دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

بن زكريا عليهما‌السلام : اذهب بنا نلعب ، فقال : أللعب خلقنا ، اذهبوا نصلي ، فهو قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ، وقد اختلف العلماء في معنى «الحكم» هنا ، فمن قائل أنها بمعنى الحكمة ، وهي الفهم في التوراة والفقه في الدين ، قال الطبري : المعنى أعطيناه الفهم لكتاب في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال ، ومن قائل إنها بمعنى العقل والفراسة الصادقة ، ومن قائل إنها النبوة وعليه كثير ، قالوا : أوتيها وهو ابن ثلاثين ، وقبل وهو ابن سبع سنين أو ابن اثنتين ، ولم يتنبأ أكثر الأنبياء عليهم‌السلام قبل الأربعين ، وإن رأى البعض أن الحكم هنا ليس بمعنى النبوة ، فهي على سن الأربعين ، وإنما المراد الفهم والفقه في الدين ، وهو غير الحكمة المفسرة بالنبوة ، كما في الآية (٢٥١) من سورة البقرة ، والتي جاءت في حق داود عليه‌السلام (١).

هذا ويرجح الفخر الرازي في التفسير الكبير أنها النبوة ، ذلك لأن الله تعالى قد أحكم عقله في صباه وأوحى إليه ، وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما‌السلام ، وهما صبيان ، لا كما بعث موسى ومحمد عليهما‌السلام ، وقد بلغا الأشد ، والأقرب حمل الحكم على النبوة لوجهين ، الأول : أن الله تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه ومنقبته ، ومعلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان ، فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها ، فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية ، ولا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه اللفظة فوجب حملها عليها ، والثاني : أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ولغيره على الإطلاق ، وذلك لا يكون إلا بالنبوة ، فإن قيل كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا؟ قلنا هذا السائل ، إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع ، فإن منع منه فقد سدّ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٦ / ٥٤ ـ ٥٥ ، تفسير النسفي ٣ / ٣٠ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٨٣ ، تفسير روح المعاني ١٦ / ٧٢ ، صفوة التفاسير ٢ / ٢١٣ ، تفسير الكشاف ٢ / ٥٠٤.

٢٦١

باب النبوات لأن الأنبياء بناء الأمر فيها على المعجزات ، ولا معنى لها إلا خرق العادات ، وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد ، فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلا ، أشد من استبعاد انشقاق القمر ، وانفلاق البحر (١).

ومنها (ثالثا) وحنانا من لدنا : أي أن الله آتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه ، وإنما هو مطبوع عليه ، ومطبوع به ، والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس ، وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق ، وعن زيد أن الحنان هنا المحبة ، وهو رواية عكرمة ، أي وآتيناه محبة من لدنا ، والمراد جعلناه محببا عند الناس ، فكل من رآه أحبه ، نظير قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) ، وعن عطاء بن رباح أي آتيناه الحكم صبيا تعظيما ، إذ جعلناه نبيا وهو صبي ، ولا تعظيم أكثر من هذا ، والدليل عليه ما روى أنه مرّ وورقة بن نوفل على بلال وهو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء ، ويقول : أحد أحد ، فقال : والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لاتخذته حنانا أي معظما (٢).

ومنها (رابعا) وزكاة : والزكاة : الطهارة من الدنس والآثام والذنوب ، وقال قتادة : الزكاة العمل الصالح ، وقال الضحاك وابن جريح : العمل الصالح الزكي ، وقال العوفي عن ابن عباس : وزكاة ، قال بركة ، والمعنى آتاه الله الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس ، فيطهرها ويزكيها (٣) ، ويقول الرازي (٤) : قوله تعالى : (وَزَكاةً) فيه وجوه ، أحدهما : المراد وآتيناه زكاة ، أي عملا صالحا زكيا ، كما روى عن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريح ، وثانيها : عن الحسن البصري :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) تفسير روح المعاني ١٦ / ٧٣ ، تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ١٨٤ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٤.

(٤) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٩٣.

٢٦٢

زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء ، وثالثها : زكيناه بحسن الثناء ، كما تزكي الشهود الإنسان ، ورابعها : عن الكلبي : صدقة تصدق الله تعالى بها على أبويه ، وخامسها : بركة ونماء ، وهو الذي قاله عيسى عليه‌السلام (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ).

ومنها (خامسا) : وكان تقيا : أي كان موصولا بالله ، متحرجا معه ، مراقبا له يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه وأولى الناس بهذا الوصف من لم يعص الله ولا يهم بمعصيته ، وكان يحيى عليه‌السلام كذلك ، وقد سبق أن أشرنا إلى عدة أحاديث تدل على ذلك ، ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أحد يلقي الله يوم القيامة إلا أذنب ، إلا يحيى بن زكريا» ، وأخرج الأئمة مالك وأحمد في الزهد وعبد الله بن المبارك وأبو نعيم عن مجاهد قال : كان طعام يحيى بن زكريا عليهما‌السلام العشب وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه ، وقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه» (١).

ومنها (سادسا) : وبرا بوالديه : كان يحيى برا بوالديه مسارعا في طاعتهما ومحبتهما ، غير عاق بهما ، وذلك لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين ، ولهذا السبب قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٢).

__________________

(١) تفسير الطبري ١٦ / ٥٨ ، تفسير روح المعاني ١٦ / ٧٣.

(٢) سورة الإسراء : آية ٢٣ ، هذا وقد جاء في بر الوالدين كثير من الأحاديث الشريفة ، منها ما روي الإمام أحمد بسنده عن أنس وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد المنبر ثم قال : آمين آمين آمين ، قيل يا رسول الله علام ما أمنت ، قال أتاني جبريل فقال يا محمد ، رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك ، قل آمين ، فقلت آمين ، ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له ، قل آمين فقلت آمين ، ثم قال رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، قل آمين فقلت آمين» (مسند الإمام أحمد ٤ / ٣٤٤) ، وروى الإمام أحمد في

٢٦٣

__________________

مسنده (٤ / ٣٤٤) بسنده عن مالك بن عمرو القشيري قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أعتق رقبة مسلم فهي فداؤه من النار ، فإن كل عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه ، ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عزوجل ، ومن ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله وجبت له الجنة» ، وروى الإمام أحمد في مسنده (٥ / ٢٩) عن أبي مالك القشيري قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك ، فابعده الله وأسحقه» (ورواه أبو داود الطيالسي عن شعبه) ، وروى الإمام أحمد في مسنده (٢ / ٣٤٦) عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف رجل أدرك أبويه أو كلاهما عند الكبر ، ولم يدخل الجنة» (ورواه الإمام مسلم في صحيحه ٨ / ٥ من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال عن سهيل) ، وروى الإمام أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٤) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ ، ورغم أنف رجل دخل عليهم شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر ، فلم يدخلاه الجنة» ، قال ربعي : لا أعلمه إلا قال : «أو أحدهما» ، وروى الإمام أحمد في مسنده (٣ / ٤٩٧) عن مالك بن ربيعة الساعدي قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جاءه رجل من الأنصار ، فقال يا رسول الله : هل بقي عليّ من برّ أبوي شيء بعد موتها أبرهما به ، قال نعم خصال أربع : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلها ، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» (ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن سليمان ، وهو ابن الغسيل (سنن ابن ماجة ٢ / ١٢٠٨ ، سنن أبي داود ٢ / ٦٢٩) وروى الإمام أحمد في مسنده (٣ / ٤٢٩) بسنده عن معاوية بن جاهمة السلمي ، أن جاهمة جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أردت الغزو ، وجئتك أستشيرك ، فقال : «فهل لك من أم» قال : نعم ، قال : «فالزمها فإن الجنة عند رجليها» ، ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول (ورواه النسائي وابن ماجة من حديث ابن جريح) ، وروى الإمام أحمد في مسنده (٤ / ١٣٢) بسنده عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يوصيكم بآبائكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب» (وأخرجه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عياش ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٢٠٧) ، وروى الإمام أحمد في مسنده (٤ / ٦٤) بسنده عن رجل من بني يربوع قال : «أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمعته وهو يكلم الناس ، يقول : «يد المعطي العليا ، أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك» ، وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أديت حقها؟ قال : لا ، ولا بزفرة واحدة» أو كما قال : (وانظر : تفسير ابن كثير ٣ / ٥٧ ـ ٦٠ ـ بيروت ١٩٨٦).

٢٦٤

ومنها (سابعا) : ولم يكن جبارا : لم يكن متكبرا متعاليا عن قبول الحق والإذعان له أو متطاولا ولا على الخلق ، وقيل الجبار : هو الذي لا يرى لأحد عليه حقا ، وعن ابن عباس أنه هو الذي يقتل ويضرب على الغضب (١) ، والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب ، وذلك من صفات المؤمنين ، وقد وصف الله تعالى نبيّه سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (٢) ، قال الحسن البصري : هذا خلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه الله به ، هذا ولأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل ، ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ، ومن عرف نفسه بالذل ، وعرف ربه بالكمال ، كيف يليق به الترفع والتكبر ، ولذا فإن إبليس لما تجبر وتمرد صار مبعدا عن رحمة الله وعن الدين (٣).

ومنها (ثامنا) ولم يكن عصيا : والعصي أبلغ من العاصي ، كما أن العليم أبلغ من العالم ، والمراد المبالغة في النقي ، لا نفي المبالغة ، وقيل : عصيا : مخالفا أمر مولاه عزوجل ، وقيل : عاقا لأبويه ، ويقول الطبري : ولم يكن جبارا عصيا ، أي لم يكن مستكبرا عن طاعة الله وطاعة والديه ، ولكنه كان لله ولوالديه ، متواضعا متذللا ، يأتمر لما أمر به ، وينتهي عما نهي عنه ، لا يعصي ربه ولا والديه (٤).

ومنها (تاسعا) «وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا : وفيه أقوال ، أحدهما : قال الطبري : وأمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان

__________________

(١) تفسير روح المعاني ١٦ / ٧٣.

(٢) سورة آل عمران : آية ١٥٩ ، وانظر : تفسير الطبري ٤ / ١٥٠ ـ ١٥٣ ، تفسير ابن كثير ١ / ٦٢٨ ـ ٦٣٠ تفسير روح المعاني ٤ / ١٠٥ ـ ١٠٦ ، في ظلال القرآن ١ / ٥٠٠ ـ ٥٠١ ، تفسير النسفي ١ / ١٩١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٩٣.

(٤) تفسير الطبري ١٦ / ٥٨.

٢٦٥

من السوء بما ينال به بني آدم ، وثانيها : قال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن ، يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوما ما شاهدهم قط ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ، فأكرم الله يحيى عليه الصلاة والسلام ، فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة ، وثالثها : قال عبد الله بن نفطويه : «وسلام عليه يوم ولد» ، أي أول ما يرى الدنيا ، و «يوم يموت» أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة ، و «يوم يبعث حيا» أي أول يوم يرى فيه الجنة والنار ، وهو يوم القيامة ، وإنما قال «حيا» تنبيها على كونه من الشهداء لقوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ، وقال ابن عطية : الأظهر أن المراد بالسلام : التحية المتعارفة والتشريف بها ، لكونها من الله تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عزوجل ، وروى ابن جرير في التفسير بسنده عن قتادة أن الحسن البصري قال : «إن يحيى وعيسى التقيا ، فقال له عيسى : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال الآخر : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني ، سلمت على نفسي ، وسلم الله عليك ، فعرف والله فضلها (ورواه الإمام أحمد في الزهد عن الحسن أيضا ، كما ذكره الألوسي في روح المعاني) (١).

استشهاد يحيى عليه‌السلام : ـ

ترجع المصادر النصرانية قتل يحيى عليه‌السلام ، وهو يوحنا المعمدان عندهم ، إلى أن «هيرودوس أنتباس» (٦ ـ ٣٩ م) حاكم اليهودية من قبل الرومان ، أراد أن يتزوج من «هيروديا» امرأة أخيه «فيلبس» ، إلا أن يوحنا المعمدان (يحيى عليه‌السلام) أفتى بعدم الزواج لأنها لا تحل له ، ومن ثم فقد قرر هيرودوس التخلص منه ، إلا أنه خشي غضب القوم الذين كانوا

__________________

(١) تفسير الطبري ١٦ / ٥٨ ـ ٥٩ ، تفسير روح المعاني ١٦ / ٧٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٩٣ ـ ١٩٤ ، تفسير النسفي ٣ / ٣٠.

٢٦٦

يعتقدون في نبوة يحيى عليه‌السلام ، ولهذا فقد اكتفى بإلقائه في غياهب السجن ، وتنتهز «هيروديا» فرصة الاحتفال بعيد ميلاد هيرودوس ، وتتفق مع ابنتها «سالومي» على أن ترقص شبه عارية لعمها الملك ، وحين تنتهي من رقصتها ، ويفتتن الملك بها ، تطلب منه رأس يحيى على طبق ، وتفعل سالومي ما أشارت به أمها ، ويضطر هيرودوس إلى تنفيذ رغبة ابنة أخيه ، بناء على وعد منه أن يعطيها ما تريد ، أيا كان الذي تريد ، ومن ثم يأمر بقتل يحيى فورا بالسيف وأن يؤتي برأسه على طبق ليكون هذا ختام الاحتفال ، ثم يقدم الرأس الشريف إلى الداعرة سالومي التي قدمته بدورها إلى أمها ، وعندئذ يسرع تلاميذ يحيى فيرفعوا الجسد ويدفنوه ، ثم يخبروا السيد المسيح بالمأساة المروعة (١).

والأمر بهذه الصورة يحتاج ، فيما أرى إلى وقفة ، (فأولا) ليس هناك من ريب في أن سيدنا يحيى عليه‌السلام ، وهو الذي يسميه النصارى يوحنا المعمدان ، نبيّ من أنبياء الله المصطفين الأخيار ، كما جاء في ذلك في القرآن الكريم ، وكما رأينا من

__________________

(١) أنظر : إنجيل متى ١٤ / ٣ ـ ١٢ ، إنجيل مرقس ٦ / ١٦ ـ ٣٠ ، تاريخ يوسفيوس ص ٢١٤ ، قاموس الكتاب المقدس ٢ / ١٠١١ ، فيلب حتى : المرجع السابق ص ٤٢٠ ـ ٤٢٢ ، عبد الرازق نوفل : يوحنا المعمدان ـ القاهرة ١٩٧٧ م ص ٦١ ـ ٦٨ ، وكذاM.F.UNGer ,Unger\'s Bible Dictionary , ٤٧٢.p ، ١٩٧٠ ـ ثم قارن : ابن الأثير : الكامل في التاريخ ١ / ٣٠١ ـ ٣٠٢ ، تاريخ الطبري ١ / ٥٨٥ ـ ٥٩٣ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ١٧٢ ، مروج الذهب للمسعودي ١ / ٧٥ ـ ٧٦ ، غير أن المراجع العربية مضطربة في تأريخها لهذه الفترة ، حتى أنها تذهب إلى أن الله تعالى قد سلط على اليهود «بختنصر» (نبوخذ نصر ٦٠٥ ـ ٥٦٢ ق. م) جزاء وفاقا لما ارتكبوه في حق النبي الكريم يحيى عليه‌السلام ، وأنه قتل منهم سبعين ألف رجل وامرأته ، هذا مع العلم بأن تاريخ «نبوخذ نصر» أصبح الآن من الحقائق التاريخية المسلم بها ، وهو أنه كان يعيش في أواخر القرن السابع ، وحتى عام ٥٦٢ من القرن السادس قبل الميلاد ، وأن سيدنا يحيى كان يعيش بعد ذلك بأكثر من خمسة قرون ونصف القرن ، حيث أنه عاصر المسيح عليه‌السلام.

٢٦٧

قبل ، وليس كما يقول إنجيل متى «لأنه كان عندهم مثل نبي» (١) أو أنه «رجل بار وقديس» كما يقول إنجيل مرقس (٢) ، (وثانيا) لما ذا يمنع يوحنا المعمدان (٣) هذا الزواج ، ومبلغ علمي أن التوراة ، والتي كان على شريعتها كل من هيرودوس وهيروديا ، لا تمنع ذلك الزواج ، بل تفرضه على المؤمنين بها ، بل إنها إنما تفرض كذلك أن ينسب الأبناء من هذا الزواج الجديد إلى الأخ المتوفي (٤) وإذا كان ذلك صحيحا فإن التفسير الآنف الذكر للحدث الخطير المحزن إنما هو تفسير أناجيل النصارى ، وما كان هيرودوس نصرانيا ، إنما كان ملكا يهوديا آدوميا على مملكة آدومية يهودية ، فالتاريخ حتى تلك اللحظة ما كان يتعامل مع ملوك أو حتى شعوب نصرانية ، كما أن يحيى عليه‌السلام لم يكن نصرانيا حتى يفتى بشريعة النصارى ، بل إن السيد المسيح نفسه لم يكن حتى ذلك الوقت قد بعث رسولا نبيا ، وبالتالي لم يكن يحكم بشريعة الإنجيل ، ومن ثم فلا بد أن يكون هناك سبب آخر يمنع هذا الزواج ، وهنا نجد رواية تذهب إلى أن هيرودوس إنما كان قد ألقى بأخيه فيلبس ، زوج هيروديا ، في غياهب السجون ، ثم أمر به فقتل ، ثم أراد أن يتزوج من امرأته ، ولعل هذا هو السبب في ثورة النبي الكريم على هذا الزواج ومعارضته بشدة (٥).

على أن المراجع العربية إنما تقدم روايات تختلف عن الرواية السابقة ، فتذهب في أسباب قتل يحيى عليه‌السلام إلى أن ملك دمشق وقت

__________________

(١) متى ١٤ / ٥.

(٢) مرقس ٦ / ٢٠.

(٣) يسمى النصارى يحيى عليه‌السلام «يوحنا المعمدان» ، فأما يوحنا فهو اسمه ، وأما المعمدان ، فلأنه ، طبقا لما جاء في الأناجيل ، إنما كان يعمّد القوم ، أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا ، وقد عمّد يحيى السيد المسيح نفسه (متى ٣ / ١ ـ ١٦).

(٤) سفر التكوين ٣٨ / ٦ ـ ١١.

(٥) محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ١١٤٧ ـ ١١٤٩.

٢٦٨

ذاك أراد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له أن يتزوجها ، فنهاه يحيى عن ذلك ، فتبقى في نفسها منه ، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها ، فبعثت إليه من قتله ، وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها ، فيقال إنها هلكت من فورها وساعتها ، وقيل بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها ، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طشت.

وأما مكان قتله ، فذهب فريق إلى أنه قتل على الصخرة التي ببيت المقدس ، وذهب فريق آخر إلى أنه قتل في دمشق ، وتذهب رواية لابن عساكر عن قاسم مولى معاوية إلى أن «هداد بن هداد» ملك دمشق كان قد زوج ابنه بابنة أخيه «أريل» ملك صيدا ، فحلف بطلاقها ثلاثا ثم أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال له : لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك ، فحقدت عليه وسألت الملك رأس يحيى ، وذلك بإشارة من أمها ، فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك ، وبعث إليه وهو قائم يصلي في مسجد حبرون من أتاه برأسه في صينية ، فجعل الرأس يقول : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فأخذت المرأة الطبق فحملته إلى أمها ، وهو يقول كذلك ، فلما تمثلت بين يدي أمها خسفت بها الأرض إلى قدميها ، ثم إلى حقويها ثم إلى منكبيها ، فأمرت أمها بقطع رأسها لتتسلى برأسها ، فلفظت الأرض جثتها ، ولم يزل دم يحيى يفور حتى قدم «بخت نصر» (نبوخذ نصر) فقتل عليه خمسة وسبعين ألفا ، ثم ما زال الدم يفور حتى وقف عنده إرميا النبي ، فقال : أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله ، فسكن فرفع السيف ، وهرب نبو هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس ، فتبعهم نبوخذ نصر إليها فقتل منهم خلقا كثيرا لا يحصون كثرة ، وسبى منهم ثم رجع عنهم (١).

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ٥٣ ـ ٥٥ ، قصص الأنبياء ٢ / ٣٦٢ ـ ٣٦٦.

٢٦٩

وهذه الروايات ، وإن كان فيها بعض الشبه من رواية الأناجيل ، ففيها كذلك بعض نقاط ضعف ، منها (أولا) أن يحيى عليه‌السلام إنما كان من أنبياء بني إسرائيل ، ولم يكن أبدا من أنبياء الآراميين سكان دمشق ، وبنو إسرائيل لم يكونوا في دمشق ، وإنما كانوا في فلسطين ، وبالتالي فإن حادث مقتل النبي الكريم إنما كان في بيت المقدس ولم يكن في دمشق ، ومنها (ثانيا) أن دمشق كانت على أيام يحيى عليه‌السلام ، بل وبالتحديد منذ عام ٦٤ قبل مولد المسيح ، مستعمرة رومانية ، وبالتالي فلم يكن بها ملك ، وإنما كان بها وال روماني (١) ، ومنها (ثالثا) أن «هدد» (بنحدد) إنما كان ملك الآراميين في دمشق ، وذلك في القرن التاسع قبل الميلاد ، وقد اشترك في موقعه «قرقر» عام ٨٥٣ ق. م ضد الملك الأشوري «شلمنصر الثالث (٨٥٩ ـ ٨٢٤ ق. م) ، إلى جانب «أخاب» ملك إسرائيل وغيره من حكام ولايات سورية وفلسطين ، ومن ثم فهو قد عاش قبل عهد يحيى عليه‌السلام بأكثر من ثمانية قرون ، ومنها (رابعا) أن حاكم دمشق ، أيا كان اسمه ، لم يكن أبدا أخا لملك صيدا ، فالأولى ولاية أرامية ، والثانية فينيقية ، ومنها (خامسا) ما أشرنا إليه من قبل من أن عهد يحيى عليه‌السلام إنما كان بعد عهد «بخت نصر» (نبوخذ نصر

__________________

(١) افتتح القائد الروماني «بومبي» (Pompey) مدينة دمشق عام ٦٤ ق. م ، وفي عام ٦٣ ق. م ، وفي يوم سبت احتل مدينة القدس ودمر حصونها وقتل رجالها ، وبذا أصبحت كل من دمشق والقدس ولاية رومانية ثم سرعان ما بدأ «بومبي» تنظيماته الجديدة ، فأدخل سورية الجغرافية والتقليدية كلها تحت اسم واحد هو «ولاية سورية» (Provincia Syria) وحلت ولاية سورية محل مملكة سورية القديمة وأصبحت عاصمتها «أنطاكية» ، بينما جعلت «قليقيا» ولاية قائمة بذاتها ، وأبقيت اليهودية ولاية خاضعة ضمن إطار ولاية سورية ، وبعد فترة منحت المدن ذات الدساتير اليونانية حرية داخلية في ظل حكام الولايات الرومان ، وشكلت عشرة من هذه المدن اتحادا عرف باسم «الديكابوليس» ثم انضمت إليها مدن أخرى فيما بعد ، وعلى أية حال فلقد ظلت سورية وفلسطين ، طوال عصر مجد الامبراطورية الرومانية مجرد ولايات رومانية (أنظر : التفصيلات والمراجع : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ١١٣٦ ـ ١١٣٩).

٢٧٠

٦٠٥ ـ ٥٦٢ ق. م) بأكثر من خمسة قرون ونصف القرن ، ومن ثم فلا علاقة بين الحادثين.

ومنها (سادسا) أن فتوى يحيى عليه‌السلام بشأن المرأة التي طلقها زوجها ثلاثا ، بأنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، إنما هي فتوى إسلامية على شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس الأمر كذلك في شريعة موسى ، كما جاءت في التوراة المتداولة اليوم ، وليس لدينا غيرها عن شريعة موسى (إلا بنص من الكتاب أو السنة يبطل هذا الحكم) وقد كان يحيى يفتي بشريعة التوراة ، والتي اشترطت في الطلاق أن يعطي الرجل امرأته المطلقة وثيقة تسريح ، ثم لها بعد ذلك أن تتزوج من غيره ولكنها لا تعود إلى زوجها الأول ، إذا ما طلقت من زوجها الثاني أو حتى في حالة وفاة هذا الزوج الثاني (١) ، تقول التوراة في سفر التثنية «إذا أخذ الرجل امرأة وتزوج بها ، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء ، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو مات الرجل الآخر الذي اتخذها له زوجة ، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست» (٢).

بقيت الإشارة إلى أن سيدنا يحيى عليه‌السلام ، وقد عاصر المسيح عليه‌السلام ، فإنه من ثم يكون قد عاش على أيام القيصر «أوغسطس» (٢٧ ق. م ـ ١٤ م) والقيصر «تبيريوس» (١٤ ـ ٣٧ م) ، كما عاصر من حكام القدس من قبل الرومان «هيرودوس الكبير» (٣٧ ـ ٤ ق. م) وولده «أرخيلاس» (٤ ق. م ـ ٦ م) ثم ولده الثاني «هيرودوس أنتيباس» (٦ ـ ٣٩ م) ، ومن الحكام العرب من الأنباط «الحارث الرابع» (٩ ق. م ـ ٤٠ م).

__________________

(١) أنظر عن الزواج والطلاق في التوراة (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٤ / ٢٣٩ ـ ٢٨٦).

(٢) تثنية ٢٤ / ١ ـ ٤.

٢٧١
٢٧٢

الكتاب السّادس

المسيح عيسى ابن مريم رسول الله

٢٧٣
٢٧٤

الفصل الأول

مريم ام المسيح عليهما‌السلام

تذهب الروايات إلى أن «حنة» امرأة عمران ، وأم مريم البتول كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت ، وكانوا أهل بيت من الله ، جل ثناؤه ، بمكان ، فبينما هي في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخا له ، فتحركت نفسها للولد ، فدعت الله أن يهب لها ولدا ، فحملت مريم ، وهلك عمران أثناء الحمل ، فلما عرفت أن في بطنها جنينا ، جعلته لله نذيرة ، والنذيرة أن تعبّده لله فتجعله حبسا في الكنيسة ، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا (١) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢) ، وكانت حنى تظن أن ما في بطنها ذكرا ، ذلك لأن الذكر (٣) أقوى على الخدمة

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٢٣٥ ، وانظر : تفسير أبي السعود ١ / ٢٣٠ ، تفسير النسفي ١ / ١٥٥ ، روح المعاني ٣ / ١٣٣.

(٢) سورة آل عمران : آية ٣٥.

(٣) كانت المرأة اليهودية المقلات تنذر لربها ، إن رزقت أطفالا وعاشوا ، فإنها تهب أكبرهم للإله (يهوه) ، ومن ثم يصبح هذا الطفل خادما للكهنة وحارسا للمعبد ، وربما يصبح كاهنا ، كما يمكن افتداء الطفل بدفع مبلغ من المال للمعبد (لاويون ٢٧ / ١ ـ ٨) ، وطبقا لرواية التوراة في سفري الخروج وصموئيل أول ، فقد جندت بعض النساء للخدمة ، عند باب خيمة الاجتماع ، غير أن هذين النصين إنما هما تعديل لا حق ، كما أنهما ليسا واضحين ، وإن كانت روايتهما عن خدم المعبد والأشخاص المتدينين الذين يعيشون بداخله ، أو النساء المتدينات

٢٧٥

وأقوم بها ، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة لما يعترضها من الحيض والنفاس (١) ، ومن ثم فإن النذر للمعابد لم يكن معروفا إلا للصبيان ليخدموا الهيكل ، وينقطعوا للعبادة والتبتل ، ولكن «حنة» رزقت بأنثى ، ومن ثم فهي تتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ، وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٢) ، وهكذا تودع الأم هديتها بين يدي ربها وتدعها لحمايته ورعايته ، وتعيذها به وذريتها من الشيطان الرجيم ، وهذه كلمة القلب الخالص ، ورغبة القلب الخالص ، فما تود لوليدتها أمرا خيرا من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم (٣).

واستجاب الله لها فأعاذها الله وذريتها من الشيطان الرجيم ، فلم يجعل له عليها سبيلا ، أخرج الشيخان ، البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد ، فيستهل من مسه صارخا ، إلا مريم وابنها» ، وفي رواية : «ما من ولد يولد ، إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من مسّة الشيطان ، إلا مريم وابنها» ، ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : «وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» (٤) ، وهكذا قبل الله تعالى نذر حنة ، قال تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً

__________________

المشتركات في الأعياد (أنظر : A. Bertholet, Histoire de la Civilisation d\'Israel, Paris, ٣٥٦.p ، ١٩٢٩) A.Lods ,op ـ cit ,P. ٤٤٩ ـ ٤٤٨. وكذا.

(١) تفسير الطبري ٣ / ٢٣٧.

(٢) سورة آل عمران : آية ٣٦.

(٣) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٢ ـ ٢٩٣ (بيروت ١٩٨٢).

(٤) صحيح البخاري ٦ / ٤٢ ، صحيح مسلم ٧ / ٩٦ ـ ٩٧ ، وانظر روايات أخرى للحديث الشريف في : تفسير الطبري ٣ / ٢٣٨ ـ ٢٤٠ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٣٧ ، تفسير ابن كثير ١ / ٥٣٨ ـ ٥٣٩ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ١٦٨ ـ ١٦٩.

٢٧٦

حَسَناً) (١) جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم ، وهذا التجرد الكامل في النذر ، وإعداد لها أن تستقبل نفخة الروح وكلمة الله ، وأن تلد عيسى عليه‌السلام ، على غير مثال من ولادة البشر (٢).

هذا وقد روى عن ابن عباس ، حبر الأمة وترجمان القرآن ، أن حنة لما وضعت مريم خشيت أن لا تقبل الأنثى محررة ، فلفتها في خرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء ، فتساهم القراء عليها لأنها كانت ابنة إمامهم ، أيهم يأخذها (٣) ، فقال زكريا ، وهو رأس الأحبار : أنا آخذها وأنا أحقهم بها لأن خالتها عندي ، فقالت القراء : ولكننا نتساهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها ، فدعوا بأقلامهم التي يكتبون بها الوحي وجمعوها في موضع ثم غطوها ، وقال زكريا لبعض من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس : أدخل يدك فأخرج ، فأدخل يده فأخرج قلم زكريا ، فقالوا : لا نرضى ولكن نلقي الأقلام في الماء فمن خرج قلمه جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها ، فألقوا أقلامهم في نهر الأردن فارتفع قلم زكريا في جرى الماء ، فقالوا : نقترع الثالثة : فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها ، فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء وارتفعت أقلامهم في جرية الماء ، وقبضها عند ذلك زكريا (٤) ، ويقول الفخر الرازي أن المراد بالأقلام التي يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى ، وكان القراع على أن كل من جرى قلمه عكس الماء ، فالحق معه ، فلما فعلوا ذلك

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٣٧.

(٢) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٣.

(٣) يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير ٨ / ٤٦) : اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة ، فقيل لأن عمران أباها كان رئيسا لهم ومقدما عليهم ، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها ، وقيل لأن أمها حررتها لعبادة الله وخدمة بيته ، وقيل لأن في الكتب الإلهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه‌السلام حاصلا فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا.

(٤) تفسير روح المعاني ٣ / ١٣٨.

٢٧٧

صار قلم زكريا كذلك ، فسلموا الأمر له ، وهذا قول الأكثرين (١) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٢) ، والنص القرآني يشير إلى حادث لم يذكره العهد القديم ، ولا العهد الجديد ، المتداولان ، ولكن لا بد أنه كان معروفا عند الأحبار والرهبان ، حادث إلقاء أقلام سدنة الهيكل ، لمعرفة من تكون مريم من نصيبه ، والنص القرآني لا يفصل الحادث ربما اعتمادا على أنه كان معروفا لسامعيه ، أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة (٣).

وهكذا كفل زكريا مريم أم المسيح عليهم‌السلام ، بعد وفاة أبيها عمران ، فقد كان زوجا لخالتها ، أو أختها ، كما ورد في الصحيح : «فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة» ، وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير من أنه كان زوجا لخالتها ، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها ، امرأة جعفر بن أبي طالب ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخالة بمنزلة الأم» (٤) ، وعلى أية حال ، فلقد اتخذ زكريا لمريم محرابا ، والمحراب مقدم كل مسجد ومصلي ، وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها ، وكذلك هو من المساجد ، أو هو المكان الشريف من المسجد ، لا يدخله عليها أحد سواه ، وقد شاء الله أن يطلعه على كرامة مريم وجليل قدرها ، فكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا ، وإلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى : (وَكَفَّلَها

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٤٥.

(٢) سورة آل عمران : آية ٤٤.

(٣) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٦.

(٤) تفسير ابن كثير ١ / ٥٣٩ (بيروت ١٩٨٦).

٢٧٨

زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١) ، روى الطبري عن السّدى قال : جعلها زكريا معه في بيت ، وهو المحراب ، فكان يدخل عليها في الشتاء ، فيجد عندها فاكهة الصيف ، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهة الشتاء ، وعن ابن عباس قال : وجد عندها ثمار الجنة ، فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف (٢).

وروى الحافظ أبو يعلي عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا ، فأتى فاطمة فقال : يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع ، فقالت : لا ، بأبي أنت وأمي ، فلما خرج من عندها ، بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها ، وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسي ومن عندي ، وكانوا جميعا محتاجين إلى شعبة طعام ، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع إليها ، فقالت : بأبي أنت وأمي ، قد أتى الله بشيء فخبأته لك ، قال : هلمي يا بنية ، قالت فأتيته بالجفنة ، فكشفت عنها ، فإذا هي مملوءة خبزا ولحما ، فلما نظرت إليها بهت وعرفت أنها بركة من الله ، فحمدت الله وصليت على نبيه ، وقدمته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رآه حمد الله وقال : من أين لك هذا يا بنية ، قالت يا أبت : «هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب» ، فحمد الله وقال : الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل ، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئا وسئلت عنه قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عليّ ، ثم أكل رسول

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٣٧.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦ (بيروت ١٩٨٤).

٢٧٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته حتى شبعوا جميعا ، قالت : وبقيت الجفنة كما هي ، فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران ، وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا (١).

وهكذا نشأت مريم البتول على الطهارة والعبادة والبعد عن الدنس ورذائل الأمور ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ، يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٢) ، ويقول الفخر الرازي : (٣) اعلم أن المذكور في هذه الآية : أولا هو الاصطفاء ، وثانيا التطهير ، وثالثا الاصطفاء على نساء العالمين ، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء الأول من الاصطفاء الثاني ، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق ، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها ، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها ، ومن النوع الأول من الاصطفاء أمور : أنه تعالى قبل تحريرها ، مع أنها كانت أنثى ، ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث ، وثانيها : قال الحسن البصري : إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، وكان رزقها يأتيها من الجنة ، وثالثها : أنه تعالى فرغها لعبادته وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والعناية والصحة ، ورابعا : أنه كفاها أمر معيشتها ، فكان رزقها يأتيها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى : (أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وخامسها : أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها ، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها ، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول ، وأما التطهير ففيه وجوه ، أحدها : أنه تعالى طهرها من الكفر والمعصية ، وثانيها : أنه طهرها عن مسيس الرجال ، وثالثها : طهرها من الحيض ، قالوا كانت

__________________

(١) تفسير ابن كثير ١ / ٥٣٩ ـ ٥٤٠ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٤١.

(٢) سورة آل عمران : آية ٤٢ ـ ٤٣.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٤٣.

٢٨٠