كتاب المكاسب - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٧
ISBN: 964-5662-12-5
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٢٧٢

المسألة الثامنة والعشرون

تفسير الهجر والدليل على حرمته

الهُجر‌ بالضمّ وهو الفحش من القول وما استقبح التصريح به منه ، ففي صحيحة أبي عبيدة : «البذاء من الجفاء ، والجفاء في النار» (١).

وفي النبوي : «إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذي‌ء قليل الحياء ، لا يبالي بما قال ولا ما قيل فيه» (٢).

وفي رواية سماعة : «إيّاك أن تكون فحّاشاً» (٣).

وفي النبوي : «إنّ من أشرّ (٤) عباد الله من يكره مجالسته لفحشه» (٥).

وفي رواية : «من علامات شرك الشيطان الذي لا شك (٦) فيه‌

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣٠ ، الباب ٧٢ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٢٩ ، الباب ٧٢ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٢.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٢٨ ، الباب ٧١ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٧.

(٤) كذا في «ف» ، «م» والمصدر ، وفي سائر النسخ : شرّ.

(٥) الوسائل ١١ : ٣٢٨ ، الباب ٧١ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٨.

(٦) في المصدر ونسخة بدل «ش» : لا يشك.

١٢١

أن يكون فحّاشاً لا يبالي بما قال ولا ما قيل فيه» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار (٢).

هذا آخر ما تيسّر تحريره من المكاسب المحرّمة.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٧ ، الباب ٧١ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٢٧ ، الباب ٧١ من أبواب جهاد النفس ، الأحاديث ٣ و ٤ وغيرهما.

١٢٢

النوع الخامس

ممّا يحرم التكسّب به‌ (١)

__________________

(١) العنوان زيادة منّا.

١٢٣
١٢٤

النوع الخامس (١)

ممّا يحرم التكسّب به‌

حرمة التكسب بالواجبات

ما يجب على الإنسان فعله عيناً أو كفاية تعبّداً أو توصّلاً على المشهور كما في المسالك (٢) ، بل عن مجمع البرهان : كأنّ دليله الإجماع (٣).

والظاهر أنّ نسبته إلى الشهرة في المسالك ، في مقابل قول السيد (٤) المخالف في وجوب تجهيز الميت على غير الوليّ ، لا في حرمة أخذ الأُجرة على تقدير الوجوب عليه.

وفي جامع المقاصد : الإجماع على عدم جواز أخذ الأُجرة على تعليم صيغة النكاح ، أو إلقائها على المتعاقدين (٥) ، انتهى.

__________________

(١) كذا في «ص» ، وفي سائر النسخ : الخامس.

(٢) المسالك ٣ : ١٣٠.

(٣) مجمع الفائدة ٨ : ٨٩.

(٤) لم نقف عليه في ما بأيدينا من كتب السيد ورسائله ، نعم حكاه عنه الشهيد في الدروس ٣ : ١٧٢.

(٥) جامع المقاصد ٤ : ٣٧ ، ولم يذكر إلاّ إلقاء الصيغة على المتعاقدين.

١٢٥

وكأنّ لمثل هذا ونحوه (١) ذكر في الرياض : أنّ على هذا الحكم الإجماع في كلام جماعة ، وهو الحجّة (٢) ، انتهى.

تحديد موضوع المسألة

واعلم أنّ موضوع هذه المسألة : ما إذا كان للواجب (٣) على العامل منفعة تعود إلى من يبذل بإزائه المال ، كما لو كان كفائياً وأراد سقوطه منه فاستأجر غيره ، أو كان عينياً على العامل ورجع نفع (٤) منه إلى باذل المال ، كالقضاء للمدعي إذا وجب عيناً.

وبعبارة اخرى : مورد الكلام ما لو فرض مستحباً لجاز الاستئجار عليه ؛ لأنّ الكلام في كون مجرّد الوجوب على الشخص مانعاً عن أخذه (٥) الأُجرة عليه ، فمثل فعل الشخص صلاة الظهر عن نفسه لا يجوز أخذ الأُجرة عليه ، لا لوجوبها ، بل لعدم وصول عوض المال إلى باذله ؛ فإنّ النافلة أيضاً كذلك.

فساد الاستدلال على الحرمة بمنافاة الاستئجار للإخلاص

ومن هنا يعلم فساد الاستدلال على هذا المطلب بمنافاة ذلك للإخلاص في العمل (٦) ؛ لانتقاضه طرداً وعكساً بالمندوب والواجب التوصّلي.

وقد يُردّ ذلك (٧) بأنّ تضاعف الوجوب بسبب الإجارة يؤكّد‌

__________________

(١) في «م» : أو نحوه.

(٢) الرياض ١ : ٥٠٥.

(٣) كذا في «ف» و «ن» ، وفي سائر النسخ : الواجب.

(٤) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : نفعه.

(٥) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : أخذ.

(٦) استدلّ عليه السيّد الطباطبائي في الرياض ١ : ٥٠٥.

(٧) ردّه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٩٢.

١٢٦

الإخلاص.

وفيه مضافاً إلى اقتضاء ذلك ، الفرق بين الإجارة والجعالة ، حيث إنّ الجعالة لا توجب العمل على العامل ـ (١) أنّه إن أُريد أنّ تضاعف الوجوب يؤكّد اشتراط الإخلاص ، فلا ريب أنّ الوجوب الحاصل بالإجارة توصّلي لا يشترط في حصول ما وجب به قصد القربة ، مع أنّ غرض المستدلّ منافاة قصد أخذ المال لتحقق الإخلاص في العمل ، لا لاعتباره في وجوبه.

وإن أُريد أنّه يؤكّد تحقّق الإخلاص من العامل ، فهو مخالف للواقع قطعاً ؛ لأنّ ما لا يترتّب عليه أجر دنيوي أخلص ممّا يترتّب عليه ذلك بحكم الوجدان.

هذا ، مع أنّ الوجوب الناشئ من الإجارة إنّما يتعلّق بالوفاء بعقد الإجارة ، ومقتضى الإخلاص المعتبر في ترتّب الثواب على موافقة هذا الأمر ولو لم (٢) يعتبر في سقوطه هو إتيان الفعل من حيث استحقاق المستأجر له (٣) بإزاء ماله ، فهذا المعنى ينافي وجوب إتيان العبادة لأجل استحقاقه تعالى إيّاه ؛ ولذا لو لم يكن هذا العقد واجب الوفاء كما في الجعالة لم يمكن قصد الإخلاص مع قصد استحقاق العوض ، فلا إخلاص هنا حتى يؤكّده وجوب الوفاء بعد الإيجاب بالإجارة ، فالمانع حقيقة هو عدم القدرة على إيجاد الفعل الصحيح بإزاء العوض ،

__________________

(١) لم يرد قوله «مضافاً إلى العامل» في «ف».

(٢) في «ف» : وإن لم.

(٣) في «م» : المستأجر به ، وفي الهامش : المستأجر له.

١٢٧

سواء كانت المعاوضة لازمة أم جائزة.

القربة في العبادات المستأجرة

وأمّا تأتّي القربة في العبادات المستأجرة ، فلأنّ الإجارة إنّما تقع على الفعل المأتي به تقرّباً إلى الله ، نيابة عن فلان.

توضيحه : أنّ الشخص يجعل نفسه نائباً عن فلان في العمل متقرّباً إلى الله ، فالمنوب عنه يتقرّب إليه تعالى بعمل نائبه وتقرّبه ، وهذا الجعل في نفسه مستحبّ ؛ لأنّه إحسان إلى المنوب عنه وإيصال نفع إليه ، وقد يستأجر الشخص عليه فيصير واجباً بالإجارة وجوباً توصّلياً لا يعتبر فيه التقرّب.

فالأجير إنّما يجعل نفسه لأجل استحقاق الأُجرة نائباً عن الغير في إتيان العمل الفلاني تقرّباً إلى الله ، فالأُجرة في مقابل النيابة في العمل المتقرّب به إلى الله التي مرجع نفعها إلى المنوب عنه ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ؛ لأنّ الأُجرة هنا في مقابل العمل تقرّباً إلى الله لأنّ العمل بهذا الوجه لا يرجع نفعه إلاّ إلى العامل ؛ لأنّ المفروض أنّه يمتثل ما وجب على نفسه ، بل في مقابل نفس العمل ، فهو يستحقّ نفس العمل ، والمفروض أنّ الإخلاص إتيان العمل لخصوص أمر الله تعالى (١) ، والتقرّب يقع للعامل دون الباذل ، ووقوعه للعامل يتوقّف على أن لا يقصد بالعبادة سوى امتثال أمر الله تعالى.

فإن قلت : يمكن للأجير أن يأتي بالفعل مخلصاً لله تعالى ، بحيث لا يكون للإجارة دخل في إتيانه فيستحقّ الأُجرة ، فالإجارة غير مانعة‌

__________________

(١) شطب في «ف» على عبارة «لأنّ العمل إلى تعالى» ، وكتب عليها في «ن» ، «خ» ، «م» ، «ع» و «ش» : نسخة.

١٢٨

عن (١) قصد الإخلاص.

قلت : الكلام في أنّ مورد الإجارة لا بدّ أن (٢) يكون عملاً قابلاً لأن يوفّي به بعقد (٣) الإجارة ، ويؤتى به لأجل استحقاق المستأجر إيّاه ومن باب تسليم مال الغير إليه ، وما كان من قبيل العبادة غير قابل لذلك.

فإن قلت : يمكن أن يكون غاية الفعل التقرّب ، والمقصود من إتيان هذا الفعل المتقرّب به استحقاق الأُجرة ، كما يؤتى بالفعل تقرّباً إلى الله ويقصد منه حصول المطالب الدنيوية ، كأداء الدين وسعة الرزق وغيرهما من الحاجات الدنيوية.

قلت : فرق بين الغرض الدنيوي المطلوب من الخالق الذي يتقرّب إليه بالعمل ، وبين الغرض الحاصل من غيره وهو استحقاق الأُجرة ؛ فإنّ طلب الحاجة (٤) من الله تعالى سبحانه ولو كانت دنيوية محبوب عند الله ، فلا يقدح في العبادة ، بل ربما يؤكّدها (٥).

وكيف كان ، فذلك الاستدلال حسن في بعض موارد المسألة وهو الواجب التعبّدي في الجملة ، إلاّ أنّ مقتضاه جواز أخذ الأُجرة في‌

__________________

(١) كذا في «ف» ، وفي غيرها : من.

(٢) في «ص» : وأن.

(٣) في «ص» : عقد.

(٤) كتب في «ش» على عبارة : «فإنّ طلب الحاجة» : نسخة.

(٥) لم ترد عبارة «فإنّ طلب الحاجة إلى يؤكّدها» في «ف» ، وكتب عليها في «ن» ، «خ» ، «م» و «ع» : نسخة.

١٢٩

التوصّليات ، وعدم جوازه في المندوبات التعبّدية ، فليس مطّرداً ولا منعكساً.

استدلال بعض الأساطين على الحرمة وتوضيحه

نعم ، قد استدلّ على المطلب بعض الأساطين في شرحه على القواعد بوجوه ، أقواها : أنّ التنافي بين صفة الوجوب والتملّك ذاتي ؛ لأنّ المملوك والمستحقّ (١) لا يملك ولا يستحقّ ثانياً (٢).

توضيحه : أنّ الذي يقابل المال لا بدّ أن يكون كنفس المال ممّا يملكه المؤجر حتى يملّكه المستأجر (٣) في مقابل تمليكه المال إيّاه ، فإذا فرض العمل واجباً لله ليس للمكلّف تركه ، فيصير نظير العمل المملوك للغير ، ألا ترى أنّه إذا آجر نفسه لدفن الميّت لشخص لم يجز له أن يؤجر نفسه ثانياً من شخص آخر لذلك العمل ، وليس إلاّ لأنّ الفعل صار مستحقّاً للأوّل ومملوكاً له ، فلا معنى لتمليكه ثانياً للآخر مع فرض بقائه على ملك الأوّل ، وهذا المعنى موجود فيما أوجبه الله تعالى ، خصوصاً فيما يرجع إلى حقوق الغير ، حيث إنّ حاصل الإيجاب هنا جعل الغير مستحقّاً لذلك العمل من هذا العامل ، كأحكام تجهيز الميت التي جعل الشارع الميت مستحقّاً لها على الحي ، فلا يستحقّها غيره ثانياً.

المناقشة في الاستدلال

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الوجه أيضاً لا يخلو عن الخدشة ؛ لإمكان منع المنافاة بين الوجوب الذي هو طلب الشارع الفعل ، وبين‌

__________________

(١) كذا في «ش» والمصدر ، وفي سائر النسخ : المملوك المستحق.

(٢) شرح القواعد (مخطوط) : الورقة ٢٧.

(٣) في «ف» : للمستأجر.

١٣٠

استحقاق المستأجر له ، وليس استحقاق الشارع للفعل وتملّكه المنتزع من طلبه من قبيل استحقاق الآدمي وتملّكه الذي ينافي تملّك الغير واستحقاقه.

الاستدلال على الحرمة في الواجب الكفائي ومناقشته

ثم إنّ هذا الدليل باعتراف المستدل يختص بالواجب العيني ، وأمّا الكفائي ، فاستدلّ (١) على عدم جواز أخذ الأُجرة عليه : بأنّ الفعل متعيّن له (٢) فلا يدخل في ملك آخر ، وبعدم (٣) نفع المستأجر فيما يملكه أو يستحقّه غيره ؛ لأنّه بمنزلة قولك : استأجرتك لتملّك منفعتك المملوكة لك أو لغيرك.

وفيه : منع وقوع الفعل له بعد إجارة نفسه للعمل للغير ؛ فإنّ آثار الفعل حينئذٍ ترجع إلى الغير ، فإذا وجب إنقاذ غريق كفاية أو إزالة النجاسة عن المسجد ، فاستأجر واحدٌ (٤) غيره ، فثواب الإنقاذ والإزالة يقع للمستأجر دون الأجير المباشر لهما.

نعم ، يسقط الفعل عنه ؛ لقيام المستأجر به ولو بالاستنابة ، ومن هذا القبيل الاستئجار للجهاد مع وجوبه كفاية على الأجير والمستأجر.

عدم وجدان الدليل على الحرمة غير الاجماع

وبالجملة ، فلم أجد دليلاً على هذا المطلب وافياً بجميع أفراده عدا الإجماع الذي لم يصرّح به إلاّ المحقق الثاني (٥) ، لكنّه موهون بوجود‌

__________________

(١) المستدلّ هو كاشف الغطاء في شرح القواعد (مخطوط) : الورقة ٢٧.

(٢) في «ف» : «بأنّ الفعل يتعيّن له» ، وفي «ن» : «بأنّه بالفعل يتعيّن له» ، وفي المصدر : «فلأنه بفعله يتعيّن له».

(٣) كذا في «ش» والمصدر ، وفي سائر النسخ : ولعدم.

(٤) في «ف» ، «خ» ، «م» و «ع» : واحداً.

(٥) جامع المقاصد ٤ : ٣٦ ٣٧.

١٣١

القول بخلافه من أعيان الأصحاب من القدماء والمتأخّرين ، على ما يشهد به الحكاية والوجدان.

وهن الاجماع بنقل الخلاف عن الفقهاء

أمّا الحكاية ، فقد نقل المحقّق والعلاّمة رحمهما الله وغيرهما القول بجواز أخذ الأُجرة على القضاء عن بعضٍ.

فقد قال في الشرائع : أمّا لو أخذ الجعل من المتحاكمين ، ففيه خلاف (١) ، وكذلك العلاّمة رحمه‌الله في المختلف (٢).

وقد حكى العلاّمة الطباطبائي في مصابيحه (٣) عن فخر الدين وجماعة (٤) التفصيل بين العبادات وغيرها (٥).

ويكفي في ذلك ملاحظة الأقوال التي ذكرها في المسالك في باب المتاجر (٦) ، وأمّا ما وجدناه ، فهو أنّ ظاهر المقنعة (٧) ، بل النهاية (٨) ومحكي القاضي (٩) جواز الأجر على القضاء مطلقاً وإنْ أوّل بعضٌ (١٠)

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٦٩.

(٢) المختلف ٥ : ١٧.

(٣) المصابيح (مخطوط) : ٥٩.

(٤) لم ترد «وجماعة» في «ف».

(٥) لم نعثر على هذا التفصيل في الإيضاح ، نعم سيأتي عنه التفصيل في الكفائي بين العبادي والتوصّلي.

(٦) المسالك ٣ : ١٣٢.

(٧) المقنعة : ٥٨٨.

(٨) النهاية : ٣٦٧.

(٩) انظر المهذّب ١ : ٣٤٦ ، وحكاه عنه النراقي في المستند ٢ : ٣٥٠.

(١٠) راجع مفتاح الكرامة ٤ : ٩٦.

١٣٢

كلامهم بإرادة الارتزاق.

وقد اختار جماعة (١) جواز أخذ الأجر عليه إذا لم يكن متعيّناً ، أو تعيّن وكان القاضي محتاجاً.

وقد صرّح فخر الدين في الإيضاح بالتفصيل بين الكفائية التوصّلية وغيرها ، فجوّز أخذ الأُجرة في الأوّل ، قال في شرح عبارة والده في القواعد في الاستئجار على تعليم الفقه ما لفظه : الحقّ عندي أنّ كلّ واجب على شخص معيّن لا يجوز للمكلّف أخذ الأُجرة عليه. والذي وجب كفاية ، فإن كان ممّا لو أوقعه بغير نيّة لم يصحّ ولم يزل الوجوب ، فلا يجوز أخذ الأُجرة عليه ؛ لأنّه عبادة محضة ، وقال الله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢) ، حَصَرَ غرض الأمر في انحصار غاية الفعل في الإخلاص ، وما يفعل بالعوض لا يكون كذلك ، وغير ذلك يجوز أخذ الأُجرة عليه إلاّ ما نصّ الشارع على تحريمه كالدفن (٣) ، انتهى.

نعم ، ردّه في محكي جامع المقاصد بمخالفة (٤) هذا التفصيل لنصّ (٥)

__________________

(١) منهم : العلاّمة في المختلف ٥ : ١٨ وغيره ، والمحقق في الشرائع ٤ : ٦٩ ، وراجع مفتاح الكرامة ٤ : ٩٨.

(٢) البيّنة : ٥.

(٣) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٦٤.

(٤) في «ع» و «ص» : لمخالفة.

(٥) في «ف» : نصّ.

١٣٣

الأصحاب (١).

أقول : لا يخفى أنّ الفخر أعرف بنصّ الأصحاب من المحقق الثاني ، فهذا والده قد صرّح في المختلف بجواز أخذ الأجر (٢) على القضاء إذا لم يتعيّن (٣) ، وقبله المحقّق في الشرائع (٤) ، غير أنّه قيّد صورة عدم التعيين بالحاجة ، ولأجل ذلك اختار العلاّمة الطباطبائي في مصابيحه (٥) ما اختاره فخر الدين من التفصيل ، ومع هذا فمن أين الوثوق على إجماع لم يصرّح به إلاّ المحقق الثاني (٦) ، مع ما طعن به الشهيد الثاني على إجماعاته بالخصوص في رسالته في صلاة الجمعة (٧)؟!

مقتضى القاعدة في المقام

فالذي (٨) ينساق إليه النظر : أنّ مقتضى القاعدة في كلّ عمل له منفعة محلّلة مقصودة ، جواز أخذ الأُجرة والجعل عليه وإن كان داخلاً في العنوان الذي أوجبه الله على المكلّف ، ثمّ إن صلح ذلك الفعل المقابل بالأُجرة لامتثال الإيجاب المذكور أو إسقاطه به أو عنده ، سقط الوجوب مع استحقاق الأُجرة ، وإن لم يصلح استحقّ الأُجرة وبقي‌

__________________

(١) جامع المقاصد ٧ : ١٨٢ ، وحكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٩٣.

(٢) كذا في «ف» ، وفي غيرها : الأُجرة.

(٣) المختلف ٥ : ١٨.

(٤) انظر الشرائع ٤ : ٦٩.

(٥) المصابيح (مخطوط) : ٥٩ ٦٠.

(٦) جامع المقاصد ٤ : ٣٦ ٣٧.

(٧) رسالة في صلاة الجمعة ، (المطبوعة ضمن رسائل الشهيد) : ٩٢.

(٨) كذا في «ف» و «ش» ، وفي سائر النسخ : والذي.

١٣٤

الواجب في ذمّته لو بقي وقته ، وإلاّ عوقب على تركه.

وأمّا مانعيّة مجرّد الوجوب عن (١) صحّة المعاوضة على الفعل ، فلم تثبت على الإطلاق ، بل اللازم التفصيل :

اللازم : التفصيل بين العيني التعييني فلا يجوز ، وبين غيره فيجوز

فإن كان العمل واجباً عينياً تعيينياً (٢) لم يجز أخذ الأُجرة ؛ لأنّ أخذ (٣) الأُجرة عليه مع كونه واجباً مقهوراً من قبل الشارع على فعله ، أكل للمال بالباطل ؛ لأنّ عمله هذا لا يكون محترماً ؛ لأنّ استيفاءه منه لا يتوقّف على طيب نفسه ؛ لأنّه يقهر عليه مع عدم طيب النفس والامتناع.

وممّا يشهد بما ذكرناه : أنّه لو فرض أنّ المولى أمر بعض عبيده بفعل لغرض ، وكان ممّا يرجع نفعه أو بعض نفعه إلى غيره ، فأخذ العبد العوض من ذلك الغير على ذلك العمل عُدّ أكلاً للمال مجّاناً بلا عوض.

ثمّ إنّه لا ينافي ما ذكرنا حكم الشارع بجواز أخذ الأُجرة على العمل بعد إيقاعه ، كما أجاز للوصي أخذ أُجرة المثل أو مقدار الكفاية ؛ لأنّ هذا حكم شرعيّ ، لا من باب المعاوضة.

لا فرق في التفصيل المتقدّم بين التعبّدي والتوصّلي

ثمّ لا فرق فيما ذكرناه بين التعبّدي من الواجب والتوصّلي ، مضافاً في التعبدي إلى ما تقدّم من منافاة أخذ الأُجرة على العمل للإخلاص ، كما نبّهنا عليه سابقاً ، وتقدّم عن الفخر رحمه‌الله (٤) وقرّره عليه بعض من‌

__________________

(١) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : من.

(٢) في «ن» ، «م» ، «ع» ، «ص» ونسخة بدل «ش» : تعيّنياً.

(٣) في «ف» : أكل.

(٤) تقدّم في الصفحة ١٣٣.

١٣٥

حرمة أخذ الاجرة على المندوب التعبّدي

تأخّر عنه (١).

ومنه يظهر عدم جواز أخذ الأُجرة على المندوب إذا كان عبادة يعتبر فيها التقرّب.

جواز أخذ الاجرة على الواجب التوصلي التخييري

وأمّا الواجب التخييري ، فإن كان توصّلياً فلا أجد مانعاً عن جواز أخذ الأُجرة على أحد فرديه بالخصوص بعد فرض كونه مشتملاً على نفع محلّل للمستأجر ، والمفروض أنّه محترم لا يقهر المكلّف عليه ، فجاز أخذ الأُجرة بإزائه.

فإذا تعيّن دفن الميت على شخص ، وتردّد الأمر بين حفر أحد موضعين ، فاختار الوليّ أحدهما بالخصوص لصلابته أو لغرض آخر ، فاستأجر ذلك لحفر ذلك الموضع بالخصوص ، لم يمنع من ذلك كون مطلق الحفر واجباً عليه ، مقدّمة للدفن.

التفصيل في الواجب التعبّدي التخييري

وإن كان تعبّدياً ، فإن قلنا بكفاية الإخلاص بالقدر المشترك وإن كان إيجاد خصوص بعض الأفراد لداعٍ غير الإخلاص ، فهو كالتوصّلي.

وإن قلنا بأنّ اتّحاد وجود القدر المشترك مع الخصوصية مانع عن التفكيك بينهما في القصد ، كان حكمه كالتعييني.

التفصيل في الكفائي بين التوصليّ والتعبّدي

وأمّا الكفائي ، فإن كان توصّلياً أمكن أخذ الأُجرة على إتيانه لأجل باذل الأُجرة ، فهو العامل في الحقيقة ، وإن كان تعبّدياً لم يجز الامتثال به وأخذ الأُجرة عليه.

نعم ، يجوز النيابة إن كان ممّا يقبل النيابة ، لكنّه يخرج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّ الكلام أخذ الأُجرة على ما هو واجب على الأجير ،

__________________

(١) وهو العلاّمة الطباطبائي في مصابيحه ، كما تقدّم في الصفحة ١٣٤.

١٣٦

لا على النيابة فيما هو واجب على المستأجر ، فافهم.

حرمة أخذ الاجرة في الكفائي لو كان حقاً لمخلوق على المكلّفين

ثم إنّه قد يفهم من أدلّة وجوب الشي‌ء كفاية كونه حقّا لمخلوق يستحقّه على المكلّفين ، فكلّ من أقدم عليه فقد أدّى حقّ ذلك المخلوق ، فلا يجوز له أخذ الأُجرة منه ولا من غيره ممّن وجب عليه أيضاً كفاية ، ولعلّ من هذا القبيل تجهيز الميّت وإنقاذ الغريق ، بل ومعالجة الطبيب لدفع الهلاك.

الإشكال على أخذ الأجرة على الصناعات التي يتوقف عليها النظام

ثمّ إنّ هنا إشكالاً مشهوراً ، وهو أنّ الصناعات التي يتوقّف النظام عليها تجب كفاية ؛ لوجوب إقامة النظام ، بل قد يتعيّن بعضها على بعض المكلّفين عند انحصار المكلف القادر فيه ، مع أنّ جواز أخذ الأُجرة عليها ممّا لا كلام لهم فيه ، وكذا يلزم أن يحرم على الطبيب أخذ الأُجرة على الطبابة ؛ لوجوبها عليه كفاية ، أو عيناً كالفقاهة.

الجواب عن الاشكال بوجوه

وقد تُفُصّي منه (١) بوجوه‌ (٢) :

الأوّل : قيام الاجماع والسيرة على الجواز

أحدها الالتزام بخروج ذلك‌ بالإجماع والسيرة القطعيّين.

الثاني : الالتزام بالجواز في غير التعبّديات

الثاني الالتزام بجواز (٣) أخذ الأُجرة على الواجبات إذا لم تكن تعبّدية ، وقد حكاه في المصابيح عن جماعة (٤) ، وهو ظاهر كلّ من جوّز أخذ الأُجرة على القضاء بقول مطلق يشمل (٥) صورة تعيّنه عليه ،

__________________

(١) في «ف» : عنها ، وفي «ن» ، «خ» ، «م» ، «ع» و «ص» : منها.

(٢) انظر مجمع الفائدة ٨ : ٨٩.

(٣) في «ف» : التزام جواز.

(٤) المصابيح (مخطوط) : ٥٩.

(٥) في «ف» : ليشمل.

١٣٧

كما تقدم حكايته في الشرائع والمختلف عن بعض (١).

وفيه : ما تقدّم سابقاً (٢) من أنّ الأقوى عدم جواز أخذ الأُجرة عليه.

الثالث : اختصاص الجواز بصورة قيام من به الكفاية

الثالث ما عن المحقق الثاني من اختصاص جواز الأخذ بصورة قيام من به الكفاية ، فلا يكون حينئذٍ واجباً (٣).

وفيه : أنّ ظاهر العمل والفتوى جواز الأخذ ولو مع بقاء الوجوب الكفائي ، بل ومع (٤) وجوبه عيناً للانحصار.

الرابع : القول بالجواز في ما يجب لغيره فقط

الرابع ما في مفتاح الكرامة من أنّ المنع مختصّ بالواجبات الكفائية المقصودة لذاتها ، كأحكام الموتى وتعليم الفقه ، دون ما يجب لغيره كالصنائع (٥).

وفيه : أنّ هذا التخصيص إن كان لاختصاص معاقد إجماعاتهم أو عنوانات كلامهم ، فهو خلاف الموجود منها ، وإن كان لدليل (٦) يقتضي الفرق فلا بدّ من بيانه.

الخامس : استلزام المنع اختلال النظام

الخامس أنّ المنع عن أخذ الأُجرة على الصناعات الواجبة لإقامة النظام يوجب اختلال النظام ؛ لوقوع أكثر الناس في المعصية‌

__________________

(١) تقدم في الصفحة ١٣٢.

(٢) في الصفحة ١٣٥.

(٣) جامع المقاصد ٧ : ١٨٢.

(٤) في «ش» : بل مع.

(٥) مفتاح الكرامة ٤ : ٨٥ و ٩٢.

(٦) كذا في «ف» و «ن» ، وفي سائر النسخ : الدليل.

١٣٨

بتركها أو ترك الشاقّ منها والالتزام بالأسهل ؛ فإنّهم لا يرغبون في الصناعات الشاقّة أو الدقيقة إلاّ طمعاً في الأُجرة وزيادتها على ما يبذل لغيرها من الصناعات ، فتسويغ أخذ الأُجرة عليها لطف في التكليف بإقامة النظام.

وفيه : أنّ المشاهَد بالوجدان أنّ اختيار الناس للصنائع الشاقّة وتحمّلها ناشٍ عن الدواعي الأُخر غير زيادة الأُجرة ، مثل عدم قابليته لغير ما يختار ، أو عدم ميله إليه ، أو عدم كونه شاقّاً عليه ؛ لكونه ممّن نشأ في تحمّل المشقّة ، ألا ترى أنّ أغلب الصنائع الشاقّة من الكفائيات كالفلاحة والحرث والحصاد وشبه ذلك لا تزيد أُجرتها على الأعمال السهلة؟

السادس : أنّ الوجوب في هذه الاُمور مشروط بالعوض

السادس أنّ الوجوب في هذه الأُمور مشروط بالعوض.

قال بعض الأساطين بعد ذكر ما يدلّ على المنع عن أخذ الأُجرة على الواجب ـ : أمّا ما كان واجباً مشروطاً فليس بواجب قبل حصول الشرط ، فتعلّق الإجارة به قبله لا مانع منه ولو كانت هي الشرط في وجوبه ، فكلّ ما وجب كفاية من حِرَفٍ وصناعاتٍ لم تجب إلاّ بشرط العوض بإجارة أو جعالة أو نحوهما ، فلا فرق بين وجوبها العيني ؛ للانحصار ، ووجوبها الكفائي ؛ لتأخّر (١) الوجوب عنها وعدمه قبلها ، كما أنّ بذل الطعام والشراب للمضطرّ إن بقي على الكفاية أو تعيّن يستحقّ (٢) فيه أخذ العوض على الأصحّ ؛ لأنّ وجوبه مشروط ، بخلاف‌

__________________

(١) في «ن» ، «خ» ، «م» ، «ع» و «ص» : لتأخير.

(٢) في «ف» : فيستحقّ.

١٣٩

ما وجب مطلقاً بالأصالة كالنفقات ، أو بالعارض كالمنذور ونحوه (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه : أنّ وجوب الصناعات ليس مشروطاً ببذل العوض ؛ لأنّه لإقامة النظام التي هي من الواجبات المطلقة ؛ فإنّ الطبابة والفصد والحجامة وغيرها ممّا يتوقف عليه بقاء الحياة في بعض الأوقات واجبة ، بُذل له العوض أم لم يبذل.

السابع : عدم كون وجوب الصناعات من حيث ذاتها

السابع أنّ وجوب الصناعات المذكورة لم يثبت من حيث ذاتها ، وإنّما ثبت من حيث الأمر بإقامة النظام ، وإقامة النظام غير متوقّفة على العمل تبرّعاً ، بل تحصل به وبالعمل بالأُجرة ، فالذي يجب على الطبيب لأجل إحياء النفس وإقامة النظام هو بذل نفسه للعمل ، لا بشرط التبرّع به ، بل له أن يتبرّع به ، وله (٢) أن يطلب الأُجرة ، وحينئذٍ فإن بذل المريض الأُجرة وجب عليه العلاج ، وإن لم يبذل الأُجرة والمفروض أداء ترك العلاج إلى الهلاك أجبره الحاكم حسبة على بذل الأُجرة للطبيب ، وإن كان المريض مغمىً عليه دفع عنه وليّه ، وإلاّ جاز للطبيب العمل بقصد الأُجرة فيستحقّ الأُجرة في ماله ، وإن لم يكن له مال ففي ذمّته ، فيؤدّى في حياته أو بعد مماته من الزكاة أو غيرها.

وبالجملة ، فما كان من الواجبات الكفائية ثبت من دليله وجوب نفس ذلك العنوان ، فلا يجوز أخذ الأُجرة عليه ؛ بناء على المشهور ، وأمّا ما أُمر به من باب إقامة النظام ، فأقامه النظام تحصل ببذل النفس‌

__________________

(١) شرح القواعد (مخطوط) : الورقة ٢٧.

(٢) لم ترد «له» في «ف».

١٤٠