تفسير التّستري

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري

تفسير التّستري

المؤلف:

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري


المحقق: محمد باسل عيون السود
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3631-3
الصفحات: ٢٣٩

السورة التي يذكر فيها الحديد

قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) [٣] قال : اسم الله الأعظم مكنى عنه في ست آيات من أول سورة الحديد من قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [٣] وليس المعنى في الأسماء إلا المعرفة بالمسمى ، والمعنى في العبادة إلا المعرفة في العبودية. ومعنى الظاهر ظاهر العلو والقدرة والقهر ، والباطن الذي عرف ما في باطن القلوب من الضمائر والحركات.

قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) [٤] قال : باطن الآية الأرض نفس الطبع ، فيعلم ما يدخل القلب الذي فيها له من الصلاح والفساد.

(وَما يَخْرُجُ مِنْها) [٤] من فنون الطاعات ، فتبين آثارها وأنوارها على الجوارح.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) [٤] عليها من آداب الله تعالى إياه. (وَما يَعْرُجُ فِيها) [٤] إلى الله من الروائح الطيبة والذكر.

قوله تعالى : (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [٦] قال : باطنها الليل نفس الطبع والنهار نفس الروح ، فإذا أراد الله تعالى بعبده خيرا ألّف بين طبعه ونفس روحه على إدامة الذكر ، فأظهر ذلك على مقابلة أنوار الخشوع.

قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [٧] قال : يعني ورثكم من آبائكم وملككم ، فأنفقوا عيش أنفسكم الطبيعية من الدنيا في طاعته وطاعة رسوله.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) [٧] أعمارهم في الوجوه التي أمرهم الله بالإنفاق فيها.

(لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [٧] وهو البقاء مع الباقي في جنته ورضاه.

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [١١] قال : أعطى الله عباده فضلا ، ثم سألهم قرضا حسنا ، والقرض الحسن المشاهدة فيه ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعبد الله كأنك تراه» (١).

وحكي عن أبي حازم أنه قال : إن بضاعة الآخرة كاسدة ، فاستكثروا من أوان كسادها ، فإذا جاء يوم نفاقها لم تقدروا منها على قليل ولا على كثير (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري : الإيمان ، ٥٠ ؛ وصحيح مسلم : الإيمان ، ٨ ؛ وسنن أبي داود رقم ٤٦٩٥.

(٢) الحلية ٣ / ٢٤٢ ؛ وصفوة الصفوة ٢ / ١٦٣.

١٦١

قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [١٢] قال : نور المؤمن يسعى بين يديه ، له هيبة في قلوب الموافقين والمخالفين ، يعظمه الموافق ويعظم شأنه ، ويهابه المخالف ويخافه ، وهو النور الذي جعله الله تعالى لأوليائه ، ولا يظهر ذلك النور لأحد إلا إن انقاد له وخضع ، وهو من نور الإيمان ، ثم وصف المنافقين أنهم يقولون لهم : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [١٣] فنمضي معكم على الصراط فإنا في الظلمة ، فتقول لهم الملائكة : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) [١٣] بعقولكم التي كنتم تدبرون بها أموركم في الدنيا ، فيرجعون إلى ورائهم ، فيضرب الله بين أنفسهم وبين عقولهم سورا وقد ستر الخيرة ، فلا يصلون إلى طريق هدى ، حتى إذا انتهوا في السير على الصراط سقطوا في جهنم خالدين فيها.

قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) [١٥] يعني لا يؤخذ منكم فداء عن أنفسكم. قال ابن سالم : خدمت سهل بن عبد الله ستين سنة ، فما تغير في شيء من الذكر أو غيره ، فلما كان آخر يوم من عمره قرأ رجل بين يديه هذه الآية : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) [١٥] فرأيته ارتعد واضطرب حتى كاد يسقط ، فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك وقلت : لم يكن عهدي بك هذا. فقال : نعم يا حبيبي قد ضعفت. فقلت : ما الذي يوجب قوة الحال؟ فقال : لا يرد عليه وارد إلا هو يبتلعه بقوته ، فمن كان كذلك لا تغيره الواردات ، وإن كانت قوية. وكان يقول : حالي في الصلاة وقبل الدخول فيها سواء. وذلك أنه كان يراعي قلبه ، ويراقب الله تعالى بسره قبل دخوله ، فيقوم إلى الصلاة بحضور قلبه وجمع همته.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) [١٦] قال : ألم يحن لهم أوان الخشوع عند سماع الذكر ، فيشاهدوا الوعد والوعيد مشاهدة الغيب.

قوله تعالى : (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [١٦] قال يعني باتباع الشهوة.

قوله تعالى : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [٢٠] قال : الدنيا نفس نائمة ، والآخرة نفس يقظانة. قيل : فما النجاة منها؟ قال : أصل ذلك العلم ، ثم ثمرته مخالفة الهوى في اجتناب المناهي ، ثم مكابدة النفس على أداء الأوامر على الطهارة من الأدناس ، فيورث السهولة في التعبد والحلول بعده في مقامات العابدين ، ثم يذيقه الله ما أذاق أولياءه وأصفياءه وهي درجة المذاق.

قال : وذكر لنا أن إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام أصابه يوما عطش شديد في مفازة يوم شديد الحر ، فنظر إلى حبشي يرعى الإبل فقال : هل عندك ماء؟ فقال : يا إبراهيم أيما أحب إليك الماء أو اللبن؟ فقال : الماء. قال : فضرب بقدمه على صخرة فنبع الماء ، فتعجب

١٦٢

إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فأوحى الله إلى إبراهيم : لو سألني هذا الحبشي أن أزيل السماوات والأرض لأزلتهما. فقال : ولم ذلك يا رب؟ قال : لأنه ليس يريد من الدنيا والآخرة غيري.

وقال عامر بن عبد القيس : وجدت الدنيا أربع خصال فأما خصلتان فقد طابت نفسي عنهما : النساء وجمع الماء ، وأما الخصلتان فلا بد منهما وأنا مصرفهما ما استطعت : النوم والطعام (١).

قوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) [٢٣] قال : في هذه الآية دليل على الرضا في الشدة والرخاء.

قوله عزوجل : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) [٢٧] قال : الرهبانية مأخوذة من الرهبة ، وهو الخوف ، ومعناه ملازمة الخوف من غير طمع. (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) [٢٧] أي ما تعبدناهم بذلك.

قوله عزوجل : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [٢٨] قال : يعني الرحمة وعين الرحمة ، فالسر سر المعرفة ، والعين عين الطاعة لله ولرسوله.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) الحلية ٢ / ٩٠ ـ ٩١ ؛ وكتاب الزهد الكبير ٢ / ٦٣ ـ ٦٤ ؛ وكتاب الزهد لابن أبي عاصم ص ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ؛ وشعب الإيمان ٥ / ٣٩ ؛ والطبقات الكبرى ٧ / ١١١.

١٦٣

السورة التي يذكر فيها المجادلة

قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) [١٠] قال : النجوى إلقاء من العدو إلى نفس الطبع كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للملك لمة وللشيطان لمة» (١).

قوله عزوجل : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) [٩] قال : بذكر الله وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [٢٢] قال : كل من صح إيمانه فإنه لا يأنس بمبتدع ويجابهه ، ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ، ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء ، ومن داهن مبتدعا سلبه الله حلاوة السنن ، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عزة في الدنيا وعرضا ، أذله الله بذلك العز ، وأفقره الله بذلك الغنى ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه ، ومن لم يصدق فليجرب.

قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [٢٢] قال : كتب الله الإيمان في قلوب أوليائه سطورا ، فالسطر الأول التوحيد ، والثاني المعرفة ، والثالث الصدق ، والرابع الاستقامة ، والخامس الصدق ، والسادس الاعتماد ، والسابع التوكل. وهذه الكتابة هي فعل الله لا فعل العبد ، وفعل العبد في الإيمان ظاهر الإسلام ، وما يبدو منه ظاهرا وما كان منه باطنا فهو فعل الله تعالى. وقال أيضا : الكتابة في القلب موهبة الإيمان التي وهبها الله منهم قبل أن خلقهم من الأصلاب والأرحام ، ثم أبدى بصرا من النور في القلب ، ثم كشف الغطاء عنه حتى أبصروا ببركة الكتابة ونور الإيمان المغيبات. وقال : حياة الروح بالذكر ، وحياة الذكر بالذاكر وحياة الذاكر بالمذكور ، رضي الله عنهم بإخلاصهم له في أعمالهم ، ورضوا عنه بجزيل ثوابه لهم على أعمالهم. (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) [٢٢] الحزب الشيعة ، وهم الأبدال ، وأرفع منهم الصديقون. (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٢٢] يعني هم الوارثون أسرار علومهم المشرقون على معاني ابتدائهم وانتهائهم.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) المعجم الكبير ٩ / ١٠١ ؛ ومسند البزار ٥ / ٣٩٤ ؛ وصفوة الصفوة ١ / ٤١٣.

١٦٤

السورة التي يذكر فيها الحشر

قوله تعالى : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) [٢] قال : أي يخربون قلوبهم ويبطلون أعمالهم باتباعهم البدع وهجرانهم طريقة الاقتداء بالنبيين.

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) [٢] أي بمجانبة المؤمنين ومشاهدتهم ومجالستهم فيحرمون بركاتهم.

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [٢] (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [فاطر : ٨] بالخذلان (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [فاطر : ٨] بالمعونة ، وليس لكم من الأمر شيء.

قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [٧] قال : أصول مذهبنا ثلاث : أكل الحلال ، والاقتداء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأخلاق والأفعال ، وإخلاص النية في جميع الأعمال (١).

وقال : ألزموا أنفسكم ثلاثة أشياء ، فإن خير الدنيا والآخرة فيها : صحبتها بالأمر والنهي بالسنة ، وإقامة التوحيد فيها وهو اليقين ، وعلما فيه اتصال الروح ، وصاحب هذه الثلاثة أعلم بما في بطن الأرض مما على ظهرها ، ونظره في الآخرة أكثر من نظره في الدنيا ، وهو في السماوات أشهر بين الملائكة منه في الأرض بين أهله وقرابته. فقيل : ما العلم الذي فيه إيصال الروح؟ قال : علم قيام الله عليه والرضا.

قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [٩] قال : يعني مجاعة وفقرا. تقول العرب : فلان مخصوص إذا كان فقيرا ، فيؤثرون رضا الله على هواهم ، والإيثار شاهد الحب.

وقد حكي عن وهيب بن الورد (٢) أنه قال : يقول الله تعالى : «وعزتي وعظمتي وجلالي ، ما من عبد آثر هواي على هواه إلا قللت همومه وجمعت عليه ضيعته ، ونزعت الفقر من قلبه ،

__________________

(١) تقدم في تفسير الآية (٧١) من سورة التوبة أنه قال : (أصولنا مذهبنا ستة أشياء) ؛ وانظر أيضا طبقات الصوفية ١ / ١٧٠.

(٢) وهيب بن الورد بن أبي الورد المخزومي ، بالولاء ، (... ـ ١٥٣ ه‍) : من العباد الحكماء. من أهل مكة.

ووفاته بها. (الحلية ٨ / ١٤٠).

١٦٥

وجعلت الغنى بين عينيه ، واتجرت له من وراء كل تاجر. وعزتي وجلالي ، ما من عبد آثر هواه على هواي إلا كثرت همومه ، وفرقت عليه ضيعته ، ونزعت الغنى من قلبه ، وجعلت الفقر بين عينيه ، ثم لا أبالي في أي واد هلك» (١).

قوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٩] قال : أي ومن يوق حرص نفسه وبخلها على شيء هو غير الله وغير ذكره ، فأولئك هم الباقون مع الله حياة طيبة بحياة طيبة.

قوله تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [١٤] قال : أهل الحق مجتمعون ، وأهل الباطل متفرقون أبدا ، وإن اجتمعوا في أبدانهم وتوافقوا في الظاهر ، فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [١٤].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [١٨] قال : يسأل الله تعالى العبد عن حق نفسه ، وحق العلم الذي بينه وبين ربه ، وحق العقل ، فمن كان له فليؤدّ حق نفسه وحق العلم الذي بينه وبين ربه بحسن النظر لنفسه في عاقبة أمره.

وحكي عن الحسن أنه قال : إذا مات ابن آدم قالت بنو آدم : ما ترك ، وقالت الملائكة : ما قدم؟.

قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) [١٩] عند الذنوب (فَأَنْساهُمْ) [١٩] الله الاعتذار وطلب التوبة.

قال : ما من عبد أذنب ذنبا ولم يتب إلا جره ذلك الذنب إلى ذنب آخر وأنساه الذنب الأول ، وما من عبد عمل حسنة إلا جرته تلك الحسنة إلى حسنة أخرى ، وبصره عقله تقصيره في الحسنة الأولى ، لكي يتوب من تقصيره في حسناته الماضية ، وإن كانت خالية صحيحة.

قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [٢٢] قال : الغيب السر ، والشهادة العلانية.

وقال تعالى أيضا : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [٢٢] عالم بالدنيا والآخرة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) نوادر الأصول ٤ / ٢٥ ـ ٢٦ ؛ وصفوة الصفوة ٢ / ٢٢٠ ؛ والحلية ٨ / ١٤٧.

١٦٦

السورة التي يذكر فيها الممتحنة

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [١] قال : حذر الله تعالى المؤمنين من التولي بغير من تولاه الله ورسوله ، فإن الله تعالى لم يرض منه أن يسكن إلى وليه ، فكيف إلى عدوه ؛ ومن شغل قلبه بما لا يعنيه من أمر آخرته نال منه العدو ، فكيف بغيره ؛ ومن طمع في الآخرة مع إرادة شيء من الدنيا حلالا كان مخدوعا ، فكيف بالحرام ؛ ومن لم يكن فعله مخالفة أو مكابدة أو إيثارا فهو رياء. قيل : وما معناها؟ قال : المخالفة في ترك النهي ولترك ذرة مما نهى الله عنه أفضل من أن تعبد الله عمر الدنيا. والمكابدة في أداء الأوامر والإيثار أن يؤثر الله تعالى على ما دونه ، ففي المخالفة فقدوا أنفسهم ، وفي المكابدة فقدوا أهواءهم ، فصارت شهواتهم في الطاعات ، وبالإيثار نالوا محبته ورضاه.

قوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٧] قال : غفور لذنوبكم الماضية بالتوبة ، رحيم يعصمكم فيما بقي لكم من عمركم من مثل هذه المعصية. قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [١٠] قال : لا توافقوا أهل البدع على شيء من أهوائهم وآرائهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

السورة التي يذكر فيها الصف

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [٢] قال : إن الله هدد عباده على دعواهم من غير تحقيق ، والدعوى أن يلزمه اليوم حق من حقوق الله براءة وتوبة من كل ذنب ارتكبه ، فيقول غدا أعمل ، وما من أحد ادعى إلا وقد ضيع حق الله من وجهين ، ظاهر وباطن ، ولا يكون المدعي خائفا ، ومن لم يكن خائفا لم يكن آمنا ، ومن لم يكن آمنا لم يكن يطلع على الجزاء. وقال : طلاب الآخرة كثيرة ، والذي يتولى الله كفايته عبدان ، عبد ساذج غير أنه صادق في طلبه ، متوكل على الله ، فيصدقه فيكفيه مولاه ، ويتولى جميع أموره ؛ وعبد عالم بالله وبأيامه وأمره ونهيه ، كفاه الله كل شيء من هذه الدنيا ، فإذا صار إلى الآخرة ما سوى هذين لا يعبأ الله بهم ، لأنهم يدعون ما ليس لهم. وقال ابن عيينة في هذه الآية : لم تقولون ما ليس الأمر فيه لكم ، لا تدرون تفعلون ذلك أم لا تفعلون.

قوله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [٨] يعني جحدوا ما ظهر لهم من حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألسنتهم ، وأعرضوا عنه بنفوسهم ، فقيض الله لقبوله أنفسا أوجدها على حكم السعادة ، وقلوبا زينها بأنوار معرفته ، وأسرار نورها بالتصديق ، فبذلوا له المهج والأموال كالصدّيق والفاروق وأجلة الصحابة رضي الله عنهم. قوله تعالى : (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) [١٤] قال : يعني بالقبول منه ، والاستماع إليه بطاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٦٧

السورة التي يذكر فيها الجمعة

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [٢] قال : الأميون هم الذين صدقوا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نسبوا إليه لاتباعهم إياه واقتدائهم به ، ومن لم يقتد به فليس من أمته.

قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) [٣] يعني الذين جاؤوا من بعده فآمنوا به واتبعوه يلحقهم الله بأولهم.

قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [١١] قال : من شغله عن ربه شيء من الدنيا والآخرة فقد أخبر عن خسّة طبعه ونذالة همته ، لأن الله قد فتح له الطريق ، وأذن له في مناجاته ، فاشتغل بما يفنى ، ولم يكن عالما بمن لم يزل ، ولا يزال.

قوله تعالى : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) [١١] قال : يعني ما ادخر لكم في الآخرة من جزيل العطايا واللذة الباقية ، خير مما أعطاكم من الدنيا.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

السورة التي يذكر فيها المنافقون

قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [١] قال : لأنهم أقروا بألسنتهم ولم يعرفوا بقلوبهم ، فلذلك سماهم منافقين. ومن عرف بقلبه ، وأقر بلسانه ، ولم يعمل بأركانه ما فرض الله عليه من غير عذر ، كان كإبليس لعنه الله ، عرفه وأقربه ولم يعمل بأمره. قال : والنفاق على ضربين ، عقد بالقلب وإظهار خلافه باللسان ، كما قال تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١] والضرب الآخر نفاق نفس الطبع مع صاحبها ، وهو الذي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشرك الخفي في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء» (١).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) [٩] عن أداء الفرائض في مواقيتها ، فإن من شغله عن ذكر الله وخدمته عرض من عروض الدنيا شيئا لشهوته ، ووجد في عبادته نشاطا فهو مخدوع ، إلا الذي يأخذها الله عزوجل.

وقد حكي أن سلمان دخل عليه سعد بن أبي وقاص (٢) رضي الله عنه يعوده فبكى سلمان فقال : ما يبكيك يا أبا عبد الله ، توفي سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنك راض ، وتلقى أصحابك وترد حوضه. فقال سلمان : أما إني لست أبكي جزعا على الموت ، ولا حرصا على الدنيا ، ولكن

__________________

(١) تقدم الحديث مع تفسير الآية (١٠٦) من سورة يوسف.

(٢) سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب القرشي الزهري (٢٣ ق. ه ـ ٥٥ ه‍) : الصحابي الأمير ، فاتح العراق ومدائن كسرى. أحد العشرة المبشرين بالجنة. (الحلية ١ / ٩٢).

١٦٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلينا عهدا فقال : «ليكن بلغة أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب» (١) ، وحولي هذه الأوساد ـ جمع وسادة ـ وإنما كان حوله لحافه ومطهرته وجفنته. فقال سعد : يا أبا عبد الله ، اعهد إلينا عهدا نأخذه بعدك. فقال : يا سعد ، اذكر الله تعالى عند همك إذا هممت ، وعند حكمك إذا حكمت ، وعند يدك إذا أقسمت (٢).

والله سبحانه وتعالى أعلم.

السورة التي يذكر فيها التغابن

قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [٢] هل وافق العمل الطبع والخلقة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [١٤] قال : من حملك من أزواجك وأولادك على جمع الدنيا والركون إليها فهو عدو لك ، ومن حثك على بذلها وإنفاقها ، وذلك على القناعة والتوكل فليس بعدو لك.

وحكي عن الحسن أنه قال : يا ابن آدم ، لا يغرنك من حولك من السباع الضارية ابنك وحليلتك وكلالتك وخادمك ، أما ابنك فمثل الأسد في الشدة والصولة ، ينازعك فيما في يدك ؛ وأما حليلتك ، فمثل الكلبة في الهرير والبصبصة ، تهر أحيانا وتبصبص أحيانا ؛ وأما كلالتك ، فو الله لدرهم يقع في ميراث أحدهم ، أحب إليه من أن لو كنت أعتقت رقبة ؛ وأما خادمك ، فمثل الثعلب في الحيل والسرقة.

وأقول لك يا ابن آدم ، اتق الله ، فلا توقر ظهرك بصلاحهم ، فإنما لك خطوات إلى منزلك القابل لأربعة أذرع في ذراعين ، فإذا وضعوك هناك انصرفوا عنك وصرفوا النيات ، وضربوا الدفوف ، وضحكوا بالقهقهة ، وأنت تحاسب بما في أيديهم.

قوله تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [١٥] قال : إن أعطاك الله المال تشاغلت بحفظه ، وإن لم يعطك تشاغلت بطلبه ، فمتى تتفرغ له.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٧٤ (رقم ١٤٠٤) ؛ والمستدرك على الصحيحين ٤ / ٣٥٣.

(٢) شعب الإيمان ٧ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦ ؛ والترغيب والترهيب ٤ / ٧٩ ، ١١٢.

١٦٩

السورة التي يذكر فيها الطلاق

قوله تعالى : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [٢] قال : لا يقبل الموعظة إلا مؤمن ، والموعظة ما خرجت إلا من قلب سليم ، لا يكون فيه غل ولا حقد ولا حسد ، ولا يكون فيه حظ.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [٢ ـ ٣] قال : التقوى التبري من الحول والقوة ، والأسباب كلها دونه بالرجوع إليه يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة والعصمة من الطواف فيها (١). ولا يصح التوكل إلا للمتقين ، ولا تصح التقوى إلا بالتوكل (٢) ، لذلك قال الله تعالى : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [٣].

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [٣] قال : يعني من يكل أموره إلى ربه فإن الله تعالى يكفيه مهم الدارين أجمع. وقال أبو الحسن عمر بن واصل العنبري : سمعت سهلا يقول : دخلت البادية سبعة عشر مرة بلا زاد من طعام ولا شراب ولا هميان ولا ركوة ولا عصي فلم أحتج إلى شيء آكله إلا وهو معدّ لي ، فقربت من البادية ذات كرة ، فدفع إلي رجل درهمين صحيحين ، فوضعتهما في جيبي ومضيت ، فسرت مدة فلم أجد شيئا ، فضعفت وجعلت أقول في نفسي : ما الذي أحدثت حتى حبس عنك معلومك؟ فسمعت صوتا من الهوى يقول : اطرح ما في الجيب يأتك ما في الغيب. فتذكرت أن في جيبي درهمين ، فأخرجتهما ورميت بهما ، فلم أسر هنيهة حتى أبصرت رغيفين بينهما عسل ، كأنهما أخرجا من التنور ساعة ، وعدت إلى ما كنت عليه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) في تفسير القرطبي ١٨ / ١٦٠ ورد أن التستري قال في تفسير هذه الآية : (ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجا من عقوبة أهل البدع ، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب).

(٢) الحلية ١٠ / ١٩٢ ؛ وتقدم هذا القول في تفسير الآية (٨١) من سورة النساء.

١٧٠

السورة التي يذكر فيها التحريم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [٦] قال : يعني بطاعة الله واتباع السنن.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [٨] قال : التوبة النصوح أن لا يرجع ، لأنه صار من جملة الأحبة ، والمحب لا يدخل في شيء لا يحبه الحبيب (١). وقال : علامة التائب أن لا تقله أرض ولا تظله سماء إلا هو متعلق بالعرش وصاحب العرش ، حتى يفارق الدنيا ، ولا أعرف في هذا الزمان أقل من التوبة ، إذ ليس منا أحد أتاه ملك الموت إلا ويقول : دعني أفعل كذا وكذا ، دعني أتنفس ساعة. ثم قال : إن التائب المخلص ولو مقدار ساعة ، ولو مقدار نفس واحد قبل موته ، يقال له : ما أسرع ما جئت به صحيحا ، وجئنا حيث جئت.

قوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) [٨] قال : لا يخزيه في أمته ، ولا يرد شفاعته. ولقد أوحى الله تعالى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أحببت جعلت أمر أمتك إليك. فقال : يا رب أنت خير لهم مني. فقال الله تعالى : إذا لا أخزيك فيهم (٢).

قوله عزوجل : (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) [٨] فقال : لا يسقط الافتقار إلى الله عزوجل عن المؤمنين في الدنيا ولا في العقبى ، هم في الجنة أشد افتقارا إليه ، وإن كانوا في دار العز والأمن والغنى لشوقهم إلى لقائه ، (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) [٨] وارزقنا لقاءك ، فإنه منوّر الأنوار وغاية الطلاب.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) في تفسير القرطبي ١٨ / ١٩٩ ورد أن التستري قال في تفسير هذه الآية : (هي التوبة لأهل السنة والجماعة ، لأن المبتدع لا توبة له ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب).

(٢) قوت القلوب ١ / ٣٧٦.

١٧١

السورة التي يذكر فيها الملك

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [١] قال : أي تعالى الله وتعاظم عن الأشباه والأولاد والأضداد ، الذي بيده الملك يقلبه بحوله وقوته ، يؤتيه من يشاء ، وينزعه ممن يشاء ، وهو القادر عليه.

قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [١ ـ ٢] قال : الموت في الدنيا بالمعصية ، والحياة في الآخرة بالطاعة. ولهذا قال الله تعالى لموسى عليه‌السلام فيما أوحى إليه : يا موسى ، إن أول من مات من خلقي إبليس لعنه الله لأنه عصاني ، وإني أعد من عصاني في الموتى. وقال : إن الموت خلق في صورة كبش أملح لا يمر بشيء فيجد ريحه إلا حيي.

وقد روي في الخبر أن أهل الجنة ليخافون الموت ، وأهل النار يتمنون الموت ، فيؤتى به في صورة كبش أملح ، ثم يقال : هذا الموت فانظروا ما الله صانع فيه ، ثم يضجع هناك فيذبح ، ثم يجعله الله تعالى في صورة فرس يسرح في الجنة ، لا يراه أحد من أهل الجنة إلا أنس به ولا يعلم أنه الموت (١).

قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [٢] قال : أي أصوبه وأخلصه ، فإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون صوابا خالصا. والخالص الذي يكون لله تعالى بإرادة القلب ، والصواب الذي يكون على سبيل السنة وموافقة الكتاب. وقال مرة أخرى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [٢] أي توكلا ورضا علينا ، وسياحة بعد الزهد في الدنيا. وإن مثل التقوى واليقين كمثل كفتي الميزان ، والتوكل لسانه ، يعرف به الزيادة من النقصان (٢). فقيل : وما التوكل؟ قال : الفرار من التوكل (٣) ، يعني من دعوى التوكل.

__________________

(١) الترغيب والترهيب ٤ / ٣١٦ ـ ٣١٨.

(٢) قوت القلوب ٢ / ٤.

(٣) نسب هذا القول إلى بعض المقربين في قوت القلوب ٢ / ٩ ، وفي الحلية ١٠ / ١٩٨ أن سهل التستري (سئل عن حقيقة التوكل ، فقال : نسيان التوكل).

١٧٢

قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [٢] قال : يعني المنيع في حكمه ، الحكيم في تدبيره بخلقه ، الغفور للنقصان والخلل الذي يظهر في طاعات عباده.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [١٢] أي يخافون ربهم في سرهم ، فيحفظون سرهم من غيره.

قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [١٤] ألا يعلم من خلق القلب ، بما أودعه من التوحيد والجحود. (وَهُوَ اللَّطِيفُ) [١٤] بعلمه بما في لب القلوب من الأسرار المكنونة فيها ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من العلم سرا مكنونا لله تعالى في القلوب». (الْخَبِيرُ) [١٤] يخبرك بما في غيبك.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) [١٥] قال : خلق الله تعالى الأنفس ذلولا ، فمن أذلها بمخالفتها فقد نجاها من الفتن والبلايا والمحن ، ومن أذلها واتبعها فقد أذلته نفسه وأهلكته.

قوله عزوجل : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى) [٢٢] قال : أفمن يكون مطرقا إلى هوى نفسه بجبلة طبعه بغير هدى من ربه أهدى (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٢٢] قال : يعني أم من يكون متبعا شرائع الإسلام مقتديا بالنبيين.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٧٣

السورة التي يذكر فيها القلم

قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) [١] قال : النون اسم من أسماء الله تعالى ، إذا جمعت بين أوائل السور : «الر» و «حم» و «ن» فهو اسم الرحمن (١). وقال ابن عباس رضي الله عنهما : النون الدواة التي كتب الذكر منها ، والقلم الذي كتب به الذكر الحكيم. (وَما يَسْطُرُونَ) [١] ما تكتبه الحفظة من أعمال بني آدم. وقال عمر بن واصل : وما يسطرون ، أي : وما تولى الله لعباده من الكتابة التي فيها منافع الخلق ومصالح العباد والبلاد.

قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) [٣] قال : أي محدود مقطوع ومحسوب عليك.

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [٤] قال : تأدبت بأدب القرآن ، فلم تتجاوز حدوده وهو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠]. وقال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] ثم قال : إن الغضب والحدة من سكون العبد إلى قوته ، فإذا خرج من سكونه إلى قوته سكن الضعف في نفسه ، فتتولد منه الرحمة واللطف ، وهو التخلق بأخلاق الرب جل جلاله. وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه‌السلام فقال : «تخلق بأخلاقي فإني أنا الصبور» (٢) فمن أوتي الخلق الحسن فقد أوتي أعظم المقامات ، لأن ما دونه من المقامات ارتباط بالعامة ، والخلق الحسن ارتباط بالصفات والنعوت. وسئل سهل يوما عن الكرامات ، فقال : وما الكرامات ، إن الكرامات شيء ينقضي لوقته ، ولكن أكبر الكرامات أن تبدل خلقا مذموما من أخلاقك بخلق محمود.

قوله تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) [٤٤] قال : يعني كله إلي ، فإني أكفيك أمره ، ولا تشغل به قلبك.

قوله تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [٤٤] قال : سنمدهم إطراقا إليهم ، مشتغلين به عما لنا عليهم من الواجبات ، فينسون شكرنا ، فنأخذهم من حيث لا يعلمون.

قوله عزوجل : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [٤٩] قال : يعني لو لا ما حفظ الله له ما سلف من عمله الصالح ، بما جرى به من اجتبائه في الأزل ، فاستنقذه به وتداركه. (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [٤٩] والعراء أرض القيامة ، إذ لا زرع فيها ، ولا نبت ، ولم يكن له ذنب سوى أنه شغل قلبه بتدبير ما لم يكن تدبيره إليه ، كما فعل آدم عليه‌السلام ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) الإتقان ٣ / ٢٤.

(٢) فيض القدير ١ / ٤٦٥ ، ٥ / ٣٦٣.

١٧٤

السورة التي يذكر فيها الحاقة

قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) [١ ـ ٢] قال : إن الله تعالى عظّم حال يوم القيامة بما فيها من الشدة بإدخال الهاء فيها ، ومعناها اليوم الذي يلحق كل أحد فيه بعمله من خير أو شر.

وقال عمر بن واصل : معناها : يحق فيه جزاء الأعمال لكل طائفة.

قوله عزوجل : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [١٧] قال : يعني ثمانية أجزاء من الكروبيين لا يعلم عدتهم إلا الله. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش بين شحمة أذنيه إلى عاتقه خفقان الطائر سبعمائة سنة يقول ذلك الملك سبحان الله حيث كنت» (١).

قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [١٨] قال : أي تعرضون على الحق عزوجل ، فيحاسبكم بأعمالكم ، لا يخفى عليه من أعمالكم شيء ، كل ذلك معروف محصي عليكم في علمه السابق ، فيسأله عن جميع ذلك ، يعني يسأله فيقول له : ألم تكن عارفا بالساعات من أجلي؟ ألم يوسع لك حتى في المجالس من أجلي؟ ألم تسألني أن أزوجك فلانة أمتي أحسن منك فزوجناكها؟ فهذا سؤال نعمه عليك فكيف سؤاله عن معصيته. وقد حكي عن عتبة الغلام (٢) أنه قال : إن العبد المؤمن ليوقف بين يدي الله تعالى بالذنب الواحد مائة عام.

قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [١٩] أي فيقول : هاكم اقرؤوا كتابي بما فيه من أنواع الطاعات. ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [٢٤] يعني صوم رمضان وأيام البيض من كل شهر. وقد جاء في الحديث : «أنه يوضع للصوام يوم القيامة موائد يأكلون عليها والناس في الحساب ، فيقال : يا رب ، الناس في الحساب وهم لا يأكلون. فيقال لهم : إنهم طالما صاموا في الدنيا وأفطرتم ، وقاموا ونمتم».

__________________

(١) مجمع الزوائد ١ / ٨٠ ؛ والمعجم الأوسط ٢ / ١٩٩ ، ٦ / ٣١٤.

(٢) عتبة الغلام : عتبة بن أبان بن صمعة الأنصاري ، من زهاد أهل البصرة وعبادهم. جالس الحسن البصري ، وأخذ عنه هديه في التقشف. وسمي بالغلام لجده واجتهاده ، لا لصغر سنه. (مشاهير علماء الأمصار ص ١٥٢ ؛ وصفوة الصفوة ٣ / ٣٧٠).

١٧٥

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) [٢٥] أي بما فيه من الأعمال الخبيثة والكفر ، فيتمنى أن يكون غير مبعوث ، فيقول : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) [٢٧] يعني : يا ليت الموتة الأولى كانت عليّ فلم أبعث. (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) [٢٨] كثرة مالي ، حيث لم أؤد منه حق الله ، ولم أصل به القرابة. (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) [٢٩] يعني حجتي وعذري ، فيقول الله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) [٣٠] فإذا قال ذلك ابتدره مائة ألف ملك ، لو أن ملكا منهم أخذ الدنيا بما فيها من جبالها وبحارها بقبضته لقوي عليه فتغل يداه إلى عنقه ثم يدخل في الجحيم. (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) [٣٢] كل ذراع سبعون باعا ، كل باع أبعد مما بين الكوفة ومكة ، لو وضعت حلقة منها على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص ، كذا حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وحكي أن عمر رضي الله عنه قال لكعب : خوفنا يا أبا إسحاق. قال : يا أمير المؤمنين ، لو أنك عملت حتى تعود كالعود المقضوب من العبادة ، وكان لك عمل سبعين نبيا لظننت أن لا تنجو من أمر ربك وحملة العرش ، وجيء باللوح المحفوظ الذي قد حفظ فيه الأعمال وبرزت الجحيم وأزلفت الجنة ، وقام الناس لرب العالمين ، وزفرت جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه ، حتى يقول إبراهيم : نفسي نفسي ، فيدعى على رؤوس الخلائق بالرجل العادل والرجل الجائر ، فإذا جيء بالرجل العادل رفع إليه كتابه بيمينه ، فلا سرور ولا فرح ولا غبطة نزل يومئذ بعبد أفضل مما نزل به ، فيقول على رؤوس الخلائق ما حكاه الله تعالى ، ثم يؤتى بالرجل الجائر ، فيدفع إليه كتابه بشماله ، فلا حزن ولا ذل ولا حسرة أشد مما نزل بالرجل ، فيقول على رؤوس الخلائق ما حكى الله تعالى ، فيؤخذ ويسحب على وجهه إلى النار ، فينتثر لحمه وعظامه ومخه. فقال عمر رضي الله عنه : حسبي حسبي (١). قال سهل : إن السلاسل والأغلال ليست للاعتقال ، وإنما هي لتجذبهم سفلا بعد أبدا ما داموا فيها.

قوله عزوجل : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) [٤٤] قال : يعني لو تكلم بما لم تأذن له فيه. (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [٤٥] يعني أمرنا بأخذ يده كما تفعل الملوك. (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [٤٦] وهو نياط القلب ، وهو العرق الذي يتعلق القلب به ، إذا انقطع مات صاحبه ، فنقطع ذلك السبب بمخالفته إيانا.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [٤٨] قال : يعني القرآن رحمة للمطيعين.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) [٥٠] قال : يعني ما يرون من ثواب أهل التوحيد ومنازلهم وكريم مقاماتهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٤ / ٦٣٤ ؛ ومجمع الزوائد ١٠ / ٣٤٢ ؛ والمعجم الكبير ٩ / ٣٦٠ ؛ والحلية ٥ / ٣٧١ ، ٣٩٠.

١٧٦

السورة التي يذكر فيها المعارج

قوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [٤] قال : تعرج الملائكة بأعمال بني آدم والروح وهو دهن النفس ، وتعرج إلى الله تعالى مشاهدة بالإخلاص في أعماله ، فيقطع هذه المسافة إلى العرش التي مقدارها خمسون ألف سنة بطرفة عين ، هذا باطن الآية.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [٥] أي رضا من غير شكوى ، فإن الشكوى بلوى ، ودعوى الصبر معه دعوى ، وإن لله تعالى عبادا شكوا به منه إليه حجة تمسك النفس الطبع عن التفات إلى شيء غير الذي من أجله صبر الصابر.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً) [٦ ـ ٧] قال : يعني أنهم يرون المقضي عليهم من الموت والبعث والحساب بعيدا لبعد آمالهم ، ونراه قريبا ، فإن كل كائن قريب ، والبعيد ما لا يكون. ثم قال : إن العلماء طلبوا الوسوسة في الكتاب والسنة ، فلم يجدوا لها أصلا إلا فضول الحلال وفضول الحلال أن يرى العبد وقتا غير وقته الذي هو فيه وهو الأمل. وقد روي عن حبيش عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يريق الماء فيتمسح بالتراب فقلت : يا رسول الله إن الماء منك لقريب. فقال : لا أدري لعلي لا أبلغه» (١). وقد قال أسامة : قرباننا إلى شهرين. إن أسامة لطويل الأمل. وسئل سهل : بم ترحل الدنيا من القلب؟ فقال : بقصر الأمل. فقيل : وما قصر الأمل؟ فقال : قطع الهموم بالمضمون ، والسكون إلى الضامن.

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [١٩] قال : يعني متقلبا في حركات الشهوات واتباع الهوى. (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [٢٠ ـ ٢١] قال : إذا افتقر حزن ، وإذا أثرى منع. (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [٢٢] أي العارفين بمقادير الأشياء ، فلا يكون لهم بغير الله فرح ، ولا إلى غيره سكون ، ولا من غيره فرح ، فراقه جزع ، كما قال : (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [٢٧].

وقد حكي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من خيار أمتي فيما نبأني الملأ الأعلى في الدرجات العلى قوم يضحكون جهرا من سعة رحمة ربهم ، ويبكون سرا من خوف شدة عذاب ربهم ،

__________________

(١) قوت القلوب ٢ / ٣٣.

١٧٧

ويذكرون ربهم بالغداة والعشي في بيوته الطيبة ، ويدعونه بألسنتهم رغبا ورهبا ويسألونه بأيديهم خفضا ورفعا ، ويشتاقون إليه بقلوبهم عودا وبدءا ، مؤونتهم على الناس خفيفة وعلى أنفسهم ثقيلة ، يدبون على الأرض بأقدامهم دبيب النمل بغير فرح ولا بذخ ولا ميل» (١) ، الحديث بطوله.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) [٢٩] قال : باطن الآية جميع الجوارح الظاهرة والباطنة يحفظونها عن ظهور آثار نفس الطبع عليها.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) [٣٢] قال : باطنها أمانة النفس ، لأنها سر الله عند عباده ، يسارّهم بمعلومه فيها خواطرا وهمما ، ويسارّونه بالافتقار واللجأ إليه ، فإذا سكن القلب إلى ما خطر عليه من وسوسة العبد وبأدنى شيء ظهر إلى الصدر ، ومن الصدر إلى الجسد ، فيكون قد خان في أمانة الله ، وعهده والإيمان.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) [٣٣] قال : قائمون بحفظ ما شهدوا به من شهادة أن لا إله إلا الله ، فلا يقعدون عنها في شيء من الأفعال والأقوال والأحوال ولا يفترون.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

السورة التي يذكر فيها نوح عليه‌السلام

قوله تعالى : (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) [٧] قال : الإصرار على الذنب يورث الجهل ، والجهل يورث التخطي في الباطل ، والتخطي في الباطل يورث النفاق ، والنفاق يورث الكفر.

قيل : وما علامة المنافق؟ قال : يبصر الشيء عند مذاكرته ، فإذا قام من عنده كأنه لم يخطر على قلبه ، قال الله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) [البقرة :٢٠].

قوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [٢٥] قال : أغرقوا في الحيرة عن الهدى ، فأدخلوا نارا ، فأوجب الله عليهم الهوان ، وأنزلهم دار الشقاء.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٩ ؛ وشعب الإيمان ١ / ٤٧٨.

١٧٨

السورة التي يذكر فيها الجن

قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [١] قال : كان تسعة نفر من نصيبين اليمن ، والنفر اسم يقع على الثلاثة إلى العشرة ، جاؤوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ القرآن في الصلاة ، وكانوا من أمثل قومهم في دينهم ، فلما سمعوه رقوا له فآمنوا به ، ورجعوا إلى قومهم منذرين. (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [١ ـ ٢] يعني يدل على اتباع سنن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال سهل : رأيت في دار عاد الأولى مدينة مبنية من حجر ، فيها قصر عظيم منقور من حجر يأويه الجن ، فدخلت القصر معتبرا ، فرأيت شخصا عظيما قائما يصلي نحو الكعبة ، عليه جبة صوف بيضاء بها طراوة ، فعجبت لطراوة جبته ، وانتظرت حتى فرغ من صلاته ، فقلت : السلام عليك. فقال : وعليك السلام يا أبا محمد ، عجبت لطراوة جبتي وهي علي منذ تسعمائة سنة؟ فيها لقيت عيسى ابن مريم ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمنت بهما ، واعلم يا أبا محمد أن الأبدان لا تخلق الثياب ، وإنما يخلقهما مطاعم السحت والإصرار على الذنوب. فقلت : ومن أنت؟ فقال : أنا من الذين قال الله تعالى في حقهم : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [١].

وسئل سهل : هل يدخل الجن الجنة؟ فقال : بلغني أن في الجنة براري يسكنها الجن ، ويأكلون فيها ويشربون ، وفي القرآن دليل عليه ، قال تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) [الرحمن : ٧٤].

قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [١٨] قال : أي لا تدعوا مع الله شريكا ، أي ليس لأحد معي شريك في شيء يمنع عبادي من ذكري ، كذلك ما كان لله تعالى فهو على هذه الجهة ، ليس لأحد فيه سبيل المنع والزجر.

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) [٢٢] قال : أمره بالافتقار واللجوء إليه ، ثم بإظهارهما بقوله ، ليزيد بذلك للكافرين ضلالا وللمؤمنين إرشادا ، وهي كلمة الإخلاص في التوحيد. إذ حقيقة التوحيد هو النظر للحق لا غير ، والإقبال عليه ، والاعتماد ، ولا يتم ذلك إلا بالإعراض عما سواه ، وبإظهار الافتقار واللجوء إليه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٧٩

السورة التي يذكر فيها المزمل

صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [١] قال : المزمل الذي تزمل في الثياب وضمها عليه ، وهو في الباطن اسم له معناه : يا أيها الجامع نفسه ونفس الله عنده.

قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) [٦] قال : يعني الليل كله وما ينشئه العبد من عبادة الليل هي أشد مواطأة على السمع والقلب من الإصغاء والفهم. (وَأَقْوَمُ قِيلاً) [٦] أي وأثبت رتبة ، وقيل : وأصوب قيلا ، لأنه أبعد من الرياء. قال الحسن رحمة الله عليه : لقد أدركت أقواما يقدرون على أن يعملوا في السر ، فأرادوا أن يعملوه علانية ، ولقد أدركت أقواما إن أحدهم ليأتيه الزوار فيقوم من الليل فيصلي ، وما يشعر به الزوار. وكان لقمان يقول لابنه : يا بني لا تكن أعجز من هذا الديك يصوت بالليل (١).

قوله تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [٨] قال : اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك ، وتقطعك عن كل ما سواه.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [٩] أي كفيلا بما وعدك من المعونة على الأمر ، والعصمة عن النهي ، والتوفيق للشكر ، والصبر في البلوى ، والخاتمة المحمودة. ثم قال : في الدنيا الجنة والنار ، فالجنة والعافية أن تولي الله أمرك ، والنار البلوى ، والبلوى أن يكلك إلى نفسك. قيل : فما الفرج؟ قال : لا تطمع في الفرج وأنت ترى مخلوقا ، وما من عبد أراد الله بعزم صحيح إلا زال عنه كل شيء دونه ، وما من عبد زال عنه كل شيء دونه إلا حق عليه أن يقوم بأمره ، وليس في الدنيا مطيع لله وهو يطيع نفسه ، ولا يتباعد أحد عن الله إلا بالاشتغال بغير الله ، وإنما تدخل الأشياء على الفارغ ، وأما من كان مشغول القلب بالله لم تصل إليه الوسوسة وهو في المزيد أبدا ، واحفظ نفسك بالأصل. قيل له : ما هو؟ قال : التسليم لأمر الله ، والتبري ممن سواه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) شعب الإيمان ٥ / ٤١ (رقم ٥٦٩٨).

١٨٠