شرح كتاب سيبويه - ج ٥

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٥

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٤٨٨

داينت أروى والديون تقضى

فمطلت بعضا وأدّت بعضا (١)

وكما لا تحذف ألف بعضا لا تحذف ألف تقضى".

قال أبو سعيد : بنى سيبويه ما يحذف من الألفات والياءات والواوات الأصليات في القوافي على ما يحذف منهن في الكلام إذا لم يكن أصليا ، فمن ذلك أن الألف التي هي يدل من التنوين إذا وقف عليها لا تحذف ، تقول رأيت زيدا ورأيت فرسا لا يحسن حذفه ، فإذا كان في قافية لم يحسن أيضا حذفه ، فإذا كان معه ألف أصلية جرت مجراها في أن لا يحسن حذفه مثل الألف في يقضي لا تحذف كما لا تحذف الألف في بعضا ، وأما المضموم والمكسور المنونان إذا وقفت عليهما لم تبدل منهما ياء ولا واوا ، كقولك : جاءني زيد ومررت بزيد فشبه الياء في يفري والواو في يحلو في حذفهما بحذف الواو والياء في الإبدال من التنوين في قولك :

جاءني زيد ومررت بزيدي فيمن يجريه مجرى الألف ، وهي لغة رديئة. ولو كنا نحذف الألف في رأيت زيد إذا وقفت عليه لجاز حذف ألف يخشى ، وينبغي على قياس من يقول : رأيت زيدا إذا وقف عليه أن يجيز حذف الألف في يخشي وذلك معنى قول سيبويه : " لو كانت تحذف في الكلام ولا تمد إلّا في القوافي لحذفت ألف يخشى". وقد ذكر سيبويه أن الشاعر إذا اضطر جاز له أن يحذف الألف وأنشد :

وقبيل من لكيز شاهد

رهط مرجوم ورهط ابن المعل

أراد المعلى. ومعنى قوله : " فإنما فعلوا ذلك بيقضي ويغزو ، لأن بناءهما لا يخرج عن نظيره إلا في القوافي" ، لأنه ليس في الكلام ما يبدل من تنوينه ياء ولا واو ، إنما يكون في القوافي كقولك : من حبيب ومنزلي ، وقولك :

طحابك قلب في الحسان طروبو (٢)

قال : " وزعم الخليل أن ياء يقضي واو يغزو إذا كانت واحدة منهما حرف الروي لم تحذف ، لأنها ليست بوصل حينئذ وهي حرف روي كما أن القاف في قوله.

وقاتم الأعماق خاوي المخترق (٣)

حرف الواو ، فكما لا تحذف هذه القاف لا تحذف واحدة منهما".

__________________

(١) البيت لرؤبة بن العجاج انظر ديوانه ٧٩.

(٢) قائله علقمة بن عبدة انظر ديوانه ٣٣.

(٣) قائله رؤبة بن العجاج انظر ديوانه ١٠٤.

٨١

وذلك نحو قوله :

ألم تكن أقسمت بالله العليّ

أنّ مطاياك لمن خير المطيّ (١)

فالياء حرف الروي ولا يجوز حذفها.

قال : وقد دعاهم حذف ياء يقض إلى أن حذف ناس كثير من قيس وأسد الواو والياء اللتين هما علامة المضمر ، ولم تكثر واحدة منهما في الحذف ككثرة ياء يقضي ، لأنهما تجيئان لمعنى الأسماء وليستا حرفين بنيا على ما قبلها ، فهما بمنزلة الهاء في :

يا عجبا للدهر شتّى طرائقه (٢)

وسمعت من يروي هذا الشعر من العرب ينشده :

لا يبعد الله أصحابا تركتهم

لم أدر بعد غداة البين ما صنع (٣)

يريد : صنعوا. وقال :

لو ساوفتنا بسوف من تحيّتها

سوف العيوف لراح الرّكب قد قنع

يريد : قنعوا. وقال :

طافت بأعلاقه خود يمانية

تدعو العرانين من بكر وما جمع

يريد : جمعوا.

وقال :

جزيت ابن أوفى بالمدينة قرضه

وقلت لشفّاع المدينة أوجف (٤)

يريد : أوجفوا.

فحذف الواو وهي ضمير الفاعلين في هذه الأبيات لأنه شبّهها بواو يغزو ، وحرف الروي العين ، وحذفها دون حذف واو يغزو في الحسن ، لأن الواو ها هنا اسم وواو يغزو حرف.

وقال عنترة :

يا دار عبلة بالجواء تكلم

__________________

(١) انظر خزانة الأدب ٤ / ٣٢٨ ، الخصائص ١ / ٣١٥.

(٢) قائله الراعي النميري انظر شرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٤٢.

(٣) قائل الأبيات الثلاثة ابن مقبل انظر ديوانه ١٦٨ ، ١٧٢ ، ١٧٠.

(٤) المصدر السابق ص ١٩٧.

٨٢

يريد : تكلّمي. وقال الخزز بن لوذان :

كذب العتيق وماء شنّ بارّد

إن كنت سائلتي غبوقا فاذهب

يريد : فاذهبي".

وحذف الياء في يفري أحسن من حذف الياء من تكلّمي واذهبي ، لأن الياء في تكلمي واذهبي ضمير المؤنث ، وهي اسم ، والياء في يفري حرف.

قال : " وأما الهاء فلا تحذف من قولك : شتّى طرائقه ، لأن الهاء ليست من حروف المدّ واللين".

وإنما جاز حذف الياء التي هي الضمير لأنها قد شبّهت بمثلها في اللفظ من حروف المد واللين كقوله :

" الحمد لله الوهوب المجزلي"

ويجوز المجزل ، وإذا كانت الألف ضميرا لم تحذف كقوله :

" خليلّي طيرا بالتفّرق أوقعا"

" فلم يحذف الألف كما لم يحذفها من تقضى".

قال : " واعلم أن الساكن والمجزوم يقعان في القوافي" ، يريد القوافي المتحركة المطلقة.

قال : " لأنهم لو لم يفعلوا ذلك لضاق عليهم ، ولكنهم ، توسعوا بذلك ، فإذا وقع واحد منهما في القافية حرك".

يريد بالساكن هو المبنى على السكون والمجزوم الفعل المستقبل.

" وليس تحريكهم إياه بأشذّ من إلحاق حرف المدّ ما ليس هو فيه ولا يلزمه في الكلام".

يريد أن الشعر قد أحوجهم أن يلحقوا الواو والياء والألف فيما لا يدخله ذلك في الكلام ، كقوله :

وأقفر من سلمى التعانيق فالثقلو

وقوله :

سواقي الموز والقطري.

فإدخالهم هذا المدّ كتحريكهم الساكن لكي يسمعوا ، وجعلوا حركة ذلك كسرا" كما أنهم إذا اضطروا إلى تحريك الساكن في التقاء الساكنين كسروا ، فكذلك جعلوها في

٨٣

القوافي المجرورة حين احتاجوا إليها ، كما أن أصلها في التقاء الساكنين الكسر ، وقال :

أغرك منّي أن حبك قاتلي

وأنك مهما تأمري القلب يفعلي (١)

ويفعل مجزوم لأنه جواب مهما.

" وقال طرفة :

متى تأتني أصبحك كأسا رؤيّة وإن

كنت عنها غانيا فاغن وازددي"

وأصل ازدد السكون.

ولو جاء هذا الساكن في قافية مرفوعة أو منصوبة كان إقواء ، وقال أبو النجم :

إذا استحثّوها بحوب أوحلي

وحل في الكلام مسكّنة" قال : " ويقول الرجل إذا تذكر ولم يرد أن يقطع كلامه : قالا ، فيمد قال ، ويقولوا فيمدّ يقول ، ومن العامي فيمدّ العام وسمعناهم يتكلمون به في الكلام ويجعلونه علامة يتذكر به ولم يقطع كلامه ، فإذا اضطروا إلى مثل هذا في الساكن كسروا ، سمعناهم يقولون : إنه قدي في قد ، ويقولون : ألي في الألف واللام يتذكر الحارث ونحوه. وسمعنا من يوثق به في ذلك. يقول : هذا سيفني يريد : سيف ، ولكنه يتذكر بعد كلاما ولم يرد أن يقطع اللفظ لأن التنوين حرف ساكن فيكسر كما يكسر دال قد".

" قال المفسر : احتج سيبويه في هذا الفصل لتحريك الساكن في القوافي بالكسر ، فقال المتذكر في كلام العرب إذا وقف على شيء متحرك وهو يتذكر ما بعده أتبعه حرفا من جنس الحركة ، فيقول في قال : قالا ، وفي يقول : يقولوا ، وفي العام : العامي ، فإذا كان ساكنا كسره واتبعه الياء ، كقوله : قدي في قد ، وألي إذا أردت أن تقول : الحارث أو القاسم أو الفرس ، فقال : ألونسى ما بعده فوقف متذكرا لما يصل به كلامه كسر الساكن وألحقه الياء ، وكذلك قال : سيفني ، لأن التنوين نون ساكنة ، وأراد أن يصله بكلام بعده فنسيه فوقف متذكرا له فكسر النون الساكنة التي هي التنوين وألحقها ياء" ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

قال أبو سعيد : اعلم أن سيبويه إنما ذكر وجوه القوافي في الإنشاد ليعلمك حكم اللفظ بأواخر الشعر في الوقف والوصل كما أعلمك في الأبواب التي قبلها في غير الشعر ، وذكر فصل ما بين الكلام والشعر في ذلك ، فكان ما ذكره منه على ما يوجبه النحو من

__________________

(١) البيت من معلقة امرئ القيس انظر ديوانه ١٣.

٨٤

حكم اللفظ بآخر الكلمة الموقوفة والموصولة لا على ما ينحوه أهل العروض والقوافي ، غير أن كلامه اشتمل على أسماء يختص بها علم القوافي دعاني إلى تفسيرها ذكره لها في جملة كلامه.

فمن ذلك القوافي ، وقد اختلف الناس في القافية على الحقيقة ما هي ، فقال الخليل فيما ذكره الأخفش وغيره : إن القافية آخر ساكن في البيت إلى أول ساكن يلقاه مع المتحرك قبل الساكن. وقال الأخفش : القافية آخر كلمة في البيت ، وقال غيرهما : القافية جميع ما يلزم الشاعر إعادته من حرف وحركة وأقل ذلك عنده حرف وحركة. وقال آخرون : القافية آخر حرف في البيت سواء كان زائدا أو أصليا أو حرف روي وصل أو خروج. وقال آخرون : آخر حرف أصلي في البيت. وقال آخرون : القافية هي حرف الرويّ وهو المختار عندي.

والظاهر من كلام سيبويه أنه مذهبه ، وذلك أنه قال : " ولو لم يقفوا إلّا بكل حرف فيه حرف مدّ لصاق عليهم" ، يريد لو لم يقفوا إلا بكل متحرك يعني حرف الروي فإذا كان التقفية بحرف الروي فهو قافية ويدل على أن حرف الرويّ هو القافية أنه يلزم آخر كل فن من الشعر كما أن القافية يلزم آخر كل فنّ منه ، وقد يخلو آخر الشعر مما سوى حرف الروي من التأسيس والردف والوصل والخروج ، ويدل أيضا على ذلك أنه لا تدافع بين أهل الصناعة أن يقول القائل : ما قافية هذه القصيدة فيقال له الياء أو الدال أو غير ذلك ، يريدون به حرف الروي ، وليس أحد منهم يقول الدال وشيء آخر. ويقولون إذا نسبوا القصائد إلى قوافيها هي قصيدة دالية.

ولامية أو ما أشبه ذلك. فإن قال قائل : لو كان حرف الرويّ هو القافية لجاز أن يأتي المردف أو المؤسس مع ما ليس بمردف ولا مؤسس ، إذا كان حرف الروي فيهما واحدا ، فالجواب في ذلك أن يقال : أن الشاعر قد يلزمه حراسة أشياء إذا ابتدأ شعره عليها ويحتاج إلى لزومها إذا كرّر ، وليست تلك الأشياء كلها بقافية كالوزن الذي يلزمه أن يأتي به وليس بقافية ، فكذلك الرّدف والتأسيس وما جرى مجراهما ، غير أن الذي يلزم الشعر عامّا الوزن والقافية التي هي حرف الروي. وأما قول الخليل على ما حكى عنه فلا دليل عليه ولا رأيت أحدا ينصره ويذهب إليه ، وبعض الناس غلط الحاكي عنه ، وذكر أنه توهّم على الخليل غير الذي أراده. وأما قول الأخفش إنه آخر كلمة في البيت فإنه احتجّ لذلك بأن شاعرا لو قال لك اجمع لي قوافي لجمعت له كلمات نحو سلام وغلام ، وكذلك لو قال شعرا إلّا الأخيرة لقيل قد بقيت القافية ، واحتجّ أيضا بأن القافية لو كانت هي الحرف

٨٥

يعني حرّف الروي لكان يجوز أن يأتي المردف وغيره والمؤسس في قصيدة واحدة ، ولكان قول العجاج :

وخندف هامة هذا العالم

غير معيب في القصيدة التي أولها :

يا دار سلمى يا اسلمي ثم أسلمي

بسمسم أو عن يمين سمسم

لأن القافيتين متفقتان إذا كانتا ميمين. واحتج أيضا بأن حرف الروي لو كان هو القافية لكان لا يؤنث ، لأن الحرف مذكر والقافية مؤنثة.

قال أبو سعيد : كأن عنده أن القافية هي الكلمة للقافية لما قبلها ، تقفوه تتبعه. وقال : أما قول الأخفش : لجمعت له كلمات فليس ذلك من أجل.

إن الكلمة هي القافية ، ولكن حرف الروي لا يقوم بنفسه ، وإنما يكون في كلمة فتجمع الكلمات من أجل ذلك ، وكذلك إذا بقيت كلمة فإنما يقال بقيت القافية ، لأن حرف الروي في الكلمة ، وأما قوله لو كانت القافية الحرف لجاز أن يكون في القصيدة مردف وغير مردف ، ومؤسّس وغير مؤسّس فقد تقدم ما يكون جوابا لهذا.

وأما قوله : إن الحرف مذكر والقافية مؤنث ، فكل حرف من حروف المعجم الأغلب عليه التأنيث كقولنا : ياء حسنه وكاف مكتوبة وما أشبه ذلك ، كما قال الشاعر :

كما بيّت كاف تلوح وميمها

ومما يدل على ما ذكرناه أن ما يلزم إعادته يحتاج أن يكون معلوما أو كالوزن المعلوم عدّة حروفه وترتيب حركاته وسكونه وما يجوز فيه من الزحاف ، وكحروف الروي المعلومة وكاللواحق المعلومة من التأسيس والردف والوصل والخروج.

وإذا كانت القافية كلمة فهي غير معلومة لتباين ما بين طولها وقصرها ، ويدخل عليه أيضا أن يقال : إذا كانت القافية هي الكلمة الأخيرة ، فقول زهير :

من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا

ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى

بدا لي أني لست مدرك ما مضى

ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا

فالكلمة الأخيرة في البيت الأول ليا وليس فيها تأسيس ، والكلمة الأخيرة في البيت الثاني جائيا وهي مؤسسة. وأما الذي قال أن القافية هي ما يلزم الشاعر إعادته من حرف أو حركة أو أكثر من ذلك ، فقد تقدم فيما ذكرناه من الاحتجاج مما يدل على بطلان قوله ، ومن مذهب هذا القائل أن أقلّ ما يلزم الشاعر حرف وحركة ، وذلك أنه يقول : إذا

٨٦

كان ما قبل حرف الروي متحركا لزم الشاعر الحركة التي قبله ، إن كانت فتحة لم يجز أن يأتي بغيرها ، وتسمى هذه الحركة التوجيه وإن كانت ضمة أو كسرة جاز له أن يأتي بالضم والكسر جميعا في قصيدة واحدة يتناوبان فيهما ، ولا يجوز معهما الفتح بمنزلة الواو والياء في الردف ، ولا يجوز معهما الألف. وزعم أنه من جمع بين الفتح والكسر ، أو الفتح والضم فقد أخطأ ، وأن رؤبة قد أخطأ في قوله :

ألّف شتّى ليس بالراعي الحمق

وقوله : مضبورة قرواء هرجاب فتق.

في قصيدته التي أولها :

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

وأن بيت امرئ القيس :

إذا ركبوا الخيل واستلأموا

تحرّقت الأرض واليوم قرّ

في قصيدته التي أولها :

لا وأبيك ابنة العامري

لا يدّعي القوم أني أفرّ

أخطأ ، وذكر أنه يروى : واليوم قرّ واليوم صرّ ، وأن ذلك أولى بأن ينسب إلى امرئ القيس ، ورأيت هذا القائل يعتقد أن ذلك نادر لا يوجد مثله ولم يوجد غير الذي ذكره ، وهذا يدل على قلة تفتيش لأشعار العرب المتقدمين ، وقد ذكرت لثلاثة من الشعراء ليسوا كلهم مكثرين ما استطلت أن أذكر أكثر منه مما جمعوا فيه بين المفتوح والمكسور والمضموم ، على أني لا أنكر أن لزوم الفتح إذا ابتدئ به أحسن ، ولزوم الضم والكسر للمبتدئ به أحسن ، كما يكون في اللفظ وجهان يختار أحدهما على الآخر ، ولا يكون الآخر خطأ ساقطا. قال عدي بن زيد العبادي :

طال ذا الليل علينا واعتكر

وكأنّي ناذر الصبح سمر

من نجي الّهم عندي ثاويا

بين ما أعلن منه وأسر

وقال في أخرى :

قد حان أن تصحو أو تقصر

وقد أتى لما عهدت عصر

ثم قال :

قد فاض فيه كالعهون من ال

أرواح لما أن علاه الزّهر

٨٧

أهبطته بالعتد الأجرد

فيه سهمة وضمر

فهو مثل السيد يفزعه النقر والصفر إذا يصفر.

وقال المرقش الأكبر :

هل تعرف الدار عفا رسمها

إلّا الأثافّي ومبنى الخيم

ثم قال :

أمست خلاء بعد سكانها

مقفرة ما إن بها من أرم

وقال أيضا :

أتتني لسان بني عامر

فجلّت أحاديثها عن بصر

بأن بني الوخم ساروا معا

بجيش كضوء نجوم السّحر

ثم قال :

وكأنّ بجمران من مزعف

ومن رجل وجهه قد عفر

ويروى : منعفر ، وقال الأعشى :

وبها خشيم إنه يوم ذكر

وزاحم الأعداء بالثبّت الغدر

في قصيدة أولها :

كونوا كسمّ ناقع فيه الصّبر

وارجها إذا ما ضيّع القوم الّدبر

وقال أيضا الأعشى في قصيدة لامية أولها :

أقصر فكلّ طالب سيمل

إذ لم يكن عن الحبيب عول

علقتها بالشيطين فقد

شقّ علينا حبّها وشغل

ثم قال :

تجري السّواك بالبنان على

ألمي كأطراف السيال رتل

ترقى إليه من جهينة مجتاب

المسوك وفي الهضاب وقل

وفيها :

متى القتود والفتيان بأل

واح شداد تحتهن عجل

آنس طملا من حدبلة مش

غوفا بنوه بالسما رغيل

٨٨

وقال :

لعمرك ما طول هذا الزّمن

على المرء إلّا عناء معن

وفيها :

وبيداء قفر كبرد السّدير

مناهلها داثرات أجن

فهذه الأبيات قد اجتمع وفيها المفتوح مع المكسور والمضموم على ما ذكرنا من جواز ذلك وكثرته وإنّ كان لزوم الفتح فيه أجود.

وقال المجبر السلولي في قصيدة طويلة نحو مائة وعشرين بيتا موقوفة حركة ما قبل حرف الروي منها كأنها نصفان : نصف فتح ونصف ضم وكسرة وأولها :

يا أخويّ من معد عرّجا

فحيّيا الرّبع كأعشار الخلق

ثم سلاة لي سؤالا نافعا

إن بين القوم الجواب أو نطق

وما سؤال الرّبع قد غيّره

تتابع الأضياف والهوج الخرق

طاوي المراض بحتري بالضّحى

أقب مجلود رفليّ يلق

بذله الربع وقد تغّنى به

أوانس مثل الغمامات البسق

يرتاده كل رفل هيكل

كأنه محجاب دياج لهق

وأما الذي يقول أن القافية آخر حرف في البيت إذا لم يكن بعده شيء ، رويا كان أو وصلا أو خروجا فقد ذكره الأخفش أن تسمية الوصل والخروج قافية على المجاز ، لأنه آخر الحروف وهو يقفو جميع ما قبله ، أي يتبعه ، وإنما سميت القافية من البيت لاتباعها ما قبلها من أوله. وذكر الأخفش أنه رأى العرب إلى ذلك يذهبون ؛ هذا ـ كما ذكر الأخفش ـ مجاز ، كما استجازوا تسمية غير ذلك بالقافية مما يوزن بلام الفعل ، فإن ذلك بين الفساد ، لأنا نرى القصيدة حرف الروي في بعض أبياتها لام الفعل ، وفي بعضها غيره ، ومن ذلك قول الأعشى :

لعمرك ما طول هذا الزّمن

على المرء إلّا عناء معنّ

فالنون في معن حرف الروي وهي عين الفعل ، وأصلة معنى مفعل ، والياء من معنى لام الفعل ، وقد أجمعوا أن الياء المحذوفة التي هي لام الفعل غير داخلة في الروي ولا في القافية. ثم قال :

٨٩

يظّل رجيما لريب المنون

وللسقم في أهله والحزن

فالنون لام الفعل في هذا البيت ، فقد صار حرف الروي في أحد البيتين عين الفعل ، وفي الآخر لامه ، وفي القصيدة نون زائدة لا هي عين الفعل ولا لامه ، وذلك قوله :

فهل يمنعني ارتيادي البّلاد

من حذر الموت أن يأتين

والنون زائدة لأن معناه يأتيني ، والياء للمتكلم. وقال رؤبة :

يا أيّها الكاسر عين الأغضن

والقائل الأقوال ما لم يرني

وفيها :

من كلّ رعشاء وناج رعشن

فالقصيدة نونية ، والنون في الأغضن لام الفعل ، وفي يرني ليست من الكلمة في شيء ، لأن النون زائدة والياء ضمير المتكلم متصل ببرني وهو فعل مجزوم ورعشن فعلن ، لأنه من الارتعاش والنون زائدة والشين التي هي لام الفعل لا حكم لها في القافية ولا يلزم إعادتها ، والشواهد في إبطال هذا كثيرة وقد ذكر الأخفش عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن النصف الأخير بأسره هو القافية ، فهؤلاء قسموا البيت نصفين فجعلوا النصف الثاني قافية لأنه يتبع الأول ، وقد انطوى كلامنا على تحقيق القافية بما أغنى عن إعادتنا الكلام في هذا ، وقد اتسعت العرب في تسمية القافية ، فمنهم من سمى القصيدة قافية ، ومنهم من سمى البيت قافية ، ويمكن أن يكون ذلك لأن في كل بيت قافية ، فسمى باسم ما لا يفارقه ، وهذا كثير في كلام العرب ، فأما تسمية القصيدة قافية فقد حكى الأخفش أنه سمع عربيا يقول عنده قواف كثيرة ، فقلت : وما القوافي؟ قال : هي القصائد. قال : وسمعت آخر فصيحا يقول : القافية القصيدة ، وأنشد :

وقافية مثل حد السّنان تبقى

ويهلك من قالها (١)

وقال حسان :

فنحكم بالقوافي من هجانا

ونضرب حين تختلط الدّماء

يريد نحكي بالقصائد ، وقال جرير يهجو البعيث :

لقد سرى لحب القوافي بأنفه

وعلب جلد الحاجبين وشومها

__________________

(١) البيت للخنساء ترثي أخاها صخرا انظر الديوان ١٢٢.

٩٠

وقال آخر :

نبئت قافية قيلت تناشدها

قوم سأترك في أعراضهم ندبا

وأما تسمية البيت قافية فقد قيل أن بيت عبد بني الحسحاس :

أشارت بمدراها وقالت لتربها

أعبد بنى الحسحاس يزجى القوافيا

يريد يعمل قصيدة يزجى أبياتها ، أي ينظمها ويسوقها. وفي قول الفرزدق :

إذا ما قلت قافية شرودا

تنحلها ابن حمراء العجان

قال أبو عبيد : إن البعيث وهو ابن حمراء العجان لما قال جرير :

أترجو كليب أن يجيء حديثها

بخير وقد أعيا كليبا قديمها

سرقه الفرزدق ، وقد كان الفرزدق قال قبل ذلك :

أترجو ربيع أن يجئ صغارها

بخير وقد أعيا ربيعا كبارها

وأما حرف الروي فحرف مجمع عليه وتختلف عبارات الناس عنه وتحديدهم له وأصح ذلك أن يقال هو الحرف الذي لا يخلو منه جميع فنون الشعر ، وقد يخلو من الإطلاق وقد يخلو من التقييد والردف والتأسيس وغير ذلك مما هو سوى حرف الروي ، وهو القاف في :

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

واللام في :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعزى أفراس الصّبا ورواحله

ورأيت الأخفش لا يفرق بين الروي وبين حرف الروي بل الأغلب في عبارته الروي ، وترجم في كتاب القوافي في هذا باب ما يكون رويا من الياء والواو والألف ، ويقويه قول النابغة :

بحسبك أن تهاض بمحكمات

يمر بها الرّوي على لساني

فسر الرواة أن الروي هو القافية ، ورأيت بعض المحدثين يذكر أن الرويّ غير حرف الروي ، يقول : أن الروي هو جملة ما به قوام الشعر من الوزن والقافية فيقال قصيدة كذا على روي قصيدة كذا إذا اتفقنا في الوزن والقافية ، فإن اتفقنا في أحدهما دون الآخر لم يقل إنهما على روي واحد ، وقد ذكر أن الروي ما يحمل أشعار العرب من الوزن والقافية ، وأنه سمي رويا لحمله الشعر ، وحمله له أنه لا يتم إلا به ، قال : وإن قيل لحامل

٩١

الأشعار راوية للشعر وكحامل لغة العرب راوية لغة لحملهما ما حملا من ذلك ، وليس الأمر عندي كما قال بل اشتقاق ذلك عندي من شد الحبل على الشيء وضبطه به ، ويقال للحبل الرواء ، وجمعه أروية ، ويقال روي فوقه وروي عليه إذا شد فوقه الحبل ، قال الطرماح :

مزايد خرقاء اليدين مسيفة

يخب بها مستخلف غير آين

روى فوقها راو عنيف وأقصيت

إلى الحنو من ظهر القعود المداجن

يريد أنه شد الحبل فوقه ، وإنما قيل راوية للشعر واللغة وغير ذلك ، لأنه قد ضبط ما يرويه وشده ، وكذلك الروي هو الذي ينعقد به الشعر. وروى أهل اللغة هذا الشعر على قرء وقرئ واحد ، أي على روي واحد ، والقرء ضم الشيء كأنه هو الذي ضم الشعر ، وهو نحو معنى الروي.

هذا باب عدة ما يكون عليه الكلم

" فأقل ما تكون عليه الكلمة حرف واحد ، وسأكتب لك ما جاء على حرف بمعناه إن شاء الله تعالى".

قال أبو سعيد : هذا الباب لا يحتاج إلى كبير تفسير ، لأنه يجري مجرى اللغة ، وأنا أسوق كلامه ، وأذكر بعض ما لم يذكره ، وإن كان فيه شيء يحتاج إلى إيضاح أوضحته في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد اشتمل هذا الباب على حروف وأسماء وليس في الكلام فعل على حرف.

قال : " أما ما يكون قبل الحرف الذي يجاء به له فالواو التي في قولك : مررت بعمرو وزيد إنما جئت بالواو لتضم الآخر إلى الأول وتجمعهما ، وليس فيه دليل على أن أحدهما قبل الآخر ، والفاء وهي تضم الشيء إلى الشيء كما فعلت الواو ، غير أنها تجعل ذلك متسقا بعضه في إثر بعض ، وذلك قولك : مررت بزيد فعمرو فخالد ، وسقط المطر مكان كذا فمكان كذا ، وإنما يقرو أحدهما بعد الآخر".

يريد إنما يقرو المطر أحدهما بعد الآخر ، ومعنى يقرو يتبع.

" وكاف الجر التي تجيء للتشبيه ، وذلك قولك : أنت كزيد ، ولام الإضافة ومعناها الملك واستحقاق الشيء ، ألا ترى أنك تقول : الغلام لك والعبد لك ، فيكون في معنى هو عبدك وهو أخ لك ، فيصير نحو : هو أخوك ، فيكون مستحقا لهذا كما يكون مستحقا لما يملك".

٩٢

وإنما ذكر سيبويه الملك والاستحقاق ، لأن بعض ما تدخل عليه اللام لا يحسن أن يقال إنه يملك ما أضيف إليه ، وبعضه يحسن. فأما الذي يحسن فقولك : " دار زيد" المعنى" ملك الدار لزيد" ، والذي لا يحسن أن تقول زيد صاحب الدار ، والله رب الخلق ورب للخلق ، فالخلق يستحقون أن يكون الله ربهم ، ولا يقال إنهم يملكون ، ولا يقال أن الدار مالكة لصاحبها ، وهذه اللام تسمى لام الإضافة.

قال : " وياء الجر إنما هي للإلزاق والاختلاط ، وذلك قولك : " به داء" ودخلت به وضربته بالسوط ، ألزقت ضربك إياه بالسوط ، فما اتسع من هذا في الكلام فهذا أصله".

قال أبو سعيد : وإنما قال هذا لأنه قد يستعمل بالباء ما لا يكون إلزاقا كقولك : مررت بزيد ولم يلتزق المرور به ، وإنما تريد أن المرور قد التزق بالموضع الذي يقرب منه ويقع فيه مشاهدته والإحساس به.

قال سيبويه : " والواو التي تكون للقسم بمنزلة الباء ، وذلك قولك : والله لا أفعل ، والتاء التي في القسم بمنزتها وهي تالله لأفعلن ، والسين التي في قولك : سيفعل ، وزعم الخليل أنها جواب قوله لن يفعل ، وألف الاستفهام ولام اليمين التي في لأفعلن".

وهذه الحروف كلها حروف غير أسماء ، وكاف التشبيه هي حرف في الأصل وإن كانت استعملت اسما بمعنى مثل في بعض المواضع. وذكر بعض الناس وزيادة على ما ذكره منها الميم في م الله والتنوين والنون الخفيفة ، وهذه حروف مفردة ، وهذا الذي ذكره الذاكر ليس فيه استدراك ، لأن سيبويه إنما يدخل التنوين والنون في أوائل الكلم عليها ، ولا يدخل في ذلك التنوين وإنما يدخل التنوين والنون الخفيفة والتاء التي للتأنيث فيما يلحق آخر الكلمة. وأمام الله فبعض يقول إنما من حذفت منها النون ، وبعض يقول إنها الميم من يمين ، وبعض يقول إنها الميم من أيم الله وتضم فيقال م الله. ثم ذكر ما كان على حرف مما هو اسم وغير اسم يلحق آخر الكلمة ، فمن ذلك الكاف في رأيتك وغلامك والتاء التي في فعلت وذهبت والهاء التي في عليه ونحوها وذلك كله أسماء.

قال : " وقد تكون الكاف غير اسم ولكنها تجيء للمخاطبة ، وذلك نحو كاف ذاك ، فالكاف هاهنا بمنزلة التاء في فعلت فلانه ونحو ذلك. والتاء تكون بمنزلتها وهي التاء في أنت".

فهذه حروف ، أعني الكاف في" ذاك" ، والتاء في" فعلت" وفي" أنت" قال : " واعلم

٩٣

أن ما جاء من الكلام على حرف واحد قليل ، ولم يشذ عنا منه شيء ، وذلك لأنه عندهم إجحاف أن يذهب من أقل الكلام عدد حروف وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى".

قال أبو سعيد : معنى هذا أن أصل الكلام الأسماء الظاهرة التي تقع تحتها الأشياء ووضع كل واحدة منها على شيء كالميم له ، وأقل الأسماء حروفا ما كان على ثلاثة أحرف ، فكرهوا أن يختل الاسم بذهاب حرفين وبقاء واحد.

قال : " اعلم أنه لا يكون اسم مظهر على حرف أبدا ، لأن المظهر يسكت عليه وليس قبله شيء ولا يلحق به شيء ولا يوصل إلى ذلك بحرف ، ولم يكونوا ليجحفوا بالاسم فيجعلوه بمنزلة ما ليس باسم ولا فعل ، وإنما يجيء لمعنى".

يريد أن الاسم الظاهر يجوز أن ينفرد اللفظ به ، وأقل ما ينفرد به حرفان لأنه لابد من أن يبتدئ بمتحرك ويوقف على ساكن ، وإنما وجب أن ينفرد اللفظ بالاسم الظاهر أن سائلا لو سألك عن الاسم المسمى باسم فقال : ما اسم هذا لأوردت اسمه ، فإن كان على حرف لم يستقم لما عرفتك من الاحتياج إلى متحرك في الابتداء وساكن في الانتهاء.

قال : " فالاسم أبدا له من القوه ما ليس لغيره ، ألا ترى أنك لو جعلت في ولو ونحوهما اسما ثقلت".

يعني وجب أن ثقلهما فتقول : في ولو ، كما قال :

إن لوا ذاك أعيانا (١)

وإنما صارت علامة الإضمار حرفا في بعض المواضع لأنها ليست بأول ، وليست بالاسم الموضوع للمسمى تمييزا لنوع من نوع أو لشخص من شخص ، فأشبه الضمير الحرف الذي ليس باسم ولا فعل.

قال : " ولم يكونوا ليخلوا بالأول وهو المظهر إذ كان ذلك قليلا في سوى الاسم المظهر".

يريد أن ما كان سوى الاسم المظهر من الحروف والأسماء المكنية على حرف واحد قليل جدا يعد ويحصى بأهون التكلف ، فلم يستقم أن يكون المظهر على حرف ، وإنما كان الاسم الأول لأنه لا يستغنى عنه في شيء من الكلام ، وقد يستغنى عن الفعل

__________________

(١) قائله النمر بن تولب انظر ديوانه ١٢٠ ، المخصص ١٧ / ٥٠.

٩٤

والحرف ، تقول : الله ربنا ومحمد صلّى الله عليه نبينا ، وليس فيه فعل ولا حرف ، ويتلو الاسم الفعل لأن الكلام ينعقد بالاسم والفعل ولا ينعقد بالاسم والحرف ، كقولك : يقوم زيد ويذهب عمرو ، ولا يستغنى الحرف عنهما ولا يستغنى به الاسم كاستغنائه بالفعل ، ولا تقول إن زيدا ، ولا زيد فإن قال قائل : فأنت تقول زيد في الدار ، والغلام لك ، فإن هذا الكلام قد اجتمع فيه اسمان ، ومع ذلك فإن الحرف يقدر له فعل كأنه قال : زيد استقر في الدار ، والغلام استقر لك. وأما قولهم : يا زيد فإنما يقدر فيه أدعو زيدا ، ونابت يا عن أدعو ، وهذا مستقصى في النداء".

قال : " ولا يكون شيء من الفعل على حرف واحد لأن منه ما يضارع الاسم وهو يتصرف ويبنى أبنيه وهو الذي يلي الاسم ، فلما قرب هذا القرب لم يجحف به إلا أن تدرك الفعل علة مطردة في كلامهم في موضع واحد وتصيره على حرف واحد ، فإذا جاوزت ذلك الموضع رددت ما حذفت ، ولم يلزمها أن تكون على حرف واحد إلا في ذلك الموضع ، وذلك قولك : ع كلاما".

وإنما صار الفعل هكذا لأنه كالاسم الظاهر ، لأن أحدهما مشتق من الآخر وله مصدر وفاعل ومفعول وكل ذلك أسماء وهي تتصرف بالأبنية ، والأبنية مختلفة ، فعل وفعل وفعل وما أشبه ذلك مما يحتاج إلى حروف يتبين فيها اختلاف الأبنية ، وفيها الذي في أوله الزوائد الأربع وهو أكثر من حرف ، وإنما يجيء في بعض المواضع على حرف واحد ما فاؤه ولامه معتلّان ، كقولنا : ع كلاما ، وف لزيد ، وق أخاك ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم القول فيه.

قال سيبويه : " ثم الذي يلي ما يكون على حرف ما يكون على حرفين ، وقد يكون عليهما الأسماء المظهرة المتمكنة والأفعال المتصرفة وذلك قليل لأنه إخلال عندهم بهن لأنه حذف من أقل الحروف عددا ، فمن الأسماء التي وصفت لك يد ودم وفم وحر وسه وست وهي الاست ، ودد وهو اللهو".

قال أبو سعيد : وفيه ثلاث لغات : دد مثل يد ، وددا مثل عصا ، وددن مثل شجن. قال الشاعر :

أيّها القلب تعلل بددن

إنّ همي في سماع وأذن (١)

__________________

(١) قائله عدي بن زيد انظر كتاب عدي بن زيد الشاعر المبتكر ٤٦ ، اللسان" ددن".

٩٥

" فإذا ألحقتها الهاء كثرت لأنها تقوى وتصير عدتها ثلاثة أحرف. فأما الأفعال التي على حرفين فنحو خذ وكل ومر ، وبعض العرب يقول أو كل فيتم".

ولا أعلم أحدا حكاه غير سيبويه في هذا الموضع ، وقد كنت ذكرت في أول الكتاب بيتا فيه أوخذ. وأما أومر فمستعمل كثير ، ومنه قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ)(١) ، ومن قال في خذ وكل أوخذ وأوكل كمن قال في غد غدو على الأصل ، وهذا الذي ذكره على حرفين في الأسماء والأفعال هو جميع ما جاء في كلامهم محذوفا من هذا الضرب.

" فإن كان شذ شيء فقليل ، إلا أن تلحق الفعل علة مطردة في كلامهم ، فتصيره على حرفين في موضع واحد ، ثم إذا جاوزت ذلك الموضع رددت إليه ما حذف منه ، وذلك قولك : قل وإن تق أقه".

وللمعارض أن يقول : لم قلت أن خذ وكل ومر إنما لحقه الحذف في الأمر وإن كان الفعل ماضيا أو مستقبلا فلا غير الأمر لم يلحقه حذف ؛ لأنك تقول أمر يأمر وأكل يأكل ، والفصل بينهما ما ذكره سيبويه أن هذه الأفعال لا يحذف من مثلها ما حذف منها ، ولا يطرد في غيرها الحذف ، لا تقول في أجر يأجر وأمل يأمل : جر ومل ، كما تقول في كل ما كان على مثل قال يقول ما قلت في قل ، تقول : قم وجز ورم في رام يروم ، وكذلك أخوات أن تق أقه.

قال : " وما كان فيه الهاء من الأسماء على حرفين أكثر مما لم تكن فيه الهاء ، لأنه قد قوي بالهاء نحو : قلة وثبة ولثة وشية وشفه وزنة وعدة وأشباه ذلك".

وما كان فيه الهاء من الثلاثة أكثر مما حذف منه حرف ، لأن التمام هو الأصل.

قال : " ولا يكون شيء على حرفين صفة حيث قل في الاسم وهو الأول الأمكن".

يعني أن الاسم قبل الصفة وهو أمكن منه ، فلما قل فيه ما هو على حرفين فجاء منه أحرف" معدود" لم يقع شيء منه في الصفة.

قال : " وقد جاء على حرفين ما ليس باسم ولا فعل كالفاء والواو ، وهو على حرفين أكثر لأنه أقوى ، وهو في هذا أجدر أن يكون ، إذ كان يكون على حرف ، وسنكتب ذلك بمعناه إن شاء الله".

__________________

(١) سورة طه ١٣٢.

٩٦

يريد أنه جاء من الحروف على حرفين وهو أكثر مما جاء على حرف واحتمل مجيئه على حرفين لأنه قد جاء منه على حرف ولا تصرف له فيحتاج إلى تكثير الحروف.

فمن ذلك أم وأو وقد بين معناهما في بابهما وهل وهي للاستفهام ، ولم وهي نفي لقوله فعل ولن وهي لقوله سيفعل ، وإن وهي للجزاء فتكون لغوا في قولك : ما أن يفعل.

وما أن طببنا جبن (١)

قال أبو سعيد : قوله" وتكون أن لغوا في قوله ما أن يفعل" فإن الفراء يقول إنهما جميعا للنفي ، وزاد على ذلك بأنه يقال : إن ما ، فتكون الثلاثة للجحد ، وأنشد :

إلا أواري لا إن ما أبينها

والذي قاله عندي فاسد ، لأن الجحد إذا دخل على جحد صار إيجابا ، فإذا قلنا : ما أن قام زيد ، وجعلناهما جميعا للجحد صار الكلام إيجابا ، والذي قاله أصحابنا هو صحيح ، لأنهم جعلوا أحدهما لغوا واعتمدوا بالجحد على الآخر. وأما البيت الذي أنشده فرواية الناس" لأيا ما أبينها".

" وأما إن مع ما في لغة أهل الحجاز فهي بمنزلة ما في قولك : إنما الثقيلة تجعلها من حروف الابتداء".

يعني أن ما إن زيد قائم في لغة بني تميم تكون إن فيها لغوا وتأكيدا على ما ذكرناه ، لأنهم لا يعملون ما ، وأما في لغة أهل الحجاز فإن تكون كافة لما من العمل حتى يكون ما بعدها مبتدأ وخبرا ، كما تدخل" ما" على" إن" فيليها الابتداء ، كقولك : إنما زيد قائم.

قال : " وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل ، وتكون بمنزلة ليس في المعنى ، تقول عبد الله منطلق ، فتقول : ما عبد الله منطلق أو منطلقا ، فتنفي بهذا اللفظ كما تقول : ليس عبد الله منطلقا ، وتكون توكيدا لغوا ، وذلك قولك : متى ما تأتني آتك ، وتقول : غضبت من غير ما جرم ، وقال الله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(٢) ، فهي لغو في أنها لم تحدث إذا جاءت شيئا لم تكن قبل أن تجيء من العمل ، وهي توكيد للكلام".

__________________

(١) قائله فروة بن مسيك المرادي الصحابي ، انظر الوحشيات ٢٨ ، الخصائص ٣ / ١٠٨ ، ابن يعيش ٨ / ١٢٩.

(٢) سورة النساء الآية : ١٥٥.

٩٧

قال المفسر : قد بيّن سيبويه عن معنى اللغو في الحرف الذي يسمونه لغوا وميز أنه للتوكيد لئلا يظن إنسان أنه دخل الحرف لغير معنى البتة ، لأن التوكيد معنى صحيح.

قال : " وقد تغير الحرف" يعني" ما" حتى يصير يعمل بمجيئها غير عمله الذي كان قبل أن تجيء ، وذلك قولك إنما وكأنما ولعلما جعلتهن بمنزلة حروف الابتداء".

يعني جعلت ما إن وكأن ولعل بدخولها عليهن يليهن الابتداء والخبر." ومن ذلك حيثما صارت بمجيئها بمنزلة أين.

قال أبو سعيد : يعني صارت حيث بمجيء ما مما يجازي به فتقول : حيثما تكن أكن ، كما تقول : أين تكن أكن ، ولا يجوز أن تقول حيث تكن أكن بغير ما.

قال : " وتكون إن كما في معنى ليس" كقوله تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)(١).

قال : " وأما لا فتكون كما في التوكيد واللغو ، قال الله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(٢) ، وتكون نفيا لقوله يفعل ، ولم تقع للفعل ، فتقول لا يفعل".

يريد أن لا يفعل وهو نفي فعل مستقبل ، والتي تنفي فعل الحال هو ما إذا قلت ما تفعل.

قال : " وقد تغير الشيء عن الحال".

يعني كما تفعل ما ، وذلك : لو لا صارت لو في معنى آخر ، كما صارت حين قلت : لو ما تغيرت كما تغيرت حيث بما وإن بما.

قال أبو سعيد : يريد أنك تقول : لو جئتني لأكرمتك ، ويكون معناها أن الكرامة انتفت لانتفاء المجيء ، فإذا زدت عليها لتغيّر معنى هذا إلى شيئين : أحدهما أن ينتفي الشيء بحضور غيره ، كقولك : عبد الله لأكريتك والآخر أن يكون خصيصا كقولك : لو لا زيدا تضرب ، ولو ما زيدا تضرب ، وهلا زيدا تضرب ، وإلا زيدا تضرب ، ومعناها كلها واحد ، وإنما كان الأصل لو وهل ، وإن دخلت عليها هذه الحروف فغيرت معناها.

قال : " وقد تكون لا ضدا لنعم وبلى ، وقد بيّن أحوالها في باب النفي.

قال : " وأما أن فتكون بمنزلة لام القسم في قوله : أما والله أن لو فعلت لفعلت ، وقد بينا ذلك في موضعه.

__________________

(١) سورة الملك الآية : ٢٠.

(٢) سورة الحديد الآية : ٢٩.

٩٨

قال أبو سعيد : يعني أنّ تكون جوابا للقسم إذا أقسم على شيء في أوله لو ، ولا تكون جوابا له في غير ذلك.

" وتكون توكيدا في قولك : لما أن فعل".

يقال : لما جاء زيد أكرمته ، ولما أن جاء زيد ، وكما قال جل وعز : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً)(١) ، وقد تدخل أن المكسورة على ما إذا استعملت اسما في معنى الحين ، وذلك أنك تقول : انتظرني إلى ما جلس القاضي ، تريد زمان جلوسه كأنه قال : انتظرني جلوس القاضي أي حين جلوسه ، ويجوز أن تدخل على هذا أن فتقول : انتظرني ما إن جلس القاضي.

قال الشاعر المعلوط بن بدل القريعي :

ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

عن السّن خيرا لا يزال يزيد

يريد على السن والكبر ، كما تقول فلان يزداد خيرا على السن والكبر ، يقول : استعمل عن في معنى على.

قال سيبويه : " أما كي فجواب لقوله كيمه ، كما يقول لمه فتقول ليفعل كذا وكذا ، وقد بين أمرها في بابها. وأما بل فلترك شيء من الكلام وأخذ في غيره. قال الشاعر أبو ذؤيب حيث ترك أول الحديث :

بل هل أريك حمول الحي غادية

كالنّخل زينّها ينع وإفضاح (٢)

وقال لبيد :

بل من يرى البرق بتّ أرقبه

يزجي حبيا إذا خبا ثقبا (٣)

قال أبو سعيد : وليست بترك الأول على جهة الإبطال له في كل حال ، ولكنها تكون للإبطال تارة وللإيذان تارة ، قصة الأول قد تمت وأخذ في غيرها ، وقد يقع في كلام الله تعالى بل بعد شيء من كلامه كقوله عزوجل : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها)(٤) ، والشاعر إذا قال بل لم يرد أن ما تكلم قبل باطل ، وإنما يريد أنه قد تم وأخذ في غيره ، كما يقول الشاعر : دع ذا واترك ذا وما أشبه ذلك عنده تمام ما تكلم به والانتقال إلى غيره.

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية : ٣٣.

(٢) انظر ديوان الهذليين ١ / ٤٥.

(٣) انظر ديوان لبيد ١٢.

(٤) سورة النمل الآية : ٦٦.

٩٩

قال امرؤ القيس :

فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بجسرة

ذمول إذا صام النّهار وهجرا

قال سيبويه : " وأما قد فجواب لقوله لما يفعل ، فيقول : قد فعل".

قال الخليل : هذا الكلام لقوم ينظرون الخبر".

يعني أن الإنسان إذا سأل عن فعل فاعل ، أو علم أنه يتوقع أن يخبر به ، قيل له : قد فعل ، وإذا كان المخبر مبتدئا ، قلت : فعل فلان كذا وكذا ، وإذا أردت أن تنفي والمحدث يتوقع إخبارك عن ذلك الفعل قلت لما يفعل ، وهو نقيض قد فعل ، وإذا ابتدأت قلت لم يفعل ، وإنما دخلت" ما" على" لم" فغيرت المعنى كما غيرت" لو" إذا قلت" لو ما" ونحوها ، ألا ترى أنك تقول" لما" ولا تتبعها شيئا ، ولا تقول ذلك في" لم".

قال أبو سعيد : العرب تتسع في حذف الفعل بعد قد وبعد لما ، لأنهما لتوقع الفعل أو لفعل قد دل عليه ما قبله ، فيقول القائل : يريد زيد أن يخرج ولما ، أي" ولما يخرج" ، و" كأن قد" ، أي و" كأنه قد خرج" ، ويريد" أن يخرج ولما" ، أي" ولما يخرج". قال النابغة :

أفد الترحّل غير أنّ ركابنا

لما تزل برحالنا وكأنّ قد (١)

أي كأن قد زالت.

قال سيبويه : " وقد تكون قد بمنزلة ربما ، قال الهذلي :

قد أترك القرن مصفرا أنامله

كأنّ أثوابه مجت بفرصاد (٢)

كأنه قال" ربما".

قال سيبويه : " وأما لو فلما كان سيقع لوقوع غيره. وأما" يا" فتنبيه ، ألا تراها في النداء وفي الأمر كأنك تنبه المأمور" قال الشماخ :

ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال"

قال أبو سعيد : كأنه قال اسقياني ، وقوله : ألا ويا جميعا للتنبيه ، وقد تكون يا لتنبيه

__________________

(١) انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٣٢ ، الدرر اللوامع ١ / ١٢١.

(٢) انظر المخصص ١٤ / ٥٥ ، ابن يعيش ٨ / ١٤٧ ، الخزانة ٤ / ٥٠٢ ، ونسب إلى عبيد ابن الأبرص في شرح أبيات سيبويه ٢ / ٣١٧.

١٠٠