تفسير الصّافي - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

تفسير الصّافي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مكتبة الصدر
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٣
ISBN الدورة:
964-6847-51-X

الصفحات: ٥٢٨

وفصل ما بينكم ونحن نعلمه.

وبإسناده عنه عليه السلام قال : نحن (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ونحن نعلم تأويله.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي عبد الله عليه السلام قال : انا أهل بيت لم يزل الله يبعث فينا من يعلم كتابه من أوله إلى آخره وان عندنا من حلال الله وحرامه ما يسعنا كتمانه ما نستطيع أن نحدث به أحداً.

وفي رواية : إنّ من علم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه لو وجدنا أوعية أو مستراحاً لقلنا والله المستعان.

وفيه عنه عليه السلام قال : ان الله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن وقطب جميع الكتب عليها يستدير محكم القرآن وبها نوهت الكتب ويستبين الإيمان ، وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن تقتدي بالقرآن وآل محمّد عليهم السلام.

وذلك حيث قال : في آخر خطبة خطبها إنّي تارك فيكم الثقلين الثقل الأكبر والثقل الأصغر فاما الأكبر فكتاب ربي وأمّا الأصغر فعترتي أهل بيتي فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما.

وفي الكافي بإسناده عن زيد الشحام قال : دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه السلام فقال : يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر عليه السلام : بلغني أنك تفسر القرآن؟ قال له قتادة : نعم فقال أبو جعفر عليه السلام : بعلم تفسره أم بجهل؟ قال : لا بل بعلم. فقال له أبو جعفر عليه السلام : فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك؟ قال قتادة : سل. قال : أخبرني عن قول الله تعالى في سبأ (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ). فقال قتادة : ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال يريد هذا البيت كان آمناً حتّى يرجع إلى أهله ، فقال أبو جعفر عليه

٢١

السلام : نشدتك بالله يا قتادة هل تعلم أنّه قد يخرج الرجل من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة : اللهمّ نعم. فقال أبو جعفر عليه السلام ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال يؤم هذا البيت عارفاً بحقنا يهوانا قلبه كما قال الله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ولم يعن البيت (١) فيقول إليه فنحن والله دعوة إبراهيم «ع» التي من هوانا قلبه قبلت حجته وإلّا فلا ، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمناً من عذاب جهنم يوم القيامة ، قال : قتادة لا جرم والله لا فسرتها إلّا هكذا. فقال أبو جعفر عليه السلام : ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به.

أقول : هكذا وجدنا هذا الحديث في نسخ الكافي ويشبه أن يكون قد سقط منه شيء وذلك لأن ما ذكره قتادة لا تعلق له بقوله تعالى : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) لأنّه ما ذكر فيه اين هي من الأرض وإنّما يتعلق بقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وكذلك ما قاله الإمام عليّ ، وفيما ورد عن الصادق عليه السلام من سؤال تفسير الآيتين عن أبي حنيفة دلالة أيضاً على ما ذكرناه من السقوط وهو ما رواه في علل الشرائع بإسناده عنه عليه السلام : أنّه قال لأبي حنيفة : انت فقيه أهل العراق؟ فقال : نعم. قال : فيم تفتيهم؟ قال : بكتاب الله تعالى وسنة نبيه. قال : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حقّ معرفته وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال : نعم. فقال : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علماً ويلك ما جعل الله ذلك الا عند أهل الكتاب الذي أنزله عليهم ، ويلك وما هو الا عند الخاص من ذرّية نبيّنا وما أراك تعرف من كتابه حرفاً فإن كنت كما تقول ولست كما تقول فأخبرني عن قول الله تعالى : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أين

__________________

(١) أي لم يعن البيت فيقول مكان تهوى إليهم تهوى إليه بل عني إياهم. فقال : تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي أهل البيت عليهم السلام «منه قده».

٢٢

ذلك من الأرض. قال أحسبه ما بين مكّة والمدينة فالتفت أبو عبد الله عليه السلام إلى أصحابه فقال : تعلمون أن الناس يقطع عليهم ما بين المدينة ومكّة فتؤخذ أموالهم ولا يؤمنون على أنفسهم ويقتلون. قالوا : نعم. فسكت أبو حنيفة؟ فقال يا أبا حنيفة أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) اين ذلك من الأرض؟ قال : الكعبة. قال : أفتعلم أن الحجاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في الكعبة فقتله كان آمناً فيها فسكت. ويأتي تفسير الآيتين في محلهما إنشاء الله.

٢٣

المقدّمة الثالثة

في نبذ ممّا جاء في أن جل القرآن إنّما نزل فيهم وفي أوليائهم وأعدائهم وبيان

سرّ ذلك

في الكافي وتفسير العيّاشيّ بإسنادهما عن أبي جعفر عليه السلام قال : نزل القرآن على أربعة أرباع ربع فينا وربع في عدونا وربع سنن وأمثال وربع فرائض وأحكام ، وزاد العيّاشيّ : ولنا كرائم القرآن ، وبإسنادهما عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : نزل القرآن أثلاثاً : ثلث فينا وفي عدونا وثلث سنن وأمثال وثلث فرائض وأحكام.

وروى العيّاشيّ بإسناده عن خيثمة عن أبي جعفر عليه السلام قال : القرآن نزل أثلاثاً : ثلث فينا وفي أحبائنا وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا وثلث سنة ومثل ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر.

أقول : لا تنافي بين هذه الأخبار لأن بناء هذا التقسيم ليس على التسوية الحقيقية ولا على التفريق من جميع الوجوه فلا بأس باختلافها بالتثليث والتربيع ولا بزيادة بعض الأقسام على الثلث أو الربع أو نقصه عنهما ولا دخول بعضها في بعض.

وبإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : لنا حقّ في كتاب الله تعالى المحكم لو محوه فقالوا ليس من عند الله أو لم يعلموا لكان سواء.

أقول : إنّه قد وردت أخبار جمة عن أهل البيت عليهم السلام في تأويل

٢٤

كثير من آيات القرآن بهم وبأوليائهم وبأعدائهم حتّى أن جماعة من أصحابنا صنفوا كتباً في تأويل القرآن على هذا النحو جمعوا فيها ما ورد عنهم عليهم السلام في تأويل آية آية اما بهم أو بشيعتهم أو بعدوهم على ترتيب القرآن وقد رأيت منها كتاباً كاد يقرب من عشرين الف بيت.

وقد روي في الكافي وفي تفسيري العيّاشيّ وعليّ بن إبراهيم القمّيّ والتفسير المسموع من الإمام أبي محمّد الزكي أخبار كثيرة من هذا القبيل وذلك مثل ما رواه في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام : في قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). قال : هي الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام.

وفي تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : يا أبا محمّد إذا سمعت الله ذكر قوماً من هذه الأمة بخير فنحن هم وإذا سمعت الله ذكر قوماً بسوء ممن مضى فهم عدونا.

وفيه عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام : سأله عن قول الله تعالى (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قال : فلما رآني أتتبع هذا وأشباهه من الكتاب قال : حسبك كل شيء في الكتاب من فاتحته إلى خاتمته مثل هذا فهو في الأئمة عنوا به.

أقول : والسر فيه إنّما ينكشف ويتبين ببسط من الكلام وتحقيق للمقام فنقول وبالله التوفيق : إنّه لما أراد الله أن يعرف نفسه لخلقه ليعبدوه وكان لم يتيسر معرفته كما أراد على سنة الأسباب إلّا بوجود الأنبياء والأوصياء إذ بهم تحصل المعرفة التامة والعبادة الكاملة دون غيرهم وكان لم يتيسر وجود الأنبياء والأوصياء إلّا بخلق سائر الخلق ليكون أنساً لهم وسبباً لمعاشهم فلذلك خلق سائر الخلق ثمّ أمرهم بمعرفة أنبيائه وأوليائه وولايتهم والتبري من أعدائهم ومما يصدهم عن ذلك ليكونوا ذوي حظوظ من نعيمهم ووهب الكل معرفة نفسه على قدر معرفتهم بالأنبياء والأوصياء إذ بمعرفتهم إياهم يعرفون الله وبولايتهم إياهم

٢٥

يتولون الله فكل ما ورد من البشارة والإنذار والأوامر والنواهي والنصائح والمواعظ من الله سبحانه فإنما هو لذلك ولما كان نبيّنا سيد الأنبياء ووصيه سيد الأوصياء ، لجمعهما كمالات سائر الأنبياء والأوصياء ومقاماتهم مع ما لهما من الفضل عليهم وكان كل منهما نفس الآخر صح أن ينسب إلى أحدهما من الفضل ما ينسب إليهم لاشتماله على الكل وجمعه لفضائل الكل وحيث كان الأكمل يكون الكامل لا محالة ولذلك خص تأويل الآيات بهما وبسائر أهل البيت عليهم السلام الذين هم منهما ذرّية بعضها من بعض وجيء بالكلمة الجامعة التي هي الولاية فإنها مشتملة على المعرفة والمحبة والمتابعة وسائر ما لا بدّ منه في ذلك ، وأيضاً فإن أحكام الله سبحانه إنّما تجري على الحقائق الكلية والمقامات النوعية دون خصائص الأفراد والآحاد كما أشرنا إليه سابقا فحيثما خوطب قوم بخطاب أو نسب إليهم فعل دخل في ذلك الخطاب وذلك الفعل عند العلماء وأولي الألباب كل من كان من سنخ أولئك القوم وطينتهم فصفوة الله حيثما خوطبوا بمكرمة أو نسبوا إلى أنفسهم مكرمة يشمل ذلك كل من كان من سنخهم وطينتهم من الأنبياء والأولياء وكل من كان من المقربين الا مكرمة خصوا بها دون غيرهم وكذلك إذا خوطبت شيعتهم بخير أو نسب إليهم خير أو خوطب أعداؤهم بسوء ونسب إليهم سوء يدخل في الأول كل من كان من سنخ شيعتهم وطينة محبيهم وفي الثاني كل من كان من سنخ أعدائهم وطينة مبغضيهم من الأولين والآخرين ، وذلك لأن كل من أحبه الله ورسوله أحبه كل مؤمن من ابتداء الخلق إلى انتهائه وكل من أبغضه الله ورسوله أبغضه كل مؤمن كذلك وهو يبغض كل من أحبه الله تعالى ورسوله وكل مؤمن في العالم قديماً أو حديثاً إلى يوم القيامة فهو من شيعتهم ومحبيهم وكل جاحد في العالم قديماً أو حديثاً إلى يوم القيامة فهو من مخالفيهم ومبغضيهم.

وقد وردت الإشارة إلى ذلك في كلام الصادق عليه السلام في حديث المفضل بن عمر وهو الذي رواه الصدوق طاب ثراه في كتاب علل الشرائع بإسناده عن المفضل بن عمر قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام بمَ صار علي

٢٦

ابن أبي طالب عليه السلام قسيم الجنة والنار؟ قال : لأن حبّه إيمان وبغضه كفر وإنّما خلقت الجنة لأهل الإيمان وخلقت النار لأهل الكفر فهو عليه السلام قسيم الجنة والنار لهذه العلة والجنة لا يدخلها إلّا أهل محبته والنار لا يدخلها إلّا أهل بغضه ، قال المفضل : يا بن رسول الله فالأنبياء والأوصياء هل كانوا يحبونه وأعداؤهم يبغضونه؟ فقال : نعم. قلت : فكيف ذلك قال : أما علمت أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله تعالى ورسوله ويحبه الله ورسوله ما يرجع حتّى يفتح الله على يده ، قلت : بلى. قال : أما علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله لما أوتي بالطائر المشوي قال اللهمّ ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير وعني به علياً ، قلت بلى قال : يجوز أن لا يحب أنبياء الله ورسله وأوصيائهم عليهم السلام رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله فقلت : لا. قال فهل يجوز أن يكون المؤمنون من أممهم لا يحبون حبيب الله وحبيب رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم وأنبياءه. قلت : لا ، قال : فقد ثبت أن جميع أنبياء الله ورسله وجميع المؤمنين كانوا لعلي بن أبي طالب عليه السلام محبين وثبت أن المخالفين لهم كانوا له ولجميع محبيه مبغضين. قلت : نعم. قال : فلا يدخل الجنة إلّا من أحبه من الأولين والآخرين فهو إذن قسيم الجنة والنار. قال : المفضل بن عمر. فقلت : له يا ابن رسول الله فرجت عني فرج الله عنك فزدني ممّا علمك الله تعالى؟ فقال : سل يا مفضل فقلت : أسأل يا بن رسول الله فعليّ بن أبي طالب عليه السلام يدخل محبه الجنة ومبغضه النار أو رضوان ومالك فقال : يا مفضل أما علمت أن الله تبارك وتعالى بعث رسوله وهو روح إلى الأنبياء وهم أرواح قبل خلق الخلق بألفي عام. قلت : بلى. قال : أما علمت أنّه دعاهم إلى توحيد الله وطاعته واتباع أمره ووعدهم الجنة على ذلك وأوعد من خالف ما أجابوا إليه وأنكره النار فقلت : بلى. قال : أفليس النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ضامناً لما وعد وأوعد عن ربّه عزّ وجلّ؟ قلت : بلى. قال : أوليس عليّ بن أبي طالب عليه السلام خليفته وإمام أمته؟ قال : بلى. قال : أو ليس

٢٧

رضوان ومالك من جملة الملائكة والمستغفرين لشيعته الناجين بمحبته. قلت : بلى. قال : فعليّ بن أبي طالب عليه السلام إذن قسيم الجنة والنار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ورضوان ومالك صادران عن أمره بأمر الله تبارك وتعالى ، يا مفضل خذ هذا فإنّه من مخزون العلم ومكنونه لا تخرجه إلّا إلى أهله.

أقول : وقد فتح هذا الحديث باباً من العلم انفتح منه ألف باب وسيأتي له مزيد انكشاف في المقدّمة الرابعة عند تحقيق القول في المتشابه وتأويله إن شاء الله.

ومن هذا القبيل خطاب الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمان نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلم بما فعل بأسلافهم أو فعلت أسلافهم كانجائهم من الغرق وسقيهم من الحجر وتكذيبهم الآيات إلى غير ذلك وذلك لأن هؤلاء كانوا من سنخ أولئك راضين بما رضوا به ساخطين بما سخطوا به ، وأيضاً فإن القرآن إنّما نزل بلغة العرب ومن عادة العرب أن تنسب إلى الرجل ما فعلته القبيلة التي هو منهم وان لم يفعل هو بعينه ذلك الفعل معهم.

وقد ورد ذلك بعينه في كلام السجّاد عليه السلام حيث سئل عن ذلك ، فقال : إن القرآن بلغة العرب فيخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم أما تقول للرجل التميمي الذي قد أغار قومه على بلد وقتلوا من فيه أغرتم على بلد كذا وفعلتم كذا الحديث. وسر هذه العادة في لغتهم ما قلناه. وبهذا التحقيق انحل كثير من المشكلات والشبهات في تأويل الآيات الواردة عنهم عليهم السلام بل كفينا مؤنة ذكر التأويلات في ذيل تلك الآيات إذ لا يخفى بعد معرفة هذا الأصل إجراء تلك التأويلات في آية آية على أولي الألباب إلّا إنا سنأتي بنبذ منها في محالها إنشاء الله تعالى والحمد لله على ما أفهمنا ذلك وألهمناه.

٢٨

المقدّمة الرابعة

في نبذ ممّا جاء في معاني وجوه الآيات وتحقيق

القول في المتشابه وتأويله

روى العيّاشيّ بإسناده عن جابر قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني. ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر فقلت جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب آخر غير هذا قبل اليوم فقال لي يا جابر ان للقرآن بطناً وللبطن بطناً وظهراً وللظهر ظهراً يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إن الآية ليكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه.

وبإسناده عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال : ظهر القرآن : الذين نزل فيهم ، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم. وبإسناده عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن وما فيه حرف إلّا وله حدّ ولكل حدّ مطلع ما يعني بقوله لها ظهر وبطن ، قال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد يجري كما يجري الشمس والقمر كلما جاء منه شيء وقع ، قال الله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) نحن نعلمه.

أقول : المطلع بتشديد الطاء وفتح اللام مكان الاطلاع من موضع عال ويجوز أن يكون بوزن مصعد بفتح الميم ومعناه أي مصعد يصعد إليه من معرفة علمه ، ومحصل معناه قريب من معنى التأويل والبطن كما أن معنى الحدّ قريب من معنى التنزيل والظهر.

وبإسناده عن مسعدة بن صدقة قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن

٢٩

الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، قال : الناسخ الثابت المعمول به والمنسوخ ما قد كان يعمل به ثمّ جاء ما نسخه ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله.

وفي رواية : الناسخ الثابت ، والمنسوخ ما مضى ، والمحكم ما يعمل به ، والمتشابه الذي يشبه بعضه بعضاً.

وبإسناده عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القرآن والفرقان قال : القرآن جملة الكتاب وأخبار ما يكون والفرقان المحكم الذي يعمل به وكل محكم فهو فرقان.

وبإسناده عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إن القرآن فيه محكم ومتشابه فأما المحكم فنؤمن به ونعمل به ونعمل به وندين به. وأما المتشابه فنؤمن به ولا نعمل به.

وبإسناده عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة.

أقول : هذا مثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به غير المخاطب وهذا الحديث ممّا يؤيد ما حققناه في المقدّمة السابقة ، وبإسناده عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما عاتب الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم فهو يعني به من قد مضى في القرآن مثل قوله تعالى (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) عنى بذلك غيره.

أقول : لعلّ المراد بمن قد مضى في القرآن من مضى ذكره فيه من الذين أسقط أسماءهم الملحدون في آيات الله كما يظهر ممّا يأتي ذكره في المقدّمة السادسة وهذان الحديثان مرويان في الكافي أيضاً.

ومن طريق العامّة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : إن للقرآن ظهراً وبطناً وحدّاً ومطلعاً.

٣٠

وعنه عليه السلام : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف (١) لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حدّ مطلع.

وفي رواية : ولكل حرف حدّ ومطلع.

وعنه عليه السلام : إن للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال : ما من آية إلّا ولها أربعة معان ظاهر وباطن وحدّ ومطلع فالظاهر التلاوة والباطن الفهم والحدّ هو أحكام الحلال والحرام والمطلع هو مراد الله من العبد بها.

ورووا أنه عليه السلام سئل هل عندكم من كتاب الله على أربعة أشياء العبارة والإشارة واللطائف والحقائق فالعبارة للعوام والإشارة للخواص واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء.

أقول : وتحقيق القول في المتشابه وتأويله يقتضي الإتيان بكلام مبسوط من جنس اللباب وفتح باب من العلم ينفتح منه لأهله الف باب. فنقول وبالله التوفيق : إن لكل معنى من المعاني حقيقة وروحا وله صورة وقالب وقد يتعدّد الصور والقوالب لحقيقة واحدة وإنّما وضعت الألفاظ للحقائق والأرواح ولوجودهما في القوالب تستعمل الألفاظ فيهما على الحقيقة لاتحاد ما بينهما ، مثلا لفظ القلم إنّما وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد أو غير ذلك بل ولا أن يكون جسماً ولا كون النقش محسوساً أو معقولاً ولا كون اللوح من قرطاس أو خشب بل مجرد كونه منقوشاً

__________________

(١) قال بعض أهل المعرفة : الوجه في انحصار الأحرف في السبعة أن لكل من الظهر والبطن طرفين فذاك حدود أربعة وليس لحد الظهر الذي من تحت مطلع لأن المطلع لا يكون الا من فوق فالحد أربعة والمطلع ثلاثة والمجموع سبعة ، منه قدّس سرّه.

٣١

فيه وهذا حقيقة اللوح وحده وروحه فإن كان في الوجود شيء يستطر بواسطة نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم فان الله تعالى قال : (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) بل هو القلم الحقيقي حيث وجد فيه روح القلم وحقيقته وحدّه من دون أن يكون معه ما هو خارج عنه وكذلك الميزان مثلاً فإنّه موضوع لمعيار يعرف به المقادير وهذا معنى واحد هو حقيقته وروحه وله قوالب مختلفة وصور شتّى بعضها جسماني وبعضها روحاني كما يوزن به الأجرام والأثقال مثل ذي الكفتين والقبان وما يجري مجراهما وما يوزن به المواقيت والارتفاعات كالأسطرلاب وما يوزن به الدواير والقسي كالفرجار وما يوزن به الأعمدة كالشاقول وما يوزن به الخطوط كالمسطر وما يوزن به الشعر كالعروض وما يوزن به الفلسفة كالمنطق وما يوزن به بعض المدركات كالحس والخيال وما يوزن به العلوم والأعمال كما يوضع ليوم القيامة وما يوزن به الكل كالعقل الكامل إلى غير ذلك من الموازين.

وبالجملة : ميزان كل شيء يكون من جنسه ولفظة الميزان حقيقة في كل منها باعتبار حدّه وحقيقته الموجودة فيه وعلى هذا القياس كل لفظ ومعنى.

وأنت إذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانياً وفتحت لك أبواب الملكوت وأهلت لمرافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقاً فما من شيء في عالم الحس والشهادة الا وهو مثال وصورة لأمر روحاني في عالم الملكوت وهو روحه المجرد وحقيقته الصرفة وعقول جمهور الناس في الحقيقة أمثلة لعقول الأنبياء والأولياء فليس للأنبياء والأولياء أن يتكلموا معهم إلّا بضرب الأمثال لأنّهم أُمروا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم وقدر عقولهم انهم في النوم بالنسبة إلى تلك النشأة والنائم لا ينكشف له شيء في الأغلب إلّا بمثل ، ولهذا من كان يعلم الحكمة غير أهلها رأى في المنام أنّه يعلق الدر في أعناق الخنازير ، ومن كان يؤذن في شهر رمضان قبل الفجر رأى أنّه يختم على أفواه الناس وفروجهم. وعلى هذا القياس وذلك لعلاقة خفية بين النشآت فالناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وعلموا حقائق ما سمعوه بالمثال وعرفوا أرواح ذلك وعقلوا أن تلك الأمثلة كانت قشوراً ،

٣٢

قال الله سبحانه : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) فمثّل العلم بالماء والقلوب بالأودية والضلال بالزبد ثمّ نبه في آخرها فقال : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) فكل ما لا يحتمل فهمك فإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي كنت في النوم مطالعاً بروحك للوح المحفوظ ليتمثل لك بمثال مناسب ذلك يحتاج إلى التعبير فالتأويل يجري مجرى التعبير فالمفسر يدور على القشر ولما كان الناس إنّما يتكلمون على قدر عقولهم ومقاماتهم فما يخاطب به الكل يجب أن يكون للكل فيه نصيب فالقشرية من الظاهريين لا يدركون إلّا المعاني القشرية كما أن القشر من الإنسان وهو ما في الإهاب والبشرة ومن البدن لا ينال الا قشر تلك المعاني وهو ما في الجلد والغلاف من السواد والصور وأمّا روحها وسرها وحقيقتها فلا يدرك الا أولوا الألباب وهم الراسخون في العلم وإلى ذلك أشار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في دعائه لبعض أصحابه حيث قال اللهمّ فقهه في الدين وعلمه التأويل ولكل منهم حظ قل أم كثر وذوق نقص أو كمل ولهم درجات في الترقي إلى أطوارها وأغوارها وأسرارها وأنوارها وأمّا البلوغ للاستيفاء والوصول إلى الأقصى فلا مطمع لأحد فيه ولو كان البحر مداداً لشرحه والأشجار اقلاماً (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

وممّا ذكر يظهر سبب اختلاف ظواهر الآيات والأخبار الواردة في أصول الدين وذلك لأنّها ممّا خوطب به طوائف شتّى وعقول مختلفة فيجب أن يكلم كل على قدر فهمه ومقامه ومع هذا فالكل صحيح غير مختلف من حيث الحقيقة ولا مجاز فيه أصلاً.

واعتبر ذلك بمثال العميان والفيل وهو مشهور وعلى هذا فكل من لم يفهم شيئاً من المتشابهات من جهة أن حمله على الظاهر كان مناقضاً بحسب الظاهر لأصول صحيحة دينية وعقائد حقة يقينية عنده فينبغي أن يقتصر على صورة اللفظ لا يبدلها ويحيل العلم به إلى الله سبحانه والراسخين في العلم ثمّ يرصد لهبوب رياح الرحمة من عند الله تعالى ويتعرض لنفحات أيّام دهره الآتية من قبل الله

٣٣

تعالى لعلّ الله يأتي له بالفتح أو أمر من عنده ويقضي الله أمراً كان مفعولا فان الله سبحانه ذمّ قوماً على تأويلهم المتشابهات بغير علم فقال سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

٣٤

المقدّمة الخامسة

في نبذ ممّا جاء في المنع من تفسير القرآن بالرأي والسرّ فيه.

روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال : من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق أخطأ.

وعنه عليه السلام : من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.

وعنه وعن الأئمة القائمين مقامه عليهم السلام : أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح والنصّ الصريح.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي عبد الله عليه السلام قال : من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ فهو بعد من السماء.

وفيه وفي الكافي عن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال : ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلّا كفر.

أقول : لعلّ المراد بضرب بعضه ببعض متشابهاته إلى بعض بمقتضى الهوى من دون سماع من أهله أو نور وهدى من الله ، ولا يخفى أن هذه الأخبار تناقض بظواهرها ما مضى في المقدّمة الأولى من الأمر بالاعتصام بحبل القرآن والتماس غرائبه وطلب عجائبه والتعمق في بطونه والتفكر في تخومه وجولان البصر فيه وتبليغ النظر إلى معانيه فلا بدّ من التوفيق والجمع.

فنقول : وبالله التوفيق إن من زعم أن لا معنى للقرآن الا ما يترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حدّ نفسه وهو مصيب في الأخبار عن نفسه ولكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي حده ومقامه بل القرآن والأخبار

٣٥

والآثار تدلّ على أن في معاني القرآن لأرباب الفهم متسعاً بالغاً ومجالاً رحباً قال الله عزّ وجلّ : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وقال سبحانه : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

وقال (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ). وقال : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم : إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط. وكيف يمكن العرض ولا يفهم به شيء ، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم : القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه. وقال أمير المؤمنين عليه السلام : الا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن. وقال عليه السلام : من فهم القرآن فسر جمل العلم. أشار به إلى أن القرآن مشير إلى مجامع العلوم كلها إلى غير ذلك من الآيات والأخبار فالصواب أن يقال من أخلص الانقياد لله ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم ولأهل البيت عليهم السلام وأخذ علمه منهم وتتبع آثارهم واطلع على جملة من أسرارهم بحيث حصل له الرسوخ في العلم والطمأنينة في المعرفة وانفتح عينا قلبه وهجم به العلم على حقائق الأمور وباشر روح اليقين واستلان ما استوعره المترفون وأنس بما استوحش منه الجاهلون وصحب الدنيا ببدن روحه معلقة بالمحل الأعلى فله أن يستفيد من القرآن بعض غرائبه ويستنبط منه نبذاً من عجائبه ليس ذلك من كرم الله تعالى بغريب ولا من جوده بعجيب فليست السعادة وقفاً على قوم دون آخرين وقد عدوا عليهم السلام جماعة من أصحابهم المتصفين بهذه الصفات من أنفسهم كما قالوا سلمان منّا أهل البيت عليهم السلام فمن هذه صفته لا يبعد دخوله في الراسخين في العلم العالمين بالتأويل بل في قولهم نحن الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كما دريت في المقدّمة السابقة فلا بدّ من تنزيل التفسير المنهي عنه على أحد وجهين : الأول : أن يكون للمفسر في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق. رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ومدعاه ولو لم يكن ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من

٣٦

القرآن ذلك المعنى وهذا تارة يكون مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أنّه ليس المراد بالآية ذلك ولكن يلبس به على خصمه وتارة يكون مع الجهل ولكن إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويترجح ذلك الجانب برأيه وهواه فيكون قد فسّر القرآن برأيه أي رأيه هو الذي حمله على ذلك التفسير ولو لا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه.

وتارة قد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنّه ما أريد به ذلك كمن يدعو إلى الاستغفار بالأسحار فيستدل عليه بقوله عليه السلام : تسحّروا فإن السحور بركة ، ويوهم أن المراد به التسحر بالذكر وهو يعلم أن المراد به الأكل وكالذي يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ، ويشير إلى قلبه ويؤمي إلى أنّه المراد بفرعون وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسيناً للكلام وترغيباً للمستمع وهو ممنوع منه.

وقد يستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذهبهم الباطل فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعاً أنه غير مراد به فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي. والوجه الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيها من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيها من الاقتصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير وفيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ والخاص والعام والرخص والعزائم والمحكم والمتشابه إلى غير ذلك من وجوه الآيات فمن لم يحكم ظاهر التفسير ومعرفة وجوه الآيات المفتقرة إلى السماع وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة من يفسر بالرأي فالنقل والسماع لا بدّ منه في ظاهر التفسير اولاً ليتقي مواضع الغلط ثمّ بعد ذلك يتسع التفهم والاستنباط فان ظاهر التفسير يجري مجرى تعليم اللغة التي لا بدّ منها للفهم وما لا بدّ فيه من السماع فنون كثيرة منها ما كان مجملاً لا

٣٧

ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلاً مثل قوله سبحانه : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فانه يحتاج فيه إلى بيان النبيّ صلّى الله عليه وآله بوحي من الله سبحانه فيبين تفصيل أعيان الصلوات وأعداد الركعات ومقادير النصب في الزكاة وما تجب فيه من الأموال وما لا تجب وأمثال ذلك كثيرة.

فالشروع في بيان ذلك من غير نص وتوقيف ممنوع منه.

ومنها الإيجاز بالحذف والإضمار كقوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء ولا يدري أنهم بماذا ظلموا أو أنهم ظلموا غيرهم وأنفسهم.

ومنها المقدم والمؤخر وهو مظنة الغلط كقوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معناه ولو لا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى (١) لكان لزاماً وبه ارتفع الأجل ولولاه لكان نصباً كاللزام إلى غير ذلك كما سنذكره في مواضعها.

روي عن أبي عبد الله محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعمانيّ أنّه روى في تفسيره بإسناده عن إسماعيل بن جابر قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام يقول إن الله تبارك وتعالى بعث محمّداً فختم به الأنبياء فلا نبي بعده وانزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده أحل فيه حلالاً وحرم حراماً فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم. وجعله النبيّ صلّى الله عليه وآله علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان وعدلوا عنهم ثمّ قتلوهم واتبعوا غيرهم وأخلصوا لهم الطاعة حتّى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب

__________________

(١) لكان مثل ما أنزل بعاد وثمود لازماً لهذه الفكرة وأَجَلٌ مُسَمًّى عطف على كَلِمَةٌ أي ولو لا العدة بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم إلزاماً والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي اللزوم ، القمّيّ قال اللزام الهلاك ، قال : وكان ينزل بهم ولكن قد أخرهم إلى أجل مسمى «منه».

٣٨

علومهم ، قال الله سبحانه : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ولا تزال تطلع على خائنة منهم وذلك انهم ضربوا بعض القرآن ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنّه المحكم واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنّه العام واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا واعلموا رحمكم الله أنّه من لم يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ الناسخ من المنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي والمدني وأسباب التنزيل والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلّفة وما فيه من علم القضاء والقدر والتقديم والتأخير والمبين والعميق والظاهر والباطن والابتداء من الانتهاء والسؤال والجواب والقطع والوصل والمستثنى منه والجار فيه والصفة لما قبل ممّا يدلّ على ما بعد والمؤكد منه والمفصل وعزائمه ورخصه ومواضع فرائضه وأحكامه ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون والموصول من الألفاظ والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله ومتى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب ورسوله ومأواه جهنّم وبئس المصير.

٣٩

المقدّمة السادسة

في نبذ ممّا جاء في جمع القرآن وتحريفه وزيادته ونقصه وتأويل ذلك

روى عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام يا علي إن القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة فانطلق عليّ عليه السلام فجمعه في ثوب أصفر ثمّ ختم عليه في بيته وقال : لا أرتدي حتّى أجمعه. قال : كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتّى جمعه.

وفي الكافي عن محمّد بن سليمان عن بعض أصحابه عن أبي الحسن عليه السلام قال : قلت له : جعلت فداك إنا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم فهل نأثم فقال لا اقرأوا كما تعلمتم فسيجيئكم من يعلمكم.

أقول : يعني به صاحب الأمر عليه السلام. وبإسناده عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله عليه السلام وأنا استمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس. فقال أبو عبد الله عليه السلام : كف عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم عليه السلام فإذا قام قرأ كتاب الله تعالى على حده واخرج المصحف الذي كتبه عليّ عليه السلام ، وقال : أخرجه علي عليه السلام إلى الناس حين فرغ منه وكتبه ، فقال لهم هذا كتاب الله كما أنزله الله على محمّد صلّى الله عليه وآله وقد جمعته بين اللوحين فقالوا هوذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه فقال : أما والله ما ترونه بعد يومكم

٤٠