دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

له «أحاب» كان اسم امرأته «أربل» ، وكان يسمع منه ويصدقه ، وكان إلياس يقيم له أمره ، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله يقال له «بعل» (١).

وقد جاءت قصة اليسع (اليشع) مفصلة في سفر الملوك الثاني (٢ ـ ٩) من العهد القديم ، وعاش على أيام ملك إسرائيل «يهورام» (٨٤٩ ـ ٨٤٢ ق. م) آخر ملوك أسرة عمري ، ونقرأ في سفر الملوك الأول أن الرب أمر إيليا أن «امسح اليشع بن شافاط من آبل محوله ، نبيا عوضا عنك» ، فذهب إيليا ووجد اليشع «يحرث واثنا عشر فدان بقر قدامه وهو مع الثاني عشر ، فمر إيليا وطرح رداءه عليه ، فترك البقر وركض وراء إيليا وقال : دعني أقبل أبي وأمي وأسير وراءك ، فقال له اذهب راجعا لأني ما ذا فعلت لك ، فرجع من ورائه وأخذ فدان بقر وذبحهما وسلق اللحم بأدوات البقر ، وأعطى الشعب فأكلوا ، ثم قام ومضى وراء إيليا وكان يخدمه» (٢) ، ثم تولى الدعوة إلى الله تعالى بعد إلياس كما سار على نهجه وشريعته.

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٣ / ٩٢ ـ ٩٣ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٦١.

(٢) ملوك أول ١٩ / ١٦ ، ١٩ ـ ٢١.

٢٤١
٢٤٢

الفصل الثّالث

زكريّا ويحيى عليهما‌السلام

جاء ذكر زكريا وولده يحيى عليهما‌السلام في عدة سور من القرآن الكريم ، منها ما جاء في سورة آل عمران في قوله تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ، فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ، قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ ، قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (١) ، وفي قوله تعالى في سورة مريم : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ، إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ، قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ، يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ، قالَ رَبِ

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٣٧ ـ ٤١ ، وانظر : تفسير النسفي ١ / ١٥٥ ـ ١٥٧ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٣٩ ـ ١٥٤ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٤٣ ـ ٢٦٢ ، في ظلال القرآن ١ / ٣٩٣ ـ ٣٩٦ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ٢٩ ـ ٤٢ ، تفسير ابن كثير ١ / ٥٣٩ ـ ٥٤٢ ، البداية والنهاية ٢ / ٤٧ ـ ٥٥ ، صفوة التفاسير ١ / ١٩٩ ـ ٢٠١ ، تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ١ / ١٨١ ـ ١٨٢ ، تفسير القرطبي ص ١٣١٤ ـ ١٣٢٤.

٢٤٣

أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ، قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ، يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ، وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا ، وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١) ، كما جاء ذكرهما في سورتي الأنعام (آية ٨٥) والأنبياء (الآيات ٨٩ ـ ٩٠).

ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن هناك بين القصة ، كما جاءت في سورتي آل عمران ومريم ، بعض المقابلات ، منها (أولا) أن الله تعالى بيّن في سورة مريم أن زكريا دعا ربه ولم يبين الوقت ، بينما بيّنه في آل عمران بقوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) ، والمعنى أن زكريا لما رأى خرق العادة في حق مريم طمع فيه في حق نفسه فدعا ، ومنها (ثانيا) أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادى هو الملائكة لقوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) ، وفي سورة مريم الأظهر أن المنادى بقوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) هو الله تعالى ، ولا منافاة بين الأمرين ، ومنها (ثالثا) أنه قال في آل عمران : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) ، فذكر أولا كبر نفسه ، ثم عقر المرأة ، وفي سورة مريم قال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) ، وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب ، ومنها (رابعا) قال

__________________

(١) سورة مريم : آية ٢ ـ ١٥ ، تفسير روح المعاني ١٦ / ٥٨ ـ ٧٤ ، تفسير الطبري ١٦ / ٤٥ ـ ٥٩ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠١ ـ ٢٣٠٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٧٩ ـ ١٩٤ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٨ ـ ٣٠ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٧٩ ـ ١٨٥.

٢٤٤

تعالى في آل عمران ؛ (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) ، وفي مريم : (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) ، وقد دلت الآيتان أن المراد ثلاثة أيام بلياليهنّ (١).

هذا وقد كان زكريا قد كفل مريم أم المسيح عليهم‌السلام ، بعد وفاة أبيها عمران ، فقد كان زوجها لخالتها ، أو أختها ، على الأرجح ، كما سنرى إن شاء الله فيما بعد عند الحديث عن مريم البتول ، واتخذ لها محرابا (٢) ، وهو المكان الشريف في المسجد ، لا يدخله عليها أحد سواه ، وقد شاء الله تعالى أن يطلعه على كرامة مريم ، وجليل قدرها ، فكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا : (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وكان زكريا عليه‌السلام قد بلغ من الكبر عتيا ، وكانت امرأته عاقرا ، قال ابن عباس : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت تسع وتسعين (٣) ، فلما رأى من كرامات الله تعالى

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٩٥.

(٢) المحراب : هو الموضع العالي الشريف ، واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) ، والتسور لا يكون إلا من علو ، وقيل المحراب أشرف المجالس وأرفعها ، قال أبو عبيدة : سيد المجالس وأشرفها ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، بل هو المكان الشريف في المسجد أو موقف الإمام ، ويقول الألوسي : اعلم أن الصلاة في المحاريب المشهورة الموجودة الآن في مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة ، وإلى ذلك ذهب سيدنا الإمام على كرم الله وجهه في الجنة ، وإبراهيم رحمه‌الله ، فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة ، وهي من البدع التي لم تكن في العصر الأول ، فعن أبي موسى الجهني قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى» ، وعن عبد الله بن أبي الجعد قال : «كان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد» ، وعن ابن عمر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا هذه المذابح» ، يعني المحاريب ، والروايات في ذلك كثيرة ، وللإمام السيوطي رسالة مستقلة فيها (تفسير روح المعاني ٣ / ١٤٦ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ٣٠ ، تفسير البحر المحيط ٢ / ٤٣٣).

(٣) تذهب رواية أخرى إلى أن سن زكريا كان مائة ، وسن زوجته تسعا وتسعين ، وقيل كان له من

٢٤٥

لمريم ، البنية الصالحة المرزوقة ، طمع في فضل الله ورحمته ، يقول الفخر الرازي : والجمهور الأعظم من المحققين والمفسرين أن زكريا عليه‌السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء ، ومن فاكهة الشتاء في الصيف ، فلما رأى خوارق العادات عندها طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضا ، فيرزق الولد من الزوجة الشيخة العاقر (١) ، ومن ثم فقد أخذت تحرك في نفسه ، وهو الشيخ الذي لم يوهن ذرية ، تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية ، الرغبة في الذرية ، وفي الامتداد وفي الخلف ، وتلك الرغبة التي لا تموت في نفوس العبّاد الزهاد الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل ، إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها (٢) ، ومن ثم فإنه يتوجه إلى ربه يناجيه ، ويطلب منه أن يهب له من لدنه غلاما تقيا يرثه النبوة وهداية بني إسرائيل ، ويجعله من عباده الصالحين : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٣) (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٤).

وهكذا تشير الآيات الكريمة إلى أن زكريا يشكو إلى ربه وهن العظم ،

__________________

العمر تسع وتسعون ، وقيل اثنتان وتسعون ، وقيل خمس وثمانون ، وقيل خمس وسبعون ، وقيل سبعون ، وقيل ستون (تفسير الفخر الرازي ٨ / ٣٩ ، ٢٢ / ٢١٧ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٤٩).

(١) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٣.

(٣) اتفق أكثر المفسرين على أن «يعقوب» هنا ، هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، فإن زكريا من ولد هارون من نسل لاوى بن يعقوب ، وكان متزوجا من أخت مريم بنت عمران ، وهي من ولد سليمان بن داود من نسل يهوذا بن يعقوب ، وإن ذهب آخرون (الكلبي ومقاتل) أن يعقوب هنا ، هو يعقوب بن ماثان أخو عمران والد مريم البتول ، بينما ذهب فريق ثالث إلى أنه أخو زكريا نفسه (روح المعاني ١٦ / ٦٢).

(٤) سورة مريم : آية ٤ ـ ٦ ، وانظر : آل عمران : آية ٣٨ ـ ٤١.

٢٤٦

وحين يهن العظم يكون الجسم كله وهن ، فالعظم هو أصلب ما فيه وهو قوامه الذي يقوم به ويجتمع عليه ، ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا ، والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل ، ويجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة ، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد ، ووهن العظم واشتعال الرأس شيبا كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه ، وهو يعرض عليه حاله ورجائه ، ثم يعقب عليه بقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) معترفا بأن الله قد عوّده أن يستجيب إليه أذا دعاه ، فلم يشق مع دعائه لربه ، وهو في فتوته وقوته ، فما أحوجه الآن في هرمه وكبرته أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه ، وهذا وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه : يا رب ، قال الله سبحانه وتعالى له : لبيك عبدي ، وروى أن موسى عليه‌السلام قال يوما في دعائه : يا رب ، فقال سبحانه وتعالى له : لبيك يا موسى ، فقال موسى : أهذا لي خاصة ، فقال الله تبارك وتعالى : لا ، ولكن لكل من يدعوني بالربوبية ، وقيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه ، فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عزوجل (١).

هذا وقد اختلف العلماء في قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٢) ، فأما «الموالي» ، فيما يروي عن ابن عباس ومجاهد ، عصبة الرجل ، وعن ابن عباس أيضا والحسن البصري : ورثته ، وعن أبي صالح : الكلالة (٣) ، وعن الأصم ينو العم ، وهم الذين يلونه في النسب ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٢ ، روح المعاني ١٦ / ٥٩ ـ ٦١.

(٢) سورة مريم : آية ٥ ـ ٦.

(٣) الكلالة : المراد هنا من يرثه من حواشيه ، لا أصوله ولا فروعه ، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، أنه سئل عن الكلالة ، فقال أقول فيها برأي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه ، الكلالة : من لا ولد

٢٤٧

وعن أبي مسلم المولي يراد به الناصر ، وابن العم والمالك والصاحب ، وهو هنا من يقوم بميراثه مقام الولد ، والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده ، إما في السياسة أو في المال الذي كان له في القيام بأمر الدين ، فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب ، فإنه كان متعينا في الحياة ، وعلى أي حال ، فهم على سائر الأقوال شرار بني إسرائيل فخاف عليه‌السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته ، وكان زكريا يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه ، وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها ، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين ، وأهله الذين يرعاهم ، ومنهم مريم البتول التي كان قيّما عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه ، وماله الذي يحسن تدبيره وإنفاقه في وجهه ، وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله ، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته ، لأنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث (١) ، على أن هناك من يرى احتمال أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبيّ له أب إلا واحد ، فخاف أن يكون ذلك من بني عمه ، إذ لم يكن له ولد ، فسأل الله تعالى أن يهب له ولدا يكون هو ذلك النبي ، وذلك يقتضي أن يكون خائفا من أمر يهتم بمثله الأنبياء ، وإن لم يدل على تفصيل ذلك ، ولا يمتنع أن زكريا كان إليه ، مع النبوة ، السياسة من جهة الملك وما يتصل بالإمامة ، فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما ، ومن أجل ذلك

__________________

ـ له ، ولا والد ، فلما ولي عمر رضي الله تعالى عنه ، قال إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأيه ، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت آخر الناس بعمر فسمعته يقول : الكلالة من لا ولد له ولا والد ، وهكذا قال الإمام علي وابن مسعود ، وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن البصري وقتادة وجابر بن زيد والحكم ، وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة ، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمع السلف والخلف ، وقد حكي الإجماع عليه غير واحد ، وإن روى عن ابن عباس أيضا أنه من لا ولد له ، والصحيح الأول (تفسير ابن كثير ١ / ٦٩٣ ، تفسير الطبري ٤ / ٢٨٣ ـ ٢٨٩).

(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٨٢ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٢.

٢٤٨

دعا زكريا أن يهبه من لدنه وليا ، أي ولدا من صلبه ، ويؤيده (أولا) قوله تعالى في آل عمران حكاية عنه : (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) ، و (ثانيا) قوله تعالى في سورة مريم : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ، و (ثالثا) قوله تعالى في الأنبياء : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) ، وهذا يدل على أنه سأل الولد ، لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي ، وأنه غير منفرد عن الورثة ، وهذا ، وإن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه ، لكن حمله على الولد أظهر (١).

وأما قوله تعالى : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ، فقد اختلف العلماء في المراد بالميراث هنا على وجوه ، أحدهما : أن المراد بالميراث في الموضوعين هو وراثة لمال ، وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك ، وثانيهما : المراد في الموضعين وراثة النبوة ، وهو قول أبي صالح ، وثالثها : يرثني المال (٢) ، ويرث من آل يعقوب النبوة ، وهو قول السّدى ومجاهد والشعبي ، وروى أيضا عن ابن عباس والحسن البصري والضحاك ، وعن أبي صالح قال : يرث مالي من آل يعقوب النبوة ، وفي تفسير الطبري : يرثني من بعد وفاتي مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوة ، وذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب ، ورابعها : يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة ، وهذا مروى عن مجاهد ، وقال البيضاوي : المراد وراثة الشرع والعلم ، فإن الأنبياء لا يورثون مالا ، وقال النسفي : أي هب لي ولدا وارثا مني العلم ومن آل يعقوب النبوة ، ومعنى وراثة النبوة أنه يصلح لأن يوحى إليه ، ولم يرد أن نفس النبوة تورث ، كما أشرنا من قبل إلى ذلك مرارا ، ويقول الفخر الرازي : أن هذه

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٨٣.

(٢) جاء في تفسير ابن كثير (١ / ١٧٩ ـ ١٨٠) : وفي صحيح البخاري أنه كان نجارا يأكل من عمل يده في التجارة ، ومن ثم فلم يذكر أنه كان ذا مال ، بل كان نجارا يأكل من كسب يده ، ومثل هذا لا يجمع مالا ، ولا سيما الأنبياء فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.

٢٤٩

الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة وهي المال ومنصب الحبورة والعلم والنبوة والسيرة الحسنة ، ولفظ الإرث مستعمل في كلها ، أما في المال ، فلقوله تعالى : (أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) ، وأما في العلم فلقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم» ، وثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا نورث ما تركنا صدقة» ، وفي رواية عن الترمذي بإسناد صحيح : «نحن معشر الأنبياء لا نورث» ، وقال تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) ، وهذا يحتمل وراثة الملك والنبوة ، وعلى أي حال ، فلقد ثبت أن اللفظ محتمل لكل تلك الوجوه (١).

هذا وقد احتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول ، فأما الخبر فلقد أخرج ابن جرير في التفسير بسنده عن الحسن قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رحم الله أخي زكريا ، ما كان عليه من ورثة ماله حين يقول فهب لي من لدنك وليا ، يرثني ويرث من آل يعقوب» ، وعن قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية ، وأتى على «يرثني ويرث من آل يعقوب» ، قال : رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته» (٢) ، وظاهر ذلك يدل على أن المراد إرث المال ، وثانيهما : أنه قال «واجعله رب رضيا» ، ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة ، لكان سأل جعل النبي رضيا ، وهو غير جائز ، لأن النبي لا يكون إلا رضيا معصوما ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» ، فهذا لا يمنع أن يكون خاصا به ، وأما من حمله على العلم أو المنصب والنبوة ، فقد احتج بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ / ١٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٨٤ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٩ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٨٠.

(٢) تفسير الطبري ١٦ / ٤٨ (بيروت ١٩٨٤).

٢٥٠

بأمر المال ، كما يشتد بأمر الدين ، وقيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين ، فلهذا كان مهتما به (١).

هذا وقد استدل الشيعة بالآية (يرثني ويرث من آل يعقوب) على أن الأنبياء عليهم‌السلام تورث عنهم أموالهم ، لأن الوراثة حقيقة في وراثة المال ، ولا داعي إلى الصرف عن الحقيقة ، وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي صالح أنهم قالوا في الآية : يرثني مالي ، وأخرج عبد الرازق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الآية : «يرحم الله تعالى أخي زكريا ما كان عليه من ورثة» ، وفي رواية : ما كان عليه ممن يرث ماله» ، وقال بعضهم : إن الوراثة ظاهرة في ذلك ولا يجوز هاهنا حملها على وراثة النبوة لئلا يلغوا قوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ، ولا على وراثة العلم لأنه كسبي ، والموروث حاصل بلا كسب ، ومذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم‌السلام لا يرثون مالا ، ولا يورثون ، لما صح عندهم من الأخبار (٢).

وعلى أي حال ، فإن زكريا ، النبي الصالح ، إنما يختم دعاءه : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ، وهكذا يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته بأن يجعله الله تعالى رضيا ، لا جبارا ولا غليظا ، ولا متبطرا ولا طموعا ، ولفظة «رضى» إنما تلقي هذه الظلال ، فالرضى هو الذي يرضى ويرضى ، وينشر ظلال الرضى فيما حوله ومن حوله ، يقول الطبري : واجعل يا رب الولي الذي تهبه لي مرضيا ترضاه أنت ويرضاه عبادك ، دينا وخلقا وخلقا (٣).

ويتقبل الله ، سبحانه تعالى ، دعاء عبده زكريا ، وتحدث الاستجابة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٨٤.

(٢) تفسير روح المعاني ١٦ / ٦٤ (بيروت ١٩٧٨).

(٣) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٢ ، تفسير الطبري ١٦ / ٤٩.

٢٥١

التي لا تتقيد بسن ، ولا تتقيد بمألوف الناس ، لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (١) ، وهكذا بشرت الملائكة زكريا عليه‌السلام بمولود ذكر ، اسمه معروف قبل مولده (يحيى) ، وفي آية أخرى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٢) ، وفي تعيين اسمه عليه‌السلام تأكيد لوعد الله تعالى لزكريا عليه‌السلام ، وتشريف ليحيى عليه‌السلام حيث تولى الله تعالى تسميته ، ومن المعروف عادة أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم وأمهاتهم بعد مولدهم ، وأما يحيى عليه‌السلام فإن الله تعالى هو الذي سمّاه قبل دخوله في الوجود ، فكان ذلك من خواصه ، فلم يكن له مثل وشبيه في هذه الخاصية (٣) ، وأما قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) ، فقد اختلف المفسرون فيه على وجوه ، أحدهما : وهو قول ابن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الإسم ، وثانيها : أن المراد بالسمى النظير ، كما في قوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) ، أي شريكا في الإسم ، وفي تفرده بهذا الإسم ضرب من التعظيم ، ومزيد تشريف وتفخيم له عليه‌السلام وهذا ، كما قال الزمخشري ، شاهد على أن الأسماء النادرة التي لا يكاد الناس يستعملونها جديرة بالأثرة ، وإياها كانت العرب تنحي في التسمية ، لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبر ، وثالثها : ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، من أن العواقر لم تلد قبله مثله ، وكما يقول ابن كثير

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٣٩.

(٢) سورة مريم : آية ٧.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٨٦ ، غير أننا نلاحظ أن هناك شبها لهذا ، ذلك أن إسحاق ويعقوب والمسيح عليهم‌السلام ، قد بشربهم ، وسمعوا بأسمائهم قبل مولدهم (سورة آل عمران : آية ٤٥ ، هود : آية ٧١ ، الصافات : آية ١١٢) ، بل إن التوراة تشير إلى أن إسماعيل قد بشر به وأعطى اسمه قبل أن يولد (تكوين ١٦ / ١١).

٢٥٢

وفي هذا دليل على أن زكريا عليه‌السلام كان لا يولد له ، وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها ، بخلاف إبراهيم وسارة عليهما‌السلام ، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما ، لا لعقرهما (١) ولهذا قال : (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) ، مع أنه كان قد ولد له من قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة وقالت امرأته : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ، قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ، رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٢)

وأخرج الإمام أحمد في الزهد ، وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد أن «سميا» بمعنى شبيها ، وروى عن عطاء وابن حبير مثله أي لم نجعل له شبيها ، حيث أنه لم يعصي ولم يهم بمعصية ، فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردوية عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من أحد من ولد آدم ، إلا وقد أخطأ أو همّ بخطإ ، إلا يحيى بن زكريا عليهما‌السلام ، لم يهم بخطيئة ولم يعملها» ، وعن ابن المسيب قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أحد يلقي الله يوم القيامة إلا أذنب ، إلا يحيى بن زكريا» ، وقال قتادة : ما أذنب ، ولا همّ بامرأة ، والأخبار في ذلك متظافرة ، وقيل لم يكن له شبيه لذلك (٣).

هذا وقد وصف الله تعالى نبيّه يحيى عليه‌السلام في سورة آل عمران بأربع صفات ، قال تعالى : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) (٣) (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ

__________________

(١) هذا صحيح بالنسبة لسيدنا إبراهيم عليه‌السلام ، أما السيدة سارة فقد كانت عجوز عقيم ، كما أخبرنا القرآن الكريم في سورة الذاريات : آية ٢٩.

(٢) سورة هود : آية ٧٢ ـ ٧٣ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٨١ ـ ١٨٢.

(٣) روى أنه سمي «يحيى» لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه أو لأن الله تعالى أحيا قلبها لإيمان والطاعة ، والله تعالى سمي المطيع حيا والعاصي ميتا بقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) وقال تعالى : (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ، أو لأنه يحيا بإرشاد الخلق وهدايتهم أو

٢٥٣

وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (١) ، فأما الصفة الأولى ، فقد وصفه الله تعالى بأنه كان «مصدقا بكلمة من الله» ، والمراد بالكلمة هنا عيسى بن مريم ، أي مصدقا بعيسى مؤمنا به ، فهو أول من آمن به ، وسمي عيسى كلمة الله لأن تكونه بكن بلا أب (٢) ، ورغم أن صاحب الظلال (٣) يرى أنه ليس هناك ما يحتم هذا الفهم (أي التصديق بعيسى) ، فإن المفسرين يروون عن ابن عباس أنه قال : إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر ، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه ، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى ، وأخرج الإمام أحمد عن مجاهد قال : قالت امرأة زكريا لمريم ، إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك ، وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال : كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك» ، فذلك تصديقه له ، وكان أكبر من عيسى بستة أشهر ، وقيل بثلاث سنين (٤) ، وفي تفسير ابن كثير (٥) : روى العوفي وغيره عن ابن عباس ، كما قال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيره في هذه الآية : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي بعيسى بن مريم ، وقال الربيع هو أول من صدق بعيسى بن مريم ، وقال قتادة : وعلى سنته ومنهاجه ، غير أن هناك رواية أخرى تنسب إلى عبيدة ، وتذهب إلى أن معنى «بكلمة من الله» ، بكتاب منه ، والمراد به

__________________

لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعصي أو يعم بمعصية أو لأنه استشهد ، والشهداء أحياء عند ربهم لقوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وقيل غير ذلك (تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٨٦).

(١) سورة آل عمران : آية ٣٩.

(٢) تفسير النسفي ١ / ١٥٦.

(٣) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٤.

(٤) تفسير روح المعاني ٣ / ١٤٧ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٥٣.

(٥) تفسير ابن كثير ١ / ٤٥٠.

٢٥٤

الإنجيل ، وإطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على العصيدة ، غير أن الإمام الطبري إنما يعتبر ذلك جهلا بتأويل الكلمة ، واجتراء على ترجمة القرآن (١).

وأما (ثانيا) فكان سيدا : وقد فسره ابن عباس بالحليم وبالكريم وبالتقي ، وقال الجبائي : إنه كان سيدا للمؤمنين ، رئيسا لهم في الدين ، أعني في العلم والحلم والعبادة والورع ، وقال مجاهد : الكريم على الله ، وقال ابن المسيب : الفقيه العالم ، وقال عكرمة : الذي لا يغلبه الغضب ، وقال الضحاك : الحليم التقي ؛ وقال ابن زيد السيد هو الشريف ، وفي تفسير النسفي : السيد هو الذي يسود قومه ، أي يفوقهم في الشرف ، وكان يحيى فائقا على قومه لأنه لم يرتكب سيئة قط ، ويا لها من سيادة ، وقال الجنيد : هو الذي جاد بالكونين عوضا عن المكون ، وقال القاضي : السيد هو المتقدم المرجوع إليه ، فلما كان سيدا في الدين وقدوة فيه ، فتدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفة والزهد والورع (٢).

وأما (ثالثا) فكان حصورا : والحصر في اللغة الحبس ، يقال حصره حصرا ، وحصر الرجل : أي اعتقل بطنه ، والحصور الذي يكتم السر ويحبسه ، والحصور الضيق البخيل ، وأما المفسرون فلهم قولان ، أحدهما : أنه كان عاجزا عن إتيان النساء ، فقد روى عن ابن مسعود وابن عباس سعيد بن جبير وأبي الشعثاء وعطية العوفي أنهم قالوا : الذي لا يأتي النساء ، وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد ولا ماء له ، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة ، ومنهم من قال كان ذلك لتعذر الإنزال ، ومنهم من قال كان ذلك لعدم القدرة ، وقد روى الحفاظ عن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ما معه عليه‌السلام كان كالأنملة ، وفي بعض الروايات كالقذاة ، وفي

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٤٧.

(٢) تفسير النسفي ١ / ١٥٦ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ٣٦.

٢٥٥

أخرى كالنواة ، وفي بعض كهدبة الثوب ، وتذهب جمهرة العلماء إلى أن هذا الرأي غير مقبول أصلا ، لأن هذه من صفات النقصان ، وذكر صفة النقصان ، في معرض المدح لا يجوز ، ولأنه على هذا التقدير لا يستحق به ثوابا ولا من تعظيما ، وأما القول الثاني ، وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء ، لا للعجز ، بل للعفة والزهد ، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها ، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضى قائما ، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين ، وإلا لما كان حاصرا لنفسه ، فضلا عن أن يكون يكون حصورا ، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة ، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر ، فعول بمعنى فاعل (١).

وقال القاضي عياض في الشفا (٢) : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان «حصورا» ، ليس كما قال بعضهم إنه كان هيوبا ولا ذكر له ، بل قد أنكر ذلك حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا : هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم‌السلام ، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها كأنه حصور عنها ، وقيل مانعا نفسه من الشهوات ، وقيل ليست له شهوة في النساء ، وقد بان ذلك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها ، إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عزوجل كيحيى عليه‌السلام ، ثم هي في حق من قدر عليها ، وقام بالواجب فيها ، ولم تشغله عن ربه ، درجة عليا ، وهي درجة نبيا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادته ربه ، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه

__________________

(١) تفسير روح المعاني ٣ / ١٤٨ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ٣٦ ـ ٣٧ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٢) القاضي عياض اليحصبي : الشفا بتعريف حقوق المصطفى ١ / ٨٨ ـ ٨٩ (بيروت ١٩٧٩) ، شرح الشفا للملا على القاري ١ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ (دار الكتب العلمية ـ بيروت).

٢٥٦

لهن وهدايته إياهن ، بل وقد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : «حبب إلي من دنياكم» ، والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ، ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم ، حيث قال : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) كأنه قال : ولدا له ذرية ونسل وعقب (١) ، وأما ما أخرجه الحفاظ ، على تقدير صحته ، يمكن أن يقال إنه من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه عليه‌السلام بما عنده لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن ذلك.

ومن هنا قيل : إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، استدلا لا بحال يحيى عليه‌السلام ، ومن ذهب إلى خلافه احتج بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة ، رجل جعله الله تعالى ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء ، وامرأة جعلها الله تعالى أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال ، والذي يضل الأعمى ، ورجل حصور ، ولم يجعل الله تعالى حصورا ، إلا يحيى بن زكريا» ، وفي رواية «لعن الله تعالى والملائكة رجلا تحصر بعد يحيى بن زكريا» ، ويجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع المقدرة ، وقد كان حاله عليه‌السلام كذلك ، وأخرج عبد الرازق عن قتادة موقوفا ، وابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا ، أنه عليه‌السلام مرّ في صبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : «ما للعب خلقت» (٢).

وأما (رابعا) فكان نبيا من الصالحين : وهذه بشارة ثانية بنبوة يحيى عليه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ١ / ٥٤١ ـ ٥٤٢.

(٢) تفسير روح المعاني ٣ / ١٤٨.

٢٥٧

السلام بعد البشارة بولادته ، وهي أعلى من الأولى ، كقوله تعالى لأم موسى : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١) ، وأما الصلاح فالمراد به هنا ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه ، وعليه مبنى دعاء سليمان عليه‌السلام : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (٢) ، وذلك لأن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، وكل من كان أكثر نصيبا منه كان أعلى قدرا (٣).

وعودا على بدء ، إلى زكريا عليه‌السلام ، ذلك أن النبي الكريم قد عجب من أن يكون له غلام ، على كبر سنه ، وعقم زوجته ، فقيل له كذلك يفعل الله ما يشاء ، وطلب آية من ربه تدل على حمل امرأته ، فقيل له آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ، مع أنك سوى صحيح ، والغرض أن يأتيه مانع سماوي يمنعه من الكلام بغير ذكر الله ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ، قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ، قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) (٤) ، وقد ذكر المفسرون في تفسير الآية الأخيرة (مريم : آية ١٠) (٥) وجوها ، أحدها : أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزا ، والرمز : الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما ، قال الطبري : الإيماء

__________________

(١) سورة القصص : آية ٧.

(٢) سورة النمل : آية ١٩.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٣٧.

(٤) سورة مريم : آية ٨ ـ ١٠ ، وانظر : سورة آل عمران : آية ٤٠ ـ ٤١.

(٥) وكذا : آية آل عمران ٤١ (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً).

٢٥٨

بالشفتين ، وقد يستعمل في الحاجبين والعينين أحيانا ، وفيه فائدتان ، إحداهما : أن يكون ذلك آية على علوق الولد ، والثانية : أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل ، ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر الله تعالى ، والشكر على تلك النعمة الجليلة ، وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود ، وأداء لشكر تلك النعمة فيكون جامعا لكل المقاصد ، هذا فضلا عن أن تلك الواقعة إنما كانت مشتملة على المعجز من وجوه ، أحدهما : أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر ، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا ، من أعظم المعجزات ، وثانيهما : أن حصول ذلك المعجزة في تلك الأيام المقدورة ، مع سلامة البنية ، واعتدال المزاج ، من جملة المعجزات ، وثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد ، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات (١).

وولد يحيى عليه‌السلام ، فشب على الطهر والاستقامة ، وكان آية في ورعه وزهده وطاعته لربه ، وبره بوالديه وآتاه الله العلم والحكمة ومنّ عليه بالرسالة ، وقد روى أنه لم يهم بمعصية قط ، ولم ينشغل في طفولته بما ينشغل به الأطفال ، وكان يقول : ما للعب خلقت ، وكان يحيى عليه‌السلام هو الآية الثانية لبني إسرائيل ، وكانت الأولى ولادة مريم ، وكانت أمها «حمنة» عقيما لا تلد ، وأما الثالثة فكانت ولادة عيسى عليه‌السلام من غير أب (٢) ، وقد قدم الله تعالى قصة يحيى ، وكذا مريم ، على قصة عيسى ، عليهم‌السلام ، ذلك لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب ، وأحسن الطرق في التعليم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقيا إلى الأصعب فالأصعب.

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٢٦٠ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ٤٠.

(٢) محمد خليل هراس : المرجع السابق ص ١٨٣.

٢٥٩

هذا وقد أثنى الله تعالى على يحيى عليه‌السلام بالثناء العاطر ، ووصفه بالبر والتقوى والصلاح والاستقامة قال تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ، وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا ، وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ، وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١).

ويقول المفسرون أن الله تعالى وصف يحيى عليه‌السلام في هذه الآيات بصفات تسع ، منها (أولا) أن الله تعالى أعطاه الكتاب ، والكتاب هو التوراة ، كتاب بني إسرائيل من بعد موسى عليه‌السلام ، وعليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به ويحكمون وهو نعمة الله على بني إسرائيل ، قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (٢) ، ويقول ابن عطية : أن الإجماع هو التوراة ، على أن «أل» للعهد ، ولا معهود إذ ذاك سواها ، فإن الإنجيل لم يكن موجودا حينئذ ، كما خص كثير من الأنبياء عليهم‌السلام بمثل ذلك ، وقيل المراد بالكتاب صحف إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل المراد الجنس ، أي كتاب الله تعالى ، وعلى أي حال ، فإن يحيى قد ورث أباه زكريا ، ونودى ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم ، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة (٣).

ومنها (ثانيا) آتاه الله الحكم صبيا : وهكذا كان يحيى عليه‌السلام ، فذا في زاده لينهض بالتبعة الكبرى ، كما كان فذا في اسمه وفي ميلاده ، فالحكمة تأتي متأخرة ، ولكن يحيى قد زوّد بها صبيا (٤) ، أخرج أبو نعيم وابن مردوية والديلمي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في ذلك : أعطى الفهم وهو ابن سبع سنين ، وجاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أيضا ، قال الغلمان ليحيى

__________________

(١) سورة مريم : آية ١٢ ـ ١٥.

(٢) سورة الجاثية : آية ١٦.

(٣) تفسير روح المعاني ١٦ / ٧٢ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٤.

(٤) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٤.

٢٦٠