سيما المؤمن. وقال عامر ابن عبد قيس : كاد المؤمن يخبر عن مكنون علمه ، وكذلك وجه الكافر ، وذلك قوله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) [٢٩] وقال ابن مسعود رضي الله عنه : سر المؤمن يكون رداء عليه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٤٨

السورة التي يذكر فيها الحجرات

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [١] قال : إن الله تعالى أدب عباده المؤمنين ، أي لا تقولوا قبل أن يقول ، فإذا قال فأقبلوا عليه ناصتين له ، مستمعين إليه ، واتقوا الله في إهمال حقه ، وتضييع حرمته (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) [١] ما تقولون (عَلِيمٌ) [١] بما تعملون.

قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [٢] أي لا تخاطبوه إلا متفهمين ، ثم بين كرامة من عظّمه فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) [٣] أي أخلص نياتهم له.

قوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) [٦] قال : الفاسق الكذاب. وباطنها تأديب من بلغه ذمّه من أحد بأن لا يعجل بعقوبته ما لم يتعرف ذلك من نفسه.

قوله : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) [٨] قال : تفضل الله عليهم فيما ابتدأهم به ، وهداهم إليه بأنواع القرب والزلف.

قوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [٧] قال : أي استخلص قلوبكم عطفا منه في عبادته بالإخلاص فيها ، إذ الاستخلاص من عطفه ، والإخلاص من حقه ، ولن يقدر العبد على تأدية حقه إلا بعطفه بالمعونة عليه بأسباب الإيمان ، وهي الحجج القاطعة والآيات المعجزة.

قوله : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [٧] خوفا من عاقبته المذمومة.

قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) [٩] قال : ظاهرها ما عليه أهل التفسير ، وباطنها هو الروح والعقل والقلب والطبع والهوى والشهوة ، فإن بغى الطبع والهوى والشهوة على القلب والعقل والروح فليقاتله العبد بسيوف المراقبة وسهام المطالعة وأنوار الموافقة ، ليكون الروح والعقل غالبا والهوى والشهوة مغلوبا.

قوله : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) [١٢] قال : أي لا تطعنوا على أحد بسوء الظن من غير حقيقة. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكذب الحديث الظن» (١). ثم قال سهل : الظن السيئ من الجهل

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب النكاح ، رقم ٤٨٤٩ ؛ وكتاب الأدب ، رقم ٥٧١٧ ، ٥٧١٩ ؛ وصحيح مسلم ، كتاب الأدب ، رقم ٢٥٦٣.

١٤٩

من نفس الطبع ، وأجهل الناس من قطع على قلبه من غير علم ، فقد قال الله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [فصلت : ٢٣] وإن العبد ليحرم الرزق الهني وصلاته بالليل بسوء الظن. وقد كان رجل من العباد نام ليلة عن ورده ، فجزع عليه ، فقيل : أتجزع على ما تدركه؟ قال : لست أجزع عليه ، وإنما أجزع على الذنب الذي به صرت محروما عن ذلك الخير. فقيل لسهل : ما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احترسوا من الناس بسوء الظن» (١) ، فقال : معنى هذا بسوء الظن بنفسك لا بالناس ، أي اتهم نفسك بأنك لا تنصفهم من نفسك في معاملاتهم.

قوله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا) [١٢] قال : أي لا تبحث عن المعائب التي سترها الله على عباده ، فإنك ربما تبتلى بذلك. وقد حكي عن عيسى عليه‌السلام أنه كان يقول : لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله عزوجل ، فتقسوا قلوبكم ، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب ، وانظروا إلى أعمالكم كالعبيد ، واعلموا أن الناس مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء وسلوا الله العافية (٢).

قوله : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [١٢] قال : من أراد أن يسلم من الغيبة فليسد على نفسه باب الظنون ، فإن من سلم من الظن سلم من الغيبة ، ومن سلم من الغيبة سلم من الزور ، ومن سلم من الزور سلم من البهتان. قال : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : للمنافق غيبة ، وليس للفاسق غيبة ، لأن المنافق كتم نفاقه ، والفاسق افتخر بفسقه. قال : وهذا إنّما أراد به فيما أظهره من المعاصي ، فأما ما كتمه من المعاصي ففيه غيبة.

قوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [١٤] قال : يعني أقررنا مخافة السبي والقتل لأن الإيمان إقرار باللسان صدقا ، وإيقان في القلب عقدا ، وتحقيقها بالجوارح إخلاصا ، وليس في الإيمان أنساب ، وإنما الأنساب في الإسلام ، والمسلم محبوب إلى الخلق ، والمؤمن غني عن الخلق.

قوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) [١٧] أي صدقوك فيما دعوتهم إليه. (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [١٧] أي عالمين بأن الله هو الذي من عليكم بالهداية في البداية. قال سهل : استعملت الورع أربعين سنة ، ثم وقع مني التفات فأدركني قوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) [١٧].

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) المعجم الأوسط ١ / ١٨٩ ؛ وفتح الباري ١٠ / ٥٣١.

(٢) الموطأ ٢ / ٩٨٦ (رقم ١٧٨٤) ؛ ومصنف ابن أبي شيبة ٦ / ٣٤٠ (رقم ٣١٨٧٩) ، ٧ / ٦٥ (رقم ٣٤٢٣٠) ؛ وشعب الإيمان ٤ / ٢٦٣.

١٥٠

السورة التي يذكر فيها ق

قوله تعالى : (ق) [١] أقسم الله تعالى بقوته وقدرته ، وظاهرها الجبل المحيط بالدنيا ، وهو أول جبل خلقه الله تعالى ، ثم بعده جبل أبي قبيس وهو الجبل الذي فوق الصفا ، ودونه بمسيرة سنة جبل تغرب الشمس وراءه ، كما قال : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] وله وجه كوجه الإنسان ، وقلب كقلوب الملائكة في المعرفة.

قوله : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [١] قال : يعني المشرف على سائر الكلام.

قوله : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [٨] أي مخلص القلب لله بالتوحيد إليه ، وإدامة ذكره بواجباته.

قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الرَّسِ) [١٢] أي البئر. و (الْأَيْكَةِ) [١٤] الغيضة ، وباطنها أصحاب الرس أصحاب الجهل. (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) [١٤] متبعو الشهوات.

قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [١٨] قال : أي حافظ حاضر لا يغيب عنه ، ولا يعلم الملك ما في الضمير من الخير والشر إلا عند مساكنة القلوب إياه ، فيظهر أثر ذلك على الصدر من الصدر إلى الجوارح نور ورائحة طيبة عند العزم على الخير ، وظلمة ورائحة منتنة عند العزم على الشر ، والله يعلم ذلك منه على كل حال ، فليتقه بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء : ١].

قوله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [٢١] يعني كتبة في الدنيا تسوقه إلى المحشر ، ويشهدون له وعليه ، فيقول العبد : أليس قولك الحق وقد قلت : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] ، وقال نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم أحد يدخل الجنة بعمله إلا برحمة الله» (١) ، فيقول الله تعالى : «قولي الحق ، وصدق نبيي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انطلق إلى الجنة برحمتي». قال : وهو معنى قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود : ١١].

__________________

(١) صحيح مسلم ، رقم ٢٨١٥ ، ٢٨١٦ ؛ ومجمع الزوائد ١٠ / ٣٥٧.

١٥١

قوله تعالى : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [٢٢] يعني بصر قلبك نافذ في مشاهدة الأحوال كلها.

قوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [٢٩] أي ما يتغير عندي ما سبق في علمي ، فيكون بخلاف ما سبق العلم فيه.

قوله تعالى : (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) [٣٢] قال : هو الراجع بقلبه من الوسوسة إلى السكون إلى الله تعالى. والحفيظ المحافظ على الأوقات والأحوال بالأوامر والطاعات. وقال ابن عيينة : الأواب الحفيظ الذي لا يقوم من مجلس حتى يستغفر الله منه ، خيرا كان أو شرا ، لما يرى فيه من الخلل والتقصير.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [٣٧] يعني لمن كان له عقل يكسب به علم الشرع.

قوله تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [٣٧] يعني استمع إلى ذكرنا وهو حاضر مشاهد ربه غير غائب عنه. وسئل سهل عن العقل ، قال : العقل حسن النظر لنفسك في عاقبة أمرك.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

١٥٢

السورة التي يذكر فيها الذاريات

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [١٥] قال : المتقي في الدنيا في جنات الرضى يتقلب ، وفي عيون الأنس يسبح ، هذا باطن الآية.

قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) [١٧] قال : لا يغفلون ولا ينامون عن الذكر بحال.

قوله تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [١٩] قال : يعني الصدقة على من طلبها منهم ومن لم يطلبها. وقال الحسن البصري : أدركت أقواما إن كان الرجل ليعزم على أهله أن لا يردوا سائلا ، ولقد أدركت أقواما إن كان الرجل ليخلف أخاه في أهله أربعين عاما ، وإن أهل البيت يبتلون بالسائل ، ما هو من الجن ولا من الإنس ، وإن الذين كانوا من قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغا ، ويبتاعون بالفضل أنفسهم. رحم الله امرأ جعل العيش عيشا واحدا ، فأكل كسرة وليس خلقا ، ولزق بالأرض ، واجتهد في العبادة ، وبكى على الخطيئة ، وهرب من العقوبة ، وابتغى الرحمة ، حتى يأتي عليه أجله وهو كذلك (١). وحكي (أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله مالي لا أحب الموت ، جعلني الله فداك؟ فقال : هل لك مال؟ قال : نعم. قال : قدم مالك. قال : لا أطيق ذلك يا رسول الله. قال : فإن قلب المرء مع ماله ، إن قدمه أحب أن يلحقه ، وإن أخره أحب أن يتخلف معه) (٢).

قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [٢٠] قال : يعني للعارفين بالله يستدلون بها على معرفتهم.

قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [٢١] قال : أي في صورها وتقديرها بأحسن التقادير ، وعروقها السائرة فيها كالأنهار الجارية ، وشقوقها من غير ألم وصل إليكم بعد ما كنتم نطفا ، ثم ركبكم من طبق إلى طبق ، أفلا تبصرون هذه القدرة البليغة فتؤمنوا بوحدانيته وقدرته ، وأن الله تعالى خلق في نفس ابن آدم ألفا وثمانين عبرة ، فثلاثمائة وستون منها ظاهرة ، وثلاثمائة

__________________

(١) الحلية ٢ / ١٤٩ ؛ وكتاب الزهد الكبير ٢ / ٦٥.

(٢) الفردوس بمأثور الخطاب ٣ / ٢٠٥ (رقم ٤٥٨٠).

١٥٣

وستون منها باطنة ، لو كشف عنها لأبصرتم ، وثلاثمائة وستون منها غامضة لا يعرفها إلا نبي أو صديق ، لو بدت منها عبرة لأهل العقول لوصلوا إلى الإخلاص ، فإن الله تعالى حجب قلوب الغافلين عن ذكره باتباعهم الشهوات عن هذه العبر ، فكشف قلوب العارفين به عنها فأوصلهم إليه.

قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [٢٢] أي تفرغوا لعبادتي ولا يشغلكم طلب الرزق عنا ، فإنا نرزقكم ، ثم قال : إن الله رضي عنكم بعبادة يوم فارضوا عنه برزق يوم بيوم. قال : وفيها وجه آخر : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) [٢٢] أي من الذكر وثوابه.

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) [٢٤] قال : سماهم مكرمين لأنه خدمهم بنفسه ، وكان منذ سبعة أيام لم يطعم شيئا ، ينتظر ضيفا ، فلما أرسل الله تعالى ملائكته إليه استبشر بهم وخدمهم بنفسه ولم يطعم معهم ، وهي علامة الخلة المؤكدة أن يطعم ولا يطعم ، ويشفي الغير من ألم ويسقم.

قوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [٥٠] قال : يعني ففروا مما سوى الله إلى الله ، وفروا من المعصية إلى الطاعة ، ومن الجهل إلى العلم ، ومن عذابه إلى رحمته ، ومن سخطه إلى رضوانه. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بك منك» (١) ، فهذا أيضا باب منه عظيم.

قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) [٥٤] قال : أعرض عنهم فقد جهدت في الإبلاغ جهدك.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ / ٩٣ (رقم ٤٥٠٢) ؛ وسنن الترمذي ٥ / ٥٢٤ (رقم ٣٤٩٣) ، ٥ / ٥٦١ (رقم ٣٥٦٥).

١٥٤

السورة التي يذكر فيها الطور

قوله تعالى : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) [٤] قال : ظاهرها ما حكى محمد بن سوار بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليلة أسري بي إلى السماء رأيت البيت المعمور في السماء الرابعة ـ ويروى السابعة ـ يحجه كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه بعده أبدا» (١) الحديث بطوله ... وباطنها القلب قلوب العارفين معمورة بمعرفته ومحبته ، والأنس به ، وهو الذي تحجه الملائكة لأنه بيت التوحيد.

قوله تعالى : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) [٥] هو العمل المرضي الذي لا يراد به جزاء إلا الله تعالى.

قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) [٢٦] قال : أي خائفين وجلين من سوء القضاء وشماتة الأعداء.

قوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [٤٨] يعني ما ظهر على صفاتك من فعل وقدرة يتولى جملتك بالرعاية والكلاية والرضى والمحبة والحراسة من الأعداء.

قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) [٤٨] قال : يعني صل المكتوبة بالإخلاص لربك حين تقوم إليها.

قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) [٤٩] قال : يعني لا تغفل عن ذكر من لا يغفل عن برك وحفظك في كل الأوقات صباحا ومساء.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) صحيح مسلم رقم ١٦٣.

١٥٥

السورة التي يذكر فيها النجم

قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [١] يعني ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رجع من السماء.

قوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [٢] قال : أي ما ضل عن حقيقة التوحيد قط ، ولا اتبع الشيطان بحال.

قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [٣] يعني لا ينطق بالباطل قط. قال كان نطقه حجة من حجج الله تعالى ، فكيف يكون للهوى والشيطان عليه اعتراض؟

قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [٨] قال : يعني قربا بعد قرب.

قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [١١] من مشاهدة ربه ببصر قلبه كفاحا.

قوله تعالى : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) [١٢] منا وبنا وما يرى منا بنا أفضل مما يراه به.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) [١٣] قال : يعني في الابتداء حين خلقه الله سبحانه وتعالى. ويقال نورا في عامود النور قبل بدء الخلق بألف ألف عام بطبائع الإيمان مكاشفة الغيب بالغيب قام بالعبودية بين يديه : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) [١٤] وهي شجرة ينتهي إليها علم كل أحد.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [١٦] السدرة من نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عبادته ، كأمثال فراش من ذهب ، ويجريها الحق إليه من بدائع أسراره ، كل ذلك ليزيده ثباتا لما يرد عليه من الموارد.

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [١٧] قال : ما مال إلى شواهد نفسه ولا إلى مشاهدتها ، وإنما كان مشاهدا بكليته ربه تعالى ، شاهدا ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبات في ذلك المحل.

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [١٨] يعني ما يبدي من صفاته من آياته رآها ، ولم يذهب بذلك عن مشهوده ، ولم يفارق مجاورة معبوده ، وما زاده إلا محبة وشوقا وقوة ، أعطاه الله قوة احتمال التجلي والأنوار العظيمة ، وكان ذلك تفضيلا له على غيره من الأنبياء.

١٥٦

ألا ترى أن موسى صعق عند التجلي ، ففي الضعف جابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشاهدته كفاحا ببصر قلبه ، فثبت لقوة حاله وعلو مقامه ودرجته.

قوله تعالى : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [٤٠] قال : أي سوف يرى سعيه ويعلم أنه لا يصلح للحق ويعلم الذي يستحقه سعيه ، وأنه لو لم يلحقه فضل الله لهلك سعيه.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) [٤٣] قال : يعني أضحك المطيع بالرحمة ، وأهلك العاصي بالسخط ، وأضحك قلوب العارفين بنور معرفته ، وأبكى قلوب أعدائه بظلمات سخطه (١).

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) [٤٤] قال : أمات قلوب الأعداء بالكفر والظلمة ، وأحيا قلوب الأولياء بالإيمان وأنوار المعرفة.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) [٤٨] قال : ظاهرها متاع الدنيا ، وباطنها أغنى بالطاعة وأفقر بالمعصية. وقال ابن عيينة : أغنى وأقنى أي أقنع وأرضى.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

__________________

(١) في تفسير القرطبي ١٧ / ١١٧ ورد قول التستري في تفسير الآية المذكورة : (أضحك الله المطيعين بالرحمة ، وأبكى العاصين بالسخط).

١٥٧

السورة التي يذكر فيها القمر

قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [١] على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقتين ، حتى ذهبت فلقة وراء جبل حراء ، وهي أول علامة من علامات الساعة. وحكي عن أبي عبد الرحمن السلمي (١) قال : كنت مع أبي بالمدائن ، وكانت الجمعة ، فذهب بي إلى الجمعة وهو آخذ بيدي ، فقام حذيفة بن اليمان على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [١] ، ألا وإن الساعة قد اقتربت ، وإن القمر قد انشق ، ألا وإن الدنيا قد أدبرت ، ألا وإن المضمار اليوم ، والسباق غدا. فلما خرجنا قلت : يا أبت ، غدا يستبق الناس. قال : يا بني السباق غدا. [فقلت لأبي : أيستبق الناس غدا؟ قال : يا بني] (٢) إنك لجاهل ، إنّما يقول من عمل اليوم سبق في الآخرة (٣).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [١٧ ، ٣٢ ، ٣٩] أي هوّنا القرآن للذكر ، ولو لا ذلك لما أطاقت الألسنة أن تتكلم به ، فهل من مدكر لهذه النعمة.

قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [٥٢] قال : يعني في الكتب التي تكتبها الحفظة.

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [٥٣] أي مكتوب في الكتاب ، فيعرض عليهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى. وقد حكي عن أبي حازم (٤) أنه قال : ويحك يا أعرج ، ينادى يوم القيامة : يا أهل خطيئة كذا فتقوم معهم ، ثم ينادى : يا أهل خطيئة كذا فتقوم معهم ، وأراك يا أعرج تقوم مع أهل كل خطيئة (٥) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) أبو عبد الرحمن السلمي : محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدي السلمي (٣٢٥ ـ ٤١٢ ه‍) : شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم. بلغت تصانيفه مائة أو أكثر. (الأعلام ٦ / ٩٩).

(٢) ما بين القوسين إضافة من المستدرك على الصحيحين ٤ / ٦٥١ (رقم ٨٨٠٠).

(٣) المستدرك على الصحيحين ٤ / ٦٥١ (رقم ٨٨٠٠) ؛ ومصنف ابن أبي شيبة ٧ / ١٣٩ ؛ والحلية ١ / ٢٨١ ؛ وتاريخ بغداد ١ / ٢٠٢.

(٤) أبو حازم : سلمة بن دينار المخزومي ، ويقال له الأعرج (... ـ ١٤٠ ه‍) : عالم المدينة وقاضيها وشيخها.

فارسي الأصل. كان زاهدا عابدا. (الحلية ٣ / ٢٢٩).

(٥) الحلية ٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣١ ؛ وصفوة الصفوة ٢ / ١٦٤.

١٥٨

السورة التي يذكر فيها الرحمن

قوله تعالى : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [٤] قال : يعني علّمه الكلام الذي هو من نفس الروح وفهم العقل وفطنة القلب وذهن الخلق وعلم نفس الطبع ، ألهم الله ذلك آدم عليه‌السلام وبين ذلك.

قوله تعالى : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) [٧] قال : باطنها الأمر والنهي على الجوارح.

قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [١٧] قال : باطنها مشرق القلب ومغربه ومشرق اللسان ومغربه ، ومشرق توحيده ومغربه مشاهدته. وقال تعالى : (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠] أي مشارق الجوارح بالإخلاص ، ومغاربها بالطاعة للناس ظاهرا وباطنا.

قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) [١٩] قال : أحد البحرين القلب ، فيه أنواع الجواهر : جوهر الإيمان وجوهر المعرفة وجوهر التوحيد وجوهر الرضى وجوهر المحبة وجوهر الشوق وجوهر الحزن وجوهر الفقر وغيرها ؛ والبحر الآخر النفس.

قوله تعالى : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [٢٠] وهو العصمة والتوفيق.

قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [٤٦] قال لبيد : همّ بمعصية ، ثم ذكر مقامه بين يدي الله تعالى يوم الحساب ، فانتهى عنها (١). ولقد بلغني أن شابا في خلافة عمر رضي الله عنه كان له جمال ومنظر ، وكان عمر رضي الله عنه يعجبه الشاب ويتفرس فيه الخير ، فاجتاز الفتى بامرأة فأعجب بها ، فلما أراد أن يهمّ بالفاحشة نزلت عليه العصمة ، فخرّ لوجهه مغشيا ، فحملته المرأة إلى منزله ، وكان له أب شيخ كبير ، إذا أمسى جلس على الباب ينتظره ، فلما رآه الشيخ غشي عليه ، فلما أفاق سأله عن حاله ، فقصّ عليه ، ثم صاح صيحة فخرّ ميتا ، فلما دفن وقف وقرأ عمر رضي الله عنه على قبره : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [٤٦] فناداه من القبر : إن الله أعطانيهما وزادني معهما ثالثة (٢).

قوله تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) [٥٦] قال : أي غاضات الأبصار عن غير أزواجهن فمن قصر طرفه في الدنيا عن الحرام والشبهات ، وعن اللذات وزينتها ، أعطاه الله في الجنة قاصرات الطرف ، كما وعد. قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [٧٢] قال : أي محبوسات في الخيام. وقد حكى محمد بن سوار بإسناده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

«إن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة بيضاء طولها ثلاثون ميلا فيها أهلون لا يرى بعضهم بعضا» (٣) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) نسب هذا القول إلى مجاهد في كتاب الورع ص ١١٥.

(٢) ورد مثل هذا الخبر في شعب الإيمان ١ / ٤٦٨ (رقم ٧٣٦).

(٣) صحيح مسلم رقم ٢٨٣٨ باب في صفة خيام الجنة ، وصحيح البخاري برقم ٤٥٩٨.

١٥٩

السورة التي يذكر فيها الواقعة

قوله تعالى : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) [٣] قال : يعني القيامة تخفض أقواما بالدعاوى ، وترفع أقواما بالحقائق.

قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [٧] قال : يعني فرقا ثلاثة. (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) [٨] يعني الذين يعطون الكتاب بأيمانهم. (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) [٩] يعني الذين يعطون الكتاب بشمائلهم. (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) [١٠] قال هم الذين سبق لهم من الله الاختيار والولاية قبل كونهم. (الْمُقَرَّبُونَ) [١١] في منازل القرب وروح الأنس ، وهم الذين سبقوا في الدنيا ، فسبق الأنبياء إلى الإيمان بالله ، وسبق الصديقون والشهداء من الصحابة وغيرهم إلى الإيمان بالأنبياء.

قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) [١٣ ، ٣٩] قال : يعني فرقة من الأولين وهم أهل المعرفة. (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [٤٠] وهم الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبجميع الرسل والكتب.

قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) [٢٥] قال : ما ذاك بمشهد لغو ولا مكان إثم ، لأنه محل قدّس بالأنوار للمقدسين من العباد ، وقد ظهر منهم وعليهم ما يصلح لذلك المقام.

قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) [٨٣] يعني نفسه بلغت الحلقوم ، وهو متحير لا يدري ما يصير أمره ، كما حكي عن مسروق بن الأجدع (١) أنه بكى حين حضرته الوفاة ، فاشتد بكاؤه ، فقيل له : ما يبكيك؟ قال : وكيف لا أبكي ، وإنما هي ساعة ، ثم لا أدري إلى أين يسلك بي (٢). (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [٨٨] يعني الأنبياء والشهداء والصالحين بعضهم أفضل درجة من بعض ، منازلهم في القرب على مقدار قرب قلوبهم من المعرفة بالله تعالى. (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) [٨٩] في الجنة. وقال أبو العالية (٣) في هذه الآية : لم يكن الرجل منهم يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تفيض روحه فيها (٤). (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) [٩٠] قال : يعني الموحدين العاقبة لهم لأنهم أمناء الله قد أدوا الأمانة ، يعني أمره ونهيه والتابعين بإحسان لم يحدثوا شيئا من المعاصي والزلات ، فأمنوا الخوف والهول الذي ينال.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني الوادعي الكوفي (١ ـ ٦٣ ه‍) : تابعي ، ثقة ، من عباد أهل الكوفة. شلت يده يوم القادسية. (تهذيب التهذيب ١٠ / ١٠٠).

(٢) صفوة الصفوة ٣ / ٢٦.

(٣) أبو العالية : رفيع بن مهران الرياحي البصري (... ـ ٩٠ ه‍) : أدرك الجاهلية ، وأسلم بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنتين.

تابعي ثقة ، من كبار التابعين. لم يكن أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة منه. (تهذيب التهذيب ٣ / ٢٤٦).

(٤) تفسير ابن كثير ٤ / ٣٢٢.

١٦٠