كتاب المكاسب - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٧
ISBN: 964-5662-12-5
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٢٧٢

١
٢

٣
٤

٥
٦

[المسألة] السابعة عشر

حرمة القيافة

القيافة حرام‌ في الجملة ، نسبه في الحدائق إلى الأصحاب (١) ، وفي الكفاية : لا أعرف خلافاً (٢) ، وعن المنتهي : الإجماع (٣).

القائف لغةً واصطلاحاً

والقائف كما عن الصحاح والقاموس والمصباح ـ : هو الذي يعرف الآثار (٤).

وعن النهاية ومجمع البحرين زيادة : أنّه يعرف شَبَه الرجل بأخيه وأبيه (٥).

وفي جامع المقاصد والمسالك كما عن إيضاح النافع والميسيّة ـ

__________________

(١) الحدائق ١٨ : ١٨٢.

(٢) الكفاية : ٨٧.

(٣) المنتهي ٢ : ١٠١٤ ، وفيه : نفي الخلاف. وحكى الإجماع عنه المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة ٨ : ٨٠.

(٤) الصحاح ٤ : ١٤١٩ ، مادة : «قوف» ، القاموس المحيط ٣ : ١٨٨ ، مادة : «قوف» ، ولم نقف في المصباح على التعبير المذكور ، انظر المصباح المنير : ٥١٩.

(٥) النهاية ، لابن الأثير ٤ : ١٢١ ، مجمع البحرين ٥ : ١١٠ ، والعبارة للأوّل.

٧

الأخبار الناهية عن مراجعة القائف

أنّها إلحاق الناس بعضهم ببعض (١). وقيّد في الدروس وجامع المقاصد كما عن (٢) التنقيح حرمتها بما إذا ترتب عليها محرّم (٣) ، والظاهر أنّه مراد الكلّ ، وإلاّ فمجرّد حصول الاعتقاد العلمي أو الظنّي بنسب شخص لا دليل على تحريمه ؛ ولذا نهي في بعض الأخبار عن إتيان القائف والأخذ بقوله.

ففي المحكي عن الخصال : «ما أُحب أن تأتيهم» (٤). وعن مجمع البحرين : أنّ في الحديث : «لا آخذ بقول قائفٍ» (٥).

وقد افترى بعض العامّة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أنّه قضى بقول القافة (٦).

وقد أُنكر ذلك عليهم في الأخبار ، كما يشهد به ما عن الكافي‌

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٣٣ ، المسالك ٣ : ١٢٩ ، والعبارة للثاني مع اختلاف يسير ، وأمّا إيضاح الفوائد والميسية : فلا يوجدان عندنا ، نعم حكاه عنهما السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٨٢.

(٢) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : في.

(٣) الدروس ٣ : ١٦٥ ، جامع المقاصد ٤ : ٣٣ ، ولم نقف على التقييد المذكور في التنقيح. نعم ، حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٨٢ ، وانظر التنقيح ٢ : ١٣.

(٤) الخصال ١ : ٢٠ ، باب الواحد ، الحديث ٦٨ ، وعنه الوسائل ١٢ : ١٠٩ ، الباب ٢٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢.

(٥) مجمع البحرين ٥ : ١١٠.

(٦) صحيح البخاري ٨ : ١٩٥.

٨

عن زكريا بن يحيى بن نعمان المصري (١) ، قال : «سمعت علي بن جعفر يحدّث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين ، فقال : والله لقد نصر الله أبا الحسن الرضا عليه‌السلام.

فقال الحسن : إي والله جعلت فداك! لقد بغى عليه إخوته.

فقال علي بن جعفر : إي والله! ونحن عمومته بغينا عليه.

فقال له الحسن : جعلت فداك! كيف صنعتم ، فإنّي لم أحضركم؟

قال : فقال له إخوته ونحن أيضاً ـ : ما كان فينا إمام قطّ حائل اللون! فقال لهم الرضا عليه‌السلام : هو ابني.

فقالوا : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بالقافة ، فبيننا وبينك القافة.

فقال : ابعثوا أنتم إليهم ، وأمّا أنا فلا ، ولا تُعلموهم لما دعوتموهم إليه ، وليكونوا في بيوتكم.

فلمّا جاءوا وقعدنا في البستان واصطفّ عمومته وإخوته وأخواته وأخذوا الرضا عليه‌السلام وألبسوه جبّة من صوف وقلنسوة [منها (٢)] ،

__________________

(١) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : «زكريا بن يحيى العري» ، إلاّ أنّه صُحّح في «ن» و «ص» بما في «ش» ، وفي «خ» و «ع» كتب فوق كلمة «العري» : «الصيرفي (خ ل)». هذا حال النسخ ، وأمّا المصدر : ففي الطبعة الحديثة من الكافي : «زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي» ، وفي معجم رجال الحديث (٧ : ٢٨٩) ما يلي : في الطبعة القديمة «المصرفي» بدل «الصيرفي» ، وفي الوافي : «المصري».

(٢) من المصدر.

٩

ووضعوا على عنقه مسحاة ، وقالوا له : ادخل البستان كأنّك تعمل فيه.

ثم جاءوا بأبي جعفر عليه‌السلام وقالوا : ألحقوا هذا الغلام بأبيه.

فقالوا : ما له هنا أب ، ولكن هذا عم أبيه ، وهذا عمّه ، وهذه عمّته ، وإن يكن له هنا أب فهو صاحب البستان ؛ فإنّ قدميه وقدميه واحدة.

فلمّا رجع أبو الحسن عليه‌السلام قالوا : هذا أبوه.

فقال علي بن جعفر : فقمت فمصصت ريق أبي جعفر عليه‌السلام وقلت : أشهد أنّك إمامي» (١). الخبر نقلناه بطوله تيمّناً.

__________________

(١) أوردنا هذا الحديث طبقاً لنسخة «ش» ، لكونها أقرب إلى المصدر ، وهناك اختلافات عديدة وردت في النسخ لم نتعرّض لها ، انظر الكافي ١ : ٣٢٢ ، الحديث ١٤.

١٠

[المسألة] الثامنة عشر‌

حرمة الكذب عقلاً وشرعاً

الكذب حرام بضرورة العقول والأديان ، ويدلّ عليه الأدلّة الأربعة ، إلاّ أنّ الذي ينبغي الكلام فيه مقامان :

أحدهما ـ في أنّه من الكبائر.

الثاني (١) في مسوّغاته.

[الكلام في المقام الأوّل]

الكذب من الكبائر

أمّا الأوّل ـ فالظاهر من غير واحد من الأخبار كالمرويِّ في العيون بسندٍ (٢) عن الفضل بن شاذان لا يقصر عن الصحيح (٣) ، والمرويّ عن الأعمش في حديث شرائع الدين (٤) عدّه من الكبائر.

__________________

(١) في «خ» ، «ع» ، «ص» و «ش» : والثاني.

(٢) في «ش» : بسنده.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٧ ، والوسائل ١١ : ٢٦١ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣٣.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٦٢ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣٦.

١١

وفي الموثّقة بعثمان بن عيسى : «إنّ الله تعالى جعل للشرّ أقفالاً ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شرٌّ من الشراب» (١).

وأُرسل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أُخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور» (٢) أي الكذب.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ «المؤمن إذا كذب بغير عذر لعنه سبعون ألف مَلَك ، وخرج من قلبه نَتْنٌ حتى يبلغ العرش ، وكتب الله عليه بتلك الكذبة سبعين زِنْيَة ، أهونها كمن يزني مع امّه» (٣).

ويؤيّده ما عن العسكري صلوات الله عليه : «جُعلت الخبائث كلّها في بيت واحد ، وجُعل مفتاحها الكذب .. الحديث» (٤) ؛ فإنّ مفتاح الخبائث كلّها كبيرة لا محالة.

ويمكن الاستدلال على كونه من الكبائر بقوله تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) (٥) ، فجعل الكاذبَ غيرَ مؤمن بآيات الله ، كافراً بها.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٧٢ ، الباب ١٣٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.

(٢) المحجّة البيضاء ٥ : ٢٤٢.

(٣) البحار ٧٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٤٨ ، ومستدرك الوسائل ٩ : ٨٦ ، الباب ١٢٠ من أبواب تحريم الكذب ، الحديث ١٥.

(٤) البحار ٧٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٤٦.

(٥) النحل : ١٠٥.

١٢

ولذلك كلِّه أطلق جماعة كالفاضلين (١) والشهيد الثاني (٢) في ظاهر كلماتهم كونه من الكبائر ، من غير فرق بين أن يترتّب على الخبر الكاذب مفسدة أو لا يترتب عليه شي‌ء أصلاً.

ويؤيّده ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيته لأبي ذر رضوان الله عليه : «ويلٌ للذي يحدّث فيكذب ، ليُضحِكَ القوم ، ويلٌ له ، ويلٌ له ، ويلٌ له (٣)» (٤) ، فإنّ الأكاذيب المضحكة لا يترتّب عليها غالباً إيقاع في المفسدة.

هل الكذب كلّه من الكبائر؟

نعم ، في الأخبار ما يظهر منه عدم كونه على الإطلاق كبيرة ، مثل رواية أبي خديجة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ «الكذب على الله تعالى ورسوله من الكبائر» (٥). فإنّها ظاهرة في اختصاص (٦) الكبيرة بهذا الكذب الخاص ، لكن يمكن حملها على كون هذا (٧) الكذب الخاص من الكبائر الشديدة العظيمة ، ولعلّ هذا أولى من تقييد المطلقات المتقدّمة.

وفي مرسلة سيف بن عميرة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «كان‌

__________________

(١) لم نقف عليه في كتب المحقق والعلامة قدس‌سرهما ، نعم في القواعد (٢ : ٢٣٦) : أنّ الكبيرة ما توعّد الله فيها بالنار. ومثله التحرير (٢ : ٢٠٨).

(٢) الروضة البهية ٣ : ١٢٩.

(٣) محل «ويل له» الثالث بياض في «ش». وفي سائر النسخ : ويل له ، وويل له ، وويل له.

(٤) الوسائل ٨ : ٥٧٧ ، الباب ١٤٠ من أبواب أحكام العشرة ، ذيل الحديث ٤.

(٥) الوسائل ٨ : ٥٧٥ ، الباب ١٣٩ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.

(٦) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : باختصاص.

(٧) لم ترد «هذا» في «ف».

١٣

يقول علي بن الحسين عليهما‌السلام لولده : اتّقوا الكذب ، الصغير منه والكبير ، في كلّ جِد وهَزْل ؛ فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير .. الخبر» (١). ويستفاد منه : أنّ عظم الكذب باعتبار ما يترتّب عليه من المفاسد.

هل الكذب من الّلمم؟

وفي صحيحة ابن الحجاج : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الكذّاب هو الذي يكذب في الشي‌ء؟ قال : لا ، ما من أحد إلاّ ويكون منه ذلك ، ولكن المطبوع (٢) على الكذب» (٣) ، فإنّ قوله : «ما من أحد .. الخبر» يدلّ على أنّ الكذب من اللّمم الذي يصدر من كل أحد ، لا من الكبائر.

وعن الحارث الأعور ، عن علي عليه‌السلام ، قال : «لا يصلح من الكذب جِدّ و [لا (٤)] هَزْل ، ولا يَعِدَنَّ (٥) أحدكُم صبيّه ثم لا يفي له ، إنّ الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار ، وما زال أحدكم يكذب حتى يقال : كذب وفجر .. الخبر» (٦). وفيه أيضاً إشعار بأنّ مجرّد الكذب ليس فجوراً.

وقوله : «لا يَعِدَنَّ أحدكم صبيّه ثم لا يفي له» ، لا بدّ أن يراد به‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٧٧ ، الباب ١٤٠ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل.

(٢) كذا في «ص» ، وفي سائر النسخ : المطوع.

(٣) الوسائل ٨ : ٥٧٣ ، الباب ١٣٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٩.

(٤) من الوسائل.

(٥) في الوسائل : ولا أن يعد.

(٦) الوسائل ٨ : ٥٧٧ ، الباب ١٤٠ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.

١٤

حكم الإنشاء المنبيء عن الكذب

النهي عن الوعد مع إضمار عدم الوفاء ، وهو المراد ظاهراً بقوله تعالى (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (١) ، بل الظاهر عدم كونه كذباً حقيقيّا ، وأنّ إطلاق الكذب عليه في الرواية لكونه في حكمه من حيث الحرمة ، أو لأنّ الوعد مستلزم للإخبار بوقوع الفعل ، كما أنّ سائر الإنشاءات كذلك ؛ ولذا ذكر بعض الأساطين : أنّ الكذب وإن كان من صفات الخبر ، إلاّ أنّ حكمه يجري في الإنشاء المنبئ عنه ، كمدح المذموم ، وذم الممدوح ، وتمنّي المكاره (٢) ، وترجّي غير المتوقّع ، وإيجاب غير الموجب ، وندب غير النادب ، ووعد غير العازم (٣).

خلف الوعد لا يدخل في الكذب

هل يحرم خلف الوعد؟

وكيف كان ، فالظاهر عدم دخول خلف الوعد في الكذب ؛ لعدم كونه من مقولة الكلام ، نعم ، هو كذب للوعد ، بمعنى جعله مخالفاً للواقع ، كما أنّ إنجاز الوعد صدق له ، بمعنى جعله مطابقاً للواقع ، فيقال : «صادق الوعد» و «وعد غير مكذوب». والكذب بهذا المعنى ليس محرّماً على المشهور وإن كان غير واحد من الأخبار ظاهراً في حرمته (٤) ، وفي بعضها الاستشهاد بالآية المتقدمة.

الكذب في الهزل

ثم إنّ ظاهر الخبرين الأخيرين خصوصاً المرسلة حرمة الكذب حتى في الهَزْل ، ويمكن أن يراد به : الكذب في مقام الهَزْل ، وأمّا نفس‌

__________________

(١) الصف : ٣.

(٢) في «ف» : وتمنّي ما يكره الكاره.

(٣) شرح القواعد (مخطوط) : الورقة ٢٠.

(٤) انظر الوسائل ٨ : ٥١٥ ، الباب ١٠٩ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢ و ٣ ، وأيضاً ١١ : ٢٧٠ ، الباب ٤٩ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٦ و ١١.

١٥

الهَزْل وهو الكلام الفاقد للقصد إلى تحقق مدلوله فلا يبعد أنّه غير محرّم مع نصب القرينة على إرادة الهَزْل كما صرّح به بعض (١) ؛ ولعلّه (٢) لانصراف الكذب إلى الخبر المقصود ، وللسيرة.

ويمكن حمل الخبرين على مطلق المرجوحيّة ، ويحتمل غير بعيد حرمته ؛ لعموم ما تقدّم ، خصوصاً الخبرين الأخيرين ، والنبويّ في وصيّة أبي ذر رضي‌الله‌عنه (٣) ؛ لأنّ الأكاذيب المضحكة أكثرها من قبيل الهَزْل.

وعن الخصال بسنده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا زعيم بيت في أعلى الجنّة ، وبيت في وسط الجنّة ، وبيت في رياض الجنّة لمن ترك المراء وإن كان مُحقّاً ، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلاً ، ولمن حسن خلقه» (٤).

هل المبالغة في الإدّعاء من الكذب؟

وقال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام : «لا يجد الرجل طعم الإيمان حتّى يترك الكذب هَزْله وجِدّه» (٥).

ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ المبالغة في الادّعاء وإن بلغت ما بلغت ، ليست من الكذب.

__________________

(١) لم نعثر على من صرّح بذلك ، انظر مفتاح الكرامة ٤ : ٦٧ ، والجواهر ٢٢ : ٧٢.

(٢) لم ترد : «كما صرّح به بعض ، ولعلّه» في «ف».

(٣) تقدم في الصفحة ١٣.

(٤) الخصال ١ : ١٤٤ ، الحديث ١٧٠ ، والوسائل ٨ : ٥٦٨ ، الباب ١٣٥ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٨.

(٥) الوسائل ٨ : ٥٧٧ ، الباب ١٤٠ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢.

١٦

وربما يدخل فيه إذا كانت في غير محلّها ، كما لو مدح إنساناً (١) قبيح المنظر وشبّه وجهه بالقمر ، إلاّ إذا بنى على كونه كذلك في نظر المادح ؛ فإنّ الأنظار تختلف في التحسين والتقبيح كالذوائق في المطعومات.

التورية ليست من الكذب

وأما التورية ، وهي (٢) : أن يريد بلفظٍ معنىً مطابقاً للواقع وقصد من إلقائه أن يفهم المخاطب منه خلاف ذلك ، مما هو ظاهر فيه عند مطلق المخاطب ، أو المخاطب الخاص كما لو قلت في مقام إنكار ما قلته في حقّ أحد : «عَلِمَ الله ما قلته» ، وأردتَ بكلمة «ما» الموصولة ، وفَهِم المخاطب النافية ، وكما لو استأذن رجل بالباب فقال الخادم له : «ما هو ها هنا» وأشار إلى موضع خالٍ في البيت (٣) ، وكما لو قلت : «اليوم ما أكلت الخبز» ، تعني بذلك حالة النوم أو حالة الصلاة ، إلى غير ذلك فلا ينبغي الإشكال في عدم كونها من الكذب.

ولذا صرّح الأصحاب فيما سيأتي من وجوب التورية عند الضرورة (٤) ، بأنّه يورّي (٥) بما يخرجه من الكذب ، بل اعترض جامع المقاصد على قول العلاّمة في القواعد في مسألة الوديعة إذا طالبها ظالم ، بأنّه «يجوز الحلف كاذباً ، وتجب التورية على العارف بها» : بأنّ‌

__________________

(١) في «ش» : إنسان.

(٢) كذا في نسخة بدل «ص» ، وفي النسخ : وهو.

(٣) في ظاهر «ف» : في البيت خال.

(٤) ستأتي تصريحاتهم في الصفحة ٢٢ و ٢٣.

(٥) في «ش» : يؤدي.

١٧

العبارة لا تخلو من (١) مناقشة ، حيث تقتضي ثبوت الكذب مع التورية ، ومعلوم أن لا كذب معها (٢) ، انتهى.

ووجه ذلك : أنّ الخبر باعتبار معناه وهو المستعمل فيه كلامه ليس مخالفاً للواقع ، وإنّما فهم المخاطب من كلامه أمراً مخالفاً للواقع لم يقصده المتكلم من اللفظ.

نعم ، لو ترتّب عليها مفسدة حرمت من تلك الجهة ، اللهم إلاّ أن يدّعى أنّ مفسدة الكذب وهي الإغراء موجودة فيها ، وهو ممنوع ؛ لأنّ الكذب محرّم ، لا لمجرّد الإغراء.

الملاك في اتّصاف الخبر بالكذب عند بعض الأفاضل

وذكر بعض الأفاضل (٣) : أنّ المعتبر في اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر الكلام ، لا ما هو المراد منه ، فلو قال : «رأيت حماراً» وأراد منه «البليد» من دون نصب قرينة ، فهو متّصف بالكذب وإن لم يكن المراد مخالفاً للواقع ، انتهى موضع الحاجة.

فإن أراد اتصاف الخبر في الواقع ، فقد تقدّم أنّه دائر مدار موافقة مراد المخبر ومخالفته للواقع ؛ لأنّه معنى الخبر والمقصود منه ، دون ظاهره الذي لم يقصد.

وإن أراد اتصافه عند الواصف ، فهو حقّ مع فرض جهله بإرادة خلاف الظاهر.

لكن توصيفه حينئذٍ باعتقاد أنّ هذا هو مراد المخبر ومقصوده ،

__________________

(١) في غير «ش» : عن.

(٢) جامع المقاصد ٦ : ٣٨.

(٣) هو المحقّق القمّي في قوانين الأُصول ١ : ٤١٩.

١٨

فيرجع الأمر إلى إناطة الاتصاف بمراد المتكلم وإن كان الطريق إليه اعتقاد المخاطب.

ما يدلّ على سلب الكذب عن التورية

ومما يدلّ على سلب الكذب عن التورية ما روي في الاحتجاج : «أنّه سئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ في قصّة إبراهيم على نبينا وآله و ٧ ـ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (١) ، قال : ما فعله (٢) كبيرهم وما كذب إبراهيم ، قيل : وكيف ذلك؟ فقال : إنّما قال إبراهيم (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، أي : إن نطقوا فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً ؛ فما نطقوا وما كذب إبراهيم.

وسُئل عليه‌السلام عن قوله تعالى (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٣). قال : إنّهم سرقوا يوسف من أبيه ، ألا ترى أنّهم قالوا (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) (٤) ولم يقولوا : سرقتم صواع الملك.

وسُئل عن قول الله عز وجل حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام (إِنِّي سَقِيمٌ) (٥) قال : ما كان إبراهيم سقيماً وما كذب ، إنّما عنى سقيماً في دينه ، أي : مرتاداً» (٦).

__________________

(١) الأنبياء : ٦٣.

(٢) في «خ» : ما فعل.

(٣) يوسف : ٧٠.

(٤) يوسف : ٧٢.

(٥) الصافات : ٨٩.

(٦) الاحتجاج ٢ : ١٠٥ مع اختلاف يسير ، والمرتاد : الطالب للشي‌ء.

١٩

وفي مستطرفات السرائر من كتاب ابن بكير ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يُستأذن عليه ، فيقول (١) للجارية : قولي : ليس هو ها هنا ، فقال : لا بأس ، ليس بكذب» (٢) ؛ فإنَّ سلب الكذب مبنيّ على أن المشار إليه بقوله : «ها هنا» موضع خالٍ من الدار ؛ إذ لا وجه له سوى ذلك.

وروى في باب الحِيَل من كتاب الطلاق للمبسوط : أنّ واحداً من الصحابة صحب واحداً آخر ، فاعترضهما في الطريق أعداء المصحوب ، فأنكر الصاحب أنّه هو ، فأحلفوه ، فحلف لهم أنّه أخوه ، فلمّا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : «صدقت ، المسلم أخو المسلم» (٣).

إلى غير ذلك مما يظهر منه ذلك (٤).

__________________

(١) كذا في «ص» والمصدر ، وفي سائر النسخ : يقول.

(٢) مستطرفات السرائر (السرائر) ٣ : ٦٣٢ ، والوسائل ٨ : ٥٨٠ ، الباب ١٤١ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٨.

(٣) المبسوط ٥ : ٩٥.

(٤) راجع الوسائل ٨ : ٥٧٨ ، الباب ١٤١ من أبواب أحكام العشرة.

٢٠