تفسير التّستري

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري

تفسير التّستري

المؤلف:

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري


المحقق: محمد باسل عيون السود
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3631-3
الصفحات: ٢٣٩

السورة التي يذكر فيها الروم

قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [٤] يعني من قبل كل شيء ، ومن بعد كل شيء ، لأنه هو المبدئ والمعيد ، سبق تدبيره في الخلق ، لأنه عالم بهم في الأصل والفرع.

قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) [٤٠] قال : أفضل الرزق السكون إلى الرازق.

قوله (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) [٤٠] يعني يهلككم. قال : إن الله تعالى خلق الخير والشر ، ووضع الأمر والنهي ، فاستعبدنا بالخير وقرنه بالتوفيق ، ونهانا عن الشر وقد قرن ارتكابه بترك العصمة والخذلان ، فالجميع خلقه ، فمن وفق للخير وجب عليه الشكر ، ومن ترك مع الشر وجب عليه الاستغاثة بالله عزوجل.

قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [٤١] قال : مثل الله تعالى الجوارح بالبر ، ومثل القلب بالبحر ، وهم أعم نفعا وأكثر خطرا ، هذا باطن الآية ، ألا ترى أن القلب إنما سمي قلبا لتقلبه وبعد غوره ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي الدرداء (١) رضي الله عنه : «جدد السفينة فإن البحر عميق» (٢) ، يعني جدد النية لله تعالى من قلبك ، فإن البحر عميق ، فحينئذ إذا صارت المعاملة في القلوب التي هي بحور ليس له منها مخرج ، وخرجت النفس من الوسط ، استراحت الجوارح ، فصار صاحبها في كل يوم أقرب إلى غورها ، وأبعد من نفسه حتى يصل.

وسئل عن معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه» (٣) فقال : للقلب ثلاث مقامات : جمهور القلب ، ومقام اللسان من القلب ، ومقام الجوارح من القلب. وقوله : «ذهب ثلثا دينه» يعني اشتغل من الثلاثة اثنان : اللسان وسائر الجوارح ، وبقي الجمهور الذي لا يصل إليه أحد ، وهو موضع إيمانه من القلب.

__________________

(١) أبو الدرداء : عويمر بن مالك بن قيس الأنصاري (... ـ ٣٢ ه‍) : صحابي ، من الحكماء الفرسان القضاة ، وهو أول قاض عين بدمشق. (الحلية ١ / ٢٠٨).

(٢) في الفردوس بمأثور الخطاب ٥ / ٣٣٩ رقم ٨٣٦٨ أنه حديث خاطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا ذر الغفاري.

(٣) كشف الخفاء ٢ / ٣١٦ ـ ٣١٧ ؛ وشعب الإيمان ٦ / ٢٩٨ ؛ وفي قوت القلوب ٢ / ٢٠ أنه خبر منقول من التوراة.

١٢١

ثم قال : إن القلب رقيق يؤثر فيه كل شيء ، فاحذروا عليه واتقوا الله به. فسئل : متى يتخلص القلب من الفساد؟ قال : لا يتخلص إلا بمفارقة الظن والحيل ، وكأن الحيل عند ربك كالكبائر عندنا ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكبيرة ما يشرح في صدرك والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك المفتون وأفتوك. ثم قال : إن اضطرب القلب فهو حجة عليك» (١).

قوله : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) [٥٠] قال : ظاهرها المطر ، وباطنها حياة القلوب بالذكر ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) في مسند أحمد ٤ / ١٩٤ ؛ ونوادر الأصول ١ / ٢٣٩ ؛ والترغيب والترهيب ٢ / ٣٥١ ؛ وجامع العلوم والحكم ص ٢٥١ : (البر : ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم : ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب ، وإن أفتاك المفتون) ؛ وفي جامع العلوم رواية أخرى : (البر : ما انشرح له الصدر ، والإثم ما حاك في صدرك ، وإن أفتاك عنه الناس).

١٢٢

السورة التي يذكر فيها لقمان

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَ) [٦] قال : هو الجدال في الدين والخوض في الباطل.

قوله : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ) [١٥] يعني من لم يهتد الطريق إلى الحق عزوجل فليتبع آثار الصالحين لتوصله بركة متابعتهم إلى طريق الحق ، ألا ترى كيف نفع اتباع الصالحين كلب أصحاب الكهف ، حتى ذكره الله تعالى بالخير مرارا ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك الحديث : «هم الذين لا يشقى بهم جليسهم» (١).

قوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [١٩] فإنه يصيح لرؤية الشيطان ، فلذلك سماه الله تعالى منكرا. (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [٢٠] الظاهرة محبة الصالحين ، والباطنة سكون القلب إلى الله تعالى.

قوله : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [٢٢] قال : من يخلص دينه لله عزوجل ويحسن أدب الإخلاص ، (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [٢٢] وهي السنة.

قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [١٨] أي لا تعرض وجهك عمن استرشدك الطريق إلينا ، وعرفهم نعمتي وإحساني لديهم.

قوله : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) [٣٤] أي ما له وعليه في الغيب من المقدور فاحذروه بإقامة ذكره والصراخ إليه ، حتى يكون هو المتولي لشأنهم ، كما قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) [الرعد : ٣٩].

قوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [٣٤] قال : على أي حكم تموت من السعادة والشقاوة ، ولذلك قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تغرنكم كثرة الأعمال فإن الأعمال بالخواتيم» (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الدعوات رقم ٦٠٤٥ ؛ وصحيح مسلم : كتاب الذكر رقم ٢٦٨٩.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٣٣٥ ؛ والترغيب والترهيب ٤ / ٤٨.

١٢٣

وكان يقول : «يا ولي الإسلام وأهله ثبتني بالإسلام حتى ألقاك به» (١) ، وقال : «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» (٢) ، مع ما أمنه الله من عاقبته ، وإنما قال ذلك تأديبا ليقتدوا به ، ويظهروا فقرهم وفاقتهم إلى الله عزوجل ، ويتركوا السكون إلى الأمن من مكره ، ولذلك قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] وقال يوسف عليه‌السلام : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١] فهذا كله تبرّ من الحول والقوة بالافتقار إليه ، كما قال : (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) [الفرقان : ٧٧] أي تبريكم من كل شيء سواي قولا ، وقال : أنتم الفقراء إلى الله عزوجل.

__________________

(١) تقدم الحديث في تفسير سورة آل عمران.

(٢) المستدرك على الصحيحين ١ / ٧٠٦ ـ ٧٠٧ ، ٢ / ٣١٧ ، ٤ / ٥٣٧ ؛ وسنن الترمذي ٤ / ٤٤٨ (رقم ٢١٤٠) ٥ / ٥٣٨ (رقم ٣٥٢٢) ، ٥ / ٥٧٣ (رقم ٣٥٨٧) ؛ ومجمع الزوائد ٦ / ٣٢٥ ، ٧ / ٢١٠.

١٢٤

السورة التي يذكر فيها السجدة

قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [٥] قال : يوحي من أمره إلى عبيده ما لهم فيه هدى ونجاة ، يطوي لمن رضي رزق القضاة بتدبير الله له ، وأسقط عنه سوء تدبيره ، ورده إلى حال الرضا بالقضاء والاستقامة في جريان المقدور عليه أولئك من المقربين ، وأن الله تعالى خلق الخلق من غير حجاب ، ثم جعل حجابهم تدبيرهم.

قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [١٣] قال : لو شئنا لحققنا دعاوي المحقين ، وأدحضنا براهين المبطلين.

قوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) [١٥] قال : لا يجد العبد لذة الإيمان حتى يغلب علمه جهله ، ويكون الغالب على قلبه الرحمة.

قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [١٦] قال : إنّ الله تعالى وهب لقوم هبة ، وهو أن أدناهم من مناجاته ، وجعلهم من أهل وسيلته وصلته ، ثم مدحهم إلى إظهار الكرم بأنه وفقهم على ما وفقهم له ، فقال : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [١٦].

قوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [١٦] قال : أي خوفا من هجرانه وطمعا في لقائه.

قوله عزوجل : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [١٧] قال : أعينهم بما شاهدوا من ظاهر الحقائق ، وباطنها التي كشفت لهم من مكاشفات ، فرأوها وتمسكوا بها ، فقرّت أعينهم ، وسكنت إليها قلوبهم ، وغيرهم لا يعلمون ما أخفي لهم.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٢٥

السورة التي يذكر فيها الأحزاب

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) [٤] قال : المتوجه إلى الله عزوجل قصدا من غير التفات ، فمن نظر إلى شيء سوى الله فما هو بقاصد إلى ربه ، وإن الله تعالى يقول : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) [٤] قيل : قلب يقبل به على ربه ، وقلب يدبر به أمور الدنيا. وللعقل طبعان : طبع للدنيا وطبع للآخرة مؤتلف بطبع نفس الروح ، فطبع الآخرة منطبع بطبع نفس الروح ، وطبع الدنيا مؤتلف بالنفس الشهوانية. ولهذا قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» (١) ، فإن العبد ما دام مشتغلا بنفسه فهو محجوب عن الله عزوجل.

قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [٦] قال : من لم ير نفسه في ملك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم ير ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع الأحوال لم يذق حلاوة سنته بحال ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أولى بالمؤمنين ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» (٢).

قوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) [٨] قال عبد الواحد بن زيد (٣) : الصدق الوفاء لله بالعمل. وسئل سهل عن الصدق فقال : الصدق خوف الخاتمة ، والصبر شاهد الصدق ، وإنما صعب الصدق على الصديقين ، والإخلاص على المخلصين ، والتوبة على التائبين ، لأن هذه التلبية لها حكم بدل الروح. قيل لأحمد بن متى : ما معناه؟ قال : أن لا يبقى للنفس نصيب (٤). وقال سهل : لا يشم أحد رائحة الصدق ما دام يداهن نفسه أو غيره. بل الصدق أن يكون في سره أنه ليس على وجه الأرض أحد طالبه الله بالعبودية غيره ، ويكون رجاؤه خوفه ، وخوفه انتقاله ، فإذا رآهم الله تعالى على هذه الحالة تولى أمورهم وكفاهم ، فصارت كل شعرة من شعورهم تنطق مع الله بالمعرفة ، فيقول الله تعالى لهم يوم القيامة : «لمن عملتم ، ما ذا أردتم؟ فيقولون : لك عملنا ، وإياك أردنا. فيقول : صدقتم». فوعزته فقوله لهم في المشاهدة : «صدقتم» ألذ عندهم من نعيم الجنة. فقيل لأحمد بن متى : ما معنى

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ١ / ٧٣٠ ؛ والسنن الكبرى ٦ / ١٤٧ (١٠٤٠٥) ، ٦ / ١٦٧ (١٠٤٨٧) ؛ ومجمع الزوائد ١٠ / ١١٧ ، ١٣٧ ، ١٨١ ؛ ومسند أحمد ٥ / ٤٢.

(٢) صحيح البخاري : الإيمان ، رقم ١٤ ـ ١٥ ؛ وصحيح مسلم : الإيمان ، رقم ٤٤.

(٣) عبد الواحد بن زيد (... ـ ١٧٧ ه‍) : واعظ من متصوفة البصرة. تلقى أصول علومه عن الحسن البصري.

(الحلية ٦ / ١٥٦).

(٤) فيض القدير ٤ / ٣٤٣ ؛ وكتاب الزهد الكبير ٢ / ٣٤٣.

١٢٦

قوله : رجاء الصدق خوفه ، وخوفه انتقاله؟ فقال : لأن الصدق رجاؤهم وطلبهم ، ويخافون في طلبهم أن لا يكونوا صادقين ، فلا يقبل الله منهم ، كما قال : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون : ٦٠] أي وجلة في الطاعة خوف الرد عليهم.

قوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [٣٥] قال : الإيمان أفضل من الإسلام ، والتقوى في الإيمان أفضل من الإيمان ، واليقين في التقوى أفضل من التقوى ، والصدق في اليقين أفضل من اليقين ، وإنما تمسكتم بالأنا فإياكم أن تنفلت من أيديكم. وقال : الإيمان بالله في القلب ثابت ، واليقين بالصدق راسخ ، فصدق العين ترك النظر إلى المحظورات ، وصدق اللسان في ترك ما لا يعني ، وصدق اليد ترك البطش للحرام ، وصدق الرجلين ترك المشي إلى الفواحش ، وحقيقة الصدق من دوام النظر فيما مضى ، وترك النظر فيما بقي ، وإن الله تعالى أعطى الصديقين من العلم ما لو نطقوا به لنفذ البحر من نطقهم ، وهم مختفون لا يظهرون للناس إلا فيما لا بد لهم منه ، حتى يخرج العبد الصالح ، فعند ذلك يظهرون ، ويعلمون العلماء من علومهم.

قوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) [٣٥] قال : الذاكر على الحقيقة من يعلم أن الله مشاهده فيراه بقلبه قريبا منه ، فيستحي منه ، ثم يؤثره على نفسه وعلى كل شيء من جميع أحواله. وسئل سهل مرة أخرى : ما الذكر؟ فقال : الطاعة. قيل : ما الطاعة؟ قال : الإخلاص قيل : ما الإخلاص؟ قال : المشاهدة. قيل : ما المشاهدة؟ قال : العبودية. قيل : ما العبودية؟ قال : الرضا. قيل : ما الرضا؟ قال : الافتقار. قيل : ما الافتقار؟ قال : التضرع والالتجاء سلم سلم إلى الممات. وقال ابن سالم : الذكر ثلاث : ذكر باللسان فذاك الحسنة بعشر ، وذكر بالقلب فذاك الحسنة بسبعمائة ، وذكر لا يوزن ثوابه وهو الامتلاء من المحبة.

قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [٣٨] قال : أي معلوما قبل وقوعه عندكم ، وهل يقدر أحد أن يتقي المقدور؟ وقد قال عمر رضي الله عنه لما طعن : («وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [٣٨] ، ولقد أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم سيفعلون هذا». وحكي عن الضحاك أنه ينزل ملكان من السماء ومع أحدهما صحيفة فيها كتاب ، ومع الآخر صحيفة ليس فيها كتاب ، فيكتب عمل العبد وأثره ، فإذا أراد أن يصعد قال لصاحب الصحيفة المكتوبة : عارضني فيعارضه ، فلا يخطىء حرفا.

قوله : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [٧١] قال : من وفقه الله لصالح الأعمال فذاك دليل على أنه مغفور له ، لأن الله تعالى قال : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [٧١].

والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٢٧

السورة التي يذكر فيها سبأ

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) [٣٩] قال : الرزق على وجهين :

رزق وهو ذكر لنفس الروح والعقل والقلب ، مثل عيش الملائكة ، وحياتهم بالذكر ، متى أمسك عنهم ماتوا.

والرزق الآخر هو المأكول والمشروب ونحو ذلك لنفع الطبع ، وفيه يقع الحلال والحرام ؛ فالحلال ما رزقه الله تعالى وأمر بالأخذ منه ، والحرام ما رزقه الله تعالى ونهى عنه ، وهو قسمة النار ؛ ولا أعلم شيئا أشد من كف الأذى وأكل الحلال.

قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [٣٧] قال : الزلفى هو القرب من الله تعالى.

قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [٣٩] قال : الخلف على الإنفاق ، والإنس بالعيش مع الله تعالى ، والسرور به.

قوله : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) [٤٦] قال : يرجع الحساب يوم القيامة إلى أربعة :

الصدق في الأقوال ، والإخلاص في الأعمال ، والاستقامة مع الله في جميع الأحوال ، ومراقبة الله على كل حال.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٢٨

السورة التي يذكر فيها فاطر

قوله تعالى : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) [٦] يعني الشيطان يدعو أهل طاعته من أهل الأهواء والبدع والضلالات والسامعين ذلك من قائلها.

قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [١٠] قال : ظاهرها الدعاء والصدقة ، وباطنها الذكر ، عملا بالعلم ، وإقبالا بالسنة ، يرفعه أي يوصله بالإخلاص فيه لله تعالى.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [١٥] قال : يعني أنتم إليه في أنفسكم ، فإن الله تعالى لما خلق الخلق حكم لعباده بالفقر إليه ، وهو الغني ، فمن ادعى الغنى حجب عن الله عزوجل ، ومن أظهر فقره إليه أوصل الله فقره بغناه ، فينبغي للعبد أن يكون مفتقرا إليه في السر ، منقطعا عن غيره ، حتى تكون عبوديته محضة ، إذ العبودية المحضة هي الذل والخضوع. فقيل له : وكيف يفتقر إليه؟ قال : إظهار الفقر في ثلاث : فقرهم القديم ، وفقرهم في حالهم ، وفقرهم في موت أنفسهم من تدبيرهم ؛ ومن لم يكن كذلك فهو مدّع في فقره. وقال : الفقير الصادق الذي لا يسأل ولا يرد ولا يحبس. وقال عمر بن عبد العزيز (١) رضي الله عنه : صفة أولياء الله عزوجل ثلاثة أشياء : الثقة بالله تعالى في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء.

قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) [٣٢] قال عمر بن واصل : سمعت سهلا يقول : السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم الجاهل (٢). وقال أيضا : السابق الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد الذي اشتغل بمعاده ومعاشه ، والظالم الذي اشتغل بمعاشه دون معاده.

وقال الحسن البصري رحمه‌الله : السابق الذي رجحت حسناته على سيئاته ، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته ، والظالم الذي رجحت سيئاته على حسناته.

قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [٣٤] أي حزن القطيعة ، (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [٣٤] يعني غفور لذنوب كثيرة ، شكور لأعمال يسيرة.

__________________

(١) عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي (٦١ ـ ١٠١ ه‍) : الخليفة الصالح والملك العادل ، وخامس الخلفاء الراشدين. توفي مسموما بعد سنتين من خلافته. (الأعلام ٥ / ٥٠).

(٢) تفسير القرطبي ١٤ / ٣٤٨ ، وفيه أقوال أخرى.

١٢٩

السورة التي يذكر فيها يس

صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [١١] قال : من عبد الله في سره أورثه اليقين ، ومن عبد الله بصدق اللسان لم يستقر قلبه دون العرش ، ومن عبد الله بالإنصاف كانت السماوات والأرض في ميزانه. قيل : وما الإنصاف؟ قال : الإنصاف أن لا تتحرك جميع أعضائك إلا لله ، ومتى طالبته برزق الغد فقد ذهب إنصافك ، لأن القلب لا يحمل همين ، والإنصاف بينك وبين الخلق أن تأخذ بالفضل ، فإذا طلبت الإنصاف فلست بمنصف. وحكي عن يحيى وعيسى عليهما‌السلام أنهما خرجا يمشيان ، فصدم يحيى امرأة ، فقال له عيسى : يا ابن خالتي ، لقد أصبت اليوم خطيئة ، ما أرى الله يغفرها لك. قال : وما هي؟ قال : صدمت امرأة. قال : والله ما شعرت بها. قال عيسى : سبحان الله ، بدنك معي ، فأين قلبك؟ قال : معلق بالعرش ، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل صلوات الله عليه طرفة عين ، لظننت أني ما عرفت الله عزوجل.

قوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) [٢٢] وسئل عن خير العبادات فقال : الإخلاص لقوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] ولا يخلص العمل لأحد ، ولا تتم عبادته وهو يفر من أربع : الجوع والعري والفقر والذلة ، وإن الله تعالى استعبد الخلق بهذه الثلاث : العقل والروح والقوة ، وإذا خاف على اثنين منها ، ذهاب عقله وذهاب روحه ، تكلف لها بشيء ، وأما القوة فلا يتكلف لها ولا يفطن لها ، وإن صلى جالسا.

قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [٦٦] قال : يعني ولو نشاء لفقأنا أعين قلوبهم التي يبصرون الكفر وطريقه ، فيبصرون طريق الإسلام ، ولا يبصرون غيره ، (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) [٦٦] طريق الإسلام ، ولم يفعل ذلك.

قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [٦٩] قال : هو الذكر والتفكر.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٣٠

السورة التي يذكر فيها الصافات

قوله تعالى : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [٨٤] أي مستسلم مفوض إلى ربه بكل حال راجع لسره.

قوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [٨٨ ـ ٨٩] قال : وحكي عن محمد بن سوار عن أبي عمرو بن العلاء قال : معناه نظر إلى النبات ، كقوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] وأراد بالنجم ما لا ساق له من النبات ، وبالشجر ما له ساق.

قوله : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [١٠٧] قال : إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أحب ولده بطبع البشرية تداركه من الله فضله وعصمته حتى أمره بذبحه ، إذ لم يكن المراد منه تحصيل الذبح ، وإنما كان المقصود تخليص السر من حب غيره بأبلغ الأسباب ، فلما خلص السر له ورجع عن عادة الطبع فداه بذبح عظيم.

قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) [١٠٦] قال : يعني بلاء رحمة ، ألا ترون كيف بعثه على الرضى. قال : وبلغنا أنه مكتوب في الزبور : «ما قضيت على مؤمن قضاء أحبّه أو كرهه إلا وهو خير له». وحكي أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم صلوات الله عليه : ما من أحد وسّعت إليه إلا أنقصت بقدره من آخرته ، ولو كنت أنت يا خليلي. وقال أبو يعقوب السوسي : جاءنا فقير ونحن بأرجّان وسهل بن عبد الله يومئذ بها ، فقال : إنكم أهل العناية فقد نزلت بي محنة ، فقال له سهل : في ديوان المحنة وقعت منذ تعرضت لهذا الأمر ، فما هي؟ قال : فتح لي شيء من الدنيا فاستأثرت به في غير ذوي محرم ففقدت إيماني وحالي. فقال سهل : ما تقول في هذا يا أبا يعقوب؟ فقلت : محنته بحاله أعظم من محنته بإيمانه. فقال لي سهل : مثلك يقول هذا يا أبا يعقوب (١)؟ وسئل سهل عن الحال فقال : حال الذكر من العلم السكون ، وحال الذكر من العقل الطمأنينة ، وحال التقوى من الإسلام الحدود ، ومن الإيمان الطمأنينة. وقال : إذا كان للعبد حال فدخل عليه البلوى ، فإن طلب الفرج بحال دون تلك الحال فهو منه حدث. قيل : وكيف ذلك؟ قال : مثل أن يكون جائعا فيطلب الشبع ، لأن درجة الجائع أعلى.

قوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [١٤٣] قال : يعني من القائمين بحقوق الله تعالى قبل البلاء ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) اللمع لابن السراج ص ١٩٣.

١٣١

السورة التي يذكر فيها ص

قوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [١] قال : ذي الشأن الشافي والوعظ الكافي.

قوله : (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [٦] قال : هو الصبر المذموم الذي وبخ الله به الكفار. وقد سمعته يقول : الصبر على أربع مقامات : صبر على الطاعة ، وصبر على الألم ، وصبر على التألم ، وصبر مذموم وهو الإقامة على المخالفة.

قوله : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) [٢٠] قال : إنما أعطاه الله ذلك حين سأله أن يرفع منزلته على منزلة إسماعيل وإسحاق ، فقال : لست هناك يا داود ، ولكني أجعل لك مقاما من الحكمة ، وفاصلة ، وهي : «أما بعد». وهو أول من قال ذلك ، وبعده قس بن ساعدة (١). وقد قيل : فصل الإيمان لخطاب البيان.

قوله : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) [٢٠] قال : أي بالعدل وبالوزراء الصالحين يدلونه على الخير ، كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى إذا أراد بوال خيرا جعل له وزيرا صدوقا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه». قوله : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) [٢٤] قال : الإنابة هي الرجوع من الغفلة إلى الذكر ، مع انكسار القلب وانتظار المقت.

قوله : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [٢٦] قال : أي ظلمة الهوى تستر أنوار ذهن النفس والروح وفهم العقل وفطنة القلب ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الهوى والشهوة يغلبان العقل والعلم» (٢) والبيان لسابق القدرة من الله تعالى.

قوله : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) [٣٢] قال : عن صلاة العصر وحدها.

قوله : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [٣٥] قال : ألهم الله تعالى سليمان أن يسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، ليقصم به الجبابرة والكفرة ، والذين يخالفون ربهم ويدعون لأنفسهم قدرة من الجن والإنس ، فوقع السؤال من سليمان عليه‌السلام على اختيار الله له ، لا على اختياره لنفسه.

قوله : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [٤٦] قال : أخلص إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عن ذكر الدنيا بذكره خالصة ، لا لمال جزاء ، ولا شاهدوا فيه أنفسهم ، بل ذكروه به له ، وليس من ذكر الله بالله كمن ذكر الله بذكر الله ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي الإيادي (... ـ نحو ٢٣ ق. ه) : أحد حكماء العرب ، ومن كبار خطبائهم في الجاهلية. كان أسقف نجران. أدركه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل النبوة. (الأعلام ٥ / ١٩٦).

(٢) تقدم الحديث في تفسير سورة البقرة ، وهو من قول الحارث بن أسد في الحلية ١٠ / ٨٨ ، وسيعاد في تفسير الآية الرابعة من سورة الشمس.

١٣٢

السورة التي يذكر فيها الزمر

قوله تعالى : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [٧] قال : أول الشكر الطاعة ، وآخره رؤية الجنة.

قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [٩] قال : العلم الكتاب والاقتداء ، لا الخواطر المذمومة ، وكل علم لا يطلبه العبد من موضع الاقتداء صار وبالا عليه لأنه يدّعي به.

قوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [١١] قال : الإخلاص الإجابة ، فمن لم يكن له الإجابة فلا إخلاص له. وقال : نظر الأكياس في الإخلاص فلم يجدوا شيئا غير هذا ، وهو أن تكون حركاته وسكناته في سره وعلانيته لله عزوجل وحده ، لا يمازجه هوى ولا نفس. قوله : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) [١٧] قال : الطاغوت الدنيا ، وأصلها الجهل ، وفرعها المآكل والمشارب ، وزينتها التفاخر ، وثمرتها المعاصي ، وميزانها القسوة والعقوبة.

قوله : (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) [٣٨] قال : يعني إن نزع الله عني العصمة عن المخالفات أو المعرفة على الموفقات ، هل يقدر أحد أن يوصلها إلي ، (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) [٣٨] أي بالصبر على ما نهى عنه ، والمعونة على ما أمر به ، والاتكال عليه في الخاتمة. وقال : الرحمة العافية في الدين والدنيا والآخرة ، وهو التولي من البداية إلى النهاية.

قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ) [٤١] يعني أنزله لهم ليهتدوا بالحق إلى الحق ، ويستضيؤوا بأنواره.

قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [٤٢] قال : إذا توفى الله الأنفس أخرج الروح النوري من لطيف نفس الطبع الكثيف. والتوفي في كتاب الله على ثلاثة أوجه : أحدها الموت ، والآخر النوم ، والثالث الرفع. فالموت ما ذكرنا ، والنوم قوله : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [٤٢] يعني يتوفى التي لم تمت في منامها ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦٠] يعني النوم ، والرفع بعيسى عليه‌السلام : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥]

١٣٣

فإنه إذا مات فينزع عنه لطيف نفس الروح النوري من لطيف نفس الطبع الكثيف الذي به يعقل الأشياء ويرى الرؤيا في الملكوت ، وإذا نام نزع عنه لطيف نفس الطبع الكثيف لا لطيف نفس الروح النوري ، فيستفيق النائم نفسا لطيفا ، وهو من لطيف نفس الروح الذي إذا زايله لم تكن له حركة ، وكان ميتا. ولنفس طبع الكثيف لطيفة ، ولنفس الروح لطيفة ، فحياة لطيف نفس الطبع بنور لطيف نفس الروح ، وحياة روح لطيف نفس الروح بالذكر ، كما قال : (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] أي يرزقون الذكر بما نالوا من لطيف نفس النوري ، وحياة الطبع الكثيف بالأكل والشرب والتمتع ، فمن لم يحسن الإصلاح بين هذين الضدين ، أعني نفس الطبع ونفس الروح حتى يكون عيشهما جميعا بالذكر والسعي بالذكر ، فليس بعارف في الحقيقة. وقال عمر بن واصل : وكان المبرد (١) النحوي يقول : الروح والنفس شيئان متصلان لا يقوم أحدهما بدون الآخر. قال : فذكرت ذلك لسهل ، فقال : أخطأ ، إن الروح يقوم بلطفه في ذاته بغير نفس الطبع الكثيف ، ألا ترى أن الله تعالى خاطب الكل من الذر بنفس روح وفهم عقل وفطنة قلب وعلم لطيف بلا حضور طبع كثيف.

قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) [٤٣] قال : أم اتخذوا طريق البدعة في الدين قربة في الدين إلى الله ، على أن ينفعهم ذلك.

قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [٤٥] جحدت قلوبهم مواهب الله عندها.

قوله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [٥٣] قال : أمهل الله تعالى عباده تفضلا منه إلى آخر نفس ، فقال لهم : «لا تقنطوا من رحمتي فلو رجعتم إلي في آخر نفس قبلتكم». قال : وهذه أبلغ آية في الإشفاق من الله تعالى إلى عباده ، لعلمه بأنه ما حرمهم ما تفضل به على غيرهم ، فرحمهم حتى أدخلهم في عين الكرم بالذكر القديم لهم. وقد حكي عن جبريل عليه الصلاة والسلام أنه سمع إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول : يا كريم العفو. فقال له جبريل عليه‌السلام : يا إبراهيم ، أتدري ما كرم عفوه؟ قال : لا يا جبريل. قال : إذا عفا عن سيئة جعلها حسنة (٢). ثم قال سهل : اشهدوا على أني من ديني أن لا أتبرأ من فساق أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفجارهم وقاتلهم وزانيهم وسارقهم ، فإن الله تعالى لا يدرك غاية كرمه وفضله وإحسانه بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة.

__________________

(١) المبرد : محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي (٢١٠ ـ ٢٨٦ ه‍) : إمام العربية ببغداد في زمانه ، وأحد أئمة الأدب والأخبار. (الأعلام ٧ / ١٤٤).

(٢) شعب الإيمان ٥ / ٣٨٩ (رقم ٧٠٤٣) ؛ وقوت القلوب ١ / ٣٣٤ ، ٣٧٦.

١٣٤

قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [٥٤] يعني : ارجعوا له بالدعاء والتضرع والمسألة (وَأَسْلِمُوا لَهُ) [٥٤] يعني : فوضوا الأمور كلها إليه.

قوله : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [٥٦] قال : يعني اشتغلت بعاجل الدنيا ولذة الهوى ومتابعة النفس ، وضيعت في جنب الله ، يعني في ذات الله القصد إليه ، والاعتماد عليه بترك مراعاة حقوقه وملازمة خدمته.

قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [٦٣] بيده مفاتيح القلوب ، يوفق من يشاء لطاعته وخدمته بالإخلاص ، ويصرف من يشاء عن بابه.

قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [٦٧] أي ما عرفوه حق معرفته في الأصل والفرع.

قوله : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [٦٨] قال : باطن الآية أن الملائكة إنّما يؤمرون بالإمساك عن الذكر لا بالنفخة ولا بنزع عزرائيل ، لأن الله أحياهم بذكره ، كما أحيا بني آدم بأنفاسهم ، قال الله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] فإذا أمسك الذكر عنهم ماتوا.

قوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [٦٩] قال : قلوب المؤمنين يوم القيامة تشرق بتوحيد سيدهم ، والاقتداء بسنة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [٧٤] قال : إن الحمد منهم في الجنة ليس على جهة التعبد ، إذ التعبد قد رفع عنهم ، كما رفع خوف الكسب والقطع ، وبقي خوف الإجلال والتعظيم لله عزوجل ، وإنما الحمد منهم لذة لنفس الطبع ونفس الروح والعقل ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٣٥

السورة التي يذكر فيها غافر

قوله تعالى : (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [١ ـ ٢] قال : يعني الحي الملك هو الذي أنزل عليك الكتاب ، وهو الذي قلبت به قلوب العارفين العزيز عن درك الخلق العليم بما أنشأ وقدر. (غافِرِ الذَّنْبِ) [٣] أي ساتر الذنب على من يشاء ، (وَقابِلِ التَّوْبِ) [٣] عمن تاب وأخلص العمل له بالعلم ، (ذِي الطَّوْلِ) [٣] ذي الغنى عن الكل ، (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) [٤] يعني في الذات والقدرة والقرآن والسنة بهوى النفس ، كما قال : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) [٥] أي بالهوى من غير هدى من الله ، كما قال : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [آل عمران : ٦٦] إلا الذين كفروا وابتدعوا غير الحق.

قوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) [٧] قال : هم الذين تابوا من الغفلة ، وأنسوا بالذكر ، واتبعوا سنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [١٠] قال : المقت غاية الإبعاد من الله عزوجل ، والكفار إذا دخلوا النار مقتوا أنفسهم ، ومقت الله عملهم أشد من دخول النار. قوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) [١٥] أي رافع الدرجات يرفع درجات من يشاء بالمعرفة به ، (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) [١٥] أي ينزل الوحي من السماء إلى الأرض بأمره.

قوله : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [٦٠] قال : الدعاء بالمروة مستجاب لا محالة ، وهو الجمع (١) من سهم الرامي ، وما من مؤمن دعا الله تعالى إلا استجاب له فيما دعاه بعينه ، من غير أن يعلم ذلك العبد ، أو صرف عنه بذلك سوءا ، أو كتب له بذلك حسنة. فقيل له : ما معنى قولهم : «الدعاء أفضل العمل» (٢)؟ فقال : لأنه تضرع والتجاء وإظهار الفقر والفاقة.

قوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [٨١] قال : أظهر الله تعالى آياته لأوليائه وجعل السعيد من عباده من صدقهم على كراماتهم ، وأعمى أعين الأشقياء عن ذلك وصرف قلوبهم عنه ، ومن أنكر آيات الأولياء فإنما ينكر قدرة الله تعالى ، فإن القدرة تظهر على الأولياء الآيات ، لا هم أنفسهم يقدرون على إظهارها ، كما قال : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [٨١].

قوله : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) [٨٥] قال : السنة مشتقة من أسماء الله تعالى السين سناؤه والنون نوره والهاء هدايته منه إياهم ، فهم على سنن الطريق الواضح إليه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) فيض القدير ٢ / ٤٤.

١٣٦

السورة التي يذكر فيها السجدة (فصلت)

قوله تعالى : (حم) [١] يعني قضى في اللوح المحفوظ ، وكتب فيه ما هو كائن.

قوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) [٤] قال : بشيرا بالجنة لمن أطاعه واتبع ما فيه ، ونذيرا بالنار لمن عصاه وأعرض عن مراد الله فيه وخالفه.

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [٥] قال : أي في أغطية الإهمال فمالت إلى الشهوة والهوى ، فلا تعقل دعوة الحق ، (وَفِي آذانِنا) [٥] التي في القلوب (وَقْرٌ) [٥] أي ثقل من الصمم عن الخير ، فلا تسمع هواتف الحق ، (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [٥] أي ستر من الهوى وجبلة الطبع ، لا نراك كما يراك غيرنا.

قوله : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [٢٤] يعني إن يستقيلوا لا يقالوا ، وإن اعتذروا لا يعذروا. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [٣٠] قال : أي لم يشركوا بعده ، كذا روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هم أمتي ورب الكعبة استقاموا ولم يشركوا كما فعلت اليهود والنصارى» (١) ، قال عمر رضي الله عنه : لم يروغوا روغان الثعالب (٢).

قوله : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) [٣٠] يعني عند الموت. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : ما ترددت في شيء كترددي في قبض روح المؤمن» (٣) ، أي ما رددت الملائكة إلى شيء كردهم إلي عبدي المؤمن في قبض روحه بالبشارة وبالكرامة ، أن لا تخافوا على أنفسكم ولا تحزنوا يوم الجمع ، كما قال : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] قال : المتولي لجملتكم بالرضا ، الحافظ قلوبكم ، المقر أعينكم بالتجلي ، جزاء لتوحيدكم ، وتفضلا من ربكم.

وقوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [٣٣] أي ممن دل على الله وعلى عبادته وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واجتناب المناهي ، وإدامة الاستقامة مع الله ، والاستقامة به خوفا من الخاتمة ، وفي الطريقة الوسطى ، والجادة المستقيمة التي من سلكها سلم ، ومن تعداها ندم. قوله : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) [٤٩] قال : لا يمل من ذكر ربه وشكره وحمده والثناء عليه.

قوله : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) [٥١] قال : يعني عن الدعاء والشكر على ما أنعم به عليه ، واشتغل بالنعمة ، وافتخر بغير مفتخر به.

قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) [٥٣] يعني الموت ، قال : والموت خاص وعام ، فالعام موت الخلقة والجبلة ، والخاص موت شهوات النفس ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٥ / ٣٥٨.

(٢) الزهد لابن مبارك ص ١١٠ ، وفيه : (أخرجه أحمد في الزهد).

(٣) صحيح البخاري : الرقاق ، رقم ٦١٣٧ ؛ ونوادر الأصول ٢ / ٢٣٢ ؛ وفيض القدير ٥ / ٥٠١.

١٣٧

السورة التي يذكر فيها الشورى

قوله : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [٧] قال : ظاهرها مكة ، وباطنها القلب ، ومن حوله الجوارح. فأنذرهم لكي يحفظوا قلوبهم وجوارحهم عن لذة المعاصي واتباع الشهوات.

قوله : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) [٧] ، قال : أي يوم جمع أهل الأرض على ذكره ، كجمع أهل السماوات.

قوله : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [٧] قال : من غرس الشوك لا يجتني عنبا ، فاصنعوا ما شئتم ، فإن الطريق اثنان ، فأي طريق منهما سلكتموه وردتم على أهله.

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [٨] قال : ظاهرها الكفر وباطنها حركات العبد وسكونه ولو شاء الله لجعلها كلها في طاعته (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) [٨] أي في طاعته (وَالظَّالِمُونَ) [٨] الذين يدعون الحول والقوة (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [٨] على خلاف ، وهو السكون في الأمر ، والحركة في النهي.

قوله : (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) [٩] باطنها قلوب كل أهل الحق يحييها بذكره ومشاهدته ، قال : ولا تحيا النفوس حتى تموت.

قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [١٣] فأول من حرم البنات والأمهات والأخوات نوح عليه‌السلام ، فشرع الله لنا محاسن شرائع الأنبياء.

قوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [١٣] من إقامة الطاعة لله وإقامة الإخلاص فيها ، وإظهار الأخلاق والأحوال.

قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [٢٠] قال : حرث الآخرة القناعة في الدنيا ، والرضا في الآخرة ، وحرث الدنيا ما أريد به غيره. قال : ووجه آخر ، يعني من عمل لله تعالى إيجابا لا طلبا للجزاء صغر عنده كل مطلوب دون الحق عزوجل ، فلا يطلب الدنيا ولا الجنة ، وإنما يطلب النظر إليه ، وهو حظ ذهن نفس الروح ، وفهم العقل ، وفطنة القلب كما خاطبهم ، والاقتداء من غير أن كانت النفس الطبيعية حاضرة هناك ، غير أن للنفس منها

١٣٨

حظا لامتزاجها بتلك الأنوار ، مثل النسيم الطيب. ومن عمل لأجل الدنيا (نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [٢٠] ، فتشتغل نفسه بتنعم الدنيا التي هي حظها من أجل النصيب في الآخرة ، وهو رؤية الحق على الأبد.

قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [٢٣] قال : باطنها صلة السنة بالفرض. وحكي عن الحسن في هذه الآية قال : من تقرب إلى الله بطاعته وجبت له محبته.

قوله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) [٢٣] قال : يعني معرفة حاله في عمله ، وقبل دخوله فيه ، وبعد فراغه منه أنه سقيم أو صحيح.

قوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) [٢٤] قال : يختم على قلبك الشوق والمحبة ، فلا تلتفت إلى الخلق ، ولا تشتغل في حبهم وإتيانهم.

قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٥٢] أي تدعو إلى ربك بنور هدايته.

١٣٩

السورة التي يذكر فيها الزخرف

قوله تعالى : (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) [١ ـ ٢] أي بين فيه الهدى من الضلالة والخير من الشر وبين فيه سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) [٤] قال : هو اللوح المحفوظ. (لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [٤] قال : أي رفيع مستول على سائر الكتب.

قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) [١٣] قال (١) : إن الله خص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين بمعرفة نعم الله تعالى عليهم قبل زوالها وحلم الله عنهم ، ومن لم يعرف نعم الله عليه إلا في مطعمه ومشربه ومركبه فقد صغرت عنده نعم الله.

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) [١٥] أي في عبادته جزءا ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أحدكم يصلي وليس له من صلاته إلا ثلثها أو ربعها» (٢).

قوله : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [٣٢] قال : رفعنا بعضهم على بعض في المعرفة والطاعة عيشا لهم في الدنيا والآخرة.

قوله : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ) [٣٢] أي من كثرة الأعمال لطلب الجزاء. قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) [٣٦] قال : قد حكم الله أنه لا يعرض عبد عن ذكره ، وهو أن يرى بقلبه شيئا سواه ساكنا إياه ، إلا سلط الله عليه شيطانا ليضله عن طريق الحق ويغريه.

قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [٥٥] قال : أي فلما غايظونا بالإقامة على المخالفة في الأوامر ، وإظهار البدع في الدين ، وترك السنن اتباعا لوجود الأهواء ، نزعنا نور المعرفة من قلوبهم ، وسراج التوحيد من أسرارهم ، ووكلناهم إلى أنفسهم وما اختاروه ، فضلّوا وأضلّوا. ثم قال : الاتباع الاتباع ، الاقتداء الاقتداء ، فإنه سبيل السلف ، وما ضل من اتبع ، وما نجا من ابتدع.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) [٦٩ ، ٧٠] بلذة النظر جزاء لما منّ عليهم من التوحيد عند تجلي المكاشفة لأوليائه ، وهو البقاء مع الباقي. ألا ترى كيف خصهم في الإيمان بشرط التسليم لأمره والسكون بين يديه.

قوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [٧١] قال : أي ما تشتهي الأنفس من ثواب الأعمال ، وتلذ الأعين بما فضل الله به من التمكين في وقت اللقاء جزاء لتوحيدهم. قال : الجنة جزاء أعمال الجوارح ، واللقاء جزاء التوحيد ، ألا ترى أن الله تعالى قال : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٧٢].

__________________

(١) تقدم هذا القول في تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنفال.

(٢) عون المعبود : باب ما جاء في نقصان الصلاة ٣ / ٣ ؛ وفيض القدير ٢ / ٣٣٣.

١٤٠