[المسألة] السابعة عشر
حرمة القيافة |
القيافة حرام في الجملة ، نسبه في الحدائق إلى الأصحاب (١) ، وفي الكفاية : لا أعرف خلافاً (٢) ، وعن المنتهي : الإجماع (٣).
القائف لغةً واصطلاحاً |
والقائف كما عن الصحاح والقاموس والمصباح ـ : هو الذي يعرف الآثار (٤).
وعن النهاية ومجمع البحرين زيادة : أنّه يعرف شَبَه الرجل بأخيه وأبيه (٥).
وفي جامع المقاصد والمسالك كما عن إيضاح النافع والميسيّة ـ
__________________
(١) الحدائق ١٨ : ١٨٢.
(٢) الكفاية : ٨٧.
(٣) المنتهي ٢ : ١٠١٤ ، وفيه : نفي الخلاف. وحكى الإجماع عنه المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة ٨ : ٨٠.
(٤) الصحاح ٤ : ١٤١٩ ، مادة : «قوف» ، القاموس المحيط ٣ : ١٨٨ ، مادة : «قوف» ، ولم نقف في المصباح على التعبير المذكور ، انظر المصباح المنير : ٥١٩.
(٥) النهاية ، لابن الأثير ٤ : ١٢١ ، مجمع البحرين ٥ : ١١٠ ، والعبارة للأوّل.
الأخبار الناهية عن مراجعة القائف |
أنّها إلحاق الناس بعضهم ببعض (١). وقيّد في الدروس وجامع المقاصد كما عن (٢) التنقيح حرمتها بما إذا ترتب عليها محرّم (٣) ، والظاهر أنّه مراد الكلّ ، وإلاّ فمجرّد حصول الاعتقاد العلمي أو الظنّي بنسب شخص لا دليل على تحريمه ؛ ولذا نهي في بعض الأخبار عن إتيان القائف والأخذ بقوله.
ففي المحكي عن الخصال : «ما أُحب أن تأتيهم» (٤). وعن مجمع البحرين : أنّ في الحديث : «لا آخذ بقول قائفٍ» (٥).
وقد افترى بعض العامّة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في أنّه قضى بقول القافة (٦).
وقد أُنكر ذلك عليهم في الأخبار ، كما يشهد به ما عن الكافي
__________________
(١) جامع المقاصد ٤ : ٣٣ ، المسالك ٣ : ١٢٩ ، والعبارة للثاني مع اختلاف يسير ، وأمّا إيضاح الفوائد والميسية : فلا يوجدان عندنا ، نعم حكاه عنهما السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٨٢.
(٢) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : في.
(٣) الدروس ٣ : ١٦٥ ، جامع المقاصد ٤ : ٣٣ ، ولم نقف على التقييد المذكور في التنقيح. نعم ، حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٨٢ ، وانظر التنقيح ٢ : ١٣.
(٤) الخصال ١ : ٢٠ ، باب الواحد ، الحديث ٦٨ ، وعنه الوسائل ١٢ : ١٠٩ ، الباب ٢٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢.
(٥) مجمع البحرين ٥ : ١١٠.
(٦) صحيح البخاري ٨ : ١٩٥.
عن زكريا بن يحيى بن نعمان المصري (١) ، قال : «سمعت علي بن جعفر يحدّث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين ، فقال : والله لقد نصر الله أبا الحسن الرضا عليهالسلام.
فقال الحسن : إي والله جعلت فداك! لقد بغى عليه إخوته.
فقال علي بن جعفر : إي والله! ونحن عمومته بغينا عليه.
فقال له الحسن : جعلت فداك! كيف صنعتم ، فإنّي لم أحضركم؟
قال : فقال له إخوته ونحن أيضاً ـ : ما كان فينا إمام قطّ حائل اللون! فقال لهم الرضا عليهالسلام : هو ابني.
فقالوا : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قضى بالقافة ، فبيننا وبينك القافة.
فقال : ابعثوا أنتم إليهم ، وأمّا أنا فلا ، ولا تُعلموهم لما دعوتموهم إليه ، وليكونوا في بيوتكم.
فلمّا جاءوا وقعدنا في البستان واصطفّ عمومته وإخوته وأخواته وأخذوا الرضا عليهالسلام وألبسوه جبّة من صوف وقلنسوة [منها (٢)] ،
__________________
(١) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : «زكريا بن يحيى العري» ، إلاّ أنّه صُحّح في «ن» و «ص» بما في «ش» ، وفي «خ» و «ع» كتب فوق كلمة «العري» : «الصيرفي (خ ل)». هذا حال النسخ ، وأمّا المصدر : ففي الطبعة الحديثة من الكافي : «زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي» ، وفي معجم رجال الحديث (٧ : ٢٨٩) ما يلي : في الطبعة القديمة «المصرفي» بدل «الصيرفي» ، وفي الوافي : «المصري».
(٢) من المصدر.
ووضعوا على عنقه مسحاة ، وقالوا له : ادخل البستان كأنّك تعمل فيه.
ثم جاءوا بأبي جعفر عليهالسلام وقالوا : ألحقوا هذا الغلام بأبيه.
فقالوا : ما له هنا أب ، ولكن هذا عم أبيه ، وهذا عمّه ، وهذه عمّته ، وإن يكن له هنا أب فهو صاحب البستان ؛ فإنّ قدميه وقدميه واحدة.
فلمّا رجع أبو الحسن عليهالسلام قالوا : هذا أبوه.
فقال علي بن جعفر : فقمت فمصصت ريق أبي جعفر عليهالسلام وقلت : أشهد أنّك إمامي» (١). الخبر نقلناه بطوله تيمّناً.
__________________
(١) أوردنا هذا الحديث طبقاً لنسخة «ش» ، لكونها أقرب إلى المصدر ، وهناك اختلافات عديدة وردت في النسخ لم نتعرّض لها ، انظر الكافي ١ : ٣٢٢ ، الحديث ١٤.
[المسألة] الثامنة عشر
حرمة الكذب عقلاً وشرعاً |
الكذب حرام بضرورة العقول والأديان ، ويدلّ عليه الأدلّة الأربعة ، إلاّ أنّ الذي ينبغي الكلام فيه مقامان :
أحدهما ـ في أنّه من الكبائر.
الثاني (١) في مسوّغاته.
[الكلام في المقام الأوّل]
الكذب من الكبائر |
أمّا الأوّل ـ فالظاهر من غير واحد من الأخبار كالمرويِّ في العيون بسندٍ (٢) عن الفضل بن شاذان لا يقصر عن الصحيح (٣) ، والمرويّ عن الأعمش في حديث شرائع الدين (٤) عدّه من الكبائر.
__________________
(١) في «خ» ، «ع» ، «ص» و «ش» : والثاني.
(٢) في «ش» : بسنده.
(٣) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ١٢٧ ، والوسائل ١١ : ٢٦١ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣٣.
(٤) الوسائل ١١ : ٢٦٢ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣٦.
وفي الموثّقة بعثمان بن عيسى : «إنّ الله تعالى جعل للشرّ أقفالاً ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شرٌّ من الشراب» (١).
وأُرسل عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ألا أُخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور» (٢) أي الكذب.
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنّ «المؤمن إذا كذب بغير عذر لعنه سبعون ألف مَلَك ، وخرج من قلبه نَتْنٌ حتى يبلغ العرش ، وكتب الله عليه بتلك الكذبة سبعين زِنْيَة ، أهونها كمن يزني مع امّه» (٣).
ويؤيّده ما عن العسكري صلوات الله عليه : «جُعلت الخبائث كلّها في بيت واحد ، وجُعل مفتاحها الكذب .. الحديث» (٤) ؛ فإنّ مفتاح الخبائث كلّها كبيرة لا محالة.
ويمكن الاستدلال على كونه من الكبائر بقوله تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) (٥) ، فجعل الكاذبَ غيرَ مؤمن بآيات الله ، كافراً بها.
__________________
(١) الوسائل ٨ : ٥٧٢ ، الباب ١٣٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.
(٢) المحجّة البيضاء ٥ : ٢٤٢.
(٣) البحار ٧٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٤٨ ، ومستدرك الوسائل ٩ : ٨٦ ، الباب ١٢٠ من أبواب تحريم الكذب ، الحديث ١٥.
(٤) البحار ٧٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٤٦.
(٥) النحل : ١٠٥.
ولذلك كلِّه أطلق جماعة كالفاضلين (١) والشهيد الثاني (٢) في ظاهر كلماتهم كونه من الكبائر ، من غير فرق بين أن يترتّب على الخبر الكاذب مفسدة أو لا يترتب عليه شيء أصلاً.
ويؤيّده ما روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في وصيته لأبي ذر رضوان الله عليه : «ويلٌ للذي يحدّث فيكذب ، ليُضحِكَ القوم ، ويلٌ له ، ويلٌ له ، ويلٌ له (٣)» (٤) ، فإنّ الأكاذيب المضحكة لا يترتّب عليها غالباً إيقاع في المفسدة.
هل الكذب كلّه من الكبائر؟
نعم ، في الأخبار ما يظهر منه عدم كونه على الإطلاق كبيرة ، مثل رواية أبي خديجة ، عن أبي عبد الله عليهالسلام : إنّ «الكذب على الله تعالى ورسوله من الكبائر» (٥). فإنّها ظاهرة في اختصاص (٦) الكبيرة بهذا الكذب الخاص ، لكن يمكن حملها على كون هذا (٧) الكذب الخاص من الكبائر الشديدة العظيمة ، ولعلّ هذا أولى من تقييد المطلقات المتقدّمة.
وفي مرسلة سيف بن عميرة ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : «كان
__________________
(١) لم نقف عليه في كتب المحقق والعلامة قدسسرهما ، نعم في القواعد (٢ : ٢٣٦) : أنّ الكبيرة ما توعّد الله فيها بالنار. ومثله التحرير (٢ : ٢٠٨).
(٢) الروضة البهية ٣ : ١٢٩.
(٣) محل «ويل له» الثالث بياض في «ش». وفي سائر النسخ : ويل له ، وويل له ، وويل له.
(٤) الوسائل ٨ : ٥٧٧ ، الباب ١٤٠ من أبواب أحكام العشرة ، ذيل الحديث ٤.
(٥) الوسائل ٨ : ٥٧٥ ، الباب ١٣٩ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.
(٦) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : باختصاص.
(٧) لم ترد «هذا» في «ف».
يقول علي بن الحسين عليهماالسلام لولده : اتّقوا الكذب ، الصغير منه والكبير ، في كلّ جِد وهَزْل ؛ فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير .. الخبر» (١). ويستفاد منه : أنّ عظم الكذب باعتبار ما يترتّب عليه من المفاسد.
هل الكذب من الّلمم؟ |
وفي صحيحة ابن الحجاج : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الكذّاب هو الذي يكذب في الشيء؟ قال : لا ، ما من أحد إلاّ ويكون منه ذلك ، ولكن المطبوع (٢) على الكذب» (٣) ، فإنّ قوله : «ما من أحد .. الخبر» يدلّ على أنّ الكذب من اللّمم الذي يصدر من كل أحد ، لا من الكبائر.
وعن الحارث الأعور ، عن علي عليهالسلام ، قال : «لا يصلح من الكذب جِدّ و [لا (٤)] هَزْل ، ولا يَعِدَنَّ (٥) أحدكُم صبيّه ثم لا يفي له ، إنّ الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار ، وما زال أحدكم يكذب حتى يقال : كذب وفجر .. الخبر» (٦). وفيه أيضاً إشعار بأنّ مجرّد الكذب ليس فجوراً.
وقوله : «لا يَعِدَنَّ أحدكم صبيّه ثم لا يفي له» ، لا بدّ أن يراد به
__________________
(١) الوسائل ٨ : ٥٧٧ ، الباب ١٤٠ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل.
(٢) كذا في «ص» ، وفي سائر النسخ : المطوع.
(٣) الوسائل ٨ : ٥٧٣ ، الباب ١٣٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٩.
(٤) من الوسائل.
(٥) في الوسائل : ولا أن يعد.
(٦) الوسائل ٨ : ٥٧٧ ، الباب ١٤٠ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.
حكم الإنشاء المنبيء عن الكذب |
النهي عن الوعد مع إضمار عدم الوفاء ، وهو المراد ظاهراً بقوله تعالى (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (١) ، بل الظاهر عدم كونه كذباً حقيقيّا ، وأنّ إطلاق الكذب عليه في الرواية لكونه في حكمه من حيث الحرمة ، أو لأنّ الوعد مستلزم للإخبار بوقوع الفعل ، كما أنّ سائر الإنشاءات كذلك ؛ ولذا ذكر بعض الأساطين : أنّ الكذب وإن كان من صفات الخبر ، إلاّ أنّ حكمه يجري في الإنشاء المنبئ عنه ، كمدح المذموم ، وذم الممدوح ، وتمنّي المكاره (٢) ، وترجّي غير المتوقّع ، وإيجاب غير الموجب ، وندب غير النادب ، ووعد غير العازم (٣).
خلف الوعد لا يدخل في الكذب هل يحرم خلف الوعد؟ |
وكيف كان ، فالظاهر عدم دخول خلف الوعد في الكذب ؛ لعدم كونه من مقولة الكلام ، نعم ، هو كذب للوعد ، بمعنى جعله مخالفاً للواقع ، كما أنّ إنجاز الوعد صدق له ، بمعنى جعله مطابقاً للواقع ، فيقال : «صادق الوعد» و «وعد غير مكذوب». والكذب بهذا المعنى ليس محرّماً على المشهور وإن كان غير واحد من الأخبار ظاهراً في حرمته (٤) ، وفي بعضها الاستشهاد بالآية المتقدمة.
الكذب في الهزل |
ثم إنّ ظاهر الخبرين الأخيرين خصوصاً المرسلة حرمة الكذب حتى في الهَزْل ، ويمكن أن يراد به : الكذب في مقام الهَزْل ، وأمّا نفس
__________________
(١) الصف : ٣.
(٢) في «ف» : وتمنّي ما يكره الكاره.
(٣) شرح القواعد (مخطوط) : الورقة ٢٠.
(٤) انظر الوسائل ٨ : ٥١٥ ، الباب ١٠٩ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢ و ٣ ، وأيضاً ١١ : ٢٧٠ ، الباب ٤٩ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٦ و ١١.
الهَزْل وهو الكلام الفاقد للقصد إلى تحقق مدلوله فلا يبعد أنّه غير محرّم مع نصب القرينة على إرادة الهَزْل كما صرّح به بعض (١) ؛ ولعلّه (٢) لانصراف الكذب إلى الخبر المقصود ، وللسيرة.
ويمكن حمل الخبرين على مطلق المرجوحيّة ، ويحتمل غير بعيد حرمته ؛ لعموم ما تقدّم ، خصوصاً الخبرين الأخيرين ، والنبويّ في وصيّة أبي ذر رضياللهعنه (٣) ؛ لأنّ الأكاذيب المضحكة أكثرها من قبيل الهَزْل.
وعن الخصال بسنده عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنا زعيم بيت في أعلى الجنّة ، وبيت في وسط الجنّة ، وبيت في رياض الجنّة لمن ترك المراء وإن كان مُحقّاً ، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلاً ، ولمن حسن خلقه» (٤).
هل المبالغة في الإدّعاء من الكذب؟ |
وقال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام : «لا يجد الرجل طعم الإيمان حتّى يترك الكذب هَزْله وجِدّه» (٥).
ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ المبالغة في الادّعاء وإن بلغت ما بلغت ، ليست من الكذب.
__________________
(١) لم نعثر على من صرّح بذلك ، انظر مفتاح الكرامة ٤ : ٦٧ ، والجواهر ٢٢ : ٧٢.
(٢) لم ترد : «كما صرّح به بعض ، ولعلّه» في «ف».
(٣) تقدم في الصفحة ١٣.
(٤) الخصال ١ : ١٤٤ ، الحديث ١٧٠ ، والوسائل ٨ : ٥٦٨ ، الباب ١٣٥ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٨.
(٥) الوسائل ٨ : ٥٧٧ ، الباب ١٤٠ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢.
وربما يدخل فيه إذا كانت في غير محلّها ، كما لو مدح إنساناً (١) قبيح المنظر وشبّه وجهه بالقمر ، إلاّ إذا بنى على كونه كذلك في نظر المادح ؛ فإنّ الأنظار تختلف في التحسين والتقبيح كالذوائق في المطعومات.
التورية ليست من الكذب |
وأما التورية ، وهي (٢) : أن يريد بلفظٍ معنىً مطابقاً للواقع وقصد من إلقائه أن يفهم المخاطب منه خلاف ذلك ، مما هو ظاهر فيه عند مطلق المخاطب ، أو المخاطب الخاص كما لو قلت في مقام إنكار ما قلته في حقّ أحد : «عَلِمَ الله ما قلته» ، وأردتَ بكلمة «ما» الموصولة ، وفَهِم المخاطب النافية ، وكما لو استأذن رجل بالباب فقال الخادم له : «ما هو ها هنا» وأشار إلى موضع خالٍ في البيت (٣) ، وكما لو قلت : «اليوم ما أكلت الخبز» ، تعني بذلك حالة النوم أو حالة الصلاة ، إلى غير ذلك فلا ينبغي الإشكال في عدم كونها من الكذب.
ولذا صرّح الأصحاب فيما سيأتي من وجوب التورية عند الضرورة (٤) ، بأنّه يورّي (٥) بما يخرجه من الكذب ، بل اعترض جامع المقاصد على قول العلاّمة في القواعد في مسألة الوديعة إذا طالبها ظالم ، بأنّه «يجوز الحلف كاذباً ، وتجب التورية على العارف بها» : بأنّ
__________________
(١) في «ش» : إنسان.
(٢) كذا في نسخة بدل «ص» ، وفي النسخ : وهو.
(٣) في ظاهر «ف» : في البيت خال.
(٤) ستأتي تصريحاتهم في الصفحة ٢٢ و ٢٣.
(٥) في «ش» : يؤدي.
العبارة لا تخلو من (١) مناقشة ، حيث تقتضي ثبوت الكذب مع التورية ، ومعلوم أن لا كذب معها (٢) ، انتهى.
ووجه ذلك : أنّ الخبر باعتبار معناه وهو المستعمل فيه كلامه ليس مخالفاً للواقع ، وإنّما فهم المخاطب من كلامه أمراً مخالفاً للواقع لم يقصده المتكلم من اللفظ.
نعم ، لو ترتّب عليها مفسدة حرمت من تلك الجهة ، اللهم إلاّ أن يدّعى أنّ مفسدة الكذب وهي الإغراء موجودة فيها ، وهو ممنوع ؛ لأنّ الكذب محرّم ، لا لمجرّد الإغراء.
الملاك في اتّصاف الخبر بالكذب عند بعض الأفاضل |
وذكر بعض الأفاضل (٣) : أنّ المعتبر في اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر الكلام ، لا ما هو المراد منه ، فلو قال : «رأيت حماراً» وأراد منه «البليد» من دون نصب قرينة ، فهو متّصف بالكذب وإن لم يكن المراد مخالفاً للواقع ، انتهى موضع الحاجة.
فإن أراد اتصاف الخبر في الواقع ، فقد تقدّم أنّه دائر مدار موافقة مراد المخبر ومخالفته للواقع ؛ لأنّه معنى الخبر والمقصود منه ، دون ظاهره الذي لم يقصد.
وإن أراد اتصافه عند الواصف ، فهو حقّ مع فرض جهله بإرادة خلاف الظاهر.
لكن توصيفه حينئذٍ باعتقاد أنّ هذا هو مراد المخبر ومقصوده ،
__________________
(١) في غير «ش» : عن.
(٢) جامع المقاصد ٦ : ٣٨.
(٣) هو المحقّق القمّي في قوانين الأُصول ١ : ٤١٩.
فيرجع الأمر إلى إناطة الاتصاف بمراد المتكلم وإن كان الطريق إليه اعتقاد المخاطب.
ما يدلّ على سلب الكذب عن التورية |
ومما يدلّ على سلب الكذب عن التورية ما روي في الاحتجاج : «أنّه سئل الصادق عليهالسلام عن قول الله عزّ وجلّ في قصّة إبراهيم على نبينا وآله و ٧ ـ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (١) ، قال : ما فعله (٢) كبيرهم وما كذب إبراهيم ، قيل : وكيف ذلك؟ فقال : إنّما قال إبراهيم (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، أي : إن نطقوا فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً ؛ فما نطقوا وما كذب إبراهيم.
وسُئل عليهالسلام عن قوله تعالى (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٣). قال : إنّهم سرقوا يوسف من أبيه ، ألا ترى أنّهم قالوا (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) (٤) ولم يقولوا : سرقتم صواع الملك.
وسُئل عن قول الله عز وجل حكاية عن إبراهيم عليهالسلام (إِنِّي سَقِيمٌ) (٥) قال : ما كان إبراهيم سقيماً وما كذب ، إنّما عنى سقيماً في دينه ، أي : مرتاداً» (٦).
__________________
(١) الأنبياء : ٦٣.
(٢) في «خ» : ما فعل.
(٣) يوسف : ٧٠.
(٤) يوسف : ٧٢.
(٥) الصافات : ٨٩.
(٦) الاحتجاج ٢ : ١٠٥ مع اختلاف يسير ، والمرتاد : الطالب للشيء.
وفي مستطرفات السرائر من كتاب ابن بكير ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يُستأذن عليه ، فيقول (١) للجارية : قولي : ليس هو ها هنا ، فقال : لا بأس ، ليس بكذب» (٢) ؛ فإنَّ سلب الكذب مبنيّ على أن المشار إليه بقوله : «ها هنا» موضع خالٍ من الدار ؛ إذ لا وجه له سوى ذلك.
وروى في باب الحِيَل من كتاب الطلاق للمبسوط : أنّ واحداً من الصحابة صحب واحداً آخر ، فاعترضهما في الطريق أعداء المصحوب ، فأنكر الصاحب أنّه هو ، فأحلفوه ، فحلف لهم أنّه أخوه ، فلمّا أتى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال له : «صدقت ، المسلم أخو المسلم» (٣).
إلى غير ذلك مما يظهر منه ذلك (٤).
__________________
(١) كذا في «ص» والمصدر ، وفي سائر النسخ : يقول.
(٢) مستطرفات السرائر (السرائر) ٣ : ٦٣٢ ، والوسائل ٨ : ٥٨٠ ، الباب ١٤١ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٨.
(٣) المبسوط ٥ : ٩٥.
(٤) راجع الوسائل ٨ : ٥٧٨ ، الباب ١٤١ من أبواب أحكام العشرة.