تفسير الصّافي - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

تفسير الصّافي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مكتبة الصدر
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٣
ISBN الدورة:
964-6847-51-X

الصفحات: ٥٢٨

لله هل ركبت سفينة قط؟ قال : بلى ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : بلى قال : فهل تعلّق قلبك هناك أنَّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال : بلى. قال الصادق عليه السلام : فذاك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حين لا منجي وعلى الإغاثة حين لا مغيث. ويأتي في معنى الله حديث آخر في تفسير سورة الإخلاص إن شاء الله ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام : الله أعظم اسم من أسماء الله عزّ وجلّ لا ينبغي أن يتسمى به غيره.

وعنه عليه السلام : الرَّحْمنِ الذي يرحم ببسط الرزق علينا. وفي رواية : العاطف على خلقه بالرزق لا يقطع عنهم مواد رزقه وإن انقطعوا عن طاعته. الرَّحِيمِ بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا خفف علينا الدين وجعله سهلاً خفيفاً (حنيفاً خ ل) وهو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه.

أقولُ : رزق كل مخلوق ما به قوام وجوده وكماله اللائق به فالرحمة الرحمانية تعم جميع الموجودات وتشتمل كل النعم كما قال الله سبحانه : أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثُمَّ هَدى. وأمّا الرحمة الرحيمية بمعنى التوفيق في الدنيا والدين فهي مختصة بالمؤمنين وما ورد من شمولها للكافرين فإنما هي من جهة دعوتهم إلى الإيمان والدين مثل ما في تفسير الإمام عليه السلام من قولهم عليهم السلام : الرَّحِيمِ بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته وبعباده الكافرين في الرفق في دعائهم إلى موافقته. ومن ثمة قال الصادق عليه السلام : الرَّحْمنِ اسم خاصّ لصفة عامة والرَّحِيمِ اسم عام لصفة خاصّة. وقال عيسى بن مريم عليه السلام : الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة يعني في الأمور الأخروية.

رواهما في المجمع وفي الكافي والتوحيد والمعاني والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم مجد الله. وفي رواية : ملك الله والله إله كل شيء. الرَّحْمنِ بجميع خلقه والرَّحِيمِ بالمؤمنين خاصّة.

والقمّيّ عنه عليه السلام : مثله. بالرواية الأخيرة فحسب.

٨١

وروى في المشكاة أورده في المجمع عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : أن لله عزّ وجلّ مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فبها يتعاطفون ويتراحمون وأخر تسعاً وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة.

وروي : أن الله قابض هذه إلى تلك فيكملها مائة يرحم بها عباده يوم القيامة.

وفي تفسير الإمام معنى ما في الروايتين عن أمير المؤمنين عليه السلام والتسمية في أول كل سورة آية منها وإنّما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأخرى وما أنزل الله كتاباً من السماء الا وهي فاتحته كذا عن الصادق عليه السلام رواه العيّاشيّ.

وفي الكافي عن الباقر عليه السلام : أول كل كتاب أنزل من السماء بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإذا قرأتها فلا تبال أن لا تستعيذ فإذا قرأتها سترتك فيما بين السماء والأرض.

وفي العيون عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنها من الفاتحة وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله يقرؤها ويعدها آية منها ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني ، وفيه وفي العيّاشيّ عن الرضا عليه السلام : أنها أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها.

ورواه في التهذيب عن الصادق عليه السلام ..

والقمّيّ عنه : أنها أحق ما يجهر به وهي الآية التي قال الله عزّ وجلّ : وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً.

وفي الخصال عنه عليه السلام : أن الإجهار بها في الصلاة واجب.

والعيّاشيّ عنه عليه السلام قال : ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها.

أقول : يعني العامّة ، عن الباقر عليه السلام س : رقوا آية من كتاب الله. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وينبغي الإتيان بها عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.

٨٢

ففي الكافي عن الصادق عليه السلام قال : لا تدعها ولو كان بعده شعر.

وفي التوحيد وتفسير الإمام عنه عليه السلام : من تركها من شيعتنا امتحنه الله بمكروه لينبهه على الشكر والثناء ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه ،.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : أن رسول الله صلّى الله عليه وآله حدّثني عن الله عزّ وجلّ أنه قال كل امر ذي بال لم يذكر فيه بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فهو أبتر.

(١) الْحَمْدُ لِلَّهِ : يعني على ما أنعم الله به علينا ، في العيون وتفسير الإمام عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنه سئل عن تفسيرها فقال : هو أن الله عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنّها أكثر من أن تحصى أن تعرف فقال قولوا الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أنعم به علينا.

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام : ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الْحَمْدُ لِلَّهِ الا أدى شكرها.

رَبِّ الْعالَمِينَ : في العيون وتفسير الإمام عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام : يعني مالك الجماعات من كل مخلوق وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون يقلّب الحيوانات في قدرته ويغذوها من رزقه ويحوطها بكنفه ويدبر كلا منها بمصلحته ويمسك الجمادات بقدرته ويمسك ما اتصل منا عن التهافت والمتهافت عن التلاصق والسماء أن تقع على الأرض إلا باذنه والأرض أن تنخسف الّا بأمره.

(٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : قيل لعلّ تكريرهما للتنبيه بهما في جملة الصفات المذكورة على استحقاقه للحمد.

(٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : في تفسير الإمام عليه السلام : يعني القادر على إقامته والقاضي فيه بالحق والدين والحساب.

وقرئ ملك يوم الدين روى العيّاشيّ : أنه قرأه الصادق عليه السلام ما لا يحصى.

٨٣

وفي تفسير الإمام عليه السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال : أكيس الكيّسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت وإنّ أحمق الحمقاء من أتبع نفسه هواه وتمنّى على الله تعالى الأماني ، وفي حديث آخر : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا.

أقول : وفيهما دلالة على أن لكل إنسان أن يفرغ من حسابه ووزن عمله في دار الدنيا بحيث لا يحتاج إليهما في الآخرة وهو كذلك عند اولي الألباب.

(٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ : (١) في تفسير الإمام عليه السلام : قال الله تعالى : قُولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم إِيَّاكَ نَعْبُدُ أيّها المنعم علينا نطيعك مخلصين موحّدين مع التذلل والخضوع بلا رياء ولا سمعة.

وفي رواية عاميّة عن الصادق عليه السلام : يعني لا نريد منك غيرك لا نعبدك بالعوض والبدل كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.

أقول : إنّما انتقل العبد من الغيبة إلى الخطاب لأنّه كان بتمجيده (لتمجيده خ ل) لله سبحانه وتعالى يتقرب إليه متدرجاً إلى أن يبلغ في القرب مقاماً كأنّ العلم صار له عياناً والخبر شهوداً والغيبة حضوراً.

وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٢) : على طاعتك وعبادتك وعلى دفع شرور أعدائك ورد مكائدهم والمقام على ما أمرت ، كذا في تفسير الإمام عليه السلام ..

قيل : المستتر في نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ للقاري ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أوله ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عباداتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها وتجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدّم إيّاك للتعظيم له والاهتمام به وللدلالة على الحصر.

(٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : في المعاني وتفسير الإمام عن الصادق عليه

__________________

(١) قيل : إنّما قدمت العبادة على الاستعانة لتوافق رؤوس الآي ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة ادعى إلى الإجابة. ولما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحاً أو اعتداداً منه بما يصدر عنه تعقبه بقوله وإياك نستعين ليدل على أن العبادة أيضاً ممّا لا يتم الا بمعونة منه وتوفيق منه ، منه قدّس سرّه.

(٢) قيل : إنّما قدمت العبادة على الاستعانة لتوافق رؤوس الآي ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة ادعى إلى الإجابة. ولما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحاً أو اعتداداً منه بما يصدر عنه تعقبه بقوله وإياك نستعين ليدل على أن العبادة أيضاً ممّا لا يتم الا بمعونة منه وتوفيق منه ، منه قدّس سرّه.

٨٤

السلام : يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنّتك والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : يعني أدِمْ لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.

أقول : لما كان العبد محتاجاً إلى الهداية في جميع أموره آناً فآناً ولحظة فلحظة فادامة الهداية هي هداية أخرى بعد الهداية الأولى فتفسير الهداية بإدامتها ليس خروجاً عن ظاهر اللفظ. وعنه عليه السلام : الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلوّ وارتفع عن التقصير واستقام وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة.

وفي المعاني عن الصادق عليه السلام : وهي الطريق إلى معرفة الله وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة فأما الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنّم.

وعنه عليه السلام : ان الصراط أمير المؤمنين عليه السلام.

وفي رواية أخرى : ومعرفته.

وفي أخرى : أنه معرفة الامام ، وفي أخرى : نحن الصراط المستقيم.

والقمّيّ عنه عليه السلام : الصراط أدقّ من الشّعر وأحدّ من السيف فمنهم من يمر عليه مثل البرق ومنهم من يمر عليه مثل عدو الفرس ومنهم من يمر عليه ماشياً ومنهم من يمر عليه حبواً ومنهم من يمر عليه متعلقاً فتأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً.

وفي رواية أخرى : أنه مظلم يسعى الناس عليه على قدر أنوارهم.

أقول : ومآل الكل واحد عند العارفين بأسرارهم.

٨٥

وبيانه على قدر فهمك أن لكل إنسان من ابتداء حدوثه إلى منتهى عمره انتقالات جبلية باطنية في الكمال وحركات طبيعية ونفسانية تنشأ من تكرار الأعمال وتنشأ منها المقامات والأحوال فلا يزال ينتقل من صورة الى صورة ومن خلق إلى خلق ومن عقيدة إلى عقيدة ومن حال إلى حال ومن مقام إلى مقام ومن كمال إلى كمال حتّى يتصل بالعالم العقلي والمقربين ويلحق بالملإ الأعلى والسابقين إن ساعده التوفيق وكان من الكاملين أو بأصحاب اليمين إن كان من المتوسطين أو يحشر مع الشياطين وأصحاب الشمال إن ولاه الشيطان وقارنه الخذلان في المآل وهذا معنى الصراط المستقيم ، ومنه ما إذا سلكه أوصله إلى الجنّة وهو ما يشتمل عليه الشرع كما قال الله عزّ وجلّ : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) صراط الله وهو صراط التوحيد والمعرفة والتوسط بين الأضداد في الأخلاق والتزام صوالح الأعمال.

وبالجملة : صورة الهدى الذي أنشأه المؤمن لنفسه ما دام في دار الدنيا مقتدياً فيه بهدى إمامه وهو أدق من الشعر وأحدّ من السيف في المعنى مظلم لا يهتدي إليه الا من جعل الله له نوراً يمشي به في الناس يسعى الناس عليه على قدر أنوارهم.

وروي عن الصادق عليه السلام : أن الصورة الانسانية هي الطريق المستقيم إلى كل خير والجسر الممدود بين الجنّة والنار.

أقول : فالصراط والمار عليه شيء واحد في كل خطوة يضع قدمه على رأسه أعني يعمل على مقتضى نور معرفته التي هي بمنزلة رأسه بل يضع رأسه على قدمه أي يبني معرفته على نتيجة عمله الذي كان بناؤه على المعرفة السابقة حتّى يقطع المنازل إلى الله وإلى الله المصير.

وقد تبيّن من هذا أن الامام هو الصراط المستقيم وانه يمشي سوياً على الصراط المستقيم وأن معرفته معرفة الصراط المستقيم ومعرفة المشي على الصراط المستقيم وإن من عرف الامام ومشى على صراطه سريعاً أو بطيئاً بقدر نوره ومعرفته

٨٦

إيّاه فاز بدخول الجنّة والنجاة من النار ومن لم يعرف الامام لم يدر ما صنع فزل قدمه وتردّى في النار.

(٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ : (١) في المعاني وتفسير الإمام عن أمير المؤمنين عليه السلام : أي قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك لا بالمال والصحة فإنهم قد يكونون كفّاراً أو فساقاً. وقال : هم الذين قال الله تعالى : وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً.

(٧) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ : قال هم اليهود الذين قال الله فيهم مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ.

وَلَا الضَّالِّينَ : قال هم النصارى الذين قال الله فيهم : قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً.

وزاد في تفسير الإمام عليه السلام : ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام كل من كفر بالله فهو مغضوب عليه وضال عن سبيل الله.

وفي المعاني عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ شيعة عليّ عليه السلام يعني أنعمت عليهم بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام لم تغضب عليهم ولم يضلوا.

وعن الصادق عليه السلام : يعني محمّداً وذريته.

والقمّيّ عنه عليه السلام : أن الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ النصاب ، والضَّالِّينَ أهل الشكوك الذين لا يعرفون الامام.

أقول : ويدخل في صراط المنعم عليهم كل وسط واستقامة في اعتقاد أو عمل فهم الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا. وفي صراط المغضوب عليهم كل

__________________

(١) وإذا عرفت الصراط فجزها في الدنيا وخذ هذا ممن يمر على الصراط متعلقاً قد أخذت منه النار نجاه الله من النار وحشره مع الأبرار والأخيار ، منه قدّس سرّه.

٨٧

تفريط وتقصير ولا سيما إذا كان عن علم كما فعلت اليهود بموسى وعيسى ومحمّد وفي صراط الضالين كل افراط وغلو لا سيما إذا كان عن جهل كما فعلت النصارى بعيسى وذلك لأن الغضب يلزمه البعد والطرد والمقصّر هو المدبر المعرض فهو البعيد والضّلال هو الغيبة عن المقصود والمفرط هو المقبل المجاوز فهو الذي غاب عنه المطلوب.

والعيّاشي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : أن أم الكتاب أفضل سورة أنزلها الله في كتابه وهي شفاء من كل داء الا السّام يعني الموت.

وفي الكافي عن الباقر عليه السلام : من لم يبرئه الحمد لم يبرئه شيء.

وعن الصادق عليه السلام : لو قرأت الحمد على ميت سبعين مرّة ثمّ ردت فيه الروح ما كان عجيباً.

وفي رواية : أنّها من كنوز العرش.

وفي العيون وتفسير الإمام عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال : لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : قال الله عزّ وجلّ : قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل إذا قال العبد : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الله جلّ جلاله : بدأ عبدي باسمي وحقّ علي أن أُتمم له أموره وأُبارك له في أحواله فإذا قال الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال جلّ جلاله : حمدني عبدي وعلم أن النعم التي له من عندي وان البلايا التي اندفعت عنه فبتطولي أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وادفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا ، وإذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الله جلّ جلاله : شهد لي عبدي بأني الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفرن من نعمتي حظه ولأجزلن من عطائي نصيبه فإذا قال مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله تعالى : أشهدكم كما اعترف بأني أنا الملك يوم الدين لأسهلن يوم الحساب حسابه ولأقبلن حسناته ولأجاوزن عن سيئاته فإذا قال العبد : إِيَّاكَ نَعْبُدُ قال الله عزّ وجلّ صدق عبدي إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثواباً يغبطه كل من خالفه في

٨٨

عبادته لي فإذا قال وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال الله تعالى : بي استعان وإليّ التجأ أشهدكم لأعيننه على أمره ولأغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه فإذا قال اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة قال الله جلّ جلاله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل فقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل وأمنته بما منه وَجَل.

٨٩

سُورة البقرة

(مدنية كلها الّا آية واحدة منها ، وهي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ) الآية وهي مائتان

وست وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مضى تفسيرها.

(١) الم : في المعاني عن الصادق عليه السلام : الم هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطّع في القرآن الذي يؤلفه النبيّ صلّى الله عليه وآله أو الامام فإذا دعا به أُجيب.

أقول : فيه دلالة على أن الحروف المقطّعات أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره وغير الرّاسخين في العلم من ذرّيته والتخاطب بالحروف المفردة سنّة الأحباب في سنن (سنة خ ل) المحابّ فهو سرّ الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطّلع عليه الرقيب :

بين المحبين سرّ ليس يفشيه

قول ولا قلم للخلق يحكيه

والدليل عليه أيضاً من القرآن قوله عزّ وجلّ : وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ، إلى قوله : وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.

ومن الحديث ما رواه العيّاشيّ عن أبي لبيد المخزومي قال : قال أبو جعفر عليه السلام : يا أبا لبيد إنّه يملك من ولد العباس إثنا عشر يقتل بعد الثامن منهم أربعة تصيب أحدهم الذبحة فتذبحه فئة قصيرة أعمارهم خبيثة سيرتهم منهم الفويسق الملقب بالهادي والناطق والغاوي يا أبا لبيد إن لي في حروف القرآن المقطعة لعلماً جمّاً إن الله تبارك وتعالى أنزل (الم) ذلِكَ الْكِتابُ فقام محمّد حتّى ظهر نوره وثبتت كلمته وولد يوم ولد وقد مضى من الألف

٩٠

السابع مائة سنة وثلاث سنين ثمّ قال : وتبيانه في كتاب الله في الحروف المقطعة إذا عددتها من غير تكرار وليس من حروف مقطعة حرف تنقضي أيامه الا وقام من بني هاشم عند انقضائه ثمّ قال : الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فذلك مائة وواحد وستون ثمّ كان يدور خروج الحسين بن علي عليهما السلام الم الله فلما بلغت مدته قام قائم من ولد العباس عند المص ويقوم قائمنا عند انقضائها بالمر فافهم ذلك وعد واكتمه.

وفي تفسير الإمام : أن معنى الم إن هذا الكتاب الذي أنزلته هو الحروف المقطعة التي منها الف لام ميم وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.

أقول : هذا أيضاً يدلّ على أنّها من جملة الرموز المفتقرة إلى هذا البيان فيرجع إلى الأول وكذا سائر ما ورد في تأويلها وهي كثيرة.

وفي المجمع عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.

أقول : ومن الأسرار الغريبة في هذه المقطعات أنّها تصير بعد التركيب وحذف المكرّرات «عليّ صراط حقّ نمسكه أو صراط علي حقّ نمسكه».

(٢) ذلِكَ الْكِتابُ : في تفسير الإمام عليه السلام : يعني القرآن الذي افتتح ب الم هو ذلِكَ الْكِتابُ الذي أخبرت به موسى عليه السلام ومن بعده من الأنبياء وهم أخبروا بني إسرائيل اني سأنزله عليك يا محمد لا رَيْبَ فِيهِ : لا شك فيه لظهوره عندهم.

العيّاشي عن الصادق عليه السلام قال : كتاب علي لا رَيْبَ فِيهِ.

أقول : ذلك تفسيره وهذا تأويله وإضافة الكتاب إلى علي بيانيّة يعني أن ذلِكَ إشارة إلى علي والْكِتابُ عبارة عنه ، والمعنى أن ذلِكَ الْكِتابُ الذي هو علي لا مرية فيه وذلك لأن كمالاته مشاهدة من سيرته وفضائله منصوص عليها من الله

٩١

ورسوله واطلاق الكتاب على الإنسان الكامل شائع في عرف أهل الله وخواص أوليائه. قال أمير المؤمنين عليه السلام :

دواؤك فيك وما تشعر

وداؤك منك وما تبصر

وأنت الكتاب المبين الذي

بأحرفه يظهر المُضْمَرُ

وتَزعُم أنّكَ جِرْمٌ صغير

وفيكَ انطَوَى العالَم الأكبرُ

وقال الصادق عليه السلام : الصورة الانسانية هي أكبر حجّة لله على خلقه وهي الكتاب الذي كَتَبَه الله بيده.

هُدىً : بيان من الضلالة.

لِلْمُتَّقِينَ : الذين يتّقون الموبقات ويتّقون تسليط السّفه على أنفسهم حتّى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضاء ربّهم.

وفي المعاني والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : المتّقون شيعتنا.

أقول : وإنّما خص المتّقين بالاهتداء به لأنّهم المنتفعون به وذلك لأن التقوى شرط في تحصيل المعرفة الحقّة.

(٣) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ : بما غاب عن حواسهم من توحيد الله ونبوة الأنبياء وقيام القائم والرجعة والبعث والحساب والجنّة والنار وسائر الأمور التي يلزمهم الايمان بها ممّا لا يعرف بالمشاهدة وإنّما يعرف بدلائل نصبها الله عزّ وجلّ عليه.

وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ : بإتمام ركوعها وسجودها وحفظ مواقيتها وحدودها وصيانتها ممّا يفسدها أو ينقصها.

وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ : من الأموال والقوى والأبدان والجاه والعلم.

يُنْفِقُونَ : يتصدقون يحتملون الكلّ ويؤدون الحقوق لأهاليها (١) ويقرضون

__________________

(١) اللام متعلق بالحقوق لا بيؤدون ، منه قدّس سرّه.

٩٢

ويسعفون الحاجات ويأخذون بأيدي الضعفاء يقودون الضرائر وينجونهم من المهالك ويحملون عنهم المتاع ويحملون الرّاجلين على دوابهم ويؤثرون على من هو أفضل منهم في الايمان على أنفسهم بالمال والنفس ويساوون من كان في درجتهم فيه بهما ويعلّمون العلم لأهله ويروون فضائل أهل البيت عليهم السلام لمحبّيهم ولمن يرجون هدايته.

وفي المعاني والمجمع والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : وممّا علّمناهم يبثون.

(٤) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ : من القرآن وَالشّريعة.

وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ : من التوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم وسائر كتب الله المنزلة.

وَبِالْآخِرَةِ أي الدار التي بعد هذه الدنيا التي فيها جزاء الأعمال الصالحة بأفضل ممّا عملوه وعقاب الأعمال السيئة بمثل ما كسبوه.

هُمْ يُوقِنُونَ : لا يشكونَ.

(٥) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ : على بيان وصواب وعلم بما أمرهم به.

وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ : النّاجون ممّا منه يوجلون الفائزون بما يؤملون.

(٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالله : وبما آمن به هؤلاء المؤمنون.

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ : خوّفتهم.

أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ : أخبر عن علمه فيهم.

(٧) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ : وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته وأوليائه إذا نظر إليها بأنهم الذين لا يؤمنون ، في العيون عن الرضا عليه السلام قال : الختم : هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم كما قال عزّ وجلّ (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

٩٣

وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ : غطاء وذلك أنّهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلّفوه وقصّروا فيما أريد منهم جهلوا ما لزمهم الايمان به فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه فان الله عزّ وجلّ يتعالى عن العيث والفساد وعن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه.

وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ : يعني في الآخرة العذاب المعد للكافرين في الدنيا ايضاً لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبهه على طاعته أو من عذاب الاصطلام ليصيره إلى عدله وحكمته.

أقول : الاصطلام بالمهملتين الاستيصال والاستصلاح إنّما هو يصحّ لمن لم يستحكم ختمه وغشاؤه وكان ممن يرجى له الخير بعداً وهو تنبيه من الله له وإتمام للحجة وإن لم ينتفع هو به.

(٨) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ.

أقول كابن أُبيّ وأصحابه وكالأول والثاني واضرابهما من المنافقين الذين زادوا على الكفر الموجب للختم والغشاوة والنفاق ولا سيما عند نصب أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة والإمامة.

أقول : ويدخل فيه كل من ينافق في الدين إلى يوم القيامة وإن كان دونهم في النفاق كما قال الباقر عليه السلام : في حكم بن عتيبة إنّه من أهل هذه الآية (١).

وفي تفسير الإمام ما ملخصه أنه : لما أمر الصحابة يوم الغدير بمبايعة أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين وقام أبو بكر وعمر إلى تسعة من المهاجرين والأنصار فبايعوه بها ووكد عليهم بالعهود والمواثيق واتى عمر بالبخبخة (٢) وتفرقوا ، تواطأ قوم من متمرديهم وجبابرتهم بينهم لئن كانت بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم كائنة ليدفعن هذا الأمر عن عليّ عليه السلام ولا يتركونه له وكانوا يأتون

__________________

(١) قال مجاهد أربع آيات من أول السورة نزلت في المؤمنين وآيتان بعدهما نزلتا في الكافرين وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين. منه قدّس سرّه.

(٢) البخبخة : قوله بخ بخ لك يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. منه قدّس سرّه.

٩٤

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ويقولون : لقد أقمت علينا أحبّ الخلق إلى الله وإليك وكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجائرين في سياستنا وعلم الله تعالى من قلوبهم خلاف ذلك وأنهم مقيمون على العداوة ودفع الحق عن مستحقيه فأخبر الله عنهم بهذه الآية.

وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ : بل تواطئوا على إهلاكك وإهلاك من أحبك وتحبه إذا قدروا والتمرّد عن أحكام الله خصوصاً خلافة من استخلفته بأمر الله على أُمّتك من بعدك لجحودهم خلافته وإمارته عليهم حَسَداً وعتواً.

قيل : أخرج ذواتهم من عداد المؤمنين مبالغة في نفي الايمان عنهم رأساً.

(٩) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا : يخادعون رسول الله بإبدائهم له خلاف ما في جوانحهم.

أقول : وإنّما أضاف مخادعة الرسول إلى الله لأن مخادعته ترجع إلى مخادعة الله كما قال الله عزّ وجلّ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) وقال (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ). وقال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى). ولك أن تقول معناه يعاملون الله معاملة المخادع كما يدلّ عليه ما رواه العيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم سُئل فيما النّجاة غداً؟ قال : إنّما النجاة ان لا تخادعوا الله فيخدعكم فان من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الايمان ونفسه يخدع لو يشعر. قيل له : وكيف يخادع الله؟ قال : يعمل ما أمره عزّ وجلّ ثمّ يريد به غيره فاتّقوا الله والرّياء فانّه شرك بالله.

وَما يَخْدَعُونَ : وما يضرّون بتلك الخديعة ، وقُرِئ يُخادِعُونَ.

إِلَّا أَنْفُسَهُمْ : فإنّ الله غني عنهم وعن نصرتهم ولو لا إمهاله لهم لما قدروا على شيء من فجورهم وطغيانهم.

وَما يَشْعُرُونَ : أن الأمر كان كذلك وأنّ الله يطلع نبيّه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم ويأمره بلعنهم في لعنة الظالمين.

٩٥

(١٠) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : قيل نفاق وشكّ وذلك لأنّ قلوبهم تغلي على النبيّ والوصيّ والمؤمنين حقداً وحَسَداً وغيظاً وحنقاً وفي تنكير المرض وإيراد الجملة ظرفية إشارة إلى استقراره ورسوخه وإلّا لقال قلوبهم مرضى.

فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً : بحيث تاهت له قلوبهم.

وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ.

أقول : أي عذاب مؤلم يبلغ إيجاعه غاية البلوغ بسبب كذبهم أو تكذيبهم على اختلاف القراءة فانّ وصف العذاب بالأليم إنّما يكون للمبالغة وهو العذاب المعدّ للمنافقين وهو أشدّ من عذاب الكافرين لأنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النار.

(١١) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ : بإظهار النّفاق لعباد الله المستضعفين فتشوّشوا عليهم دينهم وتحيّروهُم في مذاهبهم.

قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ : لأنّا لا نعتقد ديناً فنرضى محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلم في الظاهر ونعتق أنفسنا من رقّه في الباطن وفي هذا صلاح حالنا.

(١٢) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ : بما يفعلون في أمور أنفسهم لأن الله يعرف نبيّه نفاقهم فهو يلعنهم ويأمر المسلمين بلعنهم ولا يثق بهم أيضاً أعداء المؤمنين لأنهم يظنّون أنّهم ينافقونهم أيضاً كما ينافقون المؤمنين فلا يرتفع لهم عندهم منزلة ولهذا ردّ عليهم أبلغ ردّ (١).

وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ.

(١٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : قال لهم خيار المؤمنين :

آمَنُوا : قيل هو من تمام النّصح والإرشاد فان كمال الايمان إنّما هو

__________________

(١) وما روته العامّة : أن سلمان رضي الله عنه قال : إن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد. فلعله أراد أن الأصل فيها المسمون زوراً بخلفاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهم لم يأتوا بإفسادهم بعد هذا كان قوله هذا قبل وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وإلّا فأراد به أن أهلها ليس الذين كانوا فقط بل وسيكون من بعد أو من حاله حالهم منه قدّس سرّه.

٩٦

بالإعراض عمّا لا ينبغي المقصود من قوله : لا تُفْسِدُوا والإتيان بما ينبغي المطلوب بقوله آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ : المؤمنون كسلمان والمقداد وأبي ذرّ وعمّار ، وقيل أي الكاملون في الانسانية العاملون بمقتضى العقل أي آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص مبرّءاً عن شوائب النّفاق ، قالُوا : في الجواب لمن يفيضون إليه لا لهؤلاء المؤمنين فانَّهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب ، أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ المذلّون أنفسهم لمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم حتّى إذا اضمحل أمره أهلكهم أعداؤه. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ الأخفّاء العقول والآراء الذين لم ينظروا حقّ النّظر فيعرفوا نبوّته وثبات أمره وصحّة ما ناطه بوصيّه من أمر الدين والدنيا فبقوا خائفين من محمّد صلّى الله عليه وآله وأصحابه ومن مخالفيهم ولا يأمنون أيّهم يغلب فيهلكون معه فان كلاً من الفريقين يقدّر ان نفاقهم معه كنفاقهم مع الآخر. وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ ان الأمر كذلك وأنّ الله يطلع نبيّه على أسرارهم فيخسئهم ويسقطهم. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا : بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفّار بعد بيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فانّهم كانوا يظهرون الايمان لسلمان وأبي ذرّ ومقداد وعمّار.

(١٤) وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ أخدانهم من المنافقين المشاركين لهم في تكذيب الرسول قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي في الدين والاعتقاد كما كنّا إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بالمؤمنين.

(١٥) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يجازيهم جزاء من يستهزئ به. امّا في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم وأمره الرسول بالتعريض لهم حتّى لا يخفى من المراد بذلك التعريض وامّا في الآخرة فبما روي : انّه يفتح لهم وهُم في النار باباً إلى الجنّة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سدّ عليهم الباب وذلك قوله تعالى : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ، رواه العامّة ..

وفي تفسير الإمام عليه السلام ما يقرب من معناه في حديث طويل ، : وَيَمُدُّهُمْ يمهلهم ويتأتّى بهم برفقه ويدعوهم إلى التوبة ويعدهم إذا أنابُوا المغفرة. فِي طُغْيانِهِمْ قيل في التعدِّي عن حدّهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه يَعْمَهُونَ لا

٩٧

يرعوون عن قبيح ولا يتركون أذى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم ، قيل يعمي قلوبهم والعمه عمى القلب وهو التحيّر في الأمر.

(١٦) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى : باعوا دين الله واعتاضُوا منه الكفر بالله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ مَا ربحوا في تجارتهم في الآخرة لأنّهم اشتروا النار وأصناف عذابها بالجنّة التي كانت معدّة لهم لو آمَنُوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحقّ والصّوَاب.

أقولُ : ولا لطرق التجارة لأنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهؤلاء أضاعوا رأس مالهم الذي هو الفطرة السليمة بما اعتقدوه من الضلالات ولم يربحوا.

(١٧) مَثَلُهُمْ حالهم العجيبة قيل إنّما يضرب الله الأمثال للناس في كتبه لزيادة التوضيح والتقرير فإنها أوقع في القلب وأقمعُ للخصم الألدّ لأنّها ترى المتخيّل محقّقاً والمعقول محسوساً كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً (١) طلب سطوع النار ليبصر بها ما حوله فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ قيل أي النّار ما حول المستوقد أو استضاءت الأشياء التي حوله ان جعلت أضاءت لازمةً ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ بإرسال ريح أو مطر أطفأها وذلك أنَّهم أبصروا بظاهر الإيمان الحق والهدى وأعطوا أحكام المسلمين من حقن الدم وسلامة المال فلمّا أضاء إيمانهم الظاهر ما حولهم أماتهم الله وصاروا في ظلمات عذاب الله في الآخرة لا يرون منها خروجاً ولا يجدون عنها محيصاً وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ في العيُون عن الرضا عليه السلام : أن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ولكنّه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم.

(١٨) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ : يعني في الآخرة كما قال عزّ وجلّ : (وَنَحْشُرُهُمْ

__________________

(١) قيل يعني بنور المستوقدين إن جعلت جواب لما وبنور المنافقين إن جعلت مستأنفاً أو بدلاً أو يكون جواب لما محذوفاً للإيجاز ومن الالتباس كما في قوله تعالى : فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ ، وإنّما لم يقل بنارهم على الأول لأن المقصود من إيقادها النور. منه قدّس سرّه.

٩٨

عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا.

أقول : وفي الدنيا أيضاً عمّا يتعلّق بالآخرة من العلوم والمعارف ولذلك يحشرون يومئذ كذلك قال الله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) يعني أمور الآخرة في الدنيا. وقال أيضاً (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وقال أيضاً (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ عن الضلالة إلى الهدى.

(١٩) أَوْ كَصَيِّبٍ (١) : قيل يعني أو مثل ما خوطبوا به من الحق والهدى كمثل مطر إذ به حياة القلوب كما بالمطر حياة الأرض مِنَ السَّماءِ من العلوّ.

فِيهِ ظُلُماتٌ مثل للشّبهات والمصيبات المتعلّقة به وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ مثل للتخويف والوعيد والآيات الباهرة المتضمنة للتبصير والتسديد يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ لئلا يخلع (٢) الرّعد أفئدتهم أو ينزل البرق بالصاعقة عليهم فيموتوا فان هؤلاء المنافقين فيما هم فيه من الكفر والنفاق كانوا يخافون أن يعثر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم على كفرهم ونفاقهم فيقتلهم أو يستأصلهم فإذا سمعوا منه لعناً أو وعيداً لمن نكث البيعة جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا فتتغيّر ألوانهم فيعرف المؤمنون أنّهم المعنيّون بذلك وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ مقتدر عليهم لو شاء أظهر لك نفاق منافقيهم وأبدا لك أسرارهم وأمرك بقتلهم.

(٢٠) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ يذهب : بها وذلك لأنّ هذا مثل قوم ابتلوا ببرق فنظروا إلى نفس البرق ولم يغضّوا عنه أبصارهم ولم يستروا منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلألؤه ولم ينظروا إلى الطريق الذي يريدون أن يتخلّصوا فيه بضوءِ البرق فهؤلاء المنافقون يكاد ما في القرآن من الآيات المحكمة الدالة على صدق النبيّ صلّى الله عليه وآله التي يشاهدونها ولا يتبصرون بها

__________________

(١) صيب : فيعل من الصوب بمعنى النزول يقال للمطر والسحاب ، منه قدّس سرّه.

(٢) الصاعقة : قصفة رعد هائل معها نار لا تمر بشيء الا حرقته من الصعق وهو شدة الصوت «منه».

٩٩

ويجحدون الحق فيها يبطل عليهم سائر ما عملوه من الأشياء التي يعرفونها فان من جحد حقاً أدّاه ذلك إلى أن يجحد كلّ حقّ فصار جاحده في بطلان سائر الحقوق عليه كالناظر إلى جرم الشمس في ذهاب نور بصره. كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ ظهر لهم ما اعتقدوه انه الحجّة مَشَوْا فِيهِ وهؤلاء المنافقون إذا رأوا ما يحبّون في دنياهم فرحوا ببيعتهم ويتمنّوا بإظهار طاعتهم وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وقفوا وتحيّروا وهؤلاء المنافقون إذا رأوا في دنياهم ما يكرهون وقفوا وتشاءموا ببيعتهم التي بايعوها قيل مثلُ اهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد يتطلع إليه أبصارهم بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم وتحيّرهم وتوقّفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهة أو تعنّ لهم مصيبة بتوقّفهم إذا أظلم عليهم وإنّما قال مع الاضاءة كلما ومع الاظلام إذا لأنّهم حرّاص عن المشي كلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ حتى لا يتهيّأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت وأصحابك فتوجب قتلهم إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شيء.

(٢١) يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ : قيل لمّا عدّد فرق المكلّفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هزّاً للسامع وتنشيطاً له واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها وجبراً لكلفة العبادة واهتماماً بلذّة المخاطبة.

وفي تفسير الإمام عليه السلام : لها وجهان أحدهما خلقكم وخلق الذين من قبلكم لتتّقوا كما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) والوجه الآخر اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي اعبدوه لعلّكم تتّقون النار ولعل (١) من الله واجب لأنّه أكرم من أن يعني عبده بلا منفعة ويطمعه في فضله ثمّ يخيبه.

أقول : لَعَلَّكُمْ على الوجه الأوّل يتعلق ب خَلَقَكُمْ ويراد بالتقوى العبادة وعلى

__________________

(١) لعل وعسى وسوف في مواعيد الملوك يكون كالجزم بها وإنّما أطلقت إظهاراً لوقارهم وإشعاراً بأن الرمز منهم كالصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده منه قدس الله.

١٠٠