دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

وسندا لكل الشعب يخلصهم من سيطرة الفلسطينيين ثم بعد ذلك يخضع لصموئيل طوال حياته (١).

على أن الاتجاه القرآني ، كما بين ذلك بشيء من التفصيل فيما بعد ، يذهب إلى أن الملأ من بني إسرائيل قد طلبوا من نبيهم أن يختار لهم ملكا يقاتلون معه عدوهم ، فحذرهم نبيهم من أن السوابق التاريخية تفيد أنهم ليس لهم صبر على القتال ، ولا شجاعة يقفون بها أمام أعدائهم ، ومع ذلك فقد أعلمهم أن الله تعالى قد اختار لهم طالوت ملكا.

هذا وقد وصف طالوت في التوراة بأنه «شاب حسن ، ولم يكن في بني إسرائيل أحسن منه ، من كتفه فما فوقه ، كان أطول من كل الشعب» ، وفي الواقع فإن اختيار شخص بالذات ليكون ملكا على إسرائيل ، ليس امرا سهلا ، لأن اختياره من إحدى القبائل القوية فيه ما فيه من مساس بقدر القبائل الأخرى ، وقد يثير حربا أهلية ، كما أن المعارك الأخيرة بين بني إسرائيل والفلسطينيين قد حطمت من قوة «أفرايم» وهي التي كانت سيادتها على القبائل الأخرى حتى ذلك الوقت أمرا لا نزاع عليه ، ومن ثم فإن اختيار طالوت «شاؤل في التوراة» كان موفقا ، فبالإضافة إلى مميزاته الجسمانية ، وكذا العلمية كما جاء في القرآن الكريم ، فقد كان من سبط «بنيامين» أضعف الأسباط الإسرائيلية ، الأمر الذي كان لا يسبب له حقدا من الأسباط الأخرى ، هذا إلى أن خيامه إنما كانت تقع بين أفرايم ويهوذا ، أي أنها تقع في مكان وسط إلى حد ما بين القبائل الشمالية والجنوبية (٢).

__________________

(١) صموئيل أول : ٨ / ١ ـ ٢٢ ، حسن ظاظا : الفكر الدين الإسرائيلي ص ٤٠ ، وكذا.H.R.Hall ,Op.Cit ,P. ٢٩٢ وكذا.Lods ,Op.Cit ,P. ٣٩٥.

(٢) صموئيل أول : ٩ / ١ ـ ٢ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٦٦٨ ـ ٦٧٤ وكذاW.Kelle ,TTe Bibleas History ١٧٩.p ، ١٩٦٧.

٢١

ومن عجب أن يزعم الحاخام «أبشتين» أن اختيار شاؤل (طالوت) ملكا على إسرائيل إنما يعتبر أول ملك دستوري في التاريخ ، لأنه تم برضى عام من بني إسرائيل (١) ، والحق أن الأحداث التاريخية لا تتفق ومزاعم «أبشتين» ، فالنبي صموئيل وليس بنو إسرائيل ، هو الذي اختار شاؤل ملكا ، اعتمادا على سلطته الدينية ، حيث فرضه عليهم كممثل معتمد لرب إسرائيل هذا إلى أن القوم لم يقبلوه جميعا ، فلقد رفضه «بنو بليعال» الذين ازدروه وقالوا : كيف يخلصنا هذا فاحتقروه ، ولم يقدموا له هدية فكان كأصم ، «على حد تعبير التوراة» (٢) ، وكما أشار إلى ذلك القرآن الكريم (٣) ، كما أن اختياره كان تجنبا لحرب أهلية يمكن أن تنشب ، لو وقع الاختيار على واحد من أبناء القبائل القوية دون الأخرى ، ومن هنا كان اختياره من أضعف أسباط بني إسرائيل.

وأما أنه كان أول ملك دستوري في التاريخ ، فيكذبه ، أننا حتى لو صدقنا ذلك ، فإن شاؤل قد اختير ملكا قبيل بداية الألف الأولى قبل الميلاد بأعوام قلائل ، بينما نعرف أن هناك ما يدل على تواجد التفكير الديمقراطي منذ الألف الثالثة قبل الميلاد في العراق القديم ، وأن انتخاب الحاكم الذي كان يرأس حكومة المدينة إنما كان يتم بناء على قرارات الجمعية العمومية ، والتي تتكون من جميع المواطنين ، وربما بما فيهم النساء كذلك (٤) ، هذا فضلا عن أن مصر الفرعونية قد عرفت منذ النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد ، إنما لها من الديمقراطية ومن العدالة الاجتماعية على أيام الثورة الاجتماعية الأولى ، حتى أصبح الملك يوصف بأنه ليس أكثر من «ابن امرأة

__________________

(١).I.Epstein Judaism , ٣٥.p ، ١٩٧٠.

(٢) صموئيل أول ١٠ / ١١ ـ ٢٧.

(٣) سورة البقرة آية ٢٤٧.

(٤). T. Jacolison, Primitive Democracy in Ancient Mesopotamis, JNES, II, ١٦٥.p ، ١٩٤٣.

٢٢

من تاتسي ، طفل من نخن» مرة ، وبأنه «ابن الإنسان» مرة أخرى ، لإقناع القوم بأن حاكمهم ليس من بيوت الإمارة والملك ، وإنما هو من الشعب وربيب الشعب وصديق الشعب ، ثم هو قبل ذلك وبعده ، رجل يخدم مصالح الدولة ويرعى شئونها ، ويعمل على وحدتها ، ويمتلئ قلبه بحب رعاياه ، والرغبة في العمل من أجل مصالحهم (١) ، وهكذا يبدو واضحا أن ما ادعاه الحاخام «أبشتين» من تمجيد لقومه اليهود ، إنما كان ادعاء عريضا إلى حد كبير.

هذا وقد اختلف المؤرخون في فترة حكم طالوت (شاؤل) فهناك من يرى أنها في الفترة (١٠٣٠ ـ ١٠٠٤ ق. م.) ومن يرى أنها في الفترة (١٠٢٥ ـ ١٠١٣ ق. م.) ومن يرى أنها في الفترة (١٠٢٠ ـ ١٠٠٤ ق. م.) ومن يرى أنها في الفترة (١٠٢٠ ـ ١٠٠٠ ق. م.) ومن يرى أنها في الفترة (١٠٠٠ ـ ٩٨٥ ق. م.) (٢) وأما قصة طالوت في القرآن الكريم فقد جاءت في سورة البقرة ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا ، قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) محمد بيومي مهران : الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص : ٢٠٠ ـ ٢١٠ ، أحمد بدوي : في موكب الشمس : ٢ / ١٢٠ ، وكذاJ.A.Wilson , وكذاA.Gardiner Op. ـ cit ,P. ١٢٠Op.cit ـ ,P. ١١٦ ـ ١١٥,ANET , ٤١٥.p ، ١٩٦٠.

(٢) محمد بيومي مهران : إسرائيل : ٢ / ٦٧٣ ـ ٦٧٤ ، وكذا W. Albright, The Archaeology of W. Keller, Op ـ cit, p. ١٨١ وكذاHistorical AtlasF The Holy Land ,N.Y , ٤١٥.p ، ١٩٥٩ وكذاPaletine ,P. ١٢٠I.Epstein ,Op.Cit ,P. ٣٥ وكذاO.Eissfeld ,Op.citP. ٥٧٥ وكذا.

٢٣

اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ، وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١).

وقد اختلف المفسرون في نبيّ إسرائيل الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ، فروي عن قتادة أنه يوشع بن نون ، قال ابن كثير في تفسيره : هو بعيد لأن هذا كان بعد موسى بزمن طويل ، وكان ذلك في زمن داود عليه‌السلام ، وقد كان بين داود وموسى ما يزيد على ألف سنة ، وقول ابن كثير صحيح ، لكنه بالغ كثيرا في تقديره الفترة بين موسى وداود ، وهي التي يحددها الباحثون المحدثون ما بين أربعة قرون وقرن ونصف ، وقد رجحنا من قبل أنها تقارب القرنين من الزمان ، وقال السدّى إنه شمعون ، وقال مجاهد وغيره إنه شمويل (٢) (صموئيل) وهو الأرجح ، هذا وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن سبب تنصيب ملك على بني إسرائيل أن جالوت رأس العمالقة وملكهم ، وهو جبار من أولاد عمليق ، أو ملك الكنعانيين على رأي آخر ، وكان قومه يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، قد ظهروا على بني إسرائيل وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين نفسا ، وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ، فلما كتب على بني إسرائيل القتال تولوا ،

__________________

(١) سورة البقرة آية : ٢٤٦ ـ ٢٤٨ ، وانظر تفسير الطبري : ٥ / ٢٩١ ـ ٣٢٨ ، تفسير النسفي : ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥ ، تفسير روح المعاني : ٢ / ١٦٦ ـ ١٦٨ ، تفسير الكشاف : ١ / ٣٧٨ ـ ٣٧٩ ، تفسير الفخر الرازي : ٦ / ١٨١ ـ ١٩٣ ، تفسير القرطبي ص : ١٠٥١ ـ ١٠٥٨ ، تفسير الطبرسي : ٣ / ٢٧٥ ـ ٢٨٤ ، تفسير القاسمي : ٢ / ٦٤١ ـ ٦٧٤ ، في ظلال القرآن : ٢ / ٢٦٦ ـ ٢٦٩ ، تفسير المنار : ٢ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٤٩ ـ ٤٥٢ (دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٩٨٦) تفسير الجلالين ص : ٤٣ ـ ٤٤ ، صفوة التفاسير : ١ / ١٥٦ ـ ١٥٨.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٤٩ (ط ١٩٨٦) ، تفسير البحر المحيط : ١ / ٣٧٠ ، تفسير النسفي : ١ / ١٢٤.

٢٤

إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر ، بعدد أهل بدر ، وقد رفض بنو إسرائيل طالوت ملكا لأنه من سبط بنيامين ، والنبوة كانت عندهم في سبط لاوي ، والملكية في سبط يهوذا ، ولكن اختياره إنما كان بسبب علمه ليتمكن من معرفة أمور السياسة ، وجسامة بدنه ليعظم خطره في القلوب ، ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحرب (١).

وأما آية ملكه أن يأتيهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ، قال النسفي : هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة ونعلا موسى وشمامة هارون عليهما‌السلام ، تحمله الملائكة قال ابن عباس : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون ، وقال السدي : أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت ، وقال عبد الرزاق عن بعض أشياخه : جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة ، وقيل على بقرتين ، وذكر غيره أن التابوت كان بأريحا ، وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الكبير ، فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته ، فأصبح كذلك فسمروه تحته ، فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا ، فعلموا أن هذا أمر من الله

__________________

(١) تفسير البحر المحيط : ١ / ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، ونلاحظ على هذا الرأي عدة أمور ، منها (أولا) أن جالوت هو ملك الفلسطينيين ، وليس العماليق أو الكنعانيين ، ومنها ثانيا أن بحر الروم وهو البحر الأبيض المتوسط لم يكن يسمى في تلك الفترة «بحر الروم» بل إن الروم حتى ذلك الوقت لم يكونوا قد ظهروا في العالم كقوة لها كيان يسمى باسمها البحر المتوسط ، وعلى أي حال ، فقد كان المصريون يسمون البحر المتوسط باسم «الأخضر العظيم» (وأج ـ ور : وفي الدولة الوسطى سموه «واج ور إن حاونبو» وفي الدولة الحديثة «بايم خاروه» ، ومنها ثالثا أن الكهانة ، وليس النبوة ، هي التي كانت في سبط لاوي فقط ، بل أن صموئيل النبي الذي أختار طالوت ملكا من سبط أفرايم ، كما أن الملك لم يكن بعد في يهوذا ، فالقضاة لم يكونوا جميعا من يهوذا إن أول ملك لإسرائيل كان من سبط بنيامين وهو طالوت.

٢٥

لا قبل لهم به ، فأخرجوا التابوت من بلدهم ، فوضعوه في بعض القرى ، فأصاب أهلها داء في رقابهم ، فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء ، فحملوه على بقرتين فسارتا به ، لا يقر به أحد إلا مات ، حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل ، فكسرتا النيرين ورجعتا ، وجاء بنو إسرائيل فأخذوه ، فقيل إنه تسلمه داود عليه‌السلام وأنه لما قام إليهما حجل من فرحه بذلك ، وقيل شابان منهم فالله أعلم ، وقيل كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها «أذدوه» (١).

(٤) حروب طالوت وظهور داود :

بدأ طالوت يعد العدة لقتال أعدائه الفلسطينيين الذين كانوا يسيطرون على البلاد ، منذ انتصارهم في معركة أفيق ، واستيلائهم على التابوت (٢) ، وتجريدهم من السلاح ، فضلا عن إقامة القلاع في أماكن مختلفة من البلاد

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٥١ (ط ١٩٨٦).

(٢) التابوت : وتطلق عليه التوراة تابوت العهد أو تابوت الشهادة أو التابوت المقدس أو تابوت إله إسرائيل أو تابوت يهوه ، وهو عبارة عن صندوق صنعه موسى بأمر ربه من خشب السنط ، طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف ، وارتفاعه ذراع ونصف ، ومغشى بذهب نقي من الداخل والخارج ، وعليه إكليل من ذهب وأربع حلقات ذهبية ، وله عصوان من السنط مغشيان بالذهب لحمل التابوت ، وكانت مسئولية حراسته لبني فهات من اللاويين رهط موسى ، ويذهب البعض إلى أن فكرة التابوت مستعارة من المصريين ، بينما يرى آخرون أنها مستعارة من الكنعانيين ، وعلى آية حال ، فلقد كان للتابوت مكانة ممتازة عند بني إسرائيل ، وطبقا للتقاليد الإسرائيلية فقد كانوا يحملونه معهم أثناء المعارك الحربية ، حتى عصر داود ، على الأقل ، وكان يستقبل بالتهليل والتكبير ليتحقق النصر ، ويقع الذعر في قلوب الأعداء الذين كانوا يخافون منه ويقولون «جاء الله إلى المحلة» ، وفي أوقات الهدنة كان التابوت يودع في أحد أماكن العبادة أو في خيمة ، في بيت إيل وشيلوه وبيت شمس ويعاريم وأورشليم ، وطبقا لوجهة نظر سفر التثنية ، فإن قدسية التابوت كانت في كونه يحمل ألواح الشريعة ، ومن ثم سمي «تابوت العهد أو تابوت الشريعة أو الشهادة» ، وطبقا لرواية التوراة فهو عرش يهوه ، وكان التابوت على رأس الإسرائيليين عند ما دخلوا كنعان بقيادة يوشع بن نون ، وأنهم حملوه عند ما عبروا الأردن ، فانشق تيار النهر فوق المياه المنحدرة ، وعبر الشعب ـ

٢٦

للسيطرة عليها تماما ، والتي كان من أهمها تلك التي عند «بيت شان» (بيسان) للسيطرة على الطريق الموصل بين نهر الأردن ووادي يزرعيل ، والتي عند «مخماس» و «جبعة» بين جبل أفرايم وأورشليم ، والتي في جنوب القدس عند «بيت لحم» هذا فضلا عن تعيين موظفين فلسطينيين لجمع الضرائب المفروضة على شعب بني إسرائيل المهزوم ، كما كانوا يراقبونهم من مراكز المراقبة الثابتة (١) ، وعلى أية حال ، فلقد بدأ طالوت في أعداد العدة ، فجهز جيشا كثيفا ، بالغ المفسرون والمؤرخون في تقدير اعداده حتى وصلوا به إلى ثمانين ألفا (٢) ، غير أن طالوت إنما أجرى لهم اختبارا ، كان من نتيجته أن ترك الجيش وتقاعس عن القتال جميع رجال إسرائيل ، إلا أقل القليل ممن عصم الله ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ : إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ، وَمَنْ لَمْ

__________________

ـ على اليابسة ، ثم بقي مدة في خيمة في الجلجال ثم في شيلوه ، حيث بقي فيها أكثر من ثلاثة قرون ، ثم وقع في أيدي الفلسطينيين في موقعة أفيق ، وعند ما أعاده الفلسطينيون لهم بقي في قرية يعاريم ، ثم نقل منها على أيام داود إلى القدس ، ثم وضع في هيكل سليمان بعد بنائه حتى أزاله «منسى» ووضع بدله تمثالا ، ثم أعاده «يوشيا» وبقي حتى مرحلة السبي البابلي عام ٥٨٦ ق. م ، ثم اختفى ، ولا يعلم أحد هل أخذه البابليون أم أن اليهود أخفوه في مكان ما ثم ضاع ، وهناك تقاليد أثيوبية تذهب إلى أنه نقل إلى أكسوم في أثيوبيا ، وليس هناك دليل على صحة تلك التقاليد (انظر عن التفصيلات والمراجع ، محمد بيومي مهران إسرائيل : ٤ / ١٢٤ ـ ١٣٣).

(١) H.R.Hall ,P ـ cit ,P. ٤٢٣.

(٢) تذهب رواية التوراة إلى أن هذا الحدث كان مع جدعون أحد قضاة إسرائيل ، وليس مع طالوت ، وأن عدد جنوده كانوا اثنين وثلاثين ألفا ، بقي منهم على العهد ثلاثمائة ، وأن الحرب كانت ضد المدينيين ، وليس الفلسطينيين ، وأن المدينيين كانوا قد أذاقوا الإسرائيليين العذاب ألوانا ، حتى اضطروهم إلى ترك قراهم ومنهم إلى الكهوف والمغاور والحصون ، ومع ذلك فإن جدعون استطاع بمئاته ، الثلاث أن يقتل من أعدائه في الجولة الأولى ١٢٠ ألف ، وفي الجولة الثانية ١٥ ألف ، وبدهي أن هذا من تحريفات التوراة (انظر محمد بيومي مهران : إسرائيل : ٢ / ٦٣٥ ـ ٦٤٠ ، قضاة : ٦ / ٧ ـ ٨ / ٢١).

٢٧

يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ، إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ، فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ، قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١).

وقال ابن عباس : من اغترف بيده روى ، ومن شرب منه لم يرو ، وقال السدي : كان الجيش ثمانين ألفا ، فشرب منه ستة وسبعون ألفا ، وتبقى معه (أي طالوت) أربعة ألاف ، على أن هناك روايات أخرى تذهب إلى أن من بقي على العهد مع طالوت ثلاثمائة وبضعة عشر نفرا ، قيل ثلاثمائة وتسعة عشر ، أو ثلاثمائة وثلاثة عشر ، عدة أهل بدر ، روى البراء بن عازب : كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر ، عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، وما جاوزه معه إلا مؤمن ، وأما النهر ففي رواية عن ابن عباس أنه نهر بين الأردن وفلسطين ، يعني نهر الشريعة المشهور (٢).

وعلى أية حال فلقد دارت رحى الحرب بين بني إسرائيل والفلسطينيين ، وكادت الهزيمة تحقيق بالأولين ، لو لا نصر الله وشجاعة داود عليه‌السلام الذي قتل جالوت قائد الفلسطينيين ، وطبقا لرواية التوراة فلقد كان جالوت (جليات) يخرج إلى الميدان صباح مساء طيلة أربعين يوما دون أن يجرؤ واحد من بني إسرائيل على منازلته ، حتى اضطر طالوت أن ينادي بين قومه «إن من يقتل هذا الرجل يغنيه الملك غنى جزيلا ، ويعطيه بنته

__________________

(١) سورة البقرة آية : ٢٤٩.

(٢) تفسير الكشاف : ١ / ٢٩٤ ـ ٢٩٦ ، تفسير الطبري : ٥ / ٢٤٦ ـ ٢٤٨ ، تاريخ الطبري : ١ / ٤٦٧ ـ ٤٧٢ ، تفسير القرطبي ص : ١٠٦٢ ـ ١٠٦٣ ، تفسير المنار : ٢ / ٣٨٢ ـ ٣٨٩ ، تفسير النسفي : ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٥٢ (بيروت ١٩٨٦) ، صحيح البخاري : ٨ / ٢٢٨ ، مسند الإمام أحمد : ٤ / ٢٩٠ ، تاريخ ابن الأثير : ١ / ١٢٣.

٢٨

ويجعل بيت أبيه حرا في إسرائيل» ومن ثم فقد خرج له داود بن يسى ، وهو ما يزال بعد غلاما ، ويتغلب على جالوت «فتمكن داود من الفلسطينيين بالمقلاع والحجر ، وضرب الفلسطيني وقتله ولم يكن سيف بيد داود» (١) ، ويشير القرآن الكريم إلى هذا الحادث في قوله تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ، وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢).

وهكذا استطاع داود عليه‌السلام بمقلاعه ، وهو ما يزال بعد غلاما ، أن يقتل بطل الفلسطينيين جالوت (٣) ، وأن يكون سببا في انتصار قومه على الفلسطينيين ،

__________________

(١) صموئيل أول : ١٧ / ١ ـ ٥٤ ، محمد بيومي مهران إسرائيل : ٢ / ٦٨٠ ـ ٦٨٧ ، ثم قارن : ٢ / ٦٣٥ ـ ٦٤٠.

(٢) سورة البقرة آية : ٢٥٠ ـ ٢٥١ ، وانظر تفسير الطبري : ٥ / ٣٥٤ ـ ٣٧٦ ، تفسير الطبرسي : ٢ / ٢٨٩ ـ ٢٩٢ ، تفسير الكشاف : ١ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، تفسير روح المعاني : ٢ / ١٧٢ ـ ١٧٤ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم : ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، محمد جواد مغنية : التفسير الكاشف : ٢ / ٣٨٢ ـ ٣٨٣ ، تفسير المنار : ٢ / ٣٨٩ ـ ٣٩٤ ، تفسير القرطبي ص : ١٠٦٤ ـ ١٠٦٩ ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور : ١ / ٣١٨ ـ ٣١٩ ، تفسير النسفي : ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٥٢ ـ ٤٥٤ ، هذا وروى في تفسير قوله تعالى (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أخرج ابن جرير عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» وأخرج ابن مردوية عن عبادة بن الصامت مرفوعا قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأبدال في أمتي ثلاثون ، بهم ترزقون ، وبهم تمطرون ، وبهم تنصرون» ، قال قتادة : إني لأرجو أن يكون الحسن منهم (تفسير ابن كثير : ١ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤).

(٣) يروي تاريخ النبوة الشريف حادثا يشبه ذلك ، فبينما كان المسلمون محاصرين في غزوة الأحزاب (٥ ه‍ ـ ١٦٢٧ م) وقد وجاءتهم جنود من فوقهم ومن أسفلهم ، حتى زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الخناجر ، وظن الناس بالله الظنون ، وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا ، وبدأ فريق من المنافقين يستأذنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العودة إلى بيوتهم لأنها عورة ، وما هي بعورة ،

٢٩

__________________

ولكنهم يريدون الفرار من المعركة ، في هذا الجو المليء بالخوف والفزع ، اقتحم عمرو بن ود ، وكان أشجع قريش ، ويحسب نفسه كفؤا لألف رجل ، اقتحم الخندق بجواده مع مجموعة من فرسان قريش ، فركز رمحه في للأرض ، وأخذ يصول ويجول ، ويطلب المبارزة ، فما برز له أحد ، فقد كان مقاتلا غادرا فاتكا وبطلا مغوار ، لم يبارز أحد إلا صرعه ، وهكذا أخذ ينادي من يبارز ، فلا يتقدم أحد غير الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، قائلا : أنا لها يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجلس إنه عمرو ، ثم نادى عمرو : ألا رجل يبرز ، ثم جعل يؤنبهم فيقول : أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها ، أفلا تبرزون إليّ رجلا ، فقام علي فقال : أنا يا رسول الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه عمر ، ثم نادى الثالثة فقام على كرم الله وجهه في الجنة ، فقال يا رسول الله أنا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه عمرو ، فقال علي : وإن كان عمرا ، فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : أدن مني فعمّمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده الشريفة ، وقال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ثم رفع صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه وقال : «اللهم إنك أخذت مني حمزة يوم أحد ، وعبيدة يوم بدر ، فاحفظ اليوم عليا ، رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين» ، وبرز الإمام علي لعمر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الآن برز الإيمان كله للشرك كله» ، فقال عمرو لعلي : من أنت ، قال علي بن أبي طالب ، فقال عمرو ، وقد أعرض عن الإمام علي استخفافا به ، إن أباك كان صديقي ونديمي ، وإني والله ما أحب أن أقتلك ، فقال الإمام : لكني والله ما أكره أن أقتلك ، ثم قال يا عمرو : قد كنت تعاهد الله لقريش ، ألا يدعوك رجل إلى واحدة من ثلاث إلا قبلتها ، قال أجل ، قال : فإني أدعوك إلى الله عزوجل وإلى رسوله والإسلام فتشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فقال عمرو : لا حاجة لي في ذلك ، هات الثانية ، قال الإمام : فترجع إلى بلادك ، فإن يك محمدا صادقا كنت أسعد الناس به ، وإن يك كاذبا كان الذي تريد ، قال عمرو : إذن تتحدث عني نساء قريش أنني جبنت وخنت قوما رأسوني عليهم ، هات الثالثة ، قال الإمام : الحرب ، قال عمرو : هذه خصلة ما كنت أظن أن أحدا من العرب يروّعني بها ، فقال الإمام : كيف أقاتلك وأنت فارس ، وأنا راجل ، فاقتحم عن فرسه وعقره وسل سيفه كأنه شعلة نار ، ثم اندفع نحو الإمام علي مغضبا ، واستقبله عليّ برقبته فضربه في الدرقة فشقها وأثبت فيها السيف ، وضربه الإمام علي كرم الله وجهه في الجنة ، على حبل العاتق فسقط عمرو ، وثار العجاج وبانت سوأة عمرو ، وسمع سيدنا ومولانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التكبير ، فعرف أن عليا قتل عمرا ، وأقبل الإمام علي رضي‌الله‌عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجهه يتهلل ، فعانقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا له ، فقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لعلي : هلا سلبته درعه ، فإن ليس في العرب درع خير منها ، فقال الإمام علي : إني حين ضربته استقبلني بسوأته واستحيت ابن عمي أن استلبه ، على أن رواية أخرى تذهب إلى أن الإمام علي ضرب عمرا على ساقيه فقطعهما جميعا ، فسقط على الأرض فأخذ علي بلحيته فذبحه وأخذ رأسه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

٣٠

ومن ثم فقد أخذ يملأ أعين الناس وآذانهم وقلوبهم ، ثم يصبح ذا مكانة عالية بين قومه الإسرائيليين ، مما أثار عليه حقد طالوت وأخذ يسعى إلى قتله ، بينما هو في مسيس الحاجة إليه وإلى أمثاله من الرجال الشجعان ، ولم تشفع له صداقته لولده ناثان وإصهاره للملك ، وعلى أي حال ، فما أن يمضي حين من الدهر ، حتى يقتل طالوت وأولاده الثلاثة في معركة جبل جلبوع (حوالي عام ١٠٠٠ ق. م) (١) ويصبح داود عليه‌السلام ملكا على بني إسرائيل.

وأما متى كانت سنوات حكم داود ، فذلك موضع خلاف بين المؤرخين ، فهناك من يرى أنها كانت في الفترة (١٠١٠ ـ ٩٥٥ ق. م) ومن يرى أنها في الفترة (١٠٠٤ ـ ٩٦٢ ق. م) ومن يرى أنها في الفترة (٩٨٥ ـ ٩٦٣ ق. م) ومن يرى أنها في الفترة (١٠١٢ ـ ٩٧٢ ق. م) ومن يرى أنها في الفترة (١٠٠٠ ـ ٩٦٠ ق. م) وهذا ما نميل إليه ونأخذ به (٢).

__________________

ـ فألقاها بين يديه ، فقام أبو بكر وعمر فقبلا رأس علي ، وروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قتل علي لعمرو : لضربة علي يوم الخندق أفضل من عمل الثقلين ، وروى أن حذيفة بن اليمان قال : لو قسمت فضيلة علي بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين أجمعهم لو سعتهم ، وقال ابن عباس في قوله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) ، وقال : بعلي بن أبي طالب (سورة الأحزاب آية : ٩ ـ ٢٧ ، تفسير القرطبي ص : ٥٢١٠ ـ ٥٢٤٤ ، ابن كثير : السيرة النبوية ٢ / ٢٠٢ ـ ٢٠٧ ، ابن هشام : سيرة النبي ص : ٢٢٤ ـ ٢٢٦ ، تاريخ الطبري : ٢ / ٥٧٣ ـ ٥٧٤ ، الواقدي : المغازي : ٢ / ٤٧٠ ـ ٤٧٢ ، البلاذري : أنساب الأشراف : ١ / ٣٤٥ ، ابن سعد : الطبقات الكبرى : ٢ / ٤٩ ، السهيلي الروض الأنف : ٦ / ٣١٦ ـ ٣٢٠ ، عماد الدين خليل : دراسة في السيرة ص : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، السيرة النبوية للندوي ص : ٢٨٧ ـ ٢٨٨).

(١) صموئيل أول : ٢٨ / ٣ ـ ٢٥ ، ٣١ / ٧ ـ ١٢ ، جيمس فريزر المرجع السابق ص : ٤٣ ـ ٥١ ، محمد بيومي مهران إسرائيل : ٢ / ٦٨٧ ـ ٦٨٩ ، وكذاM.Noth ,Op. ـ cit ,P. ١٧٨ ـ ١٧٧. وكذاH.R.Hall ,P ـ cit ,P. ٣٥٩.

(٢) فيليب حتى : المرجع السابق ص ٣٠٣.

W. F. Albright, The Biblical وكذاHistorical Atlas of The Holy Land ,N.Y , ٨١.p ، ١٩٥٩ وكذاG.Raux ,Ancient Iraq , ٤٥٤.p ، ١٩٦٦ وكذاPeriod From Abrahamo Ezra ,N.Y. ١٢٢ ـ ١٢٠.p ، ١٩٦٣I.Epstin ,Judaism , ٣٥.p ، ١٩٧٠ وكذا

٣١
٣٢

الفصل الثّاني

داود الرّسول النّبيّ

لمع اسم داود عليه‌السلام ، كما رأينا من قبل ، وسطع نجمه ، وتعلق الشعب به والتفوا حوله ، وتنادوا بزعامته ، وأصبح ملء أسماع الناس وأبصارهم ، وهم عن طالوت منصرفون ، وما أن يمضي حين من الدهر حتى يقتل طالوت وولداه ويصبح داود ملكا على بني إسرائيل (١) ، ثم تمضي فترة لا ندري مداها على وجه اليقين ، يختار الله تعالى بعدها عبده داود رسولا نبيا (٢) ،

__________________

(١) تروي التوراة أن داود كان ابن ثلاثين سنة حين ملك ، وملك أربعين سنة ، في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر ، وفي أورشليم ثلاثا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا (صموئيل ثان : ٥ / ٤ ـ ٥).

(٢) هناك فروق بين النبوة والملك ، منها أن النبوة لا تكون بالإرث ، فولد النبي لا يكون نبيا بطريق الإرث عن أبيه ، بل هي بمحض الفضل الإلهي والاصطفاء الرباني ، ومنها أن النبوة لا تعطي لكافر أبدا ، وإنما تعطي لمؤمن فحسب ، بخلاف الملك فقد يعطي لغير المؤمن ، ومنها أن النبوة خاصة بالرجال ، ولا تكون للنساء ، لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) وإن كان ابن خزم يرى أن هذه الآية الكريمة خاصة بالرسل دون الأنبياء ، ومن ثم فلم يدع أحد أن الله تعالى قد أرسل امرأة ، وأما النبوة وهي لفظة مأخوذة من الإنباء وهو الإعلام ، فمن أعلمه الله عزوجل بما يكون قبل أن يكون ، أو أوحى إليه منبئا بأمر ما فهو نبي بلا شك ، فأمرها مختلف ، وقد جاء في القرآن الكريم بأن الله تعالى قد أرسل ملائكة إلى نساء فأخبرهن بوحي حق من الله تعالى ، كما حدث مع أم إسحاق وأم موسى وأم المسيح عليهم‌السلام ، ومنها أن النبوة مجالها الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ، والملك قد يتعارض مع هذه الدعوة لأنه مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية التي جاءت بالتزهيد عنها الأنبياء عليهم‌السلام ، ولكن قد يجمع الله النبوة والملك لرجل واحد ، كما حدث مع ـ

٣٣

وكان قد بلغ سن الكمال أربعين سنة (١) وأنزل عليه الزبور ، فيه مواعظ وأذكار ، وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وهكذا أسس داود ، وكذا ولده سليمان من بعده ، مملكة التوحيد ، تؤمن بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وسط عالم مشرك ، ولم يجتمع النبوة والملك لأحد قبلهما أو بعدهما من بني إسرائيل ، هذا وقد ذكرت قصتهما في القرآن الكريم مطولة أحيانا (٢) ، ومختصرة أحيانا أخرى ، وأحيانا يذكران معا ، وأحيانا يفرد أحدهما عن الآخر ، ففي سورة البقرة يحكي الله تعالى أن داود كان في جيش طالوت ، وأنه قتل جالوت ، وأن الله آتاه من أجل ذلك الكتاب والحكمة وعلمه مما يشاء (٣) ، وفي سورتي النساء والأنعام يذكران معا على أنهما من الأنبياء الذين أوحى الله إليهم وأنهما من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام (٤).

هذا وقد خص الله تعالى داود عليه‌السلام بكثير من المعجزات ، منها (أولا) تسخير الجبال معه يسبحن بكرة وعشيا قال تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (٥) ، ومنها (ثانيا) ترجيع الطير معه كلما قرأ

__________________

ـ داود وسليمان عليهما‌السلام (انظر ابن حزم : الفصل في الملك والأهواء والنحل : ٥ / ٨٧ ، محمد بيومي مهران : النبوة والأنبياء عند بني إسرائيل ص : ٧١ ـ ٧٧ ، محمد علي الصابوني : النبوة والأنبياء ص : ١٠ ـ ١١).

(١) يكاد يجمع العلماء على أن النبوة لا تكون إلا بعد بلوغ سن الأربعين ، وقد أبطل ابن قيم الجوزية ما ذهب إليه البعض من أن عيسى بعث وهو في الثلاثين من عمره ، وأما قوله تعالى في حق يحيى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) فالمراد الفهم والفقه في الدين كما فسره ابن عباس ، وهو غير الحكمة المفسرة بالنبوة في آية البقرة : ٢٥١ ، وسنعود للموضوع ثانية عند الحديث عن يحيى وعيسى (زاد المعاد : ١ / ٢١ ، تفسير الكشاف : ٢ / ٥٠٤ ، عويد المطرفي : داود وسليمان في القرآن والسنة ـ مكة المكرمة : ١٩٧٩ ص : ٣٣).

(٢) سورة الأنبياء آية : ٧٨ ـ ٨٢ ، النمل آية : ١٥ ـ ٤٤ ، سبأ آية : ١٠ ـ ١٤ ، ص آية : ١٧ ـ ٢٦.

(٣) سورة البقرة آية : ٢٤٩ ـ ٢٥١.

(٤) سورة النساء آية : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، الأنعام آية : ٨٤.

(٥) سورة ص آية : ١٨.

٣٤

الزبور ، قال تعالى : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (١) ، وقال تعالى : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٢) ، ويقول المفسرون عن هذه الآية إن الله تعالى قد وهب داود من الصوت ما لم يهبه لأحد ، حتى أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه الزبور يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه ، ويسبح بتسبيحه ، وكذا الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيا ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» (٣).

ويقول الأستاذ سيد قطب ، طيب الله ثراه كان داود عليه‌السلام أوابا رجاعا إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار ، وقد آتاه الله من فضله مع النبوة والملك ، قلبا ذاكرا ، وصوتا رخيما يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه ، وبلغ من قوة استغراقه في الذكرى ، ومن حسن حظه في الترتيل ، أن تزول الحواجز بين كيانه وكيان هذا الكون ، وتتصل حقيقته بحقيقة الجبال والطير في صلتها كلها ببارئها ، وتمجيدها له وعبادتها ، فإذا الجبال تسبح معه ، وإذا الطير مجموعة عليه ، تسبح معه لو ملاها ومولاه (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) ، ولقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ : الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشى والإشراق ، حينما يخلو إلى ربه يرتل تراتيله في تمجيده وذكره ، والطير تتجمع على نغماته لتسمع له وترجع معه أناشيده ، لقد يقف الناس مدهوشين للنبإ ، إذ يخالف مألوفهم ، ويخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة بين

__________________

(١) سورة ص آية : ١٩.

(٢) سورة الأنبياء آية : ٧٩.

(٣) صحيح البخاري : ٩ / ٢٤١ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٩٢.

٣٥

جنس الإنسان وجنس الطير ، وجنس الجبال ، ولكن فيم الدهش؟ وفيم العجب؟ إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة وراء تميز الأجناس والأشكال والصفات والسمات ، حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارئ الوجود كله ، أحيائه وأشيائه جميعا ، وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص والإشراق والصفاء ، فإن تلك الحواجز تنزاح ، وتنساح الحقيقة المجردة لكل منهم ، فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة ، وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية ، وسخر الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق ، وحشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحا لله ، وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان ، مع النبوة والاستخلاص (١) ، قال ابن عباس : كانت الطير تسبح معه إذا سبح ، وكان إذا قرأ لم تبق دابة إلا استمعت لقراءته ، وبكت لبكائه (٢).

ومنها (ثالثا) إلانة الحديد له ، فكان بين يديه كالعجين أو كالطين المعجون يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ، ولا ضرب بمطرقة ، وقيل لان الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة (٣) ، قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ، وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ، وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤) ، وفي قوله تعالى (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) قال الحسن البصري وقتادة والأعمش وغيرهم : كان الله تعالى قد ألان الحديد لداود حتى كان يفتله بيديه لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة ، وقال الإمام الفخر الرازي : ألان الله لداود الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير ، فإنه يلين بالنار حتى يصبح كالمداد الذي يكتب به ، فأي عاقل يستبعد

__________________

(١) في ظلال القرآن : ٥ / ٣٠١٧ (بيروت ١٩٨٢).

(٢) زاد المسير : ٦ / ٤٣٦.

(٣) تفسير النسفي : ٣ / ٣١٩.

(٤) سورة سبأ : آية : ١٠ ـ ١١.

٣٦

ذلك على قدرة الله ، قال قتادة : فكان أول من عمل الدروع من زرد ، وإنما كانت قبل ذلك من صفائح ، وفي سياق الآية العاشرة من سورة سبأ ، التي ابتدأها الله تعالى بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) ، ثم ذكر في آخرها (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ، ما يشعر بأن الله تعالى قد ألان الحديد تفضلا منه وكرما ، وآية على الإعجاز من الآيات التي يمنحها الله لأنبيائه ، ولو أن إلانة الحديد بالنار ، كما يقع للناس جميعا ، لما ذكرها الله في سياق الامتنان على داود ، ولما جعلها الله نعمة يختصه بها ، وقد يقال إنه أول من اهتدى إلى أثر النار في إلانة الحديد ، ولم يكن ذلك معروفا قبل داود ، فكان هذا من نعم الله على داود أولا ، ثم أصبح من سنن الطبيعة ثانيا أو بعد ذلك ، ولكننا لا نذهب كما يقول الدكتور النجار ، لمثل هذا المذهب ما دام فضل الله على أنبيائه بالمعجزات الخارقة أمرا مقررا لهم ، وواجبا في حقهم (١).

ومن ثم يذهب العلامة سيد قطب إلى أنه في ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر ، فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين ويصبح قابلا للطرق ، إنما كان والله أعلم معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة ، وإن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلا من الله يذكر ، ولكننا إنما نتأثر بجو السياق وظلاله ، وهو جو معجزات ، وهي ظلال خوارق خارقة على المألوف ، ثم يقول تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) والسابغات الدروع ، روى أنها كانت تعمل قبل داود عليه‌السلام صفائح ، الدرع صفيحة واحدة فكانت تصلب الجسم وتثقله ، فألهم الله داود أن يصنعها رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم ، وأمر بتضيق تداخل هذه الرقائق لتكون

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٨٣٨ ـ ٨٣٩ ، تفسير الفخر الرازي : ٢٥ / ٢٤٥ ، تفسير النسفي : ٣ / ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، تفسير القرطبي : ١٤ / ٢٦٦ ، محمد الطيب النجار تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ـ الرياض ١٩٨٣ ص : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

٣٧

محكمة لا تنفذ فيها الرماح ، وهو التقدير في السرد ، وكان الأمر كله إلهاما وتعليما من الله (١).

هذا وقد روى الحافظ ابن عساكر عن وهب بن منبه أن داود عليه‌السلام كان يخرج متنكرا ، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته ، فلا يسأل أحدا إلا أثنى عليه خيرا في عبادته وسيرته وعدله ، قال وهب : حتى بعث الله ملكا في صورة رجل فلقيه داود عليه‌السلام ، فسأل كما كان يسأل غيره ، فقال : هو خير الناس لنفسه ولأمته ، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه لكان كاملا ، قال : ما هي ، قال : يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين ، يعني بيت المال ، فعند ذلك نصب داود إلى ربه عزوجل في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله ، فألان الله عزوجل له الحديد ، وعلمه صنعة الدروع ، فعمل الدروع وهو أول من عملها ، فقال الله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) ، يعني مسامير الحلق ، قال : وكان يعمل الدرع فإذا ارتفع من عمله درع باعها ، فتصدق بثلثها ، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله ، وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها (٢).

هذا وقد كشفت حفريات «سير فلندرز بتري» عن مناجم للحديد في جمة وعصيون جابر (٣) ، على مقربة من خليج العقبة ، ترجع إلى أيام داود وسليمان عليهما‌السلام ، ويبدو أن داود قد استولى عليها من الآدوميين بعد هزيمته إياهم.

__________________

(١) في ظلال القرآن : ٥ / ٢٨٩٧ ـ ٢٨٩٨.

(٢) تفسير ابن كثير : ٣ / ٨٣٩.

(٣) وليم أولبرايت : آثار فلسطين ـ ترجمة زكي اسكندر ومحمد عبد القادر ، القاهرة ١٩٧١ م ص : ١٢٨ ، وكذاW.Keller ,The Bible as History , ١٩٩ ـ ١٩٨.p ، ١٩٦٧.

٣٨

ومنها رابعا قوّى الله تعالى ملكه وجعله منصورا على أعدائه ، مهابا في قومه ، قال تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) ، ويذهب بعض المفسرين في معنى الآية الكريمة أن الله قواه وجعله منصورا على جميع أعدائه ومناوئيه ، فكان لا يقوم له معارض إلا غلبه ، قال مجاهد : كان أشد أهل الدنيا سلطانا ، وقال السّدي : كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف ، وقال بعض السلف بلغني أنه كان يحرسه في كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفا ، وقال غيره أربعون ألفا ، وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم رواية عن ابن عباس أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه الصلاة والسلام أنه اغتصبه بقرا ، فأنكر الآخر ولم يكن للمدعي بيّنة فأرجأ أمرهما ، فلما كان الليل أمر داود عليه‌السلام في المنام بقتل المدعي ، فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي ، فقال يا نبيّ الله علام تقتلني وقد اغتصب هذا بقري ، فقال له إن الله تعالى أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة ، فقال والله يا نبي الله إن الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه ، وإني لصادق فيما ادعيت ، ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته ولم يشعر بذلك أحد ، فأمر به داود عليه‌السلام فقتل ، قال ابن عباس : فاشتدت هيبته في بني إسرائيل ، وهو الذي يقول الله عزوجل : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) (١) ، وعلى أي حال فإن التاريخ يحدثنا أن الله تعالى كتب له النصر المبين على الفلسطينيين أقوى أعدائه وأكثرهم أهمية ، وأشدهم خطرا كما كتب له نجحا بعيد المدى في طردهم من مناطق بني إسرائيل ، بل إنه وصل إلى مدنهم ذاتها ، كما كتب له نصرا مؤزرا على ممالك مؤاب وعمون وأدوم ، فضلا عن الآراميين (٢) ، كما سنفصل ذلك في الفصل التالي.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٦ ـ ٤٧ (دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٩٨٦) ، تفسير النسفي : ٤ / ٣٦ (ط دار الفكر).

(٢) انظر التفصيلات عن دولة داود عليه‌السلام (محمد بيومي مهران إسرائيل : ٢ / ٦٩٣ ـ ٧٣٤).

٣٩

ومنها خامسا أن الله تعالى آتاه الحكمة وفصل الخطاب ، والحكمة ، فيما يرى كثير من المفسرين النبوة (١) أو هي في رأي آخر ، الزبور وعلم الشرائع أو هي كل كلام وافق الحق فهو حكمة (٢) ، وأما فصل الخطاب فهو الحكم في القضايا التي تقع بين الناس في عهده ، وقد بيّنه الله تعالى في قوله جل ثناؤه : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) (٣) ، وقال مجاهد والسّدي : هي إصابة القضاء وفهم ذلك ، وقال مجاهد أيضا : هي الفصل في الكلام وفي الحكم وهذا يشتمل كل ذلك ، وهو المراد ، وقد اختاره ابن جرير ، وقيل فصل الخطاب قطعه والجزم فيه برأي لا تردد فيه ، وذلك مع الحكمة ومع القوة غاية في الكلام والسلطان في عالم الإنسان ، وعن أبي موسى أول من قال : «أما بعد» داود عليه‌السلام وهو فصل الخطاب ، وكذا قال الشعبي : فصل الخطاب «أما بعد» ، فإن من تكلم في الأمر الذي له شأن ، يفتتح بذكر الله وتمجيده فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له فصل بينه وبين ذكر الله بقوله (أما بعد) (٤).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى الآيات الكريمة من سورة «ص» (٢١ ـ ٢٥) والتي ثار جدل حول تفسيرها ، يقول تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٧ ، تفسير روح المعاني : ٢ / ١٧٣ ، تفسير أبي السعود : ١ / ١٨٦ ، فتح القدير للشوكاني : ١ / ٢٦٦ ، زاد المسير لابن الجوزي : ١ / ٣٠٠ ، الراغب الأصفهاني المفردات في غريب القرآن ص : ١٢٨.

(٢) تفسير النسفي : ٤ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٣) سورة ص آية : ٢٦.

(٤) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٧ ، تفسير النسفي : ٤ / ٣٧ ، في ظلال القرآن : ٥ / ٣٠١٧ ، عويد المطرفي المرجع السابق ص : ٥٠.

٤٠