تفسير الصّافي - المقدمة

تفسير الصّافي - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٢٨

كلمة التقديم

بقلم الدكتور عباس الترجمان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ، والطيّبين من أصحابه أجمعين.

جاء الاسلام الحنيف ، بأحكامه العادلة ، لينقذ الانسانية المعذّبة من هلكات الجهل ، وويلات الظلم ، ومداحض التمرّد والعصيان ، وعبادة الاوثان. فأمر الناس بالتوحيد ، وسلك لهم سبلاً ، وسنّ لهم قوانين وأنظمةً تنيز لهم نواحي الحياة بجميع أبعادها ، وأنزل الكتاب الدستور الأساس ، فيه تبيان كل شيء ، وجعله نبراساً للساري ، ونوراً للمهتدي ، وشفاء لصدور المؤمنين ، وخساراً للكافرين.

وبعث رسوله الكريم ـ صلّى الله عليه وآله ـ به بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الهدى وسراجاً منيراً ، وهادياً إلى كتابه شارحاً ومفسّراً ومؤوّلاً. فهو أوّل مفسّرٍ للقرآن الكريم ، يتلو عليهم آياته ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، يبيّن محكمه ، ويفسّر غوامضه ، ويوؤّل متشابهه ...

والبررة من أصحابه يحوطونه كما يحوط الفراش السراج المنير ، يتزوّدون من نوره الوهّاج ، ليهتدوا إلى سبل الفجاج من سماحة أحكام القرآن. ولذا فقد اهتمّ المسلمون منذ صدر الاسلام حتى يومنا هذا بالقرآن الكريم ، ليفوزوا به الفوز العظيم في الدنيا والآخرة. فبادروا إلى حفظه والمحافظة

١

عليه وترتيله ومعرفة ما لديه ، والتدقيق في فهم مبانيه ، والتوصّل إلى مفاهيمه ومعانيه ، لتطبيق أوامره ونواهيه. فانبرى طبقة من أعلام الصحابة والتابعين وعلى رأسهم أميرالمؤمنين ـ باب مدينة علم الرسول الأمين ـ والبررة من أبنائه ـ عليهم السلام ـ وشيعتهم بتفسير كتاب الله العزيز.

قال ابن النديم في كتابه : «الفهرست ص ٤٧» وهو يذكر جمّاع القرآن على عهد النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «عليّ بن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ ، سعد بن عبيدالله بن النعمان بن عمرو بن زيد ـ رضي الله عنه ـ ، أبوالدرداء عويمر بن زيد ـ رضي الله عنه ـ ، معاذ بن جبل بن أوس ـ رضي الله عنه ـ ، أبو زيد ثابت بن زيد بن النعمان ، أبيّ بن كعب بن قيس بن مالك ابن امرئ القيس ، عبيد بن معاوية بن زيد بن ثابت ابن الضحّاك».

هؤلاء الذين ذكرهم ابن النديم وهم الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعلى رأسهم وأوّلهم أميرالمؤمنين عليه السلام ـ وانما ذكرنا هذه القائمة لنستدلّ بها على اهتمام كبّار الصحابة وأولي الشأن منهم بحفظ القرآن من التلف والضياع بين العسب واللخاف والأكتاف.

وقال العلّامة السيّد حسن الصدر في كتابه «تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ص ٣١٧» بعد أن ذكر الروايات الواردة عن طريق أبناء السنة في ذلك : وأمّا الروايات عن أهل البيت في أنّ علياً أوّل من جمع القرآن على ترتيب النزول ففوق حدّ الإحصاء ـ ثم أردف قائلاً : ـ

وأما التفسير فهو الذي عنده علم الكتاب. قال السيوطي في الاتقان : وأمّا عليّفروي عنه الشيء الكثير ، وقد روى معمر بن وهب بن عبدالله عن أبي الطفيل قال : شهدت عليّاً يخطب ويقول : سلوني ، فوالله لاتسألوني عن شيءٍ إلّا خبّرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلّا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل.

وأخرج أبو نعيم في «الحلية» عن ابن مسعود ، قال : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن ، وأنّ علي بن أبي طالب عنده من

٢

الظاهر والباطن.

وأخرج ـ أيضا ـ من طريق أبي بكر بن عيّاش عن نصير بن سليمان الأحمسي عن أبيه عن عليٍّ قال : والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيما نزلت ، وأين نزلت ، إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولا ، إنتهى.

ثم قال ـ السيّد الصدر ـ : وأمّا سائر أنواع علوم القرآن ، فأوّل من نوّعها وقسّمها فهو ـ أيضاً ـ عليٌّ أميرالمؤمنين ، أملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكلّ نوعٍ مثالاً يخصّه. وهو في كتاب نرويه عنه من عدّة طرق ، موجود بأيدينا إلى اليوم. وقد أخرجه بتمامه العلامة المجلسي في الجزة التاسع عشر من بحارالانوار المطبوع بايران ، وهو الاصل لكلّ من كتب في أنواع علوم القرآن ، انتهى.

إنّ الحديث عن القرآن الكريم شيّق وشاقّ ، أي أنّه ممتع ومتعب ، لأنّه لا نهاية له ولا نفاد ، وهو طويل متشعّب بعدد علومه وفنونه ، فالحديث كإعجازه الذي لا ينفد ، كرموزه وأسراره ، كأحكامه ومعانيه ، كنظمه ومعانيه ، فكما أنّ أحكامه تسير مسير الزمان ، ومعانيه لا نهاية لها ، كذلك الحديث عن القرآن وأخباره وآثاره وبلاغته وبدائعه لا تنتهي معانيه ، ولا تضاهى مبانيه ، وقد ولع الذين عرفوا بعض جوانب جماله وروعته ، ولعوابه منذ نزوله حتى يومنا هذا ، حيث غاصوا في لججه وهو يمدّهم بلآلئه وفرائده ، ولا زالوا كذلك ، ولا زاك كذلك. يزدادون غوصاً ، ويزداد عطاءً ، فلا تنفد مواهبه أبداً.

فدأب علماء اللغة والنحو ، والتفسير ، والفقه ، وأصول الفقه ، والتأريخ ، والكلام ، والبلاغة والأدب ، كلّ يعمل على شاكلته ، وحسب رغبته ، وبموجب اختصاصه ، يبحث في جانب من جوانبه ، ويتجوّل في بعدٍ من أبعاده ، ويطرق بعض أبوابه. والكلّ لا يرجع إلّا بملء كفّيه مما أفاض عليه هذا الكتاب الكريم. وكلّ منهم قاصر لا مقصر ، لأنّهم بذلوا ما بوسعهم من الجهد لما يتوخّونه ، ولكن عظمة القرآن لا يمكن أن تحيط بها الأفكار القاصرة

٣

«لا يحيطون بشيءٍ من علمه إلّا بما شاء».

ولو أردنا أن نستقصى أسماء الذين كتبوا عن تفسير القرآن وعلومه وفنونه لبلغنا الجهد وما بلغناهم لكثرتهم في البلدان الاسلاميّة.

وقد أوردت بعض الكتب المعنيّة بالفهارس والفنون بعض الأسماء إمّا متتالية أو متناثرة في طياتها. ومنها ابن النديم «في الفهرست ص ٥٦» في عرض تسمية الكتب المصنفة في تفسير القرآن ، فيقول : ـ

«كتاب الباقر محمّد بن علي بن الحسين ـ عليهم السلام ـ رواه عنه ابوالجارود زياد بن المنذر ، رئيس الجارودية الزيدية ، ونحن نستقصى خبره في موضعه. كتاب ابن عباس» (ويذكر رواته) ، ثم يذكر كتاب التفسير لابن ثعلب ، وبعده يقول : «كتاب تفسير أبي حمزة الثمالي ، واسمه ثابت بن دينار ، وكنية دينار أبو صفيّة. وكان أبوحمزة من أصحاب عليٍّ ـ عليه السلام ـ من النجباء الثقات ، وصحب أباجعفر ...».

أقول : نقل الشيخ الطوسي في تفسيره «التبيان» والعلامة الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» في كثير من الموارد عن تفسير أبي حمزة الثمالي ، مما يشير إلى أنّ هذا التفسير كان موجوداً آن ذاك.

وبادر العلماء بالقرآن إلى تفسيره جيلاً بعد جيل ، وكلّ منهم نحا منحىً في هذا المضمار ، فلم يدعوا ـ حسب مقدرتهم العلميّة ـ جانباً منه إلّا تحدّثوا عنه بما لديهم من طاقة وإدراك ، وما أروع كلمة العلّامة المحقّق السيّد الخوئي ـ قدّس سرّه ـ في كتابه «البيان ص ٢١» من مقدمة الطبعة الأُولى ، حيث يقول :

«على المفسر أن يجري مع الآية حيث تجري ، ويكشف معناها حيث تشير ، ويوضح دلالتها حيث تدلّ. عليه أن يكون حكيماً حين تشتمل الآية على الحكمة ، وخلقيّاً حين ترشد الآية إلى الأخلاق ، وفقيهاً حين تتعرض للفقه ، واجتماعياً حين تبحث في الاجتماع ، وشيئاً آخر حين تنظر في اشياء اخر.

على المفسر أن يوضّح الفن الذي يظهر في الآية ، والأدب الذي يتجلّى

٤

بلفظها ، عليه أن يحرّر دائرةً لمعارف القرآن ، إذا أراد أن يكون مفسّراً. والحقّ إنّي لم أجد من تكفّل بجميع ذلك من المفسّرين».

والحققة الملموسة في كتب التفاسير هي كما قرّره وحرّره شيخنا المحقّق الخوئيّ ـ قدّس الله نفسه الزكية ـ ، وأنّ كلَّ مفسّر التزم جانب رغبته وعلمه بالتفسير.

وبين يدي القارئ الكريم «تفسير الصافي» لعلّامة دهره ، ووحيد عصره ، الفقيه الفيلسوف ، والمتبحّر العارف ، محمّد المحسن بن مرتضى بن محمود المعروف بالفيض الكاشاني ، الذي نحافيه منحى الفلاسفة والعرفاء.

وكان ـ رحمه الله ـ من أعلام القرن الحادي عشر ، ذكره معاصره الشيخ الحرّ العاملي ـ قدّس سرّه ـ في كتابه «أمل الآمل : ٢ / ٣٠٥» فقال :

«المولى الجليل محمد بن مرتضى المدعوّ بمحسن الكاشاني. كان فاضلاً عالماً ماهراً حكيماً متكلّماً محدّثاً فقيهاً محقّقاً شاعراً أديباً ، حسن التصنيف ، من المعاصرين ، له كتب ، منها كتاب الوافي ، جمع الكتب الأربعة مع شرح أحاديثها المشكلة ، إلّا أنّ فيه ميلا إلى بعض طريقة الصوفية ، وكذا جملة من كتبه ، وكتاب سفينة النجاة في طريقة العمل ، وتفاسير ثلاثة : كبير وصغير ومتوسّط ...». ثم ذكر سبعة وعشرين من كتبه بأسمائها.

أقول : إنّ ما ذكره الشيخ الحرّ العاملي ـ رضوان الله عليه ـ في وصف كتبه من : «أنّ فيها ميلاً إلى بعض الطريقة الصوفية»قد يكون ناتجاً ممّا رآه من أسلوبه في الشرح والتفسير الذي نحافيه منحى العرفاء والفلاسفة ـ كما قلنا ـ وأنّه استعمل الكلمات المصطلحة لديهم ، متأثّراً بأستاذه صدر المتألّهين المعروف بملّا صدرا الشيرازي الذي ثنّيت له الوسادة في الفلسفة والعرفان ، فتراءى للشيخ العاملي ، أنّ فيها ميلاً إلى بعض الطريقة الصوفية. ولو أردنا أن نحتسب الجملة هذه باحتساب ما تعبّر كلّ كلمة منها عن المعنى الذي تحمله ، يتّضح لنا ما أراد الشيخ العامليّ.

ففي كلمة «ميل» معنى أقل بكثير من معنى الاتجاه ، فلو كان صوفيّاً ـ كما

٥

يدّعيه الصوفيون ـ لقال معاصره العامليّ : إنّ فيها اتّجاه إلى .... ، وكلمة «بعض» تشير إلى الجزئيّة التي تتجلّى في المصطلحات العرفانية التي طغت على كتاباته. ولولا ذلك لقال ـ رحمه الله ـ إلى الطريقة الصوفية ، ولما قيّدها بكلمة «بعض».

ولهذا نرى أنّ أصحابنا ـ قدّست أسرارهم ـ لم يجدوا فيه مغمزاً ، وأثنوا عليه غاية الثناء ، وأطروه بأحسن إطراء. ولنستعرض أقوال بعض هؤلاء الأعلام : ـ

١ ـ محمد باقر الخوانساري في روضات الجنات : ٦ / ٧٩ :

«اسمه كما يظهر من تقريرات نفسه محمّد ، وأمره في الفضل والفهم والنبالة في الفروع والاصول ، والإحاطة بمراتب المعقول والمنقول ، وكثرة التصنيف والتأليف مع جودة التعبير والترصيف ، أشهر من أن يخفى في هذه الطائفة على أحد إلى منتهى الأبد. وعمره كما استفيد لنا من تتبّع تصانيفه الوافره تجاوز حدود الثمانين ، ووفاته بعد الالف من الهجرة الطاهرة بنيف يلحق تمام التسعين ، ومرقده الشريف معروف بالكرامة والمقامة في دارالمؤمنين ...».

٢ ـ الأردبيليّ في «جامع الرواة : ٢ / ٤٢» :

«العلامة المحقق المدقّق ، جليل القدر ، عظيم الشأن ، رفيع المنزلة ، فاضل كامل أديب ، متبحّر في جميع العلوم ، له قريباً من مائةٍ تأليفات منها كتاب تفسير الصافي وكتاب الوافي ، وكتاب الشافي ملخص الصافي و ...».

٣ ـ الشيخ عبّاس القمّي في «الكنى والالقاب : ـ

«الفيض لقب العالم الفاضل الكامل العارف المحدّث المحقّق المدقّق الحكيم المتألّه محمد بن المرتضى المدعوّ بالمولى محسن الكاشاني. صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة كالوافي ، والصافي ، والشافي ، والمفاتيح ، و ...»

٤ ـ العلّامة الأميني في «الغدير : ١١ / ٣٦٢» قال عند ذكر ابنه «علم الهدى» : ـ

٦

هو ابن المحقق الفيض علم الفقه ، وراية الحديث ، ومنار الفلسفة ، ومعدن العرفان ، وطود الاخلاق ، وعباب الاعلام والمعارف.

هو ابن ذلك الفذّ الذي قلّ ما أنتج شكل الدهر بمثيله ، وعقمت الأيّام عن أن تأتي بمشبهه».

وكتابه «تفسير الصافي» هذا يعدّ من كتب التفسير المهمّة التي يعوّل عليها كلّ من تأخّر عنها. وها نحن نرى أنّ العلامة السيّد محمّد الحسين الطباطبائي قد أفاد كثيراً من تفسير الصافي ، واستشهد بأقوال مؤلّفه في تفسيره الميزان ، ومن يتصفّح تفسير الميزان ، يجد ذلك واضحاً. وهذا يدلنا على أهميّة تفسير الصافي ، والاعتماد على مؤلّفه.

وقد طبع هذا التفسير القيّم عدة طبعات في ايران بالقطع الرحليّ وبالطبعة الحجريّة ، ثم طبع في المطبعة الاسلامية بطهران بخط الهمداني ، وبعد ذلك طبع طبعة حديثة في بيروت ، ضمّ إليه تعليقات بيانيّة لنفس المؤلّف تحت رمز (منه) ، وتعليقات من كتاب أخرى تحت رموزٍ بمثل : ـ

م. ن = مجمع البيان في تفسير القرآن.

ق = القاموس للفيروزآبادي.

ص = الصحاح للجوهري.

وقد تصدّى أخيراً صديقنا الفاضل سماحة السيّد كاظم صدر السادات الدزفولي صاحب مكتبة الصدر في طهران ، الذي طالما وفّقه الله لإصدار الكتب الاسلامية المفيدة ، إلى طبع هذا الكتاب القيّم والتفسير البيّن ، بطبعته الحديثة ، وحلّته القشيبة هذه التي تتجلّى ميزتها عما سبقها من الطبعات ، بنصاعة الورق ، ووضوح الحروف ، والإخراج الفنّي ، والتجليد الحديث. كلّ ذلك خدمة للاسلام والمسلمين ، فحيّا الله روحه الاسلامية ، وأخذ بيده لما فيه الصلاح ، وكلّل مساعيه بالنجاح ، إنّه وليّ التوفيق.

طهران ٢٢ / جمادى الثانية ١٤١٥ هـ

عبّاس الترجمان

٧