تفسير التّستري

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري

تفسير التّستري

المؤلف:

أبي محمّد سهل بن عبدالله التستري


المحقق: محمد باسل عيون السود
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3631-3
الصفحات: ٢٣٩

السورة التي يذكر فيها الأنعام

سئل عن قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [٥٢] قال : أي يريدون وجه الله ورضاه ، ولا يغيبون عنه ساعة. ثم قال : أزهد الناس أصفاهم مطعما ، وأعبد الناس أشدهم اجتهادا في القيام بالأمر والنهي ، وأحبهم إلى الله أنصحهم لخلقه. وسئل عن العمر قال : الذي يضيع العمر. قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٥٤]. وقد حكي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه‌السلام : يا داود من عرفني أرادني ، ومن أرادني أحبني ، ومن أحبني طلبني ومن طلبني وجدني ، ومن وجدني حفظني (١). فقال داود صلوات الله عليه : إلهي ، أين أجدك إذا طلبتك؟ فقال : عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي (٢). فقال : إلهي ، أتيت أطباء عبادك للتداوي فكلهم دلوني عليك ، فبؤسا للقانطين من رحمتك ، فهل لي وجه أن تداويني؟ فقال الله عزوجل : الذين أتيتهم كلهم دلوك علي؟ فقال : نعم. قال : فاذهب فبشر المذنبين ، وأنذر الصديقين. فتحير داود فقال : يا رب ، غلطت أنا أم لا؟ قال : ما غلطت يا داود. قال : وكيف ذلك؟ قال : بشر المذنبين بأني غفور ، وأنذر الصديقين بأني غيور. فسئل : من الصديقون؟ فقال : الذين عدوا أنفاسهم بالتسبيح والتقديس ، وحفظوا الجوارح والحواس ، فصار قولهم وفعلهم صدقا ، وصار ظاهرهم وباطنهم صدقا ، وصار دخولهم في الأشياء وخروجهم عنها بالصدق ، ومرجعهم إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [٦٩] قال : إن الله تعالى أخذ على أوليائه التذكرة لعباده ، كما أخذ التبليغ على أنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين. فعلى أولياء الله أن يدلوا عليه ، فمتى قعدوا عن ذلك كانوا مقصرين. قيل له : فقد رأينا كثيرا منهم

__________________

(١) ورد هذا القول منسوبا إلى عتبة الغلام في الحلية ١٠ / ٨١.

(٢) الحلية ٤ / ٣٢ ؛ وصفوة الصفوة ٢ / ٢٩٣ ؛ وفي الحلية ٢ / ٣٦٤ أنه حديث بين الله عزوجل ونبيه موسى عليه‌السلام.

٦١

قعدوا عن ذلك. فقال : إنهم لم يقعدوا عنه إلّا عند عدم الاحتياج إليه ، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد كان عندنا رجل بالبصرة له منزلة رفيعة ، لزمه فرض من ذلك في وقت من الأوقات ، فبادر نحوه ، فلقيه رجل آخر وقال له : إن الله تعالى أمرني بما عزمت عليه ، وكفاك إياه ، فرجع إلى منزله ، وحمد الله تعالى على حسن الكفاية ، والله أعلم. قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) [٧٦] فقال : كان هذا القول منه تعريضا لقومه عند حيرة قلوبهم ، لأنه كان أوتي رشده من قبل ، كما قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [٧٥]. قيل : ما معنى قوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) [٧٧] قال : يعني لئن لم يدم لي الهداية ، (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [٧٧] ثم قال : كانت ملة إبراهيم عليه‌السلام السخاوة ، وحالة التبري من كل شيء سوى الله تعالى ، ألا تراه حين قال جبريل عليه‌السلام : هل لك حاجة؟ قال : أما إليك فلا. لم يعتمد على أحد سواه في كل حال.

وقوله تعالى : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) [٩٨] أي مستقر في أرحام النساء و «مستودع» يعني النطفة في صلب آدم عليه‌السلام. وقوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) [١٢٠] يعني اتركوا المعاصي بالجوارح ، ومحبتها بالقلب ، وبالإصرار عليها. وقوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [١٢٥]. قال سهل : إن الله ميز بين المريد والمراد في هذه الآية ، وإن كان الجميع من عنده ، وإنما أراد أن يبين موضع الخصوص من العموم ، فخص المراد في هذه السورة وغيرها ، وذكر المريد وهو موضع العموم في هذه السورة أيضا ، وهو قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [٥٢] فهو قصد العبد في حركاته وسكونه إليه ، كما قال : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) [الشورى : ٣٨] فكل من وجد حال المريد والمراد فهو من فضل الله عليه ، ألا ترى أنه جمع بينهما في قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] قيل له : فما الفصل بينهما؟ فقال : المريد الذي يتكلف القصد إليه والعبادة لله تعالى ويطلب الطريق إليه ، فهو في الطلب بعد ، والمراد قيام الله تعالى له بها ، والرجل يجد في نفسه ما يدل على المريد ، والمراد يدخل في الطاعات وقتا يجد ما يحمله على الأعمال من غير تكلف وجهد نظرا من الله تعالى له ، ثم يخرج بعد ذلك إلى علو المقامات ورفيع الدرجات.

قيل له : ما معنى المقامات؟ فقال : هي موجودة في كتاب الله تعالى في قصة الملائكة : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] وقال : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [١٣٢] ، وقال في صفة المريد : شغل المريد إقامة الفرض والاستغفار من الذنب وطلب السلامة من الخلق. وقال سهل : إن الله عزوجل ينظر في القلوب والقلوب عنده ، فما كان أشدها تواضعا له خصه بما شاء

٦٢

ثم بعد ذلك ما كان أسرعها رجوعا ، وهما هاتان الخصلتان. وقال : ما اطلع الله على قلب فرأى فيه همّ الدنيا إلّا مقته ، والمقت أن يتركه ونفسه. والقلب لا يملكه أحد إلّا الله تعالى ، ولا يطيع أحدا إلّا الله ، فإذا ذكرت به فضع سرك مع الله ، فإنه ليس من أحد وضعت سرك عنده إلّا هتكه ، إلّا الله عزوجل. قوله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [١٢٧] قال : يعني سلم فيه من هواجس نفسه ووساوس عدوه. قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [١٢٩] أي ينتقم الله تعالى من الظالم بالظالم ، ثم ينتقم من الجميع بنفسه. قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) [١٤٧] قال سهل : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أعرض عنك فرغبه فيّ ، فإن من رغب فينا ففيك رغب لا غير ، فأطمعهم في الرحمة ، ولا تقطع قلبك عنهم (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) [١٤٧].

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [١٥١] ما ظهر منها ما نهى عن إتيانه بالجوارح الظاهرة ، وما بطن يعني الإصرار عليه هو على ضربين : فواحد يأتي بمعصية ويبقى مصرا عليها مقيما على إتيانها ، وآخر مصرّ على المعصية لمحبتها في القلب ، ولا يقدر أن يفعلها متى وجدها لضعف جوارحه ، وهو على أن يفعلها ، وهذا من أعظم الإصرار. وقال سهل : من أكل الحلال بالشهوة فهو مصرّ ، ومن جاوز حاله إلى الغد ما لم يأت الغد فهو مصر. فسئل عن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين في التفكر فيما لا يعنيهم ، فقال : يجوز عليهم الفعل بالجوارح حتى تابوا إلى الله تعالى عن ذلك ، فكيف الفكرة. قيل له : هل للقلب من تعبد استعبده الله به دون الجوارح؟ فقال : نعم سكون القلب. قيل له : السكون هو الغرض أم العلم الذي به السكون؟ فقال : هو علم اسميه السكون ، يجر ذلك السكون إلى اليقين ، فالسكون مع اليقين فريضة.

قوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [١٥٢] قال : تكلم أهل الصدق على أربعة أوجه ، قوم تكلموا في الله وبالله ولله ومع الله ، وقوم تكلموا في أنفسهم لأنفسهم فسلموا من آفة الكلام وقوم تكلموا في الخلق ونسوا أنفسهم وابتدعوا وضلوا ، وبئس ما صنعوا إلى أنفسهم. فاتركوا الكلام للعلم ، ثم تكلموا على الضرورة تسلموا من آفات الكلام. يعني أن لا تتكلم حتى تخاف من الإثم. ثم قال : من ظن [ظن السوء] (١) حرم اليقين ، ومن تكلم بما لا يعنيه حرم الصدق ، ومن شغل جوارحه في غير الله (٢) حرم الورع ، فإذا حرم العبد هذه الثلاث هلك ، وهو مثبت في ديوان

__________________

(١) ما بين القوسين إضافة من الحلية ١٠ / ١٩٦.

(٢) في الحلية ١٠ / ١٩٦ : (اشتغل بالفضول) مكان (شغل جوارحه في غير الله).

٦٣

الأعداء. وقد حكي عن الربيع بن خيثم (١) رحمه‌الله أنه قال : ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذم نفسي إلى ذم الناس ، خافوا الله في ذنوب العباد ، وتواثبوا في ذنوب أنفسهم (٢).

قوله عزوجل : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) [١٥٣] قال : الطريق المستقيم هو الذي لا يكون لأصحاب الأهواء والبدع في الدين ، هم ليست لهم توبة ، كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لكل ذنب توبة ، إلّا لأصحاب البدع والأهواء ، وإني منهم بريء وهم مني براء ، وإن الله عزوجل حجز عنهم التوبة» (٣) ، أي ضيق عليهم التوبة.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [١٦٥] قال : يعني عقوبة القلب وهو الستر والحجاب ، حتى يميل إلى من سواه ، وما من عبد يطلع الله على قلبه فيرى في قلبه غيره إلّا سلط عليه عدوه ، وإنه لغفور لمن تاب منه. قال : ولا يقال لشيء من المضار عقوبة ، فإنها طهارة وكفّارة ، إلّا قسوة القلب فإنها عقوبة (٤) ، وعقوبات العلانية العذاب ، وعقوبات القلب درجات ، فالقلب للنفس فيه حظ ومراد.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) [١٥٩] قال : المحجوب الذي يسلط الله عليه عدوه ، لا يجول قلبه في الملكوت ، ولا تظهر له القدرة ، ولا يشاهد الله ، والقلب القاسي أن يكله الله إلى تدبيره وأسبابه ، وإنما مثل ميل القلب اللسان إذا تكلم اللسان بشيء لم يتكلم بغيره ؛ كذلك القلب ؛ إذا هم بشيء لم يكن معه غيره ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) الربيع بن خيثم بن عائذ ، أبو يزيد الثوري (... ـ ٦٥ ه‍) : كان يعد من عقلاء الرجال ، أدرك زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرسل عنه. شهد صفين مع علي. (الحلية ٩ / ٤٨).

(٢) الحلية ٩ / ٥٢ ؛ وشعب الإيمان ٥ / ٣١٢ (رقم ٦٧٦٤) ، ٦ / ٨٧ (رقم ٧٥٦٣) ؛ وصفوة الصفوة ٣ / ٦٠.

(٣) نوادر الأصول ٢ / ٢٤٥ ، والحلية ٤ / ١٣٨ ، وفيه : (هذا حديث غريب من حديث شعبة تفرد به بقية).

(٤) في الحلية ١٠ / ٢٠٨ : (كل عقوبة طهارة ، إلا عقوبة القلب فإنها قسوة).

٦٤

السورة التي يذكر فيها الأعراف

قوله عزوجل : (المص) [١] يعني أنا الله أقضي بين الخلق بالحق (١) ، ومن هذه الحروف اسم الله تعالى وهو الصمد (٢).

قوله تعالى : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [١٦] أي شرائع الإسلام بعد أن بينها الله تعالى لهم بقوله : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) [السجدة : ٢٦] أي : أو لم نبين لهم طريق الخير وهو الأمر وطريق الشر وهو النهي ، فمالوا إلى حظ نفوسهم كما (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) [يس : ١٩].

قوله : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) [٢٠] قال : الوسوسة ذكر الطبع ، ثم النفس ، ثم الهم والتدبير ، ووسواس العدو على ثلاث مقامات : فالأول يدعوه ويوسوس له ، والثاني يأمن إذا علم أنه يقبل ، والثالث ليس له إلّا الانتظار والطمع ، وهو للصديقين.

قوله تعالى : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [٢٩] فقال : اطلبوا من السر بالنية الإخلاص فإن الرياء لا يعرفه إلّا المخلصون ، واطلبوا من العلانية الفعل بالاقتداء ، فإن من لم يكن اقتداؤه في جميع أموره بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو ضال ، وغير هذين مغاليط.

قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [٣١] قال (٣) : الأكل على خمسة : الضرورة والقوام والقوت والمعلوم والفقد ، والسادس لا خير فيه وهو التخليط ، فإن الله تعالى خلق الدنيا فجعل العلم والحكمة في الجوع ، وجعل الجهل والمعصية في الشبع ، فإذا جعتم فاطلبوا الشبع ممن ابتلاكم بالجوع ، وإذا شبعتم فاطلبوا الجوع ممن ابتلاكم بالشبع ، وإلا تماديتم وطغيتم ، ثم قرأ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧] وقال : إن الجوع سر من أسرار الله تعالى في الأرض لا يودعه عند من يذيعه.

__________________

(١) في البرهان ١ / ١٧٤ ؛ والإتقان ١ / ٢٤ أن ابن عباس فسر هذه الحروف بأنها : (أنا الله أفصل).

(٢) في الإتقان ١ / ٢٥ أن ابن عباس قال : (المص : الألف من الله ، والميم من الرحمن ، والصاد من الصمد).

(٣) الحلية ١٠ / ٢٠٣.

٦٥

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [٣٣] قال : يعني الحسد بقلبه والفعل بجوارحه ، ولو أن يترك التدبير فيهما كان من أوتاد الأرض ، ولكن العبد بين حالين ، إما أن يدبر بقلبه ما لا يعنيه ، أو يعمل بجوارحه ما لا يعنيه ، ليس ينجو من أحدهما إلّا بعصمة الله تعالى ، فعيش القلوب اليقين وظلمتها التدبير. قال : وكنا مع سهل عند غروب الشمس فقال لأحمد بن سالم (١) : اترك الحيل حتى نصلي العشاء بمكة.

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [٣٣] قال : من تكلم عن الله من غير إذن ، وعلى سبيل الحرمة وحفظ الأدب ، فقد هتك الستر ، وقد منع الله تعالى أن يقول عليه أحد ما لم يعلم. وقوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [٤٣] قال : هو الأهواء والبدع.

وقوله تعالى : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) [٤٦] قال : أصحاب الأعراف هم أهل المعرفة. قال الله تعالى : (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) [٤٨] إقامتهم لشرفهم في الدارين وأهلهما ، يعرفهم الملكان كما أشرفهم على أسرار العباد في الدنيا وأحوالهم. وقوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [٥٦ ، ٨٥] قال : أن لا تفسدوا الطاعة بالمعصية ، وذلك أن من كان مقيما على المعصية على أدنى منهيّ فجميع حسناته ممزوجة بتلك المعصية ، ولا تخلص له حسناته البتة وهو مقيم على سيئة واحدة حتى يتوب وينخلع عن ذلك المنهي ، ويصفيها عن كدورات المعاصي في السر والعلانية.

وقوله تعالى : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) [٦٨] ومن لم ينصح الله في نفسه ولم ينصحه في خلقه هلك ، ونصيحة الخلق أشد من النفس ، وأدنى نصيحة النفس الشكر ، وهو أن لا يعصى الله تعالى بنعمه. وسمعته مرة أخرى يقول : النصيحة أن لا تدخل في شيء لا تملك صلاحه.

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [٩٤] قال : يعني فقد قلوبهم بالجهل عن العلم والشدة في دنياهم حتى اشتغلوا بها عن آخرتهم (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا) [٩٥] أي كثروا ليس هو العفو بعينه ، قال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) [١٩٩] أي الفضل في أموالهم التي هي وديعة الله عندهم ، لأن الله تعالى قد ابتاعها منهم ، فليس له نفس ولا مال. قيل له : فأين نفسه؟ قال : دخلت تحت مبايعة الله تعالى. قال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] وقوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) [٩٩] قال : المكر المضاف إلى تدبيره في سابق علمه من قدرته

__________________

(١) أحمد بن سالم ، أبو الحسن : شيخ الصوفية في عصره ، كان من أصحاب سهل التستري. (سير أعلام النبلاء ١٦ / ٢٧٢).

٦٦

فلا ينبغي لأحد أن يأمن مكره ، لأن أمن المكر لا يدفع القدر ، ولا يخرج أحدا عن قدرة الله تعالى ، ولا يخلو أحد من خوف وإن بلغ كل خوف ، وإذا عرف منزلته عند الله تعالى ازداد علمه وتكاملت رغبته ، فأما من لم يعرف منزلته فذلك عار عليه. قال عمر بن واصل : فقلت له : كيف يزداد مع علمه منزلة؟ فقال : هما رجلان ، فرجل ازداد وطلب الزيادة وحرص لذلك ، ورجل أضعف منه ، كان ذلك منه شكرا لئلا يسلب ما أعطاه.

وقوله تعالى : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) [١٢٨] قال : أمرهم أن يستعينوا بالله على أمر الله ، فيقهروا ما فيها ويستولوا عليها وعلى مخالفتها ، وأن يصبروا على ذلك تأدبا. قوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [١٤٦] قال : هو أن يحرمهم فهم القرآن (١) ، والاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أعطي فهم القرآن فقد أعطي الخير الكثير ، ومن فاته فهم القرآن فقد فاته علم عظيم». وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعظيم الله إكرام ذي الشيبة في الإسلام ، وإكرام الإمام العادل ، وإكرام حامل القرآن غير الغالي فيه» (٢).

قوله : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [١٤٦] قال : ردهم إلى سابق علمه فيهم أنهم سيفعلون ذلك لخذلانه إياهم بمادلتهم عليه أنفسهم الطبيعية من الحركة في النهي ، والسكون في الأمر ، وادعاء الحول والقوة على ما جبلت عليه أنفسهم ، والاغترار به.

قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [١٤٨] قال : عجل كل إنسان ما أقبل عليه ، فأعرض به عن الله من أهل وولد ، ولا يتخلص من ذلك إلّا بعد إفناء جميع حظوظه من أسبابه ، كما لم يتخلص عبدة العجل من عبادته إلّا بعد قتل النفوس.

قوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [١٤٩] قال : يعني ندموا ، يقال : سقط الرجل في يديه إذا ندم على أمر. قوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [١٥٦] أي تبنا إليك.

قوله تعالى : (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) [١٦٣] قال : يعدون في اتباع الهوى في السبت.

قوله تعالى : (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) [١٦٩] أي تركوا العمل به.

وقوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) [١٧١] قال : يعني فتقنا وقد زعزعنا. كما قال العجاج (٣) :

__________________

(١) هذا قول سفيان بن عيينة في الإتقان ٤ / ٢١٦.

(٢) كشف الخفاء ١ / ٢٨٤.

(٣) العجاج : عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر السعدي التميمي (... ـ نحو ٩٠ ه‍) : راجز مجيد ، من الشعراء. ولد في الجاهلية ، وقال الشعر فيها ، ثم أسلم. (الأعلام ٤ / ٨٦).

٦٧

[من الرجز]

قد ربّبوا أحلامنا الجلائلا

وفتقوا أحلامنا الأثاقلا (١)

وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) [١٧٢] قال : إن الله تعالى أخذ الأنبياء من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام ، ثم أخذ من ظهر كل نبي ذريته كهيئة الذر ، لهم عقول ، فأخذ من الأنبياء ميثاقهم ، كما قال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] وكان الميثاق عليهم أن يبلغوا عن الله تعالى أمره ونهيه ، ثم دعاهم جميعا إلى الإقرار بربوبيته لقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [١٧٢] وأظهر قدرته حتى (قالُوا بَلى) [١٧٢] ، فجمع الله مراده من خلقه ، وما هم عليه من الابتداء والانتهاء في قولهم : «بلى» ، إذ هو على جهة الابتلاء ، وقد قال الله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ) [هود : ٧] وأشهد الأنبياء عليهم حجة كما قال : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) [١٧٢] ثم أعادهم في صلب آدم عليه‌السلام ، ثم بعث الأنبياء ليذكرهم عهده وميثاقه ، وكان في علمه يوم أقروا بما أقروا به من يكذب به ومن يصدق به ، فلا تقوم الساعة حتى تخرج كل نسمة قد أخذ الميثاق عليها ، ثم تقوم الساعة. فقيل : ما علامة السعادة والشقاوة؟ قال : إن من علامات الشقاوة إنكار القدرة ، وإن من علامة السعادة أن تكون واسع القلب بالإيمان ، وأن ترزق الغنى في القلب والعصمة في الطاعة والتوفيق في الزهد ، ومن ألهم الأدب فيما بينه وبين الله تعالى طهر قلبه ويرزق السعادة ، وليس شيء أضيق من حفظ الأدب. فقيل له ما الأدب؟ قال : اجعلوا طعامكم الشعير ، وحلواكم التمر ، وإدامكم الملح ، ودسمكم اللبن ، ولباسكم الصوف ، وبيوتكم المساجد ، وضياءكم الشمس ، وسراجكم القمر ، وطيبكم الماء ، وبهاكم النظافة ، وزينتكم الحذر ، وعملكم الارتضاء ، أو قال : الرضا ، وزادكم التقوى ، وأكلكم بالليل ، ونومكم بالنهار ، وكلامكم الذكر ، وصمتكم وهمتكم التفكر ، ونظركم العبرة ، وملجأكم وناصركم مولاكم ، واصبروا عليه إلى الممات (٢).

وقال : ثلاث من علامات الشقاوة : أن تفوته الجماعة وهو بقرب من المسجد ، وأن تفوته الجماعة وهو في المدينة ، وأن يفوته الحج وهو بمكة. قال سهل : والذرية ثلاث : أول وثاني وثالث : فالأول : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الله تعالى لما أراد أن يخلق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أظهر من نوره نورا ، فلما بلغ حجاب العظمة سجد لله سجدة ، فخلق سبحانه من سجدته عمودا عظيما كالزجاج من

__________________

(١) الرجز ليس للعجاج ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (نتق).

(٢) كتاب الزهد الكبير ٢ / ٣٥٦.

٦٨

النور ، أي باطنه وظاهره فيه عين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوقف بين يدي رب العالمين بالخدمة ألف ألف عام بطبائع الإيمان ، وهو معاينة الإيمان ومكاشفة اليقين ومشاهدة الرب ، فأكرمه الله تعالى بالمشاهدة قبل بدء الخلق بألف ألف عام. وما من أحد في الدنيا إلّا غلبه إبليس لعنه الله فأسره ، إلّا الأنبياء صلوات الله عليهم ، والصديقون الذين شاهدت قلوبهم إيمانهم في مقاماتهم ، وعرفوا اطلاع الله عليهم في جميع أحوالهم ، فعلى قدر مشاهدتهم يعرفون الابتلاء ، وعلى قدر معرفتهم الابتلاء يطلبون العصمة ، وعلى قدر فقرهم وفاقتهم إليه يعرفون الضر والنفع ، ويزدادون علما وفهما ونظرا. ثم قال : ما حمل الله على أحد من الأنبياء ما حمل على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخدمة ، وما من مقام خدمة خدم الله تعالى بها من ولد آدم عليه‌السلام إلى أن بعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلّا وقد خدم الله بها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد سئل عن معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لست كأحدكم إن ربي يطعمني ويسقيني» (١) فقال : ما كان معه طعام ولا شراب ، ولكنه كان يذكر خصوصيته عند الله تعالى ، فيكون كمن أكل الطعام وشرب الشراب ، ولو كان معه شراب أو طعام لآثر أهله وأهل الصفة على نفسه.

الثاني : آدم صلوات الله عليه ، خلقه من نور ، قال عليه‌السلام : «وخلق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني جسده ، من طين آدم عليه‌السلام».

والثالث : ذرية آدم. وإن الله عزوجل خلق المريدين من نور آدم ، وخلق المرادين من نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالعامة من الخلق يعيشون في رحمة أهل القرب ، وأهل القرب يعيشون في رحمة المقرب ، (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الحديد : ١٢].

وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) [١٧٦] يعني بلعام بن باعوراء ، (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [١٧٦] وأعرض لمتابعة هواه ، وأن الله تعالى قسم الأعضاء في الهوى لكل عضو حظا منه ، فإذا مال عضو من أعضائه إلى الهوى يرجع ضره إلى القلب. واعلموا أن للنفس سرا ما ظهر ذلك السر على أحد من خلقه إلّا على فرعون (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤]. فقال : كيف نسلم من الهوى؟ فقال : من ألزم نفسه الأدب سلم منه ، فإنه من قهر نفسه بالأدب عبد الله عزوجل بالإخلاص. قال (٢) : وللنفس سبع حجب سماوية ، وسبع حجب أرضية ، فكلما يدفن العبد نفسه أرضا سما قلبه سماء ، فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل القلب

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الصوم ، رقم ١٨٦٠ ـ ١٨٦٦ ؛ وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، رقم ٦٨٦٩ ؛ ومسند أحمد ٢ / ٤١٨.

(٢) الحلية ١٠ / ٢٠٨.

٦٩

إلى العرش. وقد حكي عن كهمس (١) أنه كان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة ، وكان يسلم بين كل ركعتين ، ثم يقول لنفسه : قومي يا مأوى كل شر ما رضيت عنك (٢).

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [١٨٠] قال : إن وراء الأسامي والصفات صفات لا تخرقها الأفهام ، لأن الحق نار يتضرم لا سبيل إليه ، ولا بد من الاقتحام فيه. وقوله : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [١٨٠] يعني يجورون في أسمائه يكذبون. وقوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [١٨٢] قال : يعني نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها ، فإذا سكنوا وحجبوا عن المنعم أخذوا. وقوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [١٨٥] قال : ذكر الله تعالى قدرته في خلقه ووصف حاجتهم إليه ، وما خلق من شيء سمعوه ولم يروه ، فاغتروا به ، ولو شاهدوا ذلك بقلوبهم لآمنوا بالغيب ، فأداهم الإيمان إلى مشاهدة الغيب الذي غاب عنهم ، وورثوا درجات الأبرار فصاروا أعلاما للهدى. وقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [١٨٧] يعني لا يجلي نفس الطبع من الهوى إلى طاعته ، إلّا هو. هذا باطن الآية. قوله : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) [١٨٧] أي عالم بوقتها. قوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [١٨٨] فكيف ينفع غيره من لم يملك نفعه ، وإنما ذلك إلى الله تعالى.

وقوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [١٩٨] قال : هي القلوب التي لم يزينها الله بأنواره والقربة ، فهو أعمى عن درك الحقائق رؤية الأكابر. وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) [٢٠٥] ما حقيقة الذكر؟ قال : تحقيق العلم بأن الله تعالى مشاهدك ، وتراه بقلبك قريبا منك ، وتستحي منه ثم تؤثره على نفسك في أحوالك كلها ، ثم قال : ليس من ادعى الذكر فهو ذاكر. فقيل له ما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا ملعون ما فيها إلّا ذكر الله تعالى» (٣) قوله : «ذكر الله» هاهنا الزهد عن الحرام ، وهو أن يستقبله حرام ، فيذكر الله تعالى ، ويعلم أنه مطلع عليه ، فيجتنب ذلك الحرام. وقوله : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) [٢٠٥] قال سهل : حقا أقول لكم ولا باطل ، يقينا ولا شك : ما من أحد ذهب منه نفس واحد في غير ذكر الله إلّا وهو غافل عن الله عزوجل. وقال : غفلة الخاص السكون إلى الشيء ، وغفلة العام الافتخار بالشيء ، يعني السكون ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) كهمس بن الحسن التميمي (... ـ ١٤٩ ه‍) : من عباد أهل البصرة. كان أبر شيء بأمه ، وبعد وفاتها أقام بمكة حتى مات. (الحلية ٦ / ٢١١).

(٢) نسب هذا الخبر إلى عامر بن عبد قيس في الحلية ٢ / ٨٩ ؛ وإلى سعيد بن المسيب في فيض القدير ٤ / ٢٤٨.

(٣) نوادر الأصول ١ / ٢٥٥ ؛ وسنن الترمذي ٢٣٢٢ ؛ وسنن ابن ماجة ٤١١٢.

٧٠

السورة التي يذكر فيها الأنفال

قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [١] قال : التقوى ترك كل شيء تقع عليه فهو في الآداب مكارم الأخلاق وفي الترغيب أن لا يظهر ما في سره ، وفي الترهيب أن لا يقف مع الجهل. ولا تصح التقوى إلّا بالمقتدي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالصحابة.

قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [٢] قال : هاجت من خشية الفراق ، فخشعت الجوارح لله بالخدمة.

وقوله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) [١١] قال : النعاس ينزل من الدماغ والقلب حي ، والنوم على القلب من الظاهر وهو حكم النوم ، وحكم النعاس حكم الروح.

وقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [١٩] وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم انصر أفضل الدينين عندك ، وأرضاهما لديك ، فنزل : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) [١٩] يعني تستنصرون (١). وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين أي يستنصر بفقرائهم (٢).

وقوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [٢٣] أي لفتح أقفال قلوبهم بالإيمان.

وقوله : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [٢٩] أي نورا في الدين من الشبهة بين الحق والباطل.

وقوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [٣٧] قال : الخبيث على ضروب : الكفر والنفاق والكبائر ، والطيب على ضروب : وهو الإيمان ، فيه درجة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، فأخبر الله تعالى أنه يميز بينهما ، ثم يجعل الخبيث بعضه على بعض على مقدار ذنوبهم طبقة طبقة ، كما قال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥].

__________________

(١) في السيرة النبوية ٣ / ١٧٦ : (قال أبو جهل بن هشام : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة.

فكان هو المستفتح).

(٢) مسند أحمد ٣ / ٩٦ ؛ والمعجم الأوسط ٣ / ٣٤٨ ؛ وشعب الإيمان ٧ / ٣٣٦.

٧١

وقوله : (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [٤٦] أي دولتكم. وقوله : (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) [٤٨] من حيث جاء.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [٥٣] قال : إن الله تعالى خص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين بمعرفة أنعم الله عليهم قبل زوالها ، وحلم الله عنهم (١).

وقوله : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) [٦٩] قال : الحلال ما لا يعصى الله فيه ، والطيب ما لا ينسى الله فيه.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) [٧٢] قال : جميع الطاعات لله جهاد النفس ، وليس جهاد أسهل من جهاد السيف ، ولا جهاد أشد من مخالفة النفس.

__________________

(١) سيعاد هذا القول في تفسير الآية ١٣ من سورة الزخرف.

٧٢

السورة التي يذكر فيها التوبة

قال سهل : أخبرني محمد بن سوار عن مالك بن دينار ومعروف بن علي عن الحسن عن محارب بن دثار (١) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أنزلت سورة براءة : «بعثت بمداراة الناس» (٢).

قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) [٢] يعني سيروا فيها اعتبارا ، وبالله إقرارا.

وقوله تعالى : (إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [١٠] قال : الإلّ هو القرابة ، والذمة العهد.

قوله : (وَلِيجَةً) [١٦] قال عمر بن واصل العنبري : كل شيء أدخلته شيئا وليس منه فهو وليجة. وقال سهل : يعني لم يغفلوا عنه بميل القلوب إلى أنفسهم.

قوله : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) [٢٩] أي لا يطيعون ، ومن كان في سلطان رجل فهو في دينه ، كما قال الله تعالى : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [يوسف : ٧٦] أي في سلطانه ، كذلك إذا دخلت النفس في الإخلاص لله تعالى ، كانت داخلة في سلطان القلب والعقل ونفس الروح وطاعة البدن بالذكر لله تعالى.

قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [٣٢] يعني يريدون أن يردوا القرآن بتكذيبهم بألسنتهم ، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [٣٢] أي يظهر دينه الإسلام.

قوله عزوجل : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [٦٧] قال : يعني نسوا نعم الله عندهم ، فأنساهم شكر النعم.

قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [٧١] قال : موالاته مع المؤمنين كف الأذى عنهم. قال : واعلموا أن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يكون لعباد الله كالأرض ، إذ هم عليها ومنافعهم منها. وقال (٣) : الأصول عندنا سبع : التمسك بكتاب الله ، والاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكل الحلال ، وكف الأذى ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق.

__________________

(١) محارب بن دثار بن كردوس السدوسي الشيباني الكوفي (... ـ ١١٦ ه‍) : قاضي الكوفة. كان فقيها فاضلا ، حسن السيرة ، زاهدا شجاعا ، من أفرس الناس. وكان من المرجئة في علي وعثمان. (تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٥ ـ ٤٦).

(٢) كشف الخفاء ١ / ٣٤١ ؛ وشعب الإيمان ٦ / ٣٥١.

(٣) الحلية ١٠ / ١٩٠ ؛ ومفتاح الجنة ٧٣.

٧٣

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [٧٣] قال : جاهد نفسك بسيف المخالفة وحملها حمولات الندم ، وسيرها في مفاوز الخوف ، لعلك تردها إلى طريق التوبة والإنابة ، ولا تصح التوبة إلا من متحير في أمره ، مبهوت في شأنه ، واله القلب مما جرى عليه ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [١١٨] الآية. قوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) [١٠٨] قال : هذه الطهارة أراد بها الذكر لله تعالى سرا وعلانية والطاعة له.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [١١١] يعني اشتراها من شهوات الدنيا وما يوجب الاشتغال عن ذكره ، حتى تكون نفسه وماله خالصة له ، فمن لم يبع من الله حياته الفانية وشهواته الزائلة ، كيف يعيش مع الله تعالى؟ وكيف يحيا حياة طيبة؟ ثم قال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) [١١١] بما لا خير فيه ، وعوضهم ما فيه الخير كله ، مع أن ما في الكونين فهو ملكه ، وهذا من غاية لطفه وكرمه بعباده المؤمنين. وقد حكي عن مالك بن دينار أنه مر بقصر يعمر ، فسأل الأجراء عن أجرتهم ، فأجابه كل واحد منهم بما كانت أجرته ، ولم يجبه واحد ، فقال : ما أجرتك؟ فقال : لا أجر لي. فقال : ولم ذلك؟ قال : لأني عبد صاحب القصر. فقال مالك : إلهي ما أسخاك ، الخلق كلهم عبيدك ، كلفتهم العمل ووعدتهم الأجر.

قوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [١١٢] قال سهل : ليس شيء في الدنيا من الحقوق أوجب على الخلق من التوبة ، فهي واجبة في كل لمحة ولحظة ، ولا عقوبة عليهم أشد من فقد علم التوبة. فقيل : ما التوبة؟ فقال : أن لا تنسى ذنبك (١). وقال : أول ما يؤمر به المبتدئ التحويل من الحركات المذمومة إلى الحركات المحمودة ، وهي التوبة ؛ ولا تصح له التوبة حتى يلزم نفسه الصمت ، ولا يصح له الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة ، ولا تصح له الخلوة إلّا بأكل الحلال ، ولا يصح له أكل الحلال إلّا بأداء حق الله تعالى ، ولا يصح له أداء الحق إلّا بحفظ الجوارح والقلب ، ولا يصح له ما وصفنا حتى يستعين بالله عزوجل على جميعه. فقيل : ما علامة صدق التوبة؟ قال علامتها أن يدع ما له سوى ما ليس له. وسئل سهل عن الرجل يتوب ويقلع عن ذلك الذنب ، ثم يخطر ذلك بقلبه أو يراه أو يسمع به فيجد حلاوة ذلك الذنب السيئ كيف الحيلة فيه؟ فقال : وجدان الحلاوة من الطبع لا يتحول ، فيصير المحبوب مكروها ؛ ولكن يقهر عزم القلب فيرجع في ذلك إلى الله عزوجل ، ويرفع إليه شكواه ، ويلزم نفسه وقلبه الإنكار ولا يفارقه ، فإنه إن غفل عن الإنكار طرفة عين تخوفت عليه أن لا يسلم منه (٢). قال : دعوا القال والقيل كله في هذا الزمان ، عليكم بثلاث : توبوا إلى الله عزوجل مما تعرفوه بينكم وبينه ، وأدوا مظالم العباد

__________________

(١) قوت القلوب ١ / ٣١٨.

(٢) قوت القلوب ١ / ٣٢٤.

٧٤

التي قبلكم ، فإذا أصبحتم فلا تحدثوا أنفسكم بالمساء ، وإذا أمسيتم فلا تحدثوا أنفسكم بالصباح ، لأن الأحداث قد كثرت ، والخطر عظيم ، فاتقوا الله ، وألزموا أنفسكم التوبة.

قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) [١٢٢] قال : ليتعلموا ما يحتاج إليه في أمر الدين. وقد حكي عن الحسن البصري أنه قال : الفقيه الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، البصير في أمر دينه. وسئل سهل عن معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (١) ، فقال : يعني علم الحال (٢). قيل : وما علم الحال؟ قال : من الباطن الإخلاص ، ومن الظاهر الاقتداء ، فمن لم يكن ظاهره إمام باطنه ، وباطنه كمال ظاهره فهو في تعب من البدن. قيل : وما تفسير ذلك؟ قال : إن الله قائم عليك في سرك وعلانيتك وحركاتك وسكونك لا تغيب عنه طرفة عين ، كما قال : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣]. وقال : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] الآية ، وقال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] وهو العرق الذي في جوف القلب ، فأخبر أنه أقرب إلى القلب من ذلك العرق. فإذا علمت ذلك ، ينبغي أن تستحي منه ، وما هاج في القلب شيء مما تهوى النفس. فذكر العبد قيام الله عزوجل عليه ، فتركه إلّا دخل قلبه من علم حاله ما لو قسم ما أعطى ذلك العبد على أهل المدينة لسعدوا جميعا وفازوا به ، وقد أشار إليه مالك بن أنس (٣) رضي الله عنهما حيث قال : ليس العلم بكثرة الرواية ، إنما العلم نور يجعله الله في القلب (٤). قيل له : كيف يعرف الرجل الحال والعلم به؟ فقال : إذا كنت تتكلم فحالك الكلام ، وإذا سكت فحالك السكوت ، وإذا قمت فحالك القيام ، وإذا قعدت فحالك القعود ، والعلم به أن تنظر أن هذا الحال لله أو لغيره ، فإن كانت لله استقررت عليها ، وإن كانت لغيره تركتها ، وهو المحاسبة التي أمر بها عمر رضي الله عنه حيث قال : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا (٥). وقد كان عمر رضي الله عنه يضرب نفسه بالدرة في المحاسبة.

__________________

(١) كشف الخفاء ١ / ٧١ ، ٢ / ٥٦ ، والمعجم الأوسط ٢ / ٢٨٩ ، ٦ / ٩٦ ، والمعجم الصغير ١ / ٣٦ ، ٥٨ ، وشرح سنن ابن ماجة ١ / ٢٠ ، وبعد الحديث قال : (قال النووي : إنه ضعيف ، وإن كان صحيحا).

(٢) قوت القلوب ١ / ٣٢٤.

(٣) مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري (٩٣ ـ ١٧٩ ه‍) : إمام دار الهجرة ، وأحد الأئمة الأربعة ، وإليه تنسب المالكية. من أشهر كتبه الموطأ. (الأعلام ٥ / ٢٥٧).

(٤) صفوة الصفوة ٢ / ١٧٩ ، وسير أعلام النبلاء ١٣ / ٣٢٣ ؛ والشطر الأول من القول نسب إلى إبراهيم الخواص في شعب الإيمان ٢ / ٢٤٩ ، وبعده : (إنما العالم من اتبع العلم واستعمله) ، كما نسب الشطر الأول من القول إلى عبد الله في الحلية ١ / ١٣١ ، وبعده : (ولكن العلم الخشية).

(٥) سنن الترمذي ٤ / ٦٣٨ (رقم ٢٤٥٩) ؛ وكتاب الزهد لابن مبارك ص ١٠ ؛ وصفوة الصفوة ١ / ٢٨٦ ؛ ومصنف ابن أبي شيبة ٧ / ٩٦ ،

رقم ٣٤٤٥٩. وسيعاد قوله في تفسير الآية ١٤ من سورة الإسراء.

٧٥

السورة التي يذكر فيها يونس عليه‌السلام

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) [٢] قال : يعني سابقة رحمة أودعها في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [٣] قال : يقضي القضاء وحده ، فيختار للعبد ما هو خير له ، فخيرة الله خير له من خيرته لنفسه. وقيل لسهل حين احتضر : فيما تكفن ، وأين تقبر ، ومن يصلي عليك بعد موتك؟ فقال : أدبر أمري حيا وميتا ، وقد كفيت عنه بسابق تدبير الله تعالى لعبده. قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) [١٢] قال : الدعاء هو التبري مما سوى الله تعالى.

قوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [٢٢] قال : الإخلاص هو المشاهدة ، وحياة القلب في شيئين ، الإيمان في الأصل والإخلاص في الفرع ، وإن الإخلاص خطر عظيم ، وصاحبه منه على حذر حتى يصل إخلاصه بالموت ، لأن الأعمال بالخواتيم ، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩].

قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٢٥] قال : الدعوة عامة والهداية خاصة ، فإنه رد الهداية إلى المشيئة وهي سابقة القدر من الله تعالى.

قوله تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) [٥١] يعني كنتم تستعجلون بالجحود بنا ، وتذكرون غيرنا ، فإذا صرتم إلينا وعاينتم ما وعدناكم من عذابنا آمنتم حين لا ينفع ، فلا بد للخلق كلهم من الإقرار بالتوحيد في الآخرة عند تجلي حكم الذات ، ونزول الأضداد والأنداد ، والدعاوي بها ، لزوال الشك وخوف العذاب.

قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [٥٨] أي بتوحيده ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].

٧٦

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [٦٢] قال سهل : هم الذين وصفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا رؤوا ذكر الله» (١) وهم المجاهدون في الله السابقون إليه الذين توالت أفعالهم على الموافقة (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٤] وقال : اجتمع الخير كله في هذه الأربعة وبها صاروا أبدالا : إخماص البطون ، والاعتزال عن الخلق ، وسهر الليل ، والصمت. قيل له : لم سمي الأبدال أبدالا؟ فقال : لأنهم يبدلون الأحوال ، أخرجوا أبدانهم عن الحيل في سرهم ، ثم لا يزالون ينقلبون من حال إلى حال ، ومن علم إلى علم ، فهم أبدا في المزيد من العلم فيما بينهم وبين ربهم.

قيل : الأوتاد أفضل أم الأبدال؟ قال : الأوتاد. قيل : وكيف ذلك؟ قال : لأن الأوتاد قد بلغوا وثبتت أركانهم ، والأبدال ينقلبون من حال إلى حال. وقال سهل : لقيت ألفا وخمسمائة صدّيق ، فمنهم أربعون بديلا وسبعة أوتاد ، وطريقهم ومذهبهم ما أنا عليه. وكان يقول : أنا حجة الله عليكم خاصة ، وعلى الناس عامة. وكان من طريقه وسيرته أنه كان كثير الشكر والذكر ، دائم الصمت والفكر ، قليل الخلاف ، سخي النفس ، قد ساد الناس بحسن الخلق والرحمة والشفقة عليهم والنصيحة لهم ، متمسكا بالأصل ، عاملا بالفرع ، قد حشى الله قلبه نورا ، وأنطق لسانه بالحكمة ، وكان من خير الأبدال ، وإن قلنا من الأوتاد فقد كان القطب الذي يدور عليه الرحى ، ولو لا أن الصحابة لا يقاس بهم أحد لصحبتهم ورؤيتهم لكان كأحدهم ، عاش حميدا ومات غريبا بالبصرة رحمة الله عليه. وقد كان رجل يصحب سهلا يقال له عبد الرحمن بن أحمد ، فقال يوما لسهل : يا أبا محمد ، إني ربما أتوضأ للصلاة فيسيل الماء من بين يدي فيصير قضبان ذهب وفضة. فقال سهل : يا حبيبي ، أما علمت أن الصبي إذا بكى يناول خشخاشة حتى يشتغل بها ، فانظر أي شيء هو هذا يعمل (٢). وقال : كان في منزله بيت يقال له بيت السباع ، وكانت السباع تجيء سهلا ، فكان يدخلها ذلك البيت ، ويضيفها فيطعمها اللحم ، ثم يخليها.

قوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ) [١٠٩] قال : أجرى الله في الخلق أحكامه ، وأيدهم على اتباعها بفضله وقدرته ، ودلّهم على رشدهم بقوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ) [١٠٩] فالصبر على الاتباع ترك تدبير النفس ، ففيه النجاة عاجلا من رعونات النفس ، وآجلا من حياء المخالفة.

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٤٥٩ ؛ ونوادر الأصول ٤ / ٨٠ ، ٨٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٣٣٣.

٧٧

السورة التي يذكر فيها هود عليه‌السلام

قوله تعالى : (فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [١] أي بيّن فيها الوعد على الطاعة ، والوعيد بالعقاب على المعصية والإصرار عليها.

قوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [٣] قال : الاستغفار هو الإجابة ، ثم الإنابة ثم التوبة ، ثم الاستغفار ؛ فالإجابة بالظاهر ، والإنابة بالقلب ، والتوبة مداومة الاستغفار من تقصيره فيها (١).

قوله : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) [٣] قال : ترك الخلق والإقبال على الحق.

قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) [١٥] قال : يعني من أراد بعلمه غير الله آتاه الله أجر عمله في الدنيا ، فلا يبقى له في الآخرة شيء ، لأنه لم يخلص بعمله لله لما أحب له من المنزلة في الدنيا ، ولو علم أن الله سخر الدنيا وأهلها لطلاب الآخرة لم يراء بعلمه. وقد قيل لسهل : أي شيء أشد على النفس؟ فقال : الإخلاص. قيل : ولم ذلك؟ فقال : لأنه ليس للنفس فيه نصيب. وسئل : هل يدخل الفرائض رياء؟ فقال : نعم ، قد دخل الإيمان الذي هو أصل الفرائض حتى أبطله وصار نفاقا ، فكيف العمل ، فكل من لم يعب أحد عليه في ظاهره ، ويعلم الله خلافه من سره في أي حال كان ، فهو المرائي الذي لا شك فيه.

قوله تعالى : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) [٢٣] أي خشعت قلوبهم إلى ربهم ، وهو الخشية ، فالخشوع ظاهر والخشية سر ، كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو خشع قلبه لخشعت جوارحه» (٢). فقد حكي أن موسى صلوات الله عليه قص في بني إسرائيل ، فمزق واحد منهم قميصه ، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن قل له : مزق لي قلبك ولا تمزق لي ثيابك (٣).

__________________

(١) قوت القلوب ١ / ٣٣٥.

(٢) نوادر الأصول ٣ / ٢١٠ ، ٤ / ٢٤.

(٣) صفوة الصفوة ٣ / ٢٦٥ ؛ وكتاب الزهد لابن أبي عاصم ص ٨٧ ؛ وفيض القدير ١ / ٧٩.

٧٨

قوله تعالى : (وَفارَ التَّنُّورُ) [٤٠] قال : كان تنورا من حجارة ، وهو تنور آدم صار لنوح قد جعل الله فوران الماء منه علامة عذابه ، وجعل ينبوع عيون قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنوار العلوم رحمة لأمته ، إذ أكرمه الله تعالى بهذه الكرامة ، فنور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من نوره ، ونور الملكوت من نوره ، ونور الدنيا والآخرة من نوره ، فمن أراد المحبة حقيقة فليتبعه ، قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] فجعل المحبة في اتباعه ، وجعل جزاء اتباعه محبته لعباده ، وهي أعلى الكرامة.

وقد حكي عن أبي موسى الأشعري (١) قال : بينما نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أقبل بنا حتى نصبنا وجهه كأنه يريد أن يخبرنا ، ثم سجد وسجدنا معه في أول النهار ، حتى كان نحو نصف من النهار ، حتى وجد بعضنا طعم التراب في أنفه ، حتى قال بعضنا لبعض : قد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رفع رأسه فقال : الله أكبر. فقلنا : الله أكبر. فقال له قائل : يا رسول الله ، لقد ظننا أنك مت ، ولو كان ذلك ما بالينا أن تقع السماء على الأرض. فقال : أتاني حبيبي جبريل صلوات الله عليه ، فقال لي : يا محمد ، إن ربك يقرئك السلام ، ويخيرك بين أن يدخل ثلث أمتك الجنة ، وبين الشفاعة ، فلما طمعت في الثلث اخترت الشفاعة ، فارتفع ونصبتكم وجهي أريد أن أخبركم ، فأتاني فقال : يا محمد ، إن ربك يقرئك السلام ، ويخيرك بين أن يدخل ثلثي أمتك الجنة ، وبين الشفاعة ، فلما طمعت في الثلثين اخترت الشفاعة ، فارتفع ونصبتكم وجهي أريد أن أخبركم ، ثم أتاني فقال لي : يا محمد ، إن ربك قد شفعك في الثلثين ، ولم يجبك في الثلث ، فسجدت شكرا لله تعالى فيما أعطاني (٢).

وقال سهل : انتهت همم العارفين إلى الحجب ، فوقفت مطرقة ، فأذن لها بالدخول ، فدخلت فسلمت ، فخلع عليها خلع التأييد ، وكتب لها من الرقع براءات ، وأن همم الأنبياء صلوات الله عليهم جالت حول العرش ، فألبست الأنوار ، ورفع منها الأقدار ، واتصلت بالجبار فأفنى حظوظها ، وأسقط مرادها ، وجعلها متصرفة به له. وقال : آخر درجات الصديقين أول

__________________

(١) أبو موسى الأشعري : عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار ، من بني الأشعر (٢١ ق ه ـ ٤٤ ه‍) :

صحابي ، من الشجعان الولاة الفاتحين. وأحد الحكيمين اللذين رضي بهما علي ومعاوية بعد حرب صفين. (الأعلام ٤ / ١١٤).

(٢) المستدرك على الصحيحين ١ / ٦٠ ، ١٣٧ (رقم ٣٦ ، ٢٢٤) ؛ ومسند أحمد ٤ / ٤٠٤ ، ٤١٥ ، ٦ / ٢٣ ، ٢٨ ، ٢٩.

٧٩

أحوال للأنبياء صلوات الله عليهم ، وإن صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله تعالى بجميع أحوال الأنبياء ، وليس في الجنة ورقة من أوراق الأشجار إلا ومكتوب عليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، به ابتدأ الأشياء وبه ختمها ، فسماه خاتم النبيين.

قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [٧٥] قال : إن الله تعالى أشرفه على حركة النفس الطبيعية وسكونها ، ولم يشرفه على علمه ، لأنه ممحو عنه أو مثبت عليه ، لئلا يسقط الخوف والرجاء عن نفسه ، فكان إذا ذكره تأوه منه وسكت عن مسألة علم الخاتمة إذ لم يكن له مع الله عزوجل اختيار. ثم قال سهل : إن الخوف رجل وإن الرجاء أنثى (٢) ، ولو قسم ذرة من خوف الخائفين على أهل الأرض لسعدوا بذلك. فقيل له : فكم يكون مع الخائفين هكذا؟ فقال : مثل الجبل الجبل.

قوله تعالى : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [٧٨] أي هن أحل لكم تزويجا من إتيان الفاحشة.

قوله تعالى : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ) [٨٨] قال : كل عالم أعطي علم الشر ، وليس هو مجانبا للشر ، فليس بعالم ، ومن أعطي علم الطاعات وهو غير عامل بها ، فليس بعالم. وقد سأل رجل سهلا فقال : يا أبا محمد ، إلى من تأمرني أن أجلس إليه؟ فقال : إلى من تحملك جوارحه لا لسانه.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [٩١] قال : حكى محمد بن سوار عن أبي عمرو ابن العلاء أنه قال : الرهط الملأ ، والنفر الرجال من غير أن تكون فيهم امرأة.

قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [١١٣] قال : أي لا تعتمدوا في دينكم إلا على سنتي.

__________________

(١) ورد مثل هذا القول عن ابن عباس في الحلية ٣ / ٣٠٤ ؛ ومجمع الزوائد ٩ / ٥٨ ؛ والمعجم الكبير ١١ / ٧٦.

(٢) قوت القلوب ١ / ٤١٦.

٨٠