تفسير التّستري

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري

تفسير التّستري

المؤلف:

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري


المحقق: محمد باسل عيون السود
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3631-3
الصفحات: ٢٣٩

«اقرؤوا القرآن بلحون العرب من غير تكلف لغيرها ، ولا تقرءوه بلحون أهل الكنائس والبيع وأهل الأهواء والبدع ، فإني وأمتي الأتقياء براء من التكلف ، وإنه سيأتي أقوام من بعدي يرجّعون فيه أصواتهم ترجع القينات بالأغاني ، مفتونة قلوبهم فتانة لقلب السامع ، أولئك هم الغافلون» (١). قال سهل : وإني أخاف بعد ثلاثمائة إلى ما فوقها أن يندرس القرآن بالتشاغل بالألحان والقصائد والأغاني ، قيل له : وكيف ذلك يا أبا محمد؟ فقال : لأنهم ما أحدثوا هذه الألحان والقصائد والأغاني إلّا للتكسّب بها ، حتى ملك إبليس قلوبهم ، كما ملك قلوب شعراء الجاهلية ، وحرموا فهم القرآن والعمل لله به. وقد حكى محمد بن سوار عن ابن أبي ذئب (٢) عن محمد بن عبد الرحمن (٣) عن ثوبان (٤) أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سماع الأغاني ينسي القرآن ويشغل عن الذكر». قال أبو بكر : كان أبو سعيد الخراز (٥) مقيما بمكة ، وكان من أشد الناس محبة للسماع من قصائد الجذل وأشعار الغزل ، فأخبرني غلامه أبو الأذنين أنه رآه بعد موته في المنام ، وقال له : ما فعل الله بك يا أبا سعيد؟ فقال : غفر لي بعد توبيخ وددت أنه أمر بي إلى النار ولم يوبخني. فقلت له : ولم ذلك؟ قال : أوقفني الحق بين يديه من وراء حجاب الخوف ، وقال لي : حملت أمري على ليلى وسعدى ، ولو لا أنك وقفت لي وقفة أردتني بها لأمرت بك إلى النار ، فلما أن زال حجاب الخوف إلى حجاب الرضا قلت : يا إلهي لم أجد من يحمل عني ما حملتني غيرك فأشرت إليك ، قال : صدقت ، وأمر بي إلى الجنة ، والله أعلم.

__________________

(١) نوادر الأصول ٣ / ٢٥٥ ؛ وشعب الإيمان ٢ / ٥٤٠ (رقم ٢٦٤٩) ؛ ومجمع الزوائد ٧ / ١٦٩ ؛ والمعجم الأوسط ٧ / ١٨٣.

(٢) ابن أبي ذئب : محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة ، من بني عامر (٨٠ ـ ١٥٨ ه‍) : تابعي ، من رواة الحديث من أهل المدينة ، كان يفتي بها. (الأعلام ٦ / ١٨٩).

(٣) محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي بالولاء (... ـ ١٢٣ ه‍) : مقرىء أهل مكة بعد ابن كثير ، وأعلم قرائها بالعربية ، كان لا بأس به في الحديث. (الأعلام ٦ / ١٨٩).

(٤) ثوبان بن يجدد ، أبو عبد الله (... ـ ٥٤ ه‍) : مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اشتراه النبي ثم أعتقه ، فلم يزل يخدمه إلى أن مات ، فخرج ثوبان إلى الشام ، واستقر بحمص ، وتوفي بها. (الأعلام ٢ / ١٠٢).

(٥) أبو سعيد الخراز : عبد الرحيم بن عبد الله بن عبد الرحيم بن البرقي (... ـ ٢٨٦ ه‍) : شيخ الصوفية ، وراوي السيرة. قال السلمي : هو إمام القوم في كل فن من علومهم. (سير أعلام النبلاء ١٣ / ٤٢٠ ؛ وتذكرة الحفاظ ٢ / ٦٣٧). وثمت رجل آخر اسمه أبو سعيد الخراز ، وهو أحمد بن عيسى البغدادي الصوفي (... ـ ٢٧٧ أو ٢٨٦ ه‍) من كبار شيوخ الصوفية ، وأحد المذكورين بالورع والمراقبة ، وحسن الرعاية والمجاهدة. (تاريخ بغداد ٤ / ٢٧٦).

٢١

فصل في قوله

بسم الله الرحمن الرحيم

قال أبو بكر : سئل سهل عن معنى : «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال :

الباء بهاء الله عزوجل. والسين سناء الله عزوجل. والميم مجد الله عزوجل (١).

والله : هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها ، وبين الألف واللام منه حرف مكنى غيب من غيب إلى غيب ، وسر من سر إلى سر ، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة. لا ينال فهمه إلّا الطاهر من الأدناس ، الآخذ من الحلال قواما ضرورة الإيمان.

والرحمن : اسم فيه خاصية من الحرف المكنى بين الألف واللام.

والرحيم : هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع والابتداء في الأصل رحمة لسابق علمه القديم.

قال أبو بكر : أي بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحيم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «الرحمن الرحيم» اسمان رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر (٢) ، فنفى الله تعالى بهما القنوط عن المؤمنين من عباده.

__________________

(١) نسب هذا القول إلى النبي عيسى عليه‌السلام في الفردوس ، بمأثور الخطاب ١ / ٢٢٩ ؛ وانظر مثل هذا القول في تأويل مشكل القرآن ص ٣٠٩.

(٢) نسب هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنه في عمدة الحفاظ ٢ / ٨٠ (رحم).

٢٢

سورة فاتحة الكتاب

قال سهل : معنى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [٢] الشكر لله ، فالشكر لله هو الطاعة لله ، والطاعة لله هي الولاية من الله تعالى كما قال الله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة : ٥٥] ولا تتم الولاية من الله تعالى إلا بالتبري ممن سواه. ومعنى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [٢] سيد الخلق المربّي لهم ، والقائم بأمرهم ، المصلح المدبر لهم قبل كونهم ، وكون فعلهم المتصرف بهم لسابق علمه فيهم ، كيف شاء لما شاء ، وأراد وحكم وقدر من أمر ونهي ، لا رب لهم غيره.

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [٤] أي يوم الحساب ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [٥] أي نخضع ونذلّ ونعترف بربوبيتك ونوحّدك ونخدمك ، ومنه اشتق اسم العبد. (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [٥] أي على ما كلفتنا بما هو لك ، وإليك المشيئة والإرادة فيه ، والعلم والإخلاص لك ، ولن نقدر على ذلك إلّا بالمعونة والتسديد لنا منك ، إذ لا حول لنا ولا قوة إلّا من عندك. فقيل له : أليس قد هدانا الله إلى الصراط المستقيم؟ قال : بلى ، ولكن طلب الزيادة منه كما قال : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) [ق : ٣٥] فكان معنى قوله : «اهدنا» : أمددنا منك بالمعونة والتمكين. وقال مرة أخرى : «اهدنا» معناه أرشدنا إلى دين الإسلام الذي هو الطريق إليك بمعونة منك ، وهي البصيرة ، فإنا لا نهتدي إلّا بك ، كما قال : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) [القصص : ٢٢] أي يرشدني قصد الطريق إليه. قال : وسمعت سهلا يحكي عن محمد بن سوار عن سفيان عن سالم عن أبي الجعد عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل. قال : فإذا قال العبد : «الحمد لله ربّ العالمين» قال تعالى : حمدني عبدي ، فإذا قال : «الرّحمن الرّحيم» قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال : «مالك يوم الدّين» يقول الله : فهذه الآيات لي ولعبدي بعدها ما سأل ، وإذ قال : «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين اهدنا الصّراط المستقيم» إلى آخره يقول الله عزوجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» (١).

__________________

(١) سنن ابن ماجة : الأدب ، باب ثواب القرآن ، حديث رقم ٣٧٨٤ ؛ وسنن أبي داود : الصلاة ، باب القراءة في الفجر ، حديث رقم ٨٢١ ؛ والترمذي : تفسير القرآن ، باب : ومن سورة فاتحة الكتاب ، حديث رقم ٢٩٥٣

٢٣

قال سهل : معنى قوله : «مجدني عبدي» أي وصفني بكثرة الإحسان والإنعام ، وقال سهل : وروي عن مجاهد (١) أنه قال : آمين اسم من أسماء الله تعالى (٢) ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ما حسدتكم النصارى على شيء كما حسدتكم على قولكم آمين (٣). وحكى محمد بن سوار عن ابن عيينة (٤) عن عمرو بن دينار (٥) عن جابر بن عبد الله (٦) رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلّا مؤمن ، فإذا قال الإمام : ولا الضالين ، فقولوا : آمين ، فإن الله يرضى على قائلها ، ويقبل صلاته ، ويجيب دعاءه» (٧). وحكى الزهري (٨) عن ابن المسيب (٩) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذ قال الإمام : «ولا الضالين» قولوا : آمين ، فإن الملائكة يقولون آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» (١٠).

__________________

(١) مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج المكي (٢١ ـ ١٠٤ ه‍) : تابعي ، مفسر ، من أهل مكة ، شيخ القراء والمفسرين أخذ التفسير عن ابن عباس. تنقل في الأسفار ، واستقر في الكوفة. (الحلية ٣ / ٢٧٩).

(٢) خطّأ أبو علي الفارسي من قال في (آمين) : إنه اسم من أسماء الله عزوجل. (سفر السعادة ص ١٣٤) ، وقال السخاوي في سفر السعادة : (وأما ما روي ... عن مجاهد أنه اسم من أسماء الله عزوجل فإن تأويله أن (آمين) لما تضمن الضمير الذي هو مصروف إلى الله عزوجل قيل : إنه اسم الله عزوجل على هذا التقدير ، لا أن الكلمة اسم من أسمائه عزوجل دون الضمير). وانظر عمدة الحفاظ ١ / ١٢٦ (أمن).

(٣) في فيض القدير ٥ / ٤٤١ : (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين) ، وفيه أيضا : (وأخرجه ابن ماجة مختصرا عن عائشة بلفظ : (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين).

(٤) سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي ، أبو محمد (١٠٧ ـ ١٩٨ ه‍) : محدث الحرم المكي ، من الموالي ولد بالكوفة ، وسكن مكة ، وتوفي بها. كان حافظا ثقة ، واسع العلم. حج سبعين سنة. (الحلية ٧ / ٢٧٠).

(٥) عمرو بن دينار الجمحي بالولاء ، أبو محمد الأشرم (٤٦ ـ ١٢٦ ه‍) : فقيه ، كان مفتي أهل مكة ، فارسي الأصل ، مولده بصنعاء ، ووفاته بمكة. (الأعلام ٥ / ٧٧).

(٦) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري السلمي (١٦ ـ ٧٨ ه‍) : صحابي ، من المكثرين في الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى عنه جماعة من الصحابة. غزا تسع عشرة غزوة. (الأعلام ٢ / ١٠٤).

(٧) القراءة خلف الإمام ص ١١ ـ ٣٠.

(٨) الزهري : محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري القرشي (٥٨ ـ ١٢٤ ه‍) : أول من دون الحديث وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء. تابعي ، من أهل المدينة. كان يحفظ ٢٢٠٠ حديث. (الأعلام ٧ / ٩٧).

(٩) سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي (١٣ ـ ٩٤ ه‍) : سيد التابعين ، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة.

جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع. (الحلية ٢ / ١٦١).

(١٠) صحيح البخاري : كتاب التفسير ، حديث رقم ٤٢٠٥.

٢٤

السورة التي يذكر فيها البقرة

قال سهل : (الم) [١] اسم الله عزوجل فيه معان وصفات يعرفها أهل الفهم به ، غير أن لأهل الظاهر فيه معاني كثيرة (١) ، فأما هذه الحروف إذا انفردت ، فالألف تأليف الله عزوجل ألف الأشياء كما شاء ، واللام لطفه القديم ، والميم مجده العظيم (٢). قال سهل : لكل كتاب أنزله الله تعالى سر ، وسر القرآن فواتح السور (٣) ، لأنها أسماء وصفات ، مثل قوله : «المص ، الر ، المر ، كهيعص ، طسم ، حمسق» فإذا جمعت هذه الحروف بعضها إلى بعض كانت اسم الله الأعظم ، أي إذا أخذ من كل سورة حرف على الولاء ، أي على ما أنزلت السورة وما بعدها على النسق : «الر» و «حم» و «نون» معناه الرحمن (٤). وقال ابن عباس والضحاك : «الم» معناه : أنا الله أعلم (٥). وقال علي رضي الله عنه : هذه أسماء مقطعة ، إذا أخذ من كل حرف حرف لا يشبه صاحبه فجمعن كان اسما من أسماء الرحمن إذا عرفوه ودعوا به كان الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب. وقال سهل : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) [١ ـ ٢] الألف الله ، واللام العبد ، والميم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كي يتصل العبد بمولاه من مكان توحيده واقتدائه بنبيه. وقال سهل : بلغني عن ابن عباس أنه قال : أقسم الله تعالى أن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الكتاب الذي هو من عند الله تعالى فقال : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) الألف الله ، واللام جبريل عليه‌السلام ، والميم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقسم الله تعالى بنفسه وجبريل ومحمد عليهما‌السلام (٦). وقال : إن الله تعالى اشتق من اسمه الأعظم الألف واللام والهاء (٧) ، فقال : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [القصص : ٣٠] واشتق لهم اسما من أسمائه فجعله اسم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآخر من اسم نبيه آدم عليه‌السلام فقال :

__________________

(١) انظر تفسير أسرار الفواتح بحروف التهجي في البرهان ١ / ١٦٥ ـ ١٧٨ ؛ والإتقان ٣ / ٢٤ ـ ٣٤.

(٢) البرهان ١ / ١٧٣.

(٣) هذا قول الشعبي في الإتقان ٣ / ٢٤ ؛ وللصديق في البرهان ١ / ١٧٣ ، ١٧٤.

(٤) الإتقان ٣ / ٢٤ ؛ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ١ / ٥٦.

(٥) الإتقان ٣ / ٢٤ ؛ والبرهان ١ / ١٧٤ ؛ ومعاني القرآن وإعرابه ١ / ٥٦ ، ٦٢.

(٦) معاني القرآن وإعرابه ١ / ٥٦.

(٧) تفسير القرطبي ١ / ١٠٢ ؛ وسفر السعادة ص ١٣٤.

٢٥

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] إلّا الطاغوت أي الشيطان.

ومعنى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [٢] أي لا شك فيه. (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [٢] أي بيانا للمتقين ، والمتقون هم الذين تبرؤوا من دعوى الحول والقوة دون الله تعالى ، رجعوا إلى اللجا والافتقار إلى حول الله وقوته في جميع أحوالهم ، فأعانهم الله ورزقهم من حيث لا يحتسبون ، وجعل لهم فرجا ومخرجا مما ابتلاهم الله به. قال سهل : حول الله وقوته فعله ، وفعله بعلمه ، وعلمه من صفات ذاته. وحول العبد وقوته دعواه الساعة وإلى الساعة ، والساعة لا يملكها إلّا الله تعالى ، فالمتقون الذين يؤمنون بالغيب فالله هو الغيب ودينه الغيب ، فأمرهم الله عزوجل أن يؤمنوا بالغيب وأن يتبرؤوا عن الحول والقوة فيما أمروا به ونهوا عنه اعتقادا وقولا وفعلا ويقولوا لا حول لنا عن معصيتك إلا بعصمتك ، ولا قوة لنا على طاعتك إلّا بمعونتك ، إشفاقا منه عليهم ، ونظرا لهم من أن يدعوا الحول والقوة والاستطاعة كما ادعاها من سبقت له الشقاوة ، فلما عاينوا العذاب تبرؤوا من ذلك ، فلم ينفعهم تبرؤهم حين عاينوا العذاب ، وقد أخبر الله عمن هذا وصفهم في قوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [غافر : ٨٥] أي دعواهم ، (لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأعراف : ٥] وكما ادعى الحول والقوة والاستطاعة فرعون وقال : متى شئت إني أؤمن ، فلما آمن لم يقبل منه ، قال الله تعالى : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ) [يونس : ٩١].

قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [٣] قال سهل : إن الله تعالى وصف بذلك من جبله بجبلّة متعلقا بسبب من سببه غير منفك عن مراقبته ، وهم الذين لم يختاروا قط اختيارا ، ولا أرادوا شيئا دونه ، ولا اختيارا دون اختياره لهم كما اختاره لهم ، ولا أرادوا شيئا منسوبا يغنيهم عنه ، ومن غيره هم مبرؤون. قال أبو بكر : قيل لسهل : لقد آتاك الله الحكمة ، فقال : قد أوتيت ، إن شاء الله ، الحكمة ، وغيبا علمت من غيب سره ، فأغناني عن علم ما سواه. (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] وبإتمام ما بدأني به من فضله وإحسانه.

قوله عزوجل : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [٥] أي بيان من ربهم بنور هدايته القلوب مشاهدة له ، وسكونا إليه من نوره الذي أفردهم به في سابق علمه ، فلا ينطقون إلّا بالهدى ، ولا يبصرون إلّا إلى الهدى ، فالذين به اهتدوا غير مفارق لهم ، فكانوا بذلك مشاهدين لأنهم غير غائبين عنه ، ولو سئلوا عنه أخبروا ، ولو أرادوا لسبقت الأشياء إرادتهم ، فهم المفلحون ، وهم المرشدون إلى الهدى والفلاح بهدايته لهم ، والباقون في الجنة مع بقاء الحق عزوجل. قال سهل : ولقد بلغني أن الله تعالى أوحى إلى

٢٦

داود عليه‌السلام : يا داود ، انظر لا أفوتك أنا ، فيفوتك كل شيء ، فإني خلقت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجلي ، وخلقت آدم عليه‌السلام لأجله ، وخلقت عبادي المؤمنين لعبادتي ، وخلقت الأشياء لأجل ابن آدم ، فإذا اشتغل بما خلقته من أجله حجبته عما خلقته من أجلي (١). قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [٢٢] قال سهل : أي أضدادا. فأكبر الأضداد النفس الأمّارة بالسوء المتطلعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله.

وسئل عن قوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [٢٥] فقال : ليس في الجنة شيء من فرش ولا آنية ولا لباس ولا طيب ولا طير ، ولا شيء من النبات ، ولا شيء من الفواكه كلها ، فما في الدنيا يشبه ذلك إلّا اتفاق الأسماء فقط ، وذلك أن رمان الجنة لا يشبه رمان الدنيا قط إلّا باتفاق الأسماء فقط ، وكذلك التمر والعناب وأشباه ذلك ، وإنما أراد بقوله : «متشابها» أي في اللون ، مختلفا في الطعم ، وذلك أن الملائكة تأتي الأولياء في الجنة بالتفاح في الغداء ، ثم يأتون به في العشاء ، فيقول الأولياء : هذا ذلك. فيقال لهم : ذوقوه. فإذا ذاقوه أصابوا له غير طعم الأول ، فلا يجوز أن تدفع قدرة الله تعالى أن يؤدي طعم التفاح طعم الرمان واللوز والسفرجل (٢) قال سهل : وإني لأعرف رجلا من الأولياء رأى في الدنيا رمانة كبيرة كأكبر ما كان بين يدي رجل على شاطئ البحر ، فقال له الولي : ما هذا بين يديك؟ فقال : رمانة رأيتها في الجنة فاشتهيتها ، فأتاني الله بها ، فلما وضعتها بين يدي ندمت على استعجالي ذلك في الدنيا. قال له ذلك الرجل : أفآكل منها؟ قال له الرجل : إن قدرت أن تأكل منها فكل ، فضرب بيده إليها فأكل أكثرها ، فلما رآه يأكل منها أعظمه ذلك ، فقال : أبشر بالجنة ، فإني لم أعرف منزلتك قبل أكلك منها ، وذلك أنه لا يأكل من طعام الجنة في الدنيا إلّا من هو من أهل الجنة. قال أبو بكر : فقلت لسهل : هل أخبرك الآكل من تلك الرمانة ما كان طعمها؟ قال : نعم ، فيها طعم يجمع طعوم الفواكه ، ويزيد على ذلك في طعمه لين وبرد ليس هو في شيء من طعوم الدنيا. قال أبو بكر : فلم أشك ولا من سمع هذه الحكاية من سهل إلّا أنه هو صاحب الرمانة والآكل منها.

وسئل عن قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [٣٠] قال : إن الله تعالى قبل أن يخلق آدم عليه‌السلام قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وخلق آدم عليه‌السلام من طين العزة من نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعلمه أن نفسه الأمّارة بالسوء أعدى عدو له (٣) ، وأنه خلقها

__________________

(١) قوت القلوب ١ / ٤٣٠ ، ٢ / ١٣.

(٢) معاني القرآن وإعرابه ١ / ١٠٢.

(٣) يقصد قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) ، انظر كشف الخفاء ١ / ١٤٨ ، ١٦٠ ، ٢ / ٢٢٢ ، وسيذكر التستري هذا الحديث في تفسير سورة الأحقاف.

٢٧

ليسارها عليه بمعلومه فيها خواطر وهمما ، يأمرها بإدامة الافتقار واللجأ إليه ، إن أبدى عليها طاعة قالت : أعني ، وإن حركت إلى معصية قالت : اعصمني ، وإن حركت إلى نعمة قالت : أوزعني ، وإن قال لها : اصبري على البلاء ، قالت : صبرني ، ولا يساكن قلبه أدنى وسوسة لها دون الرجوع عنها إلى ربه ، وجعل طبعها في الأمر ساكنا ، وفي النهي متحركا ، وأمره بأن يسكن عن المتحرك ، ويتحرك عن الساكن بلا حول ولا قوة إلّا بالله ، أي لا حول له عن معصيته إلّا بعصمته ، ولا قوة له على طاعته إلّا بمعونته ، ثم أمره بدخول الجنة والأكل منها رغدا حيث شاء. ونص عليه النهي عن الأكل من الشجرة ، فلما دخل الجنة ورأى ما رأى قال : لو خلدنا ، وإنما لنا أجل مضروب إلى غاية معلومة. فأتاه إبليس من قبل مساكنة قلبه بوسوسة نفسه في ذلك ، فقال : هل أدلك على شجرة الخلد التي تتمناها في هذه الدار ، وهي سبب البقاء والخلود : (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) [الأعراف : ٢٠] فكانت دلالته هذه غرورا. وألحق الله عزوجل به وسوسة العدو لسابق علمه فيه ، وبلوغ تقديره وحكمه العادل عليه.

وأول نسيان وقع في الجنة نسيان آدم عليه‌السلام ، وهو نسيان عمد لا نسيان خطأ ، يعني ترك العهد. قال سهل : بلغني عن بعض التابعين أنه قال : النسيان في كتاب الله عزوجل على وجهين :

الترك ، كما قال في سورة البقرة : (أَوْ نُنْسِها) [١٠٦] أي نتركها فلا ننسخها ، ومثله قوله : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [٢٣٧] أي لا تتركوا الفضل بينكم ، كذلك في طه : (فَنَسِيَ) [طه : ٨٨] يعني ترك العهد ، ومثله في تنزيل السجدة : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ) [السجدة : ١٤] أي تركناكم في العذاب كما تركناكم من العصمة عند الإقامة على الإصر.

قال : والوجه الآخر النسيان هو الذي لا يحفظ فيذهب من ذكره ، كما قال في الكهف : (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف : ٦٣] أي لم أحفظ ذكره ، وذلك أن الله تعالى جعل للشيطان شركة مع نفس الجبلة فيما هو من حظوظها الذي هو شيء غير الله تعالى ، وقول موسى للخضر : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) [الكهف : ٧٣] أي ذهب مني ذكره ، وقال في سبح : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] أي سنحفظك فلا تنسى ، وهذا لإطراقه إلى تدبير نفسه.

ولم تكن فكرته اعتبارا ، فكانت تكون عبادة ، وإنما كانت فكرة بطبع نفس الجبلة ، وهذا حكم الله تعالى به قبل خلق السماوات والأرض أنه لا يرى بقلبه عنده شيئا ، وهو غيره مساكنا

٢٨

إياه ، إلّا سلط عليه إبليس يوسوس في صدره إلى نفسه بالهوى في معنى دعته إليه ، أو يرجع باللجأ إلى ربه والاعتصام به ، فستر الله بذكره في أوطانه عند الإقامة على النهي ، حتى تم سابق علم الله إليه فيما نهاه عنه أن سيكون ذلك منه ، وصار فعله علم سنّة في ذريته إلى يوم القيامة.

ولم يرد الله معاني الأكل في الحقيقة ، وإنما أراد معاني مساكنة الهمة مع شيء هو غيره ، أي لا يهتم بشيء هو غيري. فآدم صلوات الله عليه لم يعتصم من الهمة والفعل في الجنة ، فلحقه ما لحقه من أجل ذلك. وكذلك من ادعى ما ليس له ، وساكنه قلبه ناظرا إلى هوى نفسه فيه ، لحقه الترك من الله عزوجل مع ما حل عليه نفسه إلّا إن رحمه ، فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها ، يعني إبليس ، فأهل الجنة معصومون فيها من التدبير الذي كانوا به في دار الدنيا ، فآدم صلوات الله عليه لم يعصم من مساكنة قلبه تدبير نفسه بالخلود لما أدخل الجنة ، ألا ترى أن البلاء دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه ، فغلب الهوى والشهوة على العلم والعقل والبيان ونور القلب لسابق القدر من الله تعالى ، حتى انتهى كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الهوى والشهوة يغلبان العلم والعقل» (١).

وسئل عن قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [٣٧] ما هذه الكلمات التي تلقاها من ربه؟ قال سهل : أخبرني محمد بن سوار عن أبيه عن الثوري (٢) عن عبد العزيز ابن رفيع (٣) عن عبد الله بن عمر (٤) رضي الله عنهما أنه قال : لما ذكر آدم صلوات الله عليه خطيئته قال : يا رب ، أرأيت معصيتك التي عصيتك ، أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني ، أم شيء ابتدعته؟ قال : بل شيء كتبته عليك إنك ستفعله بترك العصمة مني قبل أن أخلقك بخمسين ألف عام. قال آدم صلوات الله عليه : فكما كتبته عليّ فاغفر لي ، فإنا قد (ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] أي

__________________

(١) هذا ليس حديثا ، بل قول للحارث بن أسد في حلية الأولياء ١٠ / ٨٨ ، وسيعاد ذكره في تفسير سورة ص : ٣٨ ، والشمس : ٩١.

(٢) الثوري : سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، أبو عبد الله (٩٧ ـ ١٦١ ه‍ ٧١٦ ـ ٧٧٨ م) : أمير المؤمنين في الحديث. كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى. (الحلية ٦ / ٣٥٦ ، ٧ / ٣ ؛ وتاريخ بغداد ٩ / ١٥١)

(٣) عبد العزيز بن رفيع الأسدي ، أبو عبد الله المكي الطائفي (... ـ ١٣٠ ه‍) : تابعي ، ثقة ، يقوم حديثه مقام الحجة. (تهذيب التهذيب ٦ / ٣٠١).

(٤) عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي (١٠ ق ه ـ ٧٣ ه‍) : صحابي ، من أعز بيوتات قريش في الجاهلية.

كان جريئا جهيرا. شهد فتح مكة. وهو آخر من توفي فيها من الصحابة. أفتى الناس في الإسلام ستين سنة. (الحلية ١ / ٢٩٢ ؛ والإصابة ت ٤٨٢٥).

٢٩

بالإقامة على همة النفس والسكون إلى تدبيرها ، وتبنا عن الرجوع إليه ، (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) [الأعراف : ٢٣] أي في الدنيا (وَتَرْحَمْنا) [الأعراف : ٢٣] في ما بقي من أعمارنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣] أي من الأشقياء المعذبين في الآخرة ، فكانت هذه الكلمات التي قال الله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [٣٧]. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قال آدم لموسى عليهما‌السلام : بكم تجد الخطيئة كتبت عليّ من قبل أن أخلق؟ قال : بأربعين ألف عام. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فحج آدم وموسى عليهما‌السلام» (١).

وسئل عن قوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [٣٠] فقال : أي نطهر أنفسنا بقولنا ما ألهمتنا تفضلا منك علينا ، تباركت ربنا. وسئل عن قوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [٤٠] ما هذه الرهبة التي أمرهم بها؟ فقال : أراد موضع نور النفس من بصر القلب والمعرفة من كلية القلب ، لأن المكابدة والمجاهدة في الإيمان ، فإذا سكن القلب من التقوى إلى الغير انكشف نور اليقين ، ووصل العبد ساكنا بالإيمان لله توحيدا على تمكين. أعني سكون قلبه إلى مولاه ، فصار نور اليقين يكشف عن علم اليقين ، وهو الوصول إلى الله تعالى ، فلا ذلك اليقين بنور اليقين إلى عين اليقين ولا مخلوق ، لأنه نور من نور ذات الحق ، لا بمعنى الحلول ، ولا بمعنى الجمع ، ولا بمعنى الاتصال ، ولكن معنى اتصال العبد بمولاه من موضع توحيده وطاعته بالله ورسوله ، فعلى قدر قوته من البصر بالله يدرك التقوى لله والرهبة إياه. وأصل التقوى : مباينة النفس ، فيباينها في ذلك ، ولا يساكنها شيئا من ملاذ هواها ، ولا ما تدعوه إليه من حظوظها التي لم تتعذر فيها. اعلم أن الناس يتفاضلون في القيامة على قدر نور يقينهم ، فمن كان أوزن يقينا كان أثقل ميزانا ، وكان من دونه في ميزانه. قيل : بم تعرف صحة يقين العبد؟ قال : بقوة ثقته بالله تعالى ، وحسن ظنه به ، فالثقة بالله مشاهدة باليقين ، وعين اليقين وكليته وكماله ونهايته الوصول إلى الله عزوجل.

فقيل له : ما معنى قوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) [٤١] قال (٢) : أراد بذلك موضع علمه السابق فيهم ، أي لا تأمنوا المكر والاستدراج ، فتسكن قلوبكم إلى ملاحظة سلامتكم في الدنيا مع الإقامة على التقصير ، وإلى حلمي عنكم في المعاجلة لكم في نفس أمنكم واغتراركم وغفلتكم فتهلكوا. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو زاد في اليقين عيسى بن مريم لمشى على الهواء كما مشى على الماء» (٣) ، وقد مشى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء على الهواء لقوة نور يقينه التي أعطاه الله تعالى

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الأنبياء ، باب وفاة موسى ، حديث رقم ٣٢٢٨ ؛ والسنن الكبرى ٦ / ٣٩٤.

(٢) حلية الأولياء ١٠ / ١٩٩.

(٣) كتاب الزهد الكبير ٢ / ٣٥٧.

٣٠

من نوره زيادة نور إلى نور كان من الله تعالى. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو ثبتت المعرفة على قلب داود صلوات الله عليه ولم يغفل ما عصى» فلعمري أن المعرفة أدرجت في أوطانها لتجري عليه ما كان من علم الله سابقا فيه ، فلا بد من إظهاره على أوصافه إذا كان على حتم لا يتغير العلم إلى غير ما علم العالم جل وعز ، فإنما ستر الله عزوجل في أوطان داود صلوات الله عليه نور اليقين الذي به يبصر عين اليقين وكليته ، ليتم حكم الله تعالى فيه ، ألا ترى أن العبد إنما ينظر إلى الحق بسبب لطيفة من الحق بوصولها إلى قلبه هي من أوصاف ذات ربه ليست بمكونة ولا مخلوقة ولا موصولة ولا مقطوعة ، وهي سر من سر إلى سر وغيب من غيب إلى غيب ، فبالله اليقين ، والعبد موقن بسبب منه إليه على قدر ما قسم الله له من الموهبة وجملة سويداء قلبه. وللإيمان وطنان ، وهو ما سكن فلم يخرج ، ونور اليقين خطرات ، فإذا سكن واستقر صار إيمانا ، واليقين خطرات بعده ، فهو في المريد هكذا حاله أبدا.

وسئل عن قوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) [٤٢] الآية ، فقال : أي لا تلبسوا بأمر الدنيا أمر الآخرة. وأراد لا يحل لأهل الحق كتمان الحق عن أهله خاصة ، عمن يرجون هدايته إلى الله عزوجل ، فأما أهله فإنهم يزدادون بصيرة به ، وأما من كان من غير خاصة أهله فإن قول الحق لهم هداية وإرشاد إلى الله تعالى.

وسئل عن قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [٤٥] الآية ، فقال : الصبر هاهنا الصوم والصلاة وصلة المعرفة ، فمن صحت له الصلاة ، وهي الوصلة ، لم يبق له على الله تهمة ، إذ السؤال تهمة ، ولا يبقى السؤال مع الوصلة ، ألا ترى إلى قوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [٤٥].

وسئل عن قوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [٤٨] أي لو جاءت بكل شيء من الأعمال من كبير أو صغير أو كثير أو قليل لم يتقبل ذلك منها ، ولا شيء منه عند حصولهم في القيامة ، والعدل : المثل ، ألا ترى إلى قوله : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) [المائدة : ٩٥] أي مثله وجزاءه.

وسئل عن قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [٥٥] قال : الصاعقة : الموت ، والصاعقة : كل عذاب مهلك ينزله الله تعالى بمن يشاء من عباده ، فينظرون إلى ذلك عيانا ، ويريه غيرهم فيهم اعتبارا وتحذيرا.

وسئل عن قوله : (لا شِيَةَ فِيها) [٧١] فقال : أي لا علامة فيها تشينها ، ولا لون يخالف لون سائر جسدها. وتلك حكمة من صانعها ، وعبرة لمن اعتبر بها ، وزاد لإيمانه وتوحيده يقينا. قوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [٧٢] أي تنازعتم فيها. قوله : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ١٨٣] قال سهل : هذا توبيخ من الله عزوجل لهم بما كان من آبائهم من قتلهم الأنبياء. ألا ترى أنه لم يقتل المخاطبون بهذه الآية نبيا في وقت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا كان في

٣١

وقتهم نبي غيره ، فواجههم بفعل من كانوا من نسلهم ومن فوقهم ، كما واجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما خاطب به أمته ، وذلك قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] وكذلك معنى قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ـ ٢] لأي علة تسألون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أعلم بذلك.

وسئل عن قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [١٧٥] فقال : أي على الفتوى من غير علم من السنة والشرع ، والعبودية بعمل أهل النار.

قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [١٠٢] أي بعلم الله السابق فيه قبل وقوع ذلك الفعل من الفاعل. قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] أراد فيما تعبدكم به لا فيما يستحقه الحق في ذاته عزوجل. قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) [٥٩] قال : الرجز هو العذاب. قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [١١٢] قال سهل : أي دينه ، كما قال في سورة النساء : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) [النساء : ١٢٥] أي ممن أخلص دينه لله ، وهو الإسلام وشرائعه ، وقال ، أي في لقمان : (* وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [لقمان : ٢٢] يعني يخلص دينه لله.

وسئل عن قوله : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) [٧٨] يعني أنهم يتمنون على الله الباطل ميلا إلى هوى نفوسهم بغير هدى من الله ، يعني اليهود. قوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [٨٧] قال : القدس هو الحق ، يعني الذي طهّر من الأولاد والشركاء والصاحبة. قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [١٢٨] قال : «الأمة» : الجماعة ، و «مسلمة لك» ، أي : مسلمة لأمرك ونهيك ، بالرضا والقبول منك. قيل له : ما معنى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) [١٣٤ ، ١٤١] قال : أي تلك جماعة مضت لسابق علم الله فيهم. قوله : (وَسَطاً) [١٤٣] أي عدلا. فالمؤمن مصدّق لعباده ، كما قال : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ٦١] ، أي : يصدق الله ويصدق المؤمنين. قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [١٤٣] أي شديد الرحمة والرأفة بهم ، يعني الرفق والحلم عنهم لعلمه بضعفهم ، وأن لا حال لهم إليه لا به ولا منه. (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [١٤٨] أراد أن الله تعالى يولي أهل كل ملة إلى الجهة التي يشاء. قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [١٥٥] قال : هم الذين صار الصبر لهم عيشا وراحة ووطنا ، يتلذذون بالصبر لله تعالى على كل حال.

قوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [١٥٧] قال سهل : أراد بالصلاة عليهم الترحم عليهم ، أي ترحم من ربهم. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم صلّ

٣٢

على آل أبي أوفى» (١) حين أتوه بالصدقات ، أي ترحم عليهم. وقال سهل : حدثنا محمد بن سوار عن أبي عمرو بن العلاء (٢) أنه قال : الصلاة على ثلاثة أوجه ، أحدها : الصلاة المفروضة بالركوع والسجود كما قال : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر : ٢] أي خذ شمالك بيمينك في الصلاة متذللا متخشعا بين يدي الله تعالى ، كذا روي عن علي رضي الله عنه. والوجه الثاني : الترحم. والوجه الثالث : الدعاء مثل الصلاة على الميت ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب فإن كان صائما فليصلّ» (٣) أي فليدع لهم بالبركة. وقال عليه الصلاة والسلام في حديثه : «وصلّت عليكم الملائكة» (٤) أي ترحّمت عليكم. وقال عليه الصلاة والسلام في حديثه : «وإذا أكل عنده الطعام صلّت عليه الملائكة حتى يمسي» أي دعت له الملائكة. قال سهل : الصلاة على وجهين أحدهما الاستغفار ، والآخر المغفرة ، فأما الاستغفار فقوله : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٣] أي استغفر لهم (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) [التوبة : ٩٩] أي استغفار الرسول. وما المغفرة فقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) [الأحزاب : ٤٣] أي يغفر لكم وملائكته ، أي يستغفرون لكم ، ومثله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] أي أن الله يغفر للنبي ، وتستغفر له الملائكة ثم قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٥٦] أي استغفروا له. وفي البقرة : (صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [١٥٧] أي مغفرة من ربهم. قوله : (عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) [١٦١] أي الطرد لهم من رحمة الله والإبعاد ، وكذلك كلّ ملعون مطرود. قوله : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [١٦٦] أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا ، وتنعقد المودات بينهم من أجلها من غير طاعة الله ورسوله وغير مرضاته. قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) [١٨٦] قال : بالدعاء ، (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) [١٨٦] أي يصدقوني ، فأنا حيث ما دعاني مخلصا لا آيسا ولا قنطا. قوله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [١٩٧] قال : هو الرفيق إلى ذكر الله تعالى خوفا ، إذ لا زاد للمحب سوى محبوبه ، وللعارف سوى معروفه. وقال في قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] قال : الزاد والراحلة ، ثم قال : أتدرون

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الزكاة ، باب صلاة الإمام ، حديث رقم ١٤٢٦.

(٢) أبو عمرو بن العلاء : زبان بن عمار التميمي المازني البصري ، أبو عمرو ، ويلقب أبوه بالعلاء (٧٠ ـ ١٥٤ ه‍) من أئمة اللغة والأدب ، وأحد القراء السبعة. ولد بمكة ، ونشأ بالبصرة ، وتوفي بالكوفة. (الأعلام ٣ / ٤١).

(٣) صحيح مسلم : باب الأمر بإجابة الداعي ١٤٣١ ؛ وسنن الترمذي : باب ما جاء في إجابة الصائم الدعوة ٧٨٠ ؛ وسنن أبي داود : باب في الصائم ٢٤٦٠.

(٤) مسند أحمد ٣ / ١٣٨ ؛ وصحيح ابن حبان ١٢ / ١٠٧ رقم ٥٢٩٦ ؛ والسنن الكبرى ١٠١٢٩.

٣٣

ما الزاد والراحلة؟ فقالوا : لا. فقال : الزاد الذكر ، والراحلة الصبر. قال (١) : وقد صحبه رجل في طريق مكة فلم يجد يومين شيئا فقال : يا أستاذ أحتاج إلى قوت. فقال : القوت هو الله. فقال : لا بد من قوت يقوم به الجسد. فقال : الأجساد كلها بالله عزوجل وأنشد : [من البسيط]

يا حبّ زدني سقاك الشّوق من ديم

يزيدني صوبها الأحزان والكربا

ودام لي لوعة في القلب تحرقني

إنّي متى أزداد حبّا زادني طربا

ثم قال : الدنيا هي التي قطعت المنقطعين إلى الله عن الله عزوجل. وقال (٢) : عيش الملائكة في الطاعة ، وعيش الأنبياء بالعلم وانتظار الفرج (٣) ، وعيش الصديقين بالاقتداء ، وعيش سائر الناس [عالما كان أو جاهلا ، زاهدا كان أو عابدا] (٤) في الأكل والشرب.

قوله : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [١٩٧] أي يا أهل الفهم عني بالعقول السليمة. وقال : إن الله تعالى أمرهم أن يتقوه على مقدار طاقات عقولهم بما خصهم به من نور الهداية بذاته ، والقبول منه ، وإفرادهم بالمعنى الذي ركبه فيهم ، وعلمه بهم قبل خلقهم ، فذكرهم تلك النعمة عليهم ، ودعاهم بتلك النعمة التي سبقت لهم إلى الاعتراف بنعمة ثانية بعد الموهبة الأزلية ، وهي حقيقة المعرفة ، وقبول العلم بالعمل خالصا له. قيل : فما معنى التقوى وحقيقته؟ قال : الحقيقة لله عزوجل أن تعاجل لدى العمل القليل بالموت ، وكذا الخطايا بالعقوبة ، فيعرف ذلك فيتقيه ، فلا يتكل على شيء سواه. قيل له : قد اختلفت أسباب تقوى الخلق؟ قال : نعم ، كما اختلف أفعالهم. قال أبو بكر : فقلت : لقد ثبت في القرآن أن تقوى كل امرئ على حسب طاقته. فقال : نعم ، قد قال الله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) [التغابن : ١٦] فردهم إلى ما في طاقتهم. فقلت له : لقد قال الله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] قال سهل : أما أصحابنا فيقولون إن هذا الخطاب لقوم مخصوصين بأعيانهم ، لأنهم طولبوا بما لم يطالب به الأنبياء عليهم‌السلام ، وكما قال إبراهيم ويعقوب لأولادهما : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [١٣٢]. وإنما تعبد الله الخلق على حسب طاقاتهن ، والذين قيل لهم : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] طولبوا بالتقوى على حسب معرفتهم بالله ، فكان معنى ذلك ، أي اتقوا الله حق تقاته ما قدرتم عليه ، لا أنه رخص في ترك التقوى بتلك

__________________

(١) حلية الأولياء ١٠ / ١٩٨.

(٢) حلية الأولياء ١٠ / ١٩٨.

(٣) في الحلية : (وانتظار الوحي).

(٤) ما بين القوسين إضافة من الحلية.

٣٤

الآية : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] أي مسلمون لأمر الله بكل حال مفوضون إليه ، والآخرون ردوا إلى الاجتهاد ، فافهم الفرق بين الاثنين في الخطاب ، إذا كان اللفظ متفقا والمعنى مختلفا خاص وعام. قال أبو بكر : ثم قال سهل : لو دعا المتقون على المسرفين لهلك الأولون والآخرون منهم ، ولكن الله جعل المتقين رحمة للظالمين ليستنقذهم بهم ، فإنّ أكرم الخلق على الله عزوجل المتقون كما قال الله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] فمن أراد كرامة الله عزوجل فليتّقه ، فإنه ينال بالتقوى كرامته ، والدخول إلى جنته ، ويسكن في جواره ، ويفوز فوزا عظيما ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن اتقى الله في سره قربه وأدناه» (١).

قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [٢٠١] أي العلم والعبادة خالصا (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [٢٠١] أي الرضا ، كما قال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : ١١٩]. وسئل عن قوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) [٢٢٤] ما هذا البر؟ فقال : يعني أن لا تصلوا القرابة لعلة اليمين. فقيل له : لقد قال : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [١٧٧] فقال : يعني ليس من التقوى أن لا تفعلوا غير ذلك (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [١٧٧] الآية. ألا تراه كيف قال : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [٤٤] يعني اليهود كانوا يأمرون إخوانهم من الرضاعة بطاعة الله تعالى واتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا لا يفعلون ذلك. قوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) [٢٣٥] أي مناكحة. قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [٢٣٥] أي علم ما في غيب أنفسكم قبل خلقه لكم من فعل حركة أو سكون بخير أمر به وأعان على فعله ، وفعل ما نهى عنه ، ولم يعصم من نزل به ، وخلى من شاء مع الهوى لإظهار فعل ما نهى عنه ، ولم يعصم عدلا منه وحكما ، فكان معنى قوله : (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) [٢٣٥] أي ما لم تفعلوه ، و (فِي أَنْفُسِكُمْ) [٢٣٥] أي ما ستفعلونه (٢) ، (فَاحْذَرُوهُ) [٢٣٥] أي اضرعوا إليه فيه حتى يكون هو الذي يتولى الأمر بالمعونة والتوفيق على الطاعة ، ويعصم عن النهي بالنصر والتأييد.

ألا ترون إلى قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما : اللهم إن كنا عندك في أم الكتاب أشقياء محرومين فامح ذلك عنا وأثبتنا سعداء مرحومين ، فإنك تمحو ما تشاء ، وتثبت وعندك أم الكتاب.

__________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ٧ / ١٦٢ (رقم ٣٤٩٨٨) ، ٧ / ٢١٧ (رقم ٣٥٤٧٢) ؛ وصفوة الصفوة ٣ / ١٠٤.

(٢) حلية الأولياء ١٠ / ٢٠٠ ، ٢١٠.

٣٥

قوله : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) [٢٠٤] أي شديد الخصومة بالباطل. وقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألدّ الخصم» (١). قوله : (وَزُلْزِلُوا) [٢١٤] أي أرادوا به وخوفوا به وحذروا مكر الله عزوجل. وسئل عن قوله : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [٢١٤] أكان قولهم استبطاء للنصر؟ قال سهل : لا ، ولكن لما أيسوا من تدبيرهم قالوا : (مَتى نَصْرُ اللهِ) [٢١٤] فلما علم الله تعالى من تبريهم من حولهم وقوتهم وتدبيرهم لأنفسهم وإظهارهم الافتقار إليه ، وأن لا حيلة لهم دونه أجابهم بقوله : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [٢١٤] قال سهل : البلاء والعافية من الله عزوجل ، والأمر والنهي منه ، والعصمة والتوفيق منه ، والثواب والعقاب منه ، والأعمال منسوبة إلى بني آدم ، فمن عمل خيرا وجب عليه الشكر ليستوجب به المزيد ، ومن عمل شرا وجب عليه الاستغفار ليستوجب به الغفران. والبلوى من الله على وجهين (٢) : بلوى رحمة ، وبلوى عقوبة ، فبلوى الرحمة : يبعث صاحبه على إظهار فقره [وفاقته] (٣) إلى الله عزوجل وترك التدبير ، وبلوى العقوبة : يبعث (٤) صاحبه على اختيار منه وتدبيره. فسئل سهل : الصبر على العافية أشد أم على البلاء؟ فقال : طلب السلامة في الأمن أشد من طلب السلامة في الخوف.

وقال في قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] قال : يؤمن بالله أن بلواه من الله يهد قلبه لانتظار الفرج منه. قوله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المائدة : ٢] أي على أداء الفرائض ، لأن البر الإيمان ، وأداء الفرائض فرعه ، والتقوى السنة ، فلا يتم فرض إلّا بالسنة ، ونهى عن التعاون على الإثم وهو الكفر والنفاق ، والعدوان وهو البدعة والخصام ، وهما لعبان فنهوا عن اللعب ، كما أمروا بالبر وهو الفرض والسنة ، وأخذ النفس بالصبر على ذلك كله خالصا لله فيه. قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [٢٤٦] من هؤلاء الملأ؟ قال سهل : أراد بذلك الرؤساء ، ألا ترون في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سمع رجلا بعد وقعة بدر وهو يقول : إنما قتلنا يوم بدر عجائز صلعا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أولئك الملأ من قريش» (٥) يعني الأشراف والسادات. وسئل عن قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [٢٥٥] فقال : هذه

__________________

(١) صحيح البخاري : باب تفسير سورة البقرة ، ٤٢٥١.

(٢) حلية الأولياء ١٠ / ١٩٦ ، ٢١١.

(٣) ما بين القوسين إضافة من الحلية ١٠ / ١٩٦.

(٤) في الحلية (يترك) مكان (يبعث).

(٥) نوادر الأصول ١ / ٣٣٣.

٣٦

أعظم آية في كتاب الله تعالى ، وفيها اسم الله الأعظم ، وهو مكتوب بالنور الأخضر في السماء سطرا واحدا من المشرق إلى المغرب ، كنت رأيته كذلك في ليلة القدر مكتوبا ، وأنا بعبادان لا إله إلّا هو الحي القيوم ، فمعنى : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) القائم على خلقه كل شيء بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم المجازي بالإحسان إحسانا وبالسيئات غفرانا وبالنفاق والكفر والبدعة عذابا ، فمن قال : لا إله إلّا الله ، فقد بايع الله ، فحرام عليه إذا بايعه أن يعصيه في شيء من أمره ونهيه ، في سره وعلانيته ، أو يوالي عدوه ، أو يعادي وليه. قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [٢٥٥] فالسنة : النعاس ، وقال : السنة ما خالط القلب من النوم.

قال سهل في قول الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) [٢٥٧] أي ولاية الرضا فهو المتولي لهم بما سبق لهم من هدايته ومعرفته إياهم على توحيده وذلك لعلمه بتبرئهم من كل سبب إلا من خالفهم فأخرجوا من الظلمات إلى النور ومن الكفر والضلالة والمعاصي والبدع إلى الإيمان وهو النور الذي أثبته الحق عزوجل في قلوبهم وهو نور بصيرة اليقين الذي به يستبصرون التوحيد والطاعة له فيما أمر ونهى (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠].

قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [٢٥٧] أي الشيطان. قال سهل : ورأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء ، لأن الشيطان لا يقدر على الإنسان إلّا من طريق هوى النفس ، فإن أحس منها بما تهم به ألقى إليها الوسوسة.

وسئل عن قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [٢٦٠] أفكان شاكا في إيمانه حتى سأل ربه أن يريه آية ومعجزة ليصح معها إيمانه؟ فقال سهل : لم يكن سؤاله ذلك عن شك ، وإنما كان طالبا زيادة يقين إلى إيمان كان معه ، فسأل كشف غطاء العيان بعيني رأسه ليزداد بنور اليقين يقينا في قدرة الله ، وتمكينا في خلقه ، ألا تراه كيف قال : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) [٢٦٠] فلو كان شاكا لم يجب ب «بلى» ، ولو علم الله منه الشك وهو أخبر ب «بلى» وستر شكه لكشف الله تعالى ذلك ، إذ كان مثله مما لا يخفى عليه ، فصح أن طلب طمأنينته كان على معنى طلب الزيادة في يقينه. فقيل : إن أصحاب المائدة طلبوا الطمأنينة بإنزال المائدة ، وكان ذلك شكا ، فكيف الوجه فيه؟ فقال : إن إبراهيم عليه‌السلام أخبر أنه مؤمن ، وإنما سأل الطمأنينة بعد الإيمان زيادة ، وأصحاب المائدة أخبروا أنهم يؤمنون بعد أن تطمئن قلوبهم ، كما قال : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) [المائدة : ١١٣] فأخبروه أن علمهم بصدقه بعد طمأنينتهم إلى معاينتهم المائدة يكون ابتداء إيمان لهم. وقال أبو بكر : وسمعته مرة أخرى يقول : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [٢٦٠] أي لست آمن أن يعارضني عدو لك إذا قلت : (رَبِّيَ الَّذِي

٣٧

يُحْيِي وَيُمِيتُ) [٢٥٨] فيقول : أنت رأيته يحيي ويميت ، فيطمئن قلبي إلى الإجابة بنعم إذا شاهدت ذلك ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الخبر كالمعاينة» (١) ، وقال سهل : وفيها وجه آخر أنه سأله أن يريه إحياء الموتى طمأنينة له في أنه اتخذ خليلا. قال سهل : وفيه وجه آخر معناه : أن سؤالي إياك لا أستحق به عليك إلّا ما تحققه لي ، وذلك موقف الخواص من خلقه ، فسؤالي إياك أن تريني إحياء الموتى ليطمئن قلبي مني ، وقد كان في الجاهلية يسمى الخليل. قلنا فقوله : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [٢٦٠] أي خلتي ، هذا لما أعلمه أنك تحيي وتميت.

وسئل سهل : إذا بلغ العبد إلى كفاح العيان ما علامته في البيان؟ فقال : يغلب بطرد الشيطان ، وهو أن النفس في معاينة الهوان ، ولا سبيل إليه للنفس والشيطان بعزلهما عن الشيطان إلّا بحفظ الرحمن. وقال : [من الوافر]

كفايات الكفاح بحسن ظنّي

كنسج العنكبوت بباب غار

وحسن الظّنّ جاوز كلّ حجب

وحسن الظّنّ جاوز نور نار

علامات المقرّب وواضحات

بعيد أم قريب ليل سار

فمن كان الإله له عيانا

فلا نوم القرار إلى النهار

تقاضاه الإله لهم ثلاثا

فهل من سائل من لطف بار

متى نجس الولوغ ببحر ود

فدع شقي النباح بباب داري

ألا يا نفس والشيطان أخسوا

كبطلان الوساوس والغمار

قوله : «كفايات الكفاح بحسن ظني» كأنه أشار إلى قوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) [فصلت : ٥٣] فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلى يا رب» وكذلك لما أنزلت (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) [التين : ٨] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلى يا رب» ومن طريق فهمهم القرآن : أو لم يكف بربّك يا محمد بنصرتك في الدنيا على أعدائك بالقتل والهزيمة ، وفي العقبى بالمقام المحمود والشفاعة ، وفي الجنة باللقاء والزيارة. وقوله : «كنسج العنكبوت بباب غار» وذلك أنّ غار العارفين هو السر ، واطلاع رب العالمين إذا بلغوا إلى مقام الكفاح ، وهو عيان العيان بعد البيان ، فليس بينهم وبين الله تعالى إلّا حجاب العبودية بنظره إلى صفات الربوبية والهوية والإلهية والصمدية إلى السرمدية بلا منع ولا حجاب ، مثل من طريق الأمثال كنسيج العنكبوت حول قلبه ، وسره فؤاده بلطف الربوبية وكمال الشفقة بلا حجاب بينه وبين الله تعالى كنسج العنكبوت بباب غار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صرف الله به جميع أعدائه من صناديد قريش بدلالة إبليس إياهم عليه ، كذلك أهل المعرفة إذا بلغوا

__________________

(١) نوادر الأصول ١ / ٢٩٣ ؛ ومجمع الزوائد ١ / ١٥٣ ؛ والمستدرك على الصحيحين رقم ٣٢٥٠.

٣٨

إلى مقام العيان بعد البيان انقطع وصرف وساوس الشيطان وسلطان النفس ، وصار كيدهم ضعيفا ، بيانه قوله : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦] يعني صار عليهم ضعيفا كما قال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] لأن العبد إذا جاوز بحسن ظنه جميع الحجب ، حتى لا يكون بينه وبين الله حجاب ، فليس للنفس والشيطان والدنيا دخول على قلبه وفؤاده بالوساوس ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت البارحة عجبا عبد بينه وبين الله حجاب فجاء حسن ظنه بالله فأدخله الحجاب» (١).

وقوله : «وحسن الظن جاوز نور نار» كأنه أشار إلى متابعة الرسول شرفا بتفضيله على الخليل والكليم ، لأن الأنبياء والأولياء في مقام رؤية النار والنور على مقامات شتى ، فالخليل رأى النار وصارت عليه بردا وسلاما ، والكليم رأى النار نورا بيانه قوله : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [طه : ١٠] وكان في الأصل نورا مع قوله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) [النمل : ٨] يعني موسى في وسط النور فاشتغل بالنور فعاتبه فقال : لا تشتغل بالنور فإني منور النور ، بيانه : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢] وأما الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراه النار والنور ، وجاوز حجاب النار والنور ، ثم أدناه بلا نار ولا نور ، حتى رأى في دنوه الأدنى منوّر الأنوار ، بيانه قوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١١] فرفع الحبيب عن مقام الخليل والكليم ومقامات جميع الأنبياء المقربين ، حتى صار مكلما بالله بلا وحي ولا ترجمان أحد ، بيانه قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] يعني قال الحبيب للحبيب سرا وعلمه وأكرمه بفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.

وقوله : «علامات المقرب واضحات» أراد أن جميع الأنبياء والملائكة لهم قربة ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقربهم قربة ، على وزن أفعل ، يقول قريب وأقرب ، فالقريب يدخل في الفهم والوهم والتفسير ، وأما الأقرب خارج عن الفهم والوهم والتفسير ، وما بعده لا يدخل في العبارة ولا في الإشارة ، وذلك أن موسى عليه‌السلام لما سمع ليلة النار نداء الوحدانية من الحق فقال : إلهي أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك (٢)؟ فنادى الكليم من مكان القريب والبعيد أنه قريب. ولم يكن هذا في وصف الرسول حينئذ صيره مقربا ، حتى سلّم الله عليه فقال : السلام عليكم ، وإن الله تعالى مدح أمته فقال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ١٠ ـ ١١] ولم يقل القريبون ، وعلامات المقرب واضحات من هذه الأمة ، فالقريب وجد من الله المنة والكرامة ، والبعيد وجد من الله العذاب والعقوبة ، والمعبد وجد من الله الحجاب والقطيعة ، والمقرب وجد من الله اللقاء والزيارة.

__________________

(١) نوادر الأصول ٣ / ٢٣١ ؛ والعلل المتناهية ٢ / ٦٩٩ (رقم ١١٦٥).

(٢) كشف الخفاء ١ / ٢٣٢ ؛ وحلية الأولياء ٦ / ٣٧ ، ٤٢ ؛ وشعب الإيمان ١ / ٤٥١.

٣٩

قوله : «فمن كان الإله له عيانا» علامات المشتاقين ، فليس لهم نوم ولا قرار لا بالليل ولا بالنهار ، والمخصوص بهذه الصفة صهيب (١) وبلال (٢) ، لأن بلالا كان من المشتاقين ، وكذلك صهيب ، لم يكن لهما نوم ولا قرار. وقد حكي أن امرأة كانت اشترت صهيبا فرأته كذلك فقالت : لا أرضى حتى تنام بالليل لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي ، فبكى صهيب وقال : إن صهيبا إذا ذكر النار طار نومه ، وإذا ذكر الجنة جاء شوقه ، وإذا ذكر الله تعالى طال شوقه (٣).

وقوله : «تقاضاه الإله لهم ثلاثا» لأن «هل» من حروف الاستفهام ، وأن الله عزوجل يرفع الحجاب كل ليلة فيقول : «هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيب دعوته؟». فإذا كانت ليلة القدر رفع الله الشرط فقال : «غفرت لكم وإن لم تستغفروني ، وأعطيتكم وإن لم تسألوني ، وأجبت لكم قبل أن تدعوني» (٤) ، وهذا غاية الكرم.

قوله : «متى نجس الولوغ ببحر ود» أشار إلى ولوغ الكلب ، إذا ولغ في الإناء يغسل سبع مرات أو ثلاثا (٥) ، باختلاف الألفاظ الواردة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكيف ولو أن ألف ألف كلب ولغوا في بحر؟ فلا اختلاف بين الأمة أن البحر لا ينجس بوساوس الشيطان ، وولوغه في قلوب العارفين والمحبين في بحر الوداد متى يوجب التنجس ، لأنه كلما ولغ فيه جاءه موج فطهره.

وقوله : «فدع شقي النباح بباب داري» يعني دع يشقى إبليس يصيح على باب الدنيا بألوان الوساوس ، فإنه لا يضرني ، كقوله : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف : ٢٠١] بالوحدانية مع قوله : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [الإسراء : ٤٦].

__________________

(١) صهيب بن سنان بن مالك ، من بني النمر بن قاسط (٣٢ ق ه ـ ٣٨ ه‍) : صحابي ، من أرمى العرب سهما وهو أحد السابقين إلى الإسلام. شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها. (الإصابة ت ٤٠٩٩ ؛ والحلية ١ / ١٥١)

(٢) بلال بن رباح الحبشي (... ـ ٢٠ ه‍) : مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخازنه على بيت ماله ، وأحد السابقين إلى الإسلام ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله. (الحلية ١ / ١٤٧).

(٣) التخويف من النار ص ٢٨ ؛ وروي مثل هذا الخبر في عامر بن عبد قيس. انظر صفوة الصفوة ٣ / ٢٠٧ ؛ وكتاب الزهد لابن أبي عاصم ص ٢٨ ، حيث قال عامر : (إن ذكر جهنم لا يدعني أنام).

(٤) صحيح مسلم : صلاة المسافرين وقصرها ؛ وصحيح البخاري : كتاب التهجد ١٠٩٤ ، وكتاب الدعوات ٥٩٦٢ ، وكتاب التوحيد ٧٠٥٦ ؛ ومسند أحمد ٢ / ٤٣٣ ، ٤ / ٨١ ، ٢١٧ ، ٢١٨.

(٥) يقصد الحديث : «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات» ، انظر : صحيح ابن حبان ٤ / ١٠٩ ـ ١١٤ (رقم ١٢٩٤ ـ ١٢٩٨) ؛ وشرح النووي على صحيح مسلم ٣ / ١٨٥ ـ ١٨٦.

٤٠