دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

الحرب ، وهكذا هزم داود الفلسطينين بهذا الجهاز السريع الحركة ، وبمهارته المنقطعة النظير (١) ، ولكن سرعان ما قام الفلسطينيون بمحاولة ثانية ، بعد أن قدّروا ، نتيجة للجولة السابقة ، القوة والمهارة الحربية لداود ، ولم يعدوا كل قوتهم لمواجهته ، ومن ثم فسرعان ما ظهروا في وادي رفائيم ، وهزمهم داود مرة أخرى في مكان تصفه التوراة بأنه «مقابل أشجار البكا» (٢) ، وربما أطبق داود بقواتهم عليهم من الشمال ، من جانب دولة إسرائيل ، فجأة ، كاحدث من قبل ، وعلى أية حال ، فطبقا لرواية التوراة ، فلقد قام داود «بضرب الفلسطينين من جبع إلى مدخل جازر» وإن ذهبت رواية أخرى إلى أنه ضربهم» من جبعون إلى جازر ، مقتفيا أثرهم حتى حدود بلادهم (٣).

وهكذا كتب لداود النصر المبين على أقوى أعدائه ، وأكثرهم أهمية ، كما كتب له نجما بعيد المدى في طردهم من المناطق الإسرائيلية بل إننا لنسمع عن حرب دقت طبولها عند «جت» ، إحدى المدن الخمسة الرئيسية في الاتحاد الفلسطيني ، بل وقد أصبحت مدينة «جت» فيما بعد مدينة إسرائيلية تحت حكم داود (٤).

غير أن تلك الانتصارات التي حققها داود ضد الفلسطينين ، كما جاءت في التوراة ، لم تجعل الفلسطينين تابعين لداود سياسيا ، صحيح أنها أجبرتهم على الاعتراف بسيادة داود على الجزء الأكبر من فلسطين ، ولكنه صحيح كذلك أنهم بقوا في إقليمهم الصغير على ساحل البحر المتوسط ، القوة

__________________

ـ الأولى نحو عرش إسرائيل ، وقد أحرز بهم انتصارات هامة ، كانتصاره على الفلسطينيين وكاحتلاله «دولة المدينة أورشليم».

(١).M.Noth ,Op ـ cit ,p. ١٨٨ ـ ١٨٧.

(٢) صموئيل ثان ٥ / ٢٣.

(٣) صموئيل ثان ٥ / ٢٥ ، أخبار أيام أول ١٤ / ١٦ ، وكذا : M.Noth ,Op ـ cit ,p. ١٨٩ ـ ١٨٨.

(٤).A Lods ,Op ـ cit ,p. ٣٦٠.

٦١

الوحيدة التي لم يقدر لداود أن يخضعها ، ولعل السبب في ذلك فيما يرى بعض الباحثين ، أن مصر ، رغم أنها كانت تمر بفترة ضعف في تلك الآونة ، قد أعطت الفلسطينيين من تأييدها ، ما يمنع داود من ضمهم إلى نفوذه ، بل إن السهل الساحلي الفلسطيني لم يصبح أبدا جزءا من الأملاك الإسرائيلية ، هذا فضلا عن أن الفلسطينيين سرعان ما يظهرون مرة أخرى كجماعة مستقلة في القرن الثامن والسابع قبل الميلاد (١).

٥ ـ داود ومؤاب وعمون وآرام وأدوم :

كانت مؤاب أول قوة ، من أعداء إسرائيل القدامى ، هوجمت وهزمت وأصبحت ولاية تابعة لداود عليه‌السلام ، وطبقا لرواية التوراة ، فلقد «أصبح المؤابيون عبيدا لداود يقدمون هدايا» ، وإن استمر النظام الملكي فيها قائما كما كان من قبل ، مع الاعتراف بالتبعية لداود عليه‌السلام (٢).

وكانت عمون هي القوة التالية التي ضربها داود ، ولعل السبب المباشر للصدام بين داود وبنحمون إنما هو إساءة العمونيين لرسل داود الذين كانوا في مهمة ودية بمناسبة تغيير السلطة في عمون ، حيث قام «حانون» ملك عمون الجديد «فأخذ عبيد داود وحلق أنصاف لحاهم وقص ثيابهم من الوسط إلى أستاههم ، ثم أطلقهم» (٣) ، ومن ثم فقد أدرك العمونيون ، بعد فعلتهم هذه ، أن الحرب مع بني إسرائيل أصبحت أمرا لا مفر منه ، ومن هنا فقد بدءوا يطلبون معونة جيرانهم الآراميين في «أرام بيت رحوب» وأرام «صوبة» وفي معكة وطوب (٤) ، وأتى هؤلاء بحشد كامل من الرجال والمعدات لمساعدة

__________________

(١) صموئيل ثان ٥ / ١٧ ـ ٢٥ وكذاK.M.Kenyon ,Op ـ cit ,p. ٢٤٤. وكذاM.Noth ,Op ـ cit ,p. ١٩٤

(٢) صموئيل ثان ٨ / ٢ ، وكذاM.Noth ,Op ـ cit ,p. ١٩٤. وكذاH.R.Hall ,Op ـ cit ,p. ٤٣٠

(٣) صموئيل ثان ١٠ / ١ ـ ٥.

(٤) انظر عن هذه الولايات الآرامية في شرق الأردن (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٥٣٩ ـ ٥٤٢).

٦٢

العمونيين ضد الهجوم الإسرائيلي المرتقب ، وقد نجحت قوات داود بقيادة «يؤاب» في هزيمة هؤلاء الآراميين ، ثم «رجع يؤاب عن بني عمون وأتى إلى أورشليم» (١).

ويعلم «هدد عزره ملك صوبة بذلك ، فيستدعي «أرام الذي في عبر النهر» إلى «حيلام» (ربما كانت عليم أو علمه في سهل حوران) ويتقدم قائده «شوبك» لملاقاة بني إسرائيل ، وينجح داود ، الذي كان على رأس جيشه هذه المرة ، في إحراز النصر ، وفي العام التالي يأمر داود قائده «يؤاب» بالاتجاه نحو عمون ، وسرعان ما يحاصر يؤاب «ربة» (ربه عمون» (٢) ، غير أنه لا يستطيع إخضاعها ، ومن ثم يطلب نجدة من داود ، الذي يسرع لإنقاذ قائده بنفسه ، فيستولي على قلعة المدينة ، ويعاقب العمونيين بقسوة ، وطبقا لرواية التوراة ، فإن داود أمر بحرق المغلوبين ، وسلخ جلودهم ووشرهم بالمنشار ، بعد أن وضعهم تحت نوارج وفئوس من حديد (وبدهي أن ذلك من تحريفات التوراة ، فما كان النبي الأواب يفعل ذلك أبدا) ، ثم وضع التاج العموني ، بما فيه من ذهب وأحجار كريمة ، على رأسه ، وبعبارة أخرى ، فلقد أصبح داود ملكا على عمون (٣).

ثم اتجه جيش داود بعد ذلك إلى أدوم ، وطبقا لرواية التوراة ، «فإن يؤاب وكل إسرائيل أقاموا في أدوم ستة أشهر ، حتى أفنوا كل ذكر في أدوم» ، وهكذا هزمت قوات إسرائيل أدوم ، وقتل «حداد الثاني» ، وهو الملك الثامن

__________________

(١) صموئيل ثان ١ / ٦ ـ ١٤ وكذا.M.Noth ,The History of Israel ,London , ١٩٥.p ، ١٩٦٥.

(٢) ربة أوربة عمون : هي عاصمة العمونيين ، وقد سميت في العصر الإغريقي «فيلادلفيا ، نسبة إلى ملك مصر «بطليموس الثاني فيلادلفيوس» (٢٨٤ ـ ٢٤٦ ق. م) ، وهي في موقع تشغله حاليا عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية «عمان» حيث يوجد في اسمها جزء من اسم العمورتين (محمد بيومي مهران) إسرائيل ٢ / ٥٥٧).

(٣) صموئيل ثان ١٢ / ٢٦ ـ ٣١ ، وكذا.M.Noth ,Op ـ cit ,p. ١٩٥

٦٣

من سلسلة ملوك أدوم ، ولكن ولده «هدد» ، والذي ربما كانت أمه مصرية ، قد استطاع الهروب إلى مصر ، حيث تزوج هناك من أميرة مصرية «أخت تخفنيس الملكة» ، وعاش ضيفا على فرعون إلى أن مات داود عليه‌السلام ، حيث بدأ الأمل يعاوده في استعادة حقه الشرعي في عرش أدوم (١).

وقد نجح داود إلى حد بعيد في تنظيم أدوم ، كولاية تحت إمرته ، ورغم أنها كانت بعيدة نسبيا عن دولته ، إلا أنها كانت مهمة بالنسبة إليه ، فهي تمكنه من الوصول إلى خليج العقبة ، ومن ثم إلى البحر الأحمر ، هذا فضلا عن أنها كانت تحتوي على كثير من الرواسب المعدنية على حدود وادي العربة ، ومن هنا كانت أدوم ذات أهمية اقتصادية كبيرة بالنسبة إلى داود ، ذلك لأن الصحراء العربية والتي تمتد من نهاية جنوب البحر الميت وحتى خليج العقبة إنما كانت غنية بمعدني النحاس والحديد ، وقد استغل داود ذلك أفضل استغلال ، «وهيأ داود حديدا كثيرا للمسامير لمصاريع الأبواب والوصل ، ونحاسا كثيرا بلا وزن» (٢).

٦ ـ دولة داود ومدى اتساعها :

لا ريب في أن داود عليه‌السلام قد كتب له نجحا بعيد المدى في أن يخلص قومه الإسرائيليين من النير الفلسطيني ، وفي أن يحقق لهم الاستقلال التام ، بل وأن يوجد لنفسه نفوذا في مؤاب وأدوم وعمون ، وفي أن تقدم له الهدايا ـ وليس الجزي ـ من أرامي دمشق ، وفي أن يقيم علاقات المودة مع «توعي» ملك حماة ، ضد عدوهما المشترك «هدد عزر» ملك الآراميين في صوبة ، ومع ذلك فعلينا ألا نبالغ كثيرا في تقدير سعة مملكة داود عليه

__________________

(١) صموئيل ثان ٨ / ١٣ ، ملوك أول ١١ / ١٤ ـ ٢٢ ، وكذاH.R.Hall ,Op ـ cit ,p. ٤٣١ وكذاW.M.F.Petrie ,Egypt and Israel ,London , ٦٥.p ، ١٩٢٥.

(٢) أخبار أيام أول ٢٢ / ٤ ، وكذاM.Noth ,Op ـ cit ,p. ١٩٦. وكذاW.Keller ,Op ـ cit ,p. ١٨٨

٦٤

السلام ، فنطلق عليها وصف «إمبراطورية» ، كما أراد أن يصفها بعض المؤرخين المحدثين (١) ، أو نبالغ في حدودها كما فعل بعض الكتاب المصريين المحدثين ، فجعلها تمتد من نهر الفرات إلى البحر المتوسط ، ومن دمشق إلى الخليج العربي (٢) ، بل إن هناك من زعم ، دونما أي دليل ، أن داود وسليمان عليهما‌السلام قد أقاما دولة تشمل الشام كله ، والجزيرة العربية كلها (٣) ، الأمر الذي يدعونا إلى مناقشته بشيء من التفصيل عند الحديث عن دولة سليمان عليه‌السلام.

وعلى أية حال ، فربما كان تحديد الدكتور الحاخام «أبشتين» أقل مبالغة من غيره ، فقد ذهب إلى أن دولة داود كانت تمتد من فينيقيا (لبنان) في الغرب ، إلى حدود الصحراء العربية في الشرق ، ومن نهر العاص (الأورنت) في الشمال إلى خليج العقبة في الجنوب (٤) ، وأما التوراة فقد ذهبت إلى أن مملكة إسرائيل كانت في أقصى اتساع لها «من دان إلى بئر سبع» (٥) ، ومن ثم فالتوراة التي اشتهرت بمبالغاتها فيما يتصل بمملكة إسرائيل ، إنما تحدد لها من الشمال مدينة «دان» وتقع عند سفح جبل حرمون عند تل القاضي حيث منابع الأردن على مبعدة ثلاثة أميال غربي بانياس (٦) ، ومن الجنوب «بئر سبع» الحالية ، ولم تشر التوراة إلى حدود لإسرائيل من الغرب أو الشرق ، هذا أو قد ذهب المسعودي إلى أن ملك داود

__________________

(١) O. Eissfeldt, The Hebrew Kingdom, in CAH, II, Part, ٢, Cambridge, ٥٨٣.p ، ١٩٧٥.

(٢) علي إمام عطية : الصهيونية العالمية وأرض الميعاد ص ٦٣.

(٣) جمال عبد الهادي ووفاء رفعت : ذرية إبراهيم عليه‌السلام وبيت المقدس ـ الرياض ١٩٨٦ ص ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، ٢٥٩ ، ٢٧٠.

(٤) I ,Epstein ,Judaism , ٣٥.p ، ١٩٧٠.

(٥) قضاة ٢٠ / ١ ، صموئيل أول ٣ / ٢٠ ، صموئيل ثان ٢٤ / ١٥ أخبار أيام أول ٢١ / ٢ ، وكذاM.F.Unger ,Op ـ cit ,p. ٢٣٦.

(٦) قاموس الكتاب المقدس ١ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

٦٥

إنما كان على فلسطين والأردن ، كما جاء في مروج الذهب (١).

ولعل من الجدير بالإشارة أن فينيقيا كانت ـ وخاصة على أيام «حيرام» (٩٨٠ ـ ٩٣٦ ق. م) الذي عاصر داود وسليمان وكان ذا نشاط كبير في الاقتصاد والفن والعمارة في إسرائيل ـ دولة مستقلة ، وليست هناك أية إشارة في التوراة أو الوثائق التاريخية إلى أن حيرام كان خاضعا لداود ، كما أن هناك ما يشير إلى محاولة داود توطيد علاقاته بحماة من أقصى الشمال ، فضلا عن الفلسطينيين في الغرب ، وأن السيطرة الإسرائيلية على أيام داود لم تكتمل بالاستيلاء على كل فلسطين ، وحتى الجزية ، فيما يبدو ، لم تكن ترسل إلى القدس ، أضف إلى ذلك أن الفلسطينيين الجنوبيين قد وضعوا أنفسهم ، راغبين لا مكرهين ، تحت حماية فراعين مصر الشماليين في تانيس ، والذين كانوا يتبعون سياسة نشطة في فلسطين في تلك الأيام ، حتى إن «شيشنق ، مؤسس الأسرة الثانية والعشرين ، عند ما غزا يهوذا بعد موت سليمان عليه‌السلام ، لم يذكر المدن الفلسطينية ، مما يدل على أنها كانت تحت الحكم المصري من قبل» (١).

ومن ثم يذهب «هربرت ويلز» إلى أن أرض الميعاد (المزعومة) لم تقع يوما ـ ولن تقع ، في قبضة العبرانيين ، هذا فضلا عن أن ما وطد ملك داود ، وهيأ له شيئا من الاتساع ، أن أمور مصر كانت في عهده مرتبكة ، فخفت هيمنتها على فلسطين وبلاد الشام ، وكانت أمور آشور مرتبكة كذلك ، وقد منح هذا كله لداود عليه‌السلام شيئا من الحرية والنشاط وممارسة السيادة (٢).

__________________

(١) ج. كونتنو : الحضارة الفينيقية ـ ترجمة محمد عبد الهادي شعيرة ص ٧١ ، وكذاH.R.Hall ,Op ـ cit ,p. ٤٣١.

(٢) H.G.Wells ,the outline of History ,London , ٢٧٩.p ، ١٩٦٥.

٦٦

وأيا ما كان الأمر ، فإن حكم داود ـ وكذا سليمان ، عليهما‌السلام ، إنما يمثل فترة الرخاء الوحيدة التي قدّر للشعوب العبرانية أن تعرفها على مرّ الدهور ، وهي تقوم على محالفة وثيقة الأواصر مع مدينة «صور» الفينيقية التي يلوح أن ملكها «حيرام» كان رجلا قد أوتى نصيبا كبيرا من الذكاء والقدرة على المغامرة ، وكان يبغي أن يكفل للتجار في البحر الأحمر طريقا آمنا عبر منطقة التلال العبرانية ، وكان الأصل في التجارة الفينيقية أن تذهب إلى البحر الأحمر عن طريق مصر ، بيد أن مصر كانت في تلك الفترة تمر بحالة من الفوضى ، هذا وقد أنشأ حيرام أوثق العلاقات مع داود وسليمان عليهما‌السلام ، وقد أنشئت بمساعدة حيرام أسوار أورشليم وقصرها ومعبدها ، وفي مقابل ذلك بني حيرام سفنه على البحر الأحمر وسيّرها فيه ، وأخذ سيل جسيم من التجارة يتدفق خلال أورشليم نحو الشمال والجنوب (١) ، بخاصة وأن داود عليه‌السلام قد سيطر تماما على طرق لقوافل القادمة من بلاد العرب الجنوبية والتي كانت تمر في مملكته عند النهاية الشمالية لخليج العقبة على الجانب الشرقي لوادي عربة ، وحتى غوطة دمشق ، ثم ترتبط بالطرق المؤدية إلى شمال سورية فآسيا الصغرى ، وتلك التي كانت تمر بالصحراء الغربية إلى «ميزوباتاميا» ، مما كان له أكبر الأثر في حالة دولة داود الاقتصادية ، بل إن هناك من يذهب إلى أن حروب داود إنما كانت لهذا الغرض ، على الرغم من أن المصادر المتبقية من عهده لا تعطي أهمية لذلك (٢) ، وهذا ما نرفضه تماما ، ذلك أن داود ، وإن كان ملك اليهود القدير ، فهو قبل ذلك وبعده نبيّ الله ورسوله ، وما كان الأنبياء أبدا يحاربون من أجل أسباب اقتصادية ، وإنما كانت حروبهم كلها جهادا في سبيل الله ونشر كلمة «لا إله إلا الله».

__________________

(١) H.G.Wells ,Ashort History of the World ,p. ٧٦.

(٢) O.Eissfeldt ,Op ـ cit ,p. ٥٨٣.

٦٧

٧ ـ وراثة العرش والخلافات العائلية :

لم تكن هناك قاعدة عامة قد وضعت بعد لخلافة العرش في دولة إسرائيل الجديدة ، ولكن مما لا شك فيه أن الابن الأكبر كان صاحب الحق في ذلك ، إلا أن مكانة الأم ورغبة الملك واختيار الشعب والموافقات الدينية قد تكون سببا في اختيار أحد أخوته الصغار (١).

ويذهب بعض الباحثين إلى أنه ربما كانت فكرة داود عليه‌السلام عند ما طلب «ميكال» ابنة طالوت (شاؤل) لتكون زوجة له ، إنما كان يبغي من وراء ذلك أن الابن الأكبر من هذا الزواج ، تكون له الأفضلية على بقية إخوته من علات ميكال ، وربما يستطيع هذا الابن المرتقب أن يجذب إليه عواطف هؤلاء الذين كانوا يؤيدون بيت شاؤل ، بصفته حفيدا لشاؤل ، ولكن «لم يكن لميكال بنت شاؤل ولد إلى يوم موتها» (٢) ، وهكذا ضاع الأمل في أن يكون خليفته داود هو في نفس الوقت حفيد شاؤل (طالوت) ، وأما بالنسبة لبقية أبناء داود فطبقا للقانون الإسرائيلي ـ كما قررته التوراة في سفر التثنية (٣) ، فإن للابن الأكبر نصيب الأسد في ميراث أبيه ، بصرف النظر عن مكانة الأم بين علاتها من زوجات الأب ، ومن هنا كان من الطبيعي أن يخلف داود على عرش إسرائيل أكبر ولده ، ولكن هنا في حالة داود عليه‌السلام ، مؤسس الملكية والبيت المالك ، فإن الابن الأكبر ، الذي ولد بعد اعتلائه العرش مباشرة ، ربما كانت له أفضلية خاصة ، ولكن أبناء داود أنفسهم ما كانوا

__________________

(١) A.Lods ,Op ـ cit ,p. ٣٦٤.

(٢) صموئيل ثان ٦ / ٢٣.

(٣) تثنية ٢١ / ٥ ـ ١٧ ، وانظر عن «البكورية» عند بني إسرائيل (تكوين ٢٥ / ٣١ ، تثنية ٢١ / ١٧ ، خروج ٢٢ / ٢٩ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ١٨٧ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ١٨٩ ـ ١٩٢).

٦٨

يعيرون المظهر الأخير أية أهمية خاصة ، وإنما كانوا يعتبرون أنفسهم جميعا خلفاء محتملين للعرش ، طبقا لترتيب أعمارهم (١).

وهناك في التوراة قائمة بستة أبناء ولدوا في حبرون ، أثناء فترة ملكية داود على يهوذا وهم «وكان بكره أمنون من أخينو عم اليزرعيلية ، وثانية كيلاب من أبيجايل ، والثالث أبشالوم ابن معكة بنت تلماي ملك جشور ، والرابع أدونيا بن جحيث ، والخامس شفطيا بن أبيطال ، والسادس يثر عام من عجلة» (٢) ، ولكن نظرا لأن داود كانت له زوجتان ، على الأقل ، تعتبران أقدم من الأخريات (أخينوعم وأبيحايل) ، وطبقا لرواية التوراة في صموئيل الأول (٢٥ ـ ٤٣) فربما كان البعض من هؤلاء الأبناء أكبر قليلا من الآخرين ، وأن القائمة السابقة كانت إضافة لإحصاء أبناء داود الذين ولدوا في أورشليم (٣) ، وهم طبقا لرواية صموئيل الثاني (٥ ـ ١٦) : شموع وشوباب وناثان وسليمان وبيجار واليشوع ونافج ويافيع والبشمع والبداع واليفلط».

هذا ويوصف «أمنون» صراحة في سفر صموئيل الثاني (٣) بأنه ابن داود البكر ، ومن ثم فقد اعتبر نفسه ، كما اعتبره إخوته كذلك ، وليا للعهد أو الملك القادم ، غير أنه لم يكن حكيما بما فيه الكفاية ، كما لم يكن كريما ولا عفيفا ، وطبقا لرواية التوراة في صموئيل الثاني (إصحاح ١٣ ـ ١٤) فقد اعتدى على أخته غير الشقيقة ، مما دفع أبشالوم إلى أن يثأر لعرض شقيقته «تامار» فيقتله ، ثم هرب عند أخواله في جشور ، وبقي هناك ثلاث سنوات (٤) ، ومن ثم فقد أصبح كيلاب الابن الثاني لداود وليا للعهد ، ولكنه

__________________

(١) M.Noth ,Op ـ cit ,p. ٢٠٠

(٢) صموئيل ثان ٣ / ٢ ـ ٥.

(٣) M.Noth ,Op ـ cit ,p. ٢٠٠

(٤) انظر عن قصة أمنون وأخته ثامار (صموئيل ثان ١٣ / ١ ـ ٣٩ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ٢١١ ـ ٢١٣).

٦٩

سرعان ما يختفي لسبب لا ندريه على وجه اليقين ، ومن ثم فقد أصبح أبشالوم الابن الثالث لداود وليا للعهد ، ولكنه بدوره سرعان ما يختفي في ثورة دامية ، كما سنرى ، ومن ثم تصبح ولاية العهد من حق الابن الرابع «أدونيا» ، ولكنه لم يصل إلى العرش أبدا ، حيث سيكون ذلك من نصيب سليمان ، الابن العاشر كما سنشير إلى ذلك بالتفصيل فيما بعد.

٨ ـ ثورة أبشالوم :

بدأ أبشالوم يعدّ العدة لاعتلاء عرش أبيه ، وكان أول ما فعله أن حصل ـ بمساعدة يؤاب ـ على عفو أبيه المطلق عن جريمته بقتل أخيه أمنون ، ومن ثم فقد عاد أبشالوم من جشور إلى أورشليم ، وبدأ يبث الدعوة لنفسه بين المقربين إليه ، ثم سرعان ما نجح في اكتساب عطف وتأييد القبائل الإسرائيلية وخاصة يهوذا قبيلة أبيه ، وحين استوثق من النجاح ذهب إلى حبرون بإذن من أبيه ، بحجة الوفاء بنذر كان قد نذره إبان إقامته في «جشور» ، وهناك في حبرون أعلن عصيانه ونادى بنفسه ملكا على إسرائيل ، ومن أسف أن القوم سرعان ما انضموا إليه ضد داود ، بل إن ثورة أبشالوم سرعان ما ضمت إليها «أخيتوفل» وهو واحد من مستشاري داود المقربين (١).

وتعلل بعض المصادر الإسلامية سرعة استجابة اليهود لأبشالوم ، بأن قصة امرأة أوريا الحثي كانت سببا في إزالة طاعة داود عن بني إسرائيل واستخفوا بأمره ووثب عليه ابن يقال له «إيشا» وأمه ابنة طالوت ، فدعى إلى نفسه ، فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما تاب الله على داود اجتمع إليه طائفة من الناس ، فحارب ابنه حتى هزمه ، ووجه إليه بعض قواده

__________________

(١) صموئيل ثان ١٣ / ٢٩ ، ١٤ / ١ ـ ٣ ، ١٥ / ٧ ـ ١٠ ، ماير : حياة داود ص ٣٦٢ (مترجم) ، وانظر : تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٣.

٧٠

وأمره بالرفق به والتلطف لعله يأسره ولا يقتله ، وطلبه القائد وهو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله ، فحزن عليه داود حزنا شديدا وتنكر لذلك القائد (١).

ويذهب بعض المؤرخين المحدثين إلى أن القبائل الإسرائيلية ربما كانت غير راضية عن اتساع أملاك داود التي بدأت تمتد إلى ما وراء مناطقها ، ذلك لأن ضم إسرائيل لعديد من المدن المستقلة ذات المستوى الحضاري المتقدم ، والتي تمتلك صناعات هامة ، فضلا عن سيطرتها على أراض كبيرة وغنية تمر خلالها طرق القوافل ، كل ذلك أدى إلى رخاء مفاجئ في إسرائيل ، تمتعت به طبقة خاصة صغيرة من رجال البلاط وكبار الموظفين وقادة الجيش والتجار ، بينما لا يتمتع العامة من القوم ممن كانوا يعملون جنودا عاديين في الجيش بمثل هذا الرخاء ، مما جعلهم غير راضين عن الوضع الجديد المفاجئ ويتقبلون دعاوي أبشالوم ضد أبيه (٢) ، أضف إلى ذلك ، فيما يرى البعض ، التوتر القائم بين يهوذا وإسرائيل ، والذي ظل قائما أبدا ، ورغم أنه لم يكن السبب الرئيسي للثورة ، إلا أنه لعب دورا هاما فيها ، بخاصة وأن يهوذا حيث قامت الثورة في حبرون ، بدأت تحس أن داود بدأ يفضل إسرائيل عليها (٣) ، وأخيرا فلعل من أسباب الثورة ذلك الاتجاه العدائي من القبائل الإسرائيلية ، التي اعتادت النظام القبلي ، ضد سياسة المركزية التي بدأت تسير عليها مملكة داود (٤).

ومع ذلك فإن أسباب ثورة أبشالوم ما زالت تنتظر مزيدا من الوضوح ،

__________________

(١) ابن الأثير : الكامل في التاريخ ١ / ١٢٧ ، وانظر : تاريخ الطبري ١ / ٤٨٤.

(٢) O.Eissfeld.Op ـ cit ,p. ٥٨٦ ـ ٥٨٥ A. Alt, Die Staatenluidung der Israeliten in Palastina, Mur. chen, ١ F ٥٦.p ، ١٩٥٣.

(٣) Eissfldt ,Op ـ cit ,p. ٥٨٦.

(٤) W. Albright, Archaeology and Religion of Israel, p. ١٥٨.

٧١

ذلك لأن حركة السخط التي قام بها «شبع بن بكري» من سبط بنيامين (١) (سبط طالوت) ضد داود ، بعد انتصاره على ولده أبشالوم ، إنما قد استمدت قوتها من المعارضة الدائمة بين قبائل الشمال والجنوب ، ورغم أن داود عليه‌السلام قد كتب له نجحا بعيد المدى في القضاء على كليهما ، وأن القضاء على ثورة شبع كان أسرع من القضاء على ثورة أبشالوم ، فالذي لا شك فيه أن الأمور في إسرائيل ربما كانت سوف تتغير كثيرا بسبب هاتين الثورتين ، لو لا وجود شخصية داود القوية (٢) ، ذلك لأن التنافس بين قبائل الشمال والجنوب كان أقوى عوامل هدم مملكة إسرائيل ، وهو تنافس لم يقض عليه أبدا ، بل هو نفسه الذي قضى على الدولة (٣).

وأيا ما كان الأمر ، فإن ثورة أبشالوم إنما كانت جد خطيرة ، حتى إن داود عليه‌السلام لم يجد بجواره غير حرسه الخاص وحتى اضطر إلى أن يعبر الأردن إلى «محانيم» تحت حماية التابوت مع رجاله ، حتى لا يفاجأ بأبشالوم وأتباعه في العاصمة أورشليم (٤) ، بل إن بعض المصادر العربية جعلته يلحق بأطراف الشام ، بل إن الخيال ذهب بهم إلى أن يصلوا به إلى خيبر وما إليها من بلاد الحجاز (٥) ، بينما ذهب آخرون إلى أن داود هرب ماشيا على رجليه حتى صعد عقبة طور سيناء ، وبلغ منه الجوع حتى لحقه رجل معه خبز وزيت فأكل منه ، ودخل أبشالوم مدينة أبيه ، وصار إلى داره وأخذ سراري أبيه فوطأهن وقال : ملكني الله على بني إسرائيل ، وخرج معه اثنا عشر ألفا فطلب داود ليقتله ، فهرب داود حتى جاز نهر الأردن (٦) ، وهكذا يبدو واضحا مدى

__________________

(١) صموئيل ثان ٢٠ / ١ ـ ٢٢.

(٢) O.Eissfeldt ,Op ـ cit ,p. ٥٨٦.

(٣) سبتينو موسكاتي : المرجع السابق ص ١٤١.

(٤) صموئيل ١٤١١٥ ـ ١٦ / ١٤.

(٥) تاريخ ابن خلدون ٢ / ١١١ (بيروت ١٩٨١).

(٦) تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٣ (بيروت ١٩٨٠).

٧٢

اضطراب الروايات في تحديد المكان الذي لجأ إليه داود عليه‌السلام ، فهو في رواية لجأ إلى محانيم في عبر الأردن ، وهو في رواية ثانية إنما يلجأ إلى خيبر في شمال غرب الجزيرة العربية ، وفي رواية ثالثة صعد إلى عقبة طور سيناء ، بل إن نفس الرواية سرعان ما تعكس الاتجاه وتذهب به إلى الشرق ، فتعبر به الأردن ، وبدهي أن اضطراب هذه الروايات إنما يقلل من قيمتها التاريخية ، ويجعلها في مظان الشك وهواتف الريبة ، فضلا عن الشك في القصة من أساس ، وهذا ما نميل إليه ونرجحه.

وعلى أية حال ، فإن أبشالوم ، طبقا لرواية التوراة ، قد استطاع أن يستولى على أورشليم ، وأن يغتصب عرش أبيه بل إنه حتى لم يتورع عن أن ينتهك عرض أبيه بمشورة أخيتوفل على مرأى من الناس «فنصبوا لأبشالوم الخيمة على السطح ، ودخل أبشالوم إلى سراري أبيه أمام جميع إسرائيل» (١) ، غير أن بني إسرائيل بدءوا بعد ذلك يعودون إلى داود والانضمام إلى جيشه تدريجيا ، ربما نتيجة لما بذله بعض المخلصين له من جبرون ، وربما نتيجة لغرور أبشالوم وأخطائه الكثيرة ، وإصغائه للحمقى من المقربين إليه ، وما ترك ذلك من آثار سيئة في نفوس الناس.

وأيا ما كان السبب ، فإن أبشالوم قد حاول بكل ما وسعته المحاولة من أن يمنع عودة أبيه إلى أورشليم ، ومن ثم فقد جمع أنصاره قبل تفاقم الأمر ، وزحف بهم إلى شرق الأردن ، حيث كان أبوه في جلعاد ، وقد اجتمع إليه عدد كبير من الأنصار ، وهكذا بدأ القتال في «وعر أفرايم» قرب محانيم على الأرجح ، وأثبت رجال داود أنهم أعلى كعبا من رجال القبائل الإسرائيلية الذين التفوا حول أبشالوم ، ودارت الدائرة على أبشالوم الذي أمر الملك بعدم قتله ، «وكانت هناك مقتلة عظيمة في ذلك اليوم ، قتل عشرون ألفا ،

__________________

(١) صموئيل ثان ١٦ / ٢٢ وانظر : تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٣.

٧٣

وكان القتال هناك منتشرا على وجه كل الأرض ، وزاد الذين أكلهم الوعر من الشعب على الذين أكلهم السيف في ذلك اليوم» ، وقتل أبشالوم أثناء هروبه ، على الرغم من أوامر الملك الصريحة على ملأ من الشعب بعدم قتله ، وكما يقول الطبري : وجه داود في طلبه قائدا من قواده (يؤاب) وتقدم إليه أن يتوقى حتفه ، ويتطلف لأسره ، فطلبه القائد وهو منهزم ، فاضطره إلى شجرة فركض فيها ، وكان ذا جمّة ، فتعلق بعض أغصان الشجرة بشعره فحبسه ، ولحقه القائد فقتله مخالفا لأمر داود ، فحزن عليه داود حزنا شديدا ، وتنكر للقائد ، وربما طبقا لرواية التوراة أن رجلا رأى أبشالوم معلقا من رأسه في شجرة كبيرة ملتفة الأغصان فأخبر القائد يؤاب الذي أمره بقتل أبشالوم على أن يعطيه عشرة من الفضة ومنطقة ، لكن الرجل رفض أن يقتل ابن الملك ، بعد أن سمع الملك يوصي بعدم قتله ، ولو أعطاه ألفا من الفضة ، ومن ثم فقد تقدم يؤاب «وأخذ ثلاثة سهام بيده ونشبها في قلب أبشالوم ، وهو بعد حي في قلب البطمة ، وأحاط بها عشرة غلمان حاملوا سلاح يؤاب وضربوا أبشالوم وأماتوه» ، وقد أدى ذلك كله إلى حزن داود المرير على ولده ، حتى «صعد إلى علية الباب وكان يبكي ويقول ، وهو يتمشى ، يا ابني يا أبشالوم يا ابني يا ابني أبشالوم ، يا ليتني مت عوضا عنك يا أبشالوم ابني يا ابني» ، وهكذا لم يعد أمام القبائل الإسرائيلية سوى المناداة بداود ملكا عليها مرة ثانية (١).

٩ ـ التعداد العام ونتائجه :

تروي التوراة أن رب إسرائيل غضب على شعبه إسرائيل «فأهاج عليهم داود قائلا : امض واحص إسرائيل ويهوذا ، فقال الملك ليؤاب رئيس الجيش الذي عنده : طف في جميع أسباط إسرائيل من دان إلى بئر سبع

__________________

(١) صموئيل ثان ١٨ / ١ ـ ١٩ / ٤١ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٨٤ ، تاريخ ابن خلدون ١ / ١١١ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٣ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٧.

٧٤

وعدوا الشعب فاعلم عدد الشعب» ، ويقوم يوآب بالمهمة التي تستغرق ستة أشهر وعشرين يوما. «وكان إسرائيل ثمان مائة ألف بأس مستل السيف ، ورجال يهوذا خمس مائة ألف رجل» ، غير أن رب إسرائيل سرعان ما يرسل جاد النبي ليخيّر داود بين «سبع سني جوع في أرضك ، أم تهرب ثلاثة أشهر بين أعدائك ، أم يكون ثلاثة أيام وباء في أرضك» ، ويترك داود الخيرة لربه «الذي يجعل وباء في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع ، سبعون ألف رجل ، وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها ، فندم الرب (١) عن الشر ، وقال للملاك المهلك للشعب كفى ، الآن رويدك» (٢).

ومن عجب أن التوراة لم تقدم لنا هنا سببا مقنعا لغضب يهوه على شعبه ، وإن أشارت أن ذلك إنما كان بسبب خطايا داود ، ومن ثم فهو يقول ، ملتمسا عفو ربه ورحمته بشعبه «ها أنا أخطأت ، وأنا أذنبت ، وأما هؤلاء الخراف فما ذا فعلوا؟ فلتكن يدك على وعلى بيت أبي» ، ثم تعود مرة أخرى فتروي نفس الرواية ، ولكنها تقدم أرقاما للإحصاء تختلف عن المرة الأولى «فإسرائيل كان ألف ومائة ألف رجل مستلى السيف ، ويهوذ أربع مائة وسبعين ألف رجل مستلى السيف» ، هذا بخلاف سبطي لاوي وبنيامين (٣) ، والتعارض هنا بين نصوص التوراة ليس أمرا جديدا علينا فنظائره كثيرة.

__________________

(١) من المؤلم أن توراة اليهود ، وليست توراة موسى ، كثيرا ما تصور يهوه (الله) ليس معصوما ، وأنه كثيرا ما يقع في الخطأ ثم يندم على خطئه ، حدث ذلك عند ما فكر في إهلاك اليهود عن بكرة أبيهم ، مما اضطر موسى إلى أن ينصحه فينتصح ، ثم هناك ندمه على اختيار شاؤل (طالوت) ملكا ، غير أن أشنع أخطائه خلقه الإنسان ، ثم ندم على ذلك (انظر : تكوين ٦ / ٦ ، خروج ١٢ / ١٤ ، ٣٢ / ١٠ ، صموئيل أول ١٥ / ١١ ، إرميا ١٨ / ٧ ـ ١٠ ، عاموس ٧ / ١ ـ ٦ ، يونان ٣ / ٩ ـ ١٠ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ٤ / ١٢ ـ ١٤).

(٢) صموئيل ثان ٢٤ / ١ ـ ١٧.

(٣) أخبار أيام أول ٢١ / ٥ ـ ٦ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٧٣٨ ـ ٧٤٠.

٧٥

وعلى أي حال ، فإن التوراة تجعل التعداد الذي قام به داود ، بأمر من رب إسرائيل ، سببا من البلايا التي أنزلها رب إسرائيل بإسرائيل ، وإن كنا لا ندري لم يغضب رب إسرائيل من قيام ملك إسرائيل بهذا التعداد ، الذي تقوم به شعوب كثيرة (١) ، حتى يفرض عليه واحدة من بلايا ثلاثة : أقلها وباء يروح ضحيته سبعون ألف رجل ، غير أن الإمام الطبري يروي عن «وهب بن منبه» أن سبب غضب الرب أن داود فعل ذلك دون أمر من ربه ، فعتب الله عليه ذلك وقال : قد علمت أني وعدت إبراهيم أن أبارك فيه وفي ذريته حتى أجعلهم كعدد نجوم السماء ، وأجعلهم لا يحصى عددهم ، فأردت أن تعلم عدد ما قلت ، إنه لا يحصى عددهم ، فاختاروا بين أن أبتليكم بالجوع ثلاث سنين أو أسلط عليكم العد ثلاثة أشهر أو الموت ثلاثة أيام ، فاستشار داود في ذلك بني إسرائيل فقالوا : ما لنا بالجوع ثلاث سنين صبرا ، ولا بالعدو ثلاثة أشهر ، فليس لهم بقية ، فإذا كان لا بد فالموت بيده لا بيد غيره ، فذكر وهب أنه مات منهم في ساعة من نهار ألوف كثيرة ، لا يدري ما عددهم ، فلما رأى داود ذلك شق عليه ما بلغه من كثرة الموت ، فتبتل إلى الله ودعاه فقال : يا رب أنا آكل الحماض (أي ما في جوف الأترجة) وبنو إسرائيل يضرسون ، أنا طلبت ذلك فأمرت به بني إسرائيل ، فما كان من شيء فبى ، واعف عن بني إسرائيل ، فاستجاب الله لهم ورفع عنهم الموت» (٢).

والغريب في هذه الرواية أنها تناقض رواية التوراة في أمور ، منها أن التعداد هنا كان بأمر داود ، مع أن رواية التوراة صريحة في أن الذي أمر

__________________

(١) لعل أول شعوب العالم التي قامت بعمل تعداد عام إنما هم المصريون ، وقد قام به الملك «دن» (وديمو» رابع ملوك الأسرة الأولى الفرعونية ، وذلك قبل عام ٣٠٠٠ ق. م ، ولأول مرة في التاريخ ، وبالمناسبة فإن آخر تعداد تم في مصر كان في نوفمبر عام ١٩٨٦ ، وبلغ سكان مصر أكثر من ٥٠ مليون.

(٢) تاريخ الطبري ١ / ٤٨٥ ، وانظر تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٥ ـ ٥٦ ، تاريخ ابن خلدون ١ / ١١١.

٧٦

بالتعداد إنما هو رب داود ، وليس داود ، ومنها أن بني إسرائيل هنا هم الذين اختاروا الموت عقابا لهم ، وفي رواية التوراة أن داود ترك الخيّرة لأمر ربه ، فاختار لهم الموت ، ومنها أن عدد القتلى هنا غير معروف وإن كان ألوفا كثيرة ، مع أنه في رواية التوراة قد حدد بسبعين ألفا ، ومنها أن داود اعتذر هنا بأنه يأكل الحماض وبنو إسرائيل يضرسون ، وفي رواية التوراة اعتراف صريح «ها أنا أخطأت وأنا أذنبت ، وأما هؤلاء الخراف فما ذا فعلوا» والأعجب أننا ما ندري لوهب بن منبه مصدرا في روايته هذه غير التوراة ، ولم يقل لنا الإمام الطبري ، أو وهب بن منبه ، عن مصدر آخر غير التوراة اعتمد عليه في روايته هذه ، فما بالك والتوراة نفسها موضع شك كبير.

١٠ ـ وفاة داود عليه‌السلام :

وتنتهي أيام داود ، النبي الأواب ، في هذه الدنيا ، وينتقل عليه‌السلام إلى جوار ربه ، راضيا مرضيا عنه من ربه الكريم ، «واضطجع داود مع آبائه ودفن في مدينة داود» ، وفي الواقع فإن دفن النبي الأواب في مدينة أورشليم (١) (مدينة داود) لأمر غريب ، ذلك لأن هناك عبارة طالما تكررت في التوراة ، وهي أن فلانا قد انضم إلى قومه» أو «انضم إلى آبائه» (٢) ، وربما لا تعدو أن تكون إشارة إلى عقيدة القوم في أن الموتى من أسرة ما ، يجب أن يدفنوا في مكان واحد ، ليبقوا كما كانوا على قيد الحياة (٣) ، ومن هنا فقد كان من المنتظر أن يدفن داود في مقابر أسرته في «بيت لحم» ، وهو الحريص على التقاليد ، والتي يستطيع قارئ التوراة أن يقدم الكثير من الأدلة عليها ، بل إن داود لينقل عظام شاؤل ، وكذا ولديه ، من يابيش

__________________

(١) يذهب ابن خلدون في تاريخه (١ / ١١٢) إلى أن داود دفن في بيت لحم.

(٢) تكوين ٢٥ / ٨ ، قضاة ٢ / ١.

(٣) S.Yeipin ,JNES , ٣٠.p ، ١٩٤٨ ، ٧.

٧٧

جلعاد ، ليدفنوا» في أرض بنيامين في صيلع في قبر قيس أبيه» (١) ، ومع في ذلك فإن داود نفسه الذي كان مخلصا للعادات والتقاليد إلى هذا الحد ، لم يدفن في مقبرة أسلافه في بيت لحم ، وإنما في مقبرة جديدة في القدس (مدينة داود) ، وقد يقال إن ذلك تم بدون رغبة منه أو أنه لم يترك تعليمات فيما يختص بمكان دفنه ، ولكن هناك عبارات في التوراة يفهم منها أن الرجل المحتضر كان يوصي أقرباءه بدفنه في مقبرة الأسرة (٢) ، وأن داود الذي أعطى تعليماته النهائية لولده وخليفته سليمان فيما يختص بأعدائه لم ينس بطبيعة الحال التعليمات الخاصة بمكان دفنه (٣).

ويذهب بعض الباحثين إلى أن السبب في دفن داود في القدس ، وليس في بيت اللحم. والأمر كذلك بالنسبة إلى خلفائه المباشرين الاثني عشر ، هو تقليد الملك داود لجيرانه من الملوك ، ذلك أنه منذ القرن الثالث عشر ، وحتى القرن السادس أو السابع قبل الميلاد على الأقل كان العرف السائد في كل حوض شرق البحر المتوسط هو أن يدفن الملوك في قصورهم ، أو على مقربة منها ، وليس داخل أسوار مدنهم فحسب (٤) ، وإني لأظن ، وليس كل الظن إثما ، أن المؤرخين قد أخطئوا كثيرا في تفسير الأحداث الخاصة بداود عليه‌السلام ، فهم يتعاملون معه على أنه ملك إسرائيل فحسب ، ونسوا ، أو تناسوا ، أنه قبل ذلك وبعده نبيّ الله ورسوله ، وطبقا لهذه الحقيقة التي يتغافل عنها البعض ، يمكننا تفسير مكان دفن داود عليه‌السلام في القدس ، وليس في بيت لحم ، اعتمادا على ما روي عن سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون ، فلقد حدث أبو بكر الصديق أنه

__________________

(١) قضاة ٨ / ٣٢ ، صموئيل ثان ١٩ / ٣٧ ـ ٣٨ ، ٢١ / ١١ ـ ١٤.

(٢) تكوين ٤٩ / ٢٩ ـ ٣٣.

S. Yeivin, The Sepulchers of the Kings of the House of David, JNES, (٧). ٣١.p ، ١٩٤٨ ، ٧.

(٣).S.Yeivin ,p ـ cit ,p. ٣٨ ـ ٣٦.

٧٨

سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض» ، وفي رواية «ما مات نبيّ إلا دفن حيث قبض».

هذا وكان عمر داود عليه‌السلام ، فيما وردت به الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة سنة (١) ، فقد جاء من الأحاديث الواردة في خلق آدم أن الله لما استخرج ذريته من ظهره ، فرأى فيهم الأنبياء عليهم‌السلام ، ورأى فيهم رجلا يزهر فقال أي رب من هذا ، قال ابنك داود ، قال أي رب كم عمره ، قال ستون عاما ، قال رب زد في عمره ، قال لا إلا أن أزيده من عمرك ، وكان عمر آدم ألف عام ، فزاده أربعين عاما ، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت ، فقال بقي من عمري أربعون سنة ، ونسي آدم ما كان وهبه لولده داود ، فأتمها الله لآدم ألف سنة ، ولداود مائة سنة» (رواه الإمام أحمد عن ابن عباس ، والترمذي عن أبي هريرة وصححه ، وابن خزيمة وابن حبان ، ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم) (٢) ، وقال الطبري : وأما بعض أهل الكتاب فإنه زعم أن عمره كان سبعا وسبعين سنة (٣) ؛ وأما رواية التوراة فتجعل عمره سبعين عاما «كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك ، وملك أربعين سنة» (٤) وبدهي أن رواية التوراة ، وكذا رواية بعض أهل الكتاب كما نقلها الطبري وغيره ، غير صحيحة ، أو كما يقول ابن كثير فهذا غلط مردود عليهم ، وأما مدة ملكه ، وهي أربعون سنة (٥) ، فقد يقبل منهم ، لأنه ليس عندنا ما ينافيه ولا ما يقتضيه (٦).

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٤٨٥.

(٢) ابن كثير. البداية والنهاية ١ / ٨٧ ـ ٨٨ ، ٢ / ١٦.

(٣) تاريخ الطبري ١ / ٤٨٥ ، وانظر : تاريخ اليعقوبي حيث يذهب إلى أن داود عليه‌السلام مات وله مائة وعشرون سنة ، وكان ملكه أربعين سنة (تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٦).

(٤) صموئيل ثان ٥ / ٤.

(٥) صموئيل ثان ٥ / ٤ ـ ٦ ، أخبار أيام أول ٢٩ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٦) ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ١٦ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٨ ، تاريخ المسعودي ١ / ٧٠ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٨٥.

٧٩
٨٠