دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

الجنود ، وكذا الخيول ، الموجودة في الحصون التي أقامها ، بالمؤن والعلف ، فضلا عن إعاشة رجالات القصر الذين زاد عددهم عن أيام أبيه كثيرا (١).

وأيا ما كان الأمر ، فلقد كانت حدود المناطق الجديدة ، باستثناء أربع أو خمس حالات ، ليست متطابقة مع حدود القبائل الإسرائيلية ، مما يتفق وهدف سليمان من تحطيم البناء الحكومي الإقليمي المستقل ، وبالتالي يمكن أن يضعف النزعة الانفصالية بين القبائل الإسرائيلية ، وأن يؤلف منهم شعبا واحدا (٢) ، وعلى أي حال ، فلقد كان على كل منطقة من المناطق الجديدة «مشرفا» أو «وكيلا» عليه توزيع المسئولية الخاصة بالمئونة بين الملاك المختلفين ، وأن يراقب وصولها في الوقت المحدد ، وأن يجمعها في مدن الصوامع ، ثم يسلمها في أورشليم في الشهر المعين ، وكان على رأس هذا النظام موظفا أعلى يسمى «رئيس الوكلاء» لم تظهر وظيفته على أيام داود ، وإنما ظهرت ، ولأول مرة ، بين الموظفين الكبار في عهد سليمان ، ومن هنا كان الصدام بما يسمى حرية القبائل الإسرائيلية ، وذلك عن طريق التصرف في إنتاج زراعتهم ونتاج مواشيهم بطريقتهم الخاصة أو على حسب هواهم (٣).

ويبدو أن المدن الكنعانية التي كانت قد احتفظت باستقلالها حتى ذلك الوقت ، مثل دور ومجدو وتعنك وبيسان ، قد ضمت إلى مملكة إسرائيل ، أما منطقة يهوذا ، أو على الأقل الإقليم الجبلي منها ، فلا يبدو أنها كانت تكون جزءا من أي إقليم من الأقاليم الاثني عشر ، الأمر الذي يرى فيه بعض

__________________

(١) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٢٣٧ ، أندريه إيمار ، وجانين إبوايه : المرجع السابق ص ٢٦٦ ، صموئيل ثان ٩ / ٩ ، ١٣ / ٢٣ ، ١٦ / ١ وما بعدها ، وكذاO.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٩١.

(٢) ول ديورانت : المرجع السابق ص ٣٣٤ ، وكذاA.Lods ,op ـ cit ,P. ٣٧١.

(٣) M.Noth ,op ـ cit ,P. ٢١٣ ـ ٢١٢.

١٦١

الباحثين دلالة على أن سليمان قد أعفى هذه القبيلة الملكية من الواجبات المفروضة على غيرها ، وبالتالي كان سببا في تذمر قبائل الشمال عند ما فرض عليهم العمل في تحصين العاصمة ، وقد أخمد التذمر ، وأجبر زعيمه «يربعام» إلى الهروب إلى مصر (١) ، على أن كثيرا من الباحثين يرون أن يهوذا ، لا بد وأنها قد كلفت بعمل آخر ، لأنه من غير المقبول أن تترك بدون أي التزام مالي نحو الدولة (٢) ، فضلا عن أن سليمان ، وهو الملك النبيّ ، ما كان في حاجة إلى إجبار بني إسرائيل للعمل في تحصين العاصمة ، وقد سخر الله له الجن (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) (٣).

(٢) السياسة الخارجية : ـ

كان سليمان عليه‌السلام سياسيا حكيما ، كما كان محاربا عظيما ، وإداريا قديرا ، ورغم أنه قد أدرك بفطرته السليمة أنه من الضروري أن يكون له جيش قوي يحمي مملكته (٤) ، ويساعده في تبليغ الدعوة ، فسليمان كما كان ملكا عظيما ، فقد كان كذلك رسولا نبيّا ، فقد أدرك في نفس الوقت بتفكيره السليم أن مملكته الصغيرة في مساحتها لن تعيش في سلام إلا بالتفاهم مع جيرانها ، وأن من وسائل هذا التفاهم ، وربما من وسائل نشر الدعوة أيضا ، أن يرتبط برباط المصاهرة مع جيرانه من الملوك والأمراء ، ومن ثم فقد تزوج من بنات أمراء العمونيين والمؤابيين والآراميين والكنعانيين والحيثيين (٥) وغيرهم ، بل وقد تخطت مصاهراته حدود الشام ، فصاهر فرعون

__________________

(١) A.Lods ,op ـ cit ,P. ٧٢ ـ ٣٧١. ثم قارن : تاريخ ابن خلدون ٢ / ٢١٤.

(٢) O.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٩١ وكذا W. F. Albright, Arachaeology and the Religion of Israel, Baltimore, ١٤٠.p ، ١٩٦٣.

(٣) سورة سبأ : آية ١٣.

(٤) O.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. (٦). ٥٨٩

(٥) ملوك أول ١١ / ١ ـ ٢.

١٦٢

مصر ، ومن ثم فقد أصبحت الأميرة المصرية السيدة الأولى في مملكته (١).

ونقرأ في التوراة أن فرعون «قد صعد وأخذ جازر وأحرقها بالنار ، وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة ، وأعطاها مهرا لابنته امرأة سليمان» (٢) ، ونطالع هذه الأمور ، فيما يرى جاردنر ، وكأنها تاريخ حقيقي ، ولكننا لا نلتقي بما يؤكدها من الجانب المصري ، وأما الشك من الناحية التاريخية في هذا الزواج ، فإنه ، وإن حصر في حدود ضيقة نسبيا ، إلا أنه يكفي للتشكيك في أي الفراعين هو المقصود هنا ، هذا إلى أن اسم «تحبنيس» (Tahpenes) لا يستطاع مطابقته على نظير له بالهيروغليفية (٣) ، ومن ثم فقد اختلف الباحثون في اسم هذا الفرعون الذي صاهر سليمان عليه‌السلام ، فمن يرى أنه «سي أمون» (٤) ، ومن يرى أنه «بسوسنس الثاني» (٥) ، ومن يرى أنه آخر ملوك الأسرة الحادية والعشرين (٦) (١٠٨٧ ـ ٩٤٥ ق. م) أو ما قبل الأخير من ملوك هذه الأسرة (٧) ، بل إن هناك من اقترح «شيشنق الأول» مؤسس الأسرة الثانية والعشرين (٨) (٩٤٥ ـ ٧٣٠ ق. م) ، وعلى أي حال ،

__________________

(١) ملوك أول ٣ / ١ ، وكذاO.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٦٠١ ، وانظر : تاريخ ابن خلدون ٢ / ١١٢ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٧ ، ثم قارن : H.G.Wells ,The Outline of History ,N.Y , ٢٨٠.p ، ١٩٦٥.

(٢) ملوك أول ٩ / ١٦.

(٣) A.H.Gardiner ,EGypt of the Pharaohs ,Oxford , ٣٢٩.p ، ١٩٦٤.

(٤) عبد الحميد زائد : الشرق الخالد ـ القاهرة ١٩٦٦ ص ٣٨٩ ، وكذاO.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٨٨ وكذا A. Malamat, Aspects of the Foreign Policies of David and Solomon, JNES, F ١. P ، ١٩٦٣ ، ٢٢

(٥) محمد أبو المحاس عصفور : المرجع السابق ص ٢١١ ، وكذاW.F.Petrie ,Egypt and Israel ,London , ٦٦.p ، ١٩٢٥.

(٦) من المفروض أن «بسوسنس الثاني» هو آخر ملوك الأسرة الحادية والعشرين ، غير أن هناك من يرى أنه (بسوسنس الثالث) (أنظر : H. Gauthier, Le Livre des Rois d\'Egypte, III, Paris , ٣٠١.p ، ١٩٠٧ وكذا.) A.Gardiner ,op ـ cit ,P. ٤٤٧

(٧) A.Lods ,op ـ cit ,P. ٣٦٨.

(٨) J.H.Breasted ,A History of Egypt , ٥٢٩.p ، ١٩٤٦. وكذاW.O.E.Oesterley ,op ـ cit ,P. ٢٢٦.

١٦٣

فأيا كان فرعون مصر هذا ، الذي تنسب التوراة إليه مصاهرة سليمان عليه‌السلام ، فالذي لا شك فيه أن هذا الزواج ، فيما يرى المؤرخ اليهودي سيل روث ، قد ساعد سليمان عليه‌السلام في أن يضيف إلى مملكته إقليم جازر ، وهي القلعة الكنعانية القديمة ، وواحدة من أهم المراكز التجارية في الشرق الأدنى القديم ، ومن ثم فقد اكتسب مملكة إسرائيل موطئ قدم على البحر المتوسط (١) ، وإن كنا لا نرى أبدا أن سليمان كان في حاجة إلى عون فرعون ، وقد سخر الله طائفة من الجن ومردة الشياطين يعملون له الأعمال التي يعجز عنها البشر ، كما أشرنا من قبل ، فضلا عن أن جند سليمان إنما كان مؤلفا من الإنس والجن والطير ، قال تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٢).

(٣) التنظيمات العسكرية : ـ

يجمع المؤرخون أو يكادون ، على أن خليفة داود ، عليهما‌السلام ، المحارب الشجاع ، إنما قد أدرك جيدا ضرورة تكوين جيش قوي للدفاع عن دولته ، فضلا عن دعوته ، وربما تجارته كذلك ، ومن ثم فإن المصادر التاريخية إنما تنسب إلى سليمان عليه‌السلام استعمال «العربات الحربية» ، ولأول مرة ، في جيش إسرائيل ، ونقرأ في التوراة أن داود عليه‌السلام عند ما هزم مملكة «أرام صوبة» قد استولى على مئات الخيول (٣) ، غير أن داود لم يكن يملك عربة حربية واحدة ، رغم أنه قد أدرك بنفسه أهمية هذا السلاح أثناء حروبه مع الآراميين ، هذا فضلا عن أن المصريين كانوا قد استخدموا هذا السلاح منذ مئات السنين (٤) ، وكذا فعل الكنعانيون.

__________________

(١) C.Roth ,op ـ cit ,P. ٢١.

(٢) سورة النمل : آية ١٧.

(٣) صوئيل ثان ٨ / ٣ ـ ٥.

(٤) محمد بيومي مهران : حركات التحرير في مصر القديمة ـ دار المعارف ـ الاسكندرية ١٩٧٦ ص ١٤٠ ـ ١٤٣ ، ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

١٦٤

وهكذا ما أن ورث سليمان ملك أبيه داود ، عليهما‌السلام ، حتى أدخل هذا السلاح «العربات الحربية» في جيشه بل إنه إنما جعل منه القوة العسكرية الرئيسية في هذا الجيش ، وربما كان السبب المباشر في ذلك ، أن الآراميين في دمشق قد عملوا على استرداد نفوذهم المفقود بعد موت داود مباشرة ، وفي أوائل أيام سليمان ، ومن ثم فقد أصبحت دولة «أرام دمشق» نتيجة استخدامها لهذا السلاح ، إنما تمثل تهديدا مباشرا لإسرائيل (١) ، وطبقا لما جاء في التوراة (٢) ، فإن سليمان إنما كان يملك ما بين ١٤٠٠ ، ٤٠٠٠ حصانا (٣) ، وأما عن مباني الثكنات العسكرية الخاصة بفصائل العجلات الحربية ، وطبقا لما جاء في الملوك الأول (٤) ، فقد اكتشف في «مجدو» وغيرها إسطبلات للخيول ، وحظائر للعربات مع بعضها ، وكانت تلك التي في «مجدو» تسع ١٥٠ عربة ، ٤٥٠ حصانا (٥).

هذا وكان قائد العربة يتلقى تدريبات طويلة شاقة ، ويظل في الخدمة طالما كان قادرا على أداء وظيفته ، أو على الأقل لعدة سنوات ، ومن ثم فإنه يصبح جنديا محترفا ، وعند ما زاد عدد العربات أصبح من الضروري استخدام عدد لا بأس به من الجنود غير المحترفين ، ذلك لأن عددا قليلا من الإسرائيليين الذين كانوا مكلفين بالخدمة العسكرية كانوا يصبحون جنودا محترفين ، وليس هذا يعني أن هؤلاء الإسرائيليين المجندين بالجيش ، ولا يعملون في سلاح العربات الحربية ، قد أعفوا من القيام بالمهمات

__________________

(١) O. Eissfeldt, The Hebrew Kingdom, in CAH, II, Part, ٢, Cambridge, ٥٨٩ ـ ٥٨٣.p ، ١٩٧٥.

(٢) ملوك أول ١٠ / ٢٦.

(٣) W.F.Albright ,op ـ cit ,P.F ١٣٥ وكذاO.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٨٩.

(٤) ملوك أول ٩ / ١٩ ، ١٠ / ١٦.

(٥) W. F. Albright, From the Stone Age to Christianity, P. ٢٣٣ ، ١٢٧ وكذا Y. Yadin, New Light on Salomon\'s Megiddo, BA, F ٦٢.p ، ١٩٦٠ ، ٢٣ وكذا C. Watzinger, Denkmaler, Plastinas, I Leipzeg, ٨١ ـ ٨٠.fig F ٦٧.p ، ١٩٣٣ وكذاW.F.Albright ,The Archaeology of Palestine ,P. ١٢٤.

١٦٥

العسكرية ، بل على العكس من ذلك ، فقد كان الواحد منهم إذا لم يستدع للخدمة في الجيش ، فقد كان يكلف بالعمل في بناء التحصينات والحظائر الخاصة بالعربات ، فضلا عن العمل في المشاريع البنائية الأخرى ، ومن ثم فمن الأفضل أن نطلق على العمل الذي اشتهر خطأ باسم «السخرة» ، اسم خدمة الأعمال العامة لبناء وصيانة التحصينات الدفاعية وخدمة الجيش (١) ، وكان الرجال المكلفون بالخدمة العامة يستدعون طبقا لكشوف ثابتة ، تحدد الأعمال التي يمكنهم القيام بها في المجال الزراعي والصناعي ، وكانوا بطبيعة الحال يتأثرون من هذا الاستدعاء في أعمالهم الخاصة (٢) ، وطبقا للتقاليد الخاصة بانقسام مملكة إسرائيل بعد موت سليمان ، فلقد تحملت إسرائيل ، وليس يهوذا ، العبء الأكبر من هذه الخدمة العامة (٣).

(٤) النشاط التجاري : ـ

امتاز عهد سليمان عليه‌السلام بنشاط تجاري عظيم ، فلقد احتلت التجارة من اهتمامه وتدبيره مكانا عظيما ، حتى أن فصائل العربات إنما كانت في خدمة التجارة ، عند ما لا تكون في خدمة الدفاع عن الدولة (٤) ونشر الدعوة ، وقد ساعد على نجاح التجارة سيطرة سليمان عليه‌السلام على الطرق التجارية في سورية وفلسطين والتي كانت قائمة منذ عهد أبيه ، وليس هناك من ريب في أن سليمان قد احتفظ بحقوق كاملة على طرق القوافل التي كانت تمر عبر أراضي «أرامي دمشق» ، فضلا عن تلك التي كانت تمر عبر أراضي الآدوميين (٥) ، ومن هنا نراه يهتم بتحصين المراكز التي كانت تسيطر

__________________

(١) O.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٩٠.

(٢) Ibid.,P. ٥٩٠.

(٣) ملوك أول ٤ / ٦ ، ٥ / ٢٧ ـ ٣٠ ، ١١ / ٢٠ ـ ٢٣ ، وكذا.O.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٩١.

(٤) Ibid.,P. ٥٩٦.

(٥) Ibid.,P. ٥٨٧.

١٦٦

على الطرق التجارية الهامة التي كانت تمر بمملكته ، حتى أصبحت فلسطين قنطرة بين آسيا وإفريقيا ، كما استغل سليمان علاقاته الودية من ناحية ، ومهارته السياسية من ناحية أخرى ، فضلا عن أن حدوده الجنوبية إنما كانت آمنة بسبب صلاته الطيبة بمصر ، هذا إلى أن تحالفه مع «حيرام» ملك صور ، أقوى الأمراء الفينقيين ، قد حمى مواصلات سليمان مع المدن الفينيقية ، وهكذا تمكنت القوافل من السفر ، بصفة دائمة ، من أرض مصر إلى بلاد الرافدين ، ومن فينيقيا إلى الجزيرة العربية ، في أمان وسلام ، وهكذا نجح سليمان عليه‌السلام في السيطرة على مصدر الثروة العائد من التجارة (١) ، ولعل الذي دفع سليمان إلى الإتجاه إلى التجارة ، أن فلسطين إنما كانت بلدا زراعيا خاليا من الصناعة مما اضطره أن يحضر الصناع من صور ، والنجارين من جبيل (ببلوس) عند ما بنى بيت المقدس ، كما أن فلسطين لم تكن تملك سلعا للتصدير يمكن أن تقوم عليها تجارة ناجحة ، ولكنه في موقع يمكن التصرف منه كوسيط ، وقد استغل هذا الموقع أحسن استغلال (٢) ، فإلى جانب العمل في التجارة ، فقد عبّدت الطرق وزودت ببعض المحطات ، وهكذا كانت القوافل الآتية من الجزيرة العربية (٣) ، والمحملة بالتوابل ، خاضعة لدفع الرسوم عند ما كانت تمر بتلك الطرق

__________________

(١) H.R.Hall ,op ـ cit ,P. ٤٣٣.

(٢) A.Lods ,op ـ cit ,P. ٣٧٠.

(٣) أهم طرق القوافل هذه طريقان : الأول : الطريق الجنوبي الشمالي : ويبدأ من عدن وقنا في بلاد اليمن وحضرموت ، ثم مأرب إلى نجران فالطائف ثم مكة ويثرب وخيبر والعلا ومدائن صالح ، وهنا ينقسم إلى فرعين ، فرع يتجه إلى تيماء صوب العراق ، ويستمر الفرع الآخر إلى البتراء ثم غزة فالشام ومصر ، وأما الطريق الثاني فهو طريق «جرها ـ البتراء» ويبدأ من الهفوف ثم إلى شمال اليمامة في موقع مدينة الرياض الحالي ، ثم يتجه غربا إلى بريدة ثم حائل ثم تيماء فالبتراء (محمد بيومي مهران : دراسات في تاريخ العرب القديم ـ الرياض ١٩٧٧ ص ١٣٣ ـ ١٣٦).

١٦٧

والمحطات التي تقع في فلسطين (١).

ونقرأ في التوراة أن سليمان عليه‌السلام كان شغوفا بالخيل (٢) ، رغم أن رب إسرائيل ، فيما تروي التوراة ، كان قد حذر ملوك إسرائيل من الخيل والنساء والذهب (٣) ، غير أن سليمان إنما كان يرى أن «الفرس معدة ليوم الحرب» وإن كانت «النصرة نمن الرب» (٤) ، ومن ثم فقد اهتم سليمان عليه‌السلام بالخيل كثيرا ، لأنها أداة الجهاد في سبيل الله ، فضلا عن أنها وسيلة كسب ، ومن ثم فإن دولة سليمان إنما كانت في تلك الفترة تحتكر تجارة الخيل تماما ، ذلك لأن كل طرق القوافل الهامة بين مصر وسورية وآسيا الصغرى كانت تمر بمملكة سليمان (٥).

وكانت مصر المصدر الرئيسي للخيل والمركبات ، ونقرأ في التوراة «وكان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر ، وجماعة تجار الملك أخذوا جليبة بثمن ، وكانت المركبة تصعد وتخرج من مصر بست مائة شاقل من الفضة ، والفرس بمائة وخمسين» (٦) ، أي أن قيمة الحصان إنما كانت تساوي ربع قيمة العربة ، وربما كان ذلك لأن سليمان كان يتمتع في مصر بامتياز خاص ، ولأن صناع المركبات المصريين إنما كانوا على درجة عالية من المهارة في صنع المركبات ذات العجلتين الخاصة بالصيد والحرب ، كما كانوا يستوردون الخشب المتين من فينيقيا وسورية ، وهذا يفسر لنا الفرق بين

__________________

(١) فيليب حتى : المرجع السابق ص ٢٠٧ ، فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٢٣٨.

(٢) ملوك أول ١٠ / ٢٦ ـ ٢٩ ، أخبار أيام ثان ١ / ١٤ ـ ١٧.

(٣) تثنية ١٧ / ١٦ ـ ١٧.

(٤) سفر الأمثال ٢١ / ٣١.

(٥) Werner Keller ,The Bible As History , ٢٠٧.p ، ١٩٦٧.

(٦) ملوك أول ١٠ / ٢٨ ـ ٢٩.

١٦٨

سعر المركبة والفرس في مصر (١) ، وعلى أية حال ، فهناك مصدر آخر للخيل ، هو «Koa» وهو اسم دولة في سيليسيا كانت تقع في السهل الخصيب بين جبال طوروس والبحر الأبيض المتوسط ، وتشتهر بتربية الخيول ، وطبقا لرواية «هيرودوت» فإن الفرس كانوا يحصلون على أحسن خيولهم من سيليسيا (٢) ، وأما سوق هذه التجارة فقد كان عند ملوك الآراميين والحيثيين (٣).

وهناك ما يشير إلى أن سليمان قد أقام حظائر للخيل في جهات متعددة ، وقد ألقت بعثة الحفائر الأمريكية في «مجدو» الضوء على هذه الحظائر ، حيث عثر على بقايا من عدة أجزاء كبيرة من اسطبلات الخيول ، والتي كانت دائما تنتظم حول فناء دائري مبلط ببلاط من الحجر الجيري ، ويخترق وسط كل اسطبل ممر عرضه عشرة أقدام ، وقد رصف بصخور خشنة ليحول دون انزلاق الخيل ، وقد وضعت على كل جانب وراء نتوءات الأحجار ، مرابط فسيحة عرض كل منها عشرة أقدام ، وما يزال الكثير من هذه الإسطبلات محتفظا بمعالف طعام الخيل ، كما لا تزال كذلك أجزاء من معدات السقي ظاهرة ، ولعل مما يثير الانتباه فخامة تلك الإسطبلات حتى بالنسبة لظروف الحياة الحاضرة ، فضلا عن العناية الفائقة التي بذلت بوفرة في المباني والخدمات ، والتي يمكن الحكم عن طريقها بأن الخيول إنما كانت مرغوبا فيها في تلك الأيام ، وعند ما تم الكشف عن المبنى بأكمله ، قدر بعض الباحثين لكل اسطبل ٤٥٠ حصانا ولكل حظيرة ١٥٠ عربة ، هذا وقد

__________________

(١) J.H.Breasted ,The Down of Conscience , ٣٥٥.p ، ١٩٣٩ وكذاO.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٩٣ وكذا. W. F. Albright, Archaeology and the Religion of Israel, P. ١٣٥.

(٢) W.Keller ,op ـ cit ,P. ٢٠٧ وكذاM.F.Unger ,Unger\'s Bible Dictionaru ,Chicago , ١٠٣٦.p ، ١٩٧٠.

(٣) ملوك أول ١١ / ٢٩.

١٦٩

اكتشفت نظائر لهذه الإسطبلات في بيسان وحاصور وتعنك وأورشليم (١) ، كما أشرنا من قبل ، وأما تاريخ هذه الإسطبلات ، فهناك من يرجعها إلى عهد «أخاب» (٨٦٩ ـ ٨٥٠ ق. م) أكثر من عهد سليمان (٢) (٩٦٠ ـ ٩٢٢ ق. م) ، غير أن أكثر الدراسات أهمية في تاريخ مدينة «مجدو» إنما تضع الطبقة الرابعة التي وجدت بها هذه الإسطبلات جزئيا على الأقل في عهد الملك سليمان ، وأن بقايا هذه المباني المشهورة إنما ترجع حقيقة إلى عهد سليمان ، دون غيره (٣).

(٥) النشاط البحري : ـ

اتجه سليمان أيضا نحو البحر ليفتح لبلاده أبواب التجارة مع البلاد الواقعة على الأبحر ، ولكن قومه العبرانيين لم يكونوا قد ألفوا ركوب البحر من قبل ، كما أنهم لم يكونوا على خبرة ، أيا كانت ، بشئون بناء السفن وملاحتها ، ومن هنا بدأ سليمان يعمل على تأمين الطرق عبر وادي عربة ، ثم الاتفاق مع «حيرام» ملك صور ، على إنشاء أسطول في ميناء «عصيون جابر» تستغل فيه المهارة الفينيقية ، هذا وقد ركزت التوراة على التجارة البحرية في عهد سليمان أكثر من التجارة البرية ، وقد أثبتت الحفريات مما يؤكد كثيرا من النصوص الخاصة بهذه التجارة البحرية (٤) ، ونقرأ في التوراة «وقد عمل سليمان سفنا في عصيون جابر التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في

__________________

(١) W.F.Albright ,The Archaeology of Palestine ,P. ١٢٤ وكذاC.Watzinger ,op ـ cit ,P.F ٦٧ وكذاM.Burows ,what Mean These Stones ,New ـ Haven ,F ١٢٧.p ، ١٩٤١ وكذاW.Keller ,op ـ Cit ,P. ١٩٥.

(٢) J.W.Crowfoot ,PEQ , ١٤٧ ـ ١٤٣.p ، ١٩٤٠.

(٣) W.F.Albright ,op ـ cit ,P. ١٢٤ وكذاJ.Finegan ,op ـ cit ,P. ١٨١ وكذاG.E.Wright ,BA , ٤٤.p ، ١٩٥٠ ، ١٣ وكذاAJA , ٥٥٠ ـ ٥٤٦.p ، ١٩٤٠ ، ٤٤ وكذاR.M.Engberg ,BA ,F ١٢.p ، ١٩٤١ ، ٤.

(٤) O.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٩٣.

١٧٠

أرض أدوم (١)» ، وقد كشف في تل الخليفة «عصيون جابر» (٢) مسامير كبيرة من الحديد أو النحاس الممزوج بالحديد ، وقطع من حبال غليظة وكتل من القار لضم السفن ، وأخرى من الصمغ لطلائها ، وكان من الممكن قطع الأخشاب اللازمة من غابات البلوط التي كانت توجد في أدوم في ذلك الوقت (٣) ، ومع ذلك ، ورغم وجود غابات كثيرة من النخيل في مجاورات هذا المكان ، إلا أنه لا توجد الأخشاب اللازمة لأغراض البناء ، ومن ثم فقد أرسل «حيرام» الصوري الأخشاب التي حملها ثمانية آلاف من الرجال ، بنى بها أسطول من عشر سفن ، وقد عرفنا الكثير عن هذا الأسطول حتى أسماء ربانية من الفينيقيين (٤) ، كما عرفنا كثيرا عن أسطول منفصل لحيرام ، أبحر مع أسطول سليمان إلى «أوفير» ، وأتى من هناك بالذهب والأخشاب النادرة والأحجار النفيسة ، وكل ما هو نادر وغريب (٥) ، هذا وقد كشف قرب «تل أبيب» ـ Tel) (Aviv عن «أوستراكا» ترجع إلى ما بين عامي ٩٠٠ ، ٨٠٠ قبل الميلاد ، وعليها نص يقول : «ذهب أوفير من أجل بيت حورن» (٦).

__________________

(١) ملوك أول ٩ / ٢٦.

(٢) كان يظن من قبل أن «عصيون جابر» تقع عند «عين الغديان» في قعر وادي العربة ، غير أن بعثة أمريكية ، برياسة نلسون جلوك ، قد كشفت موقعها في «تل الخليفة» على مبعدة ٢١ كيلا من ساحل البحر على الطرف الشمالي لخليج العقبة على مقربة من ميناء «إيلات» الحالي ، في منتصف الطريق بين مدينة العقبة والطرف الشرقي من خليج العقبة ، و «أم الرشراش» على الطرف الغربي ، وقد عرفت عصيون جابر فيما بعد باسم «برنيسا» (Pernice) ، فيما يرى البعض ، ثم أعاد «عزايا» ملك يهودا بناءها باسم إيلات (أنظر : N. Glueck, The other side of the Jorden, New ـ Haven, ١١٣ ـ ٥٠.p ، ١٩٤٠ وكذاK.M.Kenyon ,op ـ cit ,P. ٢٥٧ وكذا. W Albright, The Archaeology of Palestine, P. ١٢٨ ، ١٢٧ ، ٤٤ وكذاJ.Hastings ,op ـ cit ,P. ٢٥٣ وكذاJ.Hornell ,Antiquity , ٦٦.p ، ١٩٤٧ ، ٢١.

(٣) جورج فضلو حوراني : المرجع السابق ص ٣٤.

(٤).W.Keller ,op ـ cit ,P. ٢٠١.

(٥) ملوك أول ١٠ / ١١ ـ ١٢.

(٦). B. Mailer, Two Hebrew Ostraca from Tell ـ Qasile, JNES, F ٢٦٥.p ، ١٩٥١ ، ١٠ وكذا

١٧١

ولعل سؤال البداهة الآن : أين تقع أوفير؟

لقد قام ، وما يزال ، جدل طويل حول أوفير هذه ، وهناك دائما من يزعم أنه وجدها في شرق إفريقيا ، فهناك «كارل ماوخ» الذي وصل إلى أنقاض مدينة أحد المعابد في عام ١٨٦٤ م ، على حدود روديسيا الجنوبية وموزامبيق في شرق إفريقية ، وهناك «ستنبرج» الذي اكتشف بعد ذلك بخمسة عشر عاما ، وعلى مبعدة أميال قليلة إلى الجنوب من المكان الأول ، محلات للتعدين من عصر ما قبل المسيحية ، ظن أنها كانت تتصل بمعبد المدينة ، وفي عام ١٩١٠ م صوّر الرحالة الدكتور «كارل بطرس» نقوشا من هذا الموقع يزعم المتخصصون أنهم لاحظوا فيها ملامح فينيقية عربية (١) ، وهناك وجه آخر للنظر يذهب صاحبه (وليم أولبرايت) أن أوفير في الصومال ، ويتفق هذا مع رواية التوراة عن طول الوقت الذي يلزم للوصول إلى أوفير ، حيث تقول «فكانت سفن ترشيش تأتي مرة كل ثلاث سنوات» (٢) ، ثم يقترح «أولبرايت» بعد ذلك أن الأسطول ربما كان يبحر من عصيون جابر في نوفمبر أو ديسمبر من السنة الأولى ، ويعود في مايو أو يونية من السنة الثالثة وبهذا يتجنب الجو الحار ، قدر استطاعته ، وأن الرحلة في هذه الحالة لا تأخذ أكثر من ثمانية عشر شهرا ، هذا فضلا عن أن طبيعة السلع (الذهب والفضة والعاج والقرود) تشير إلى إفريقية من الواضح أنه كمكان إنما هو الأصل (٣).

وهناك وجه ثالث للنظر يحاول أن يوحّد «أوفير» ببلاد «بونت» (٤)

__________________

ـ Syria XXVI , ١٥٧.p ، ١٩٤٩ ، وأما بيت حورن ، فيعني المغارة ، ويطلق على قريتين على حدود أفرايم وبنيامين ، ومكانهما على مبعدة ١٢ ميلا شمال القدس ، ويسميان بيت عور الفوقانية وبيت غور التحتية (قاموس الكتاب المقدس ١ / ٢٠٢).

(١) W.Keller ,op ـ cit ,P. ٢٠٢ ـ ٢٠١.

(٢) ملوك أول ١٠ / ١٢.

(٣) W.Keller ,op ـ cit ,P. ٤٣٤.

(٤) H.R.Hall ,op ـ cit ,P. ٤٥٤.

١٧٢

(وصحة الإسم فيما يرى جاردنر بويني) (١) ، والتي يرى كثير من العلماء (٢) أنها تقع على الساحلين ، وجنوب بلاد العرب في ناحية أخرى (٣) ، على أن هناك وجها رابعا للنظر يذهب إلى أن أوفير إنما تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية (٤) ، وإن اختلفت الآراء في هذا المكان من جنوب بلاد العرب ، بين أن تكون في الجنوب الغربي (اليمن) متضمنا الساحل الأفريقي المجاور (٥) ، وبين أن تكون في الجنوب الشرقي ، متضمنا الخليج العربي وخليج عمان (٦) ، وبين أن تكون في العويفرة (٧) ، القريبة من قرية «الفاو» السعودية (على مبعدة ٦٠ كيلا جنوب غرب مدينة الخماسين) ، وأن الإسم القديم هو «عفر» ، وقد حرف بالنقل إلى اللغتين العبرية واليونانية ، فأصبح «أوفير» ، وبين أن تكون في المنطقة ما بين «القنفذة» و «عتود» في المملكة العربية السعودية (٨).

وهناك وجه خامس للنظر يذهب إلى أن «أوفير» إنما تقع في الهند ، اعتمادا على أن كثيرا من أسماء بعض السلع التي كانت تأتي من «أوفير» إنما

__________________

(١) A.H.Gardiner ,op ـ cit ,P. ٣٧.

(٢) أنظر الآراء المختلفة عن موقع بونت (محمد بيومي مهران : العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة ـ الرياض ١٩٧٦ ص ٣٠٧ ـ ٣١١).

(٣) أحمد فخري : مصر الفرعونية ص ١٣٣ ، دراسات في تاريخ الشرق القديم ص ١٤٠ ، محمد مبروك نافع : عصر ما قبل الإسلام ص ٥٢ ـ ٥٣ ، وكذا E. Naville, Le Commerce de L\' Ancienne Egypte avec les Nations Voisnnes, Geneve, ٧.p ، ١٩١١ وكذاZAS ,LXVIII ,F ١١٢.p ، ١٩٣٢ وكذاP.K.Hitti ,op ـ cit ,P.٣ وكذاJ.Wilson ,op ـ cit ,P. ١٧٦.

(٤) A.Lods ,op ـ cit ,P. ٣٧٠ وكذاS.A.Cook ,CAH ,III , ٣٥٧.p ، ١٩٦٥.

(٥) M.F.Unger ,op ـ cit ,P. ٨١٠ وكذاJ.Hastings ,op ـ cit ,p. ٦٦٩ وكذاM.Noth ,op ـ cit ,P. ٢١٥.

(٦) E. Glaser, Die Abessinier in Arabien und africa, ٣٧٣ ـ ٣٦٨.p ، ١٨٩٥ وكذا ـ J.Hastings ,op cit ,P. ٦٦٩.

(٧) B. Thomas, Arabia Felix, A Cross The Empty Quarter of Arabia, N. Y, ١٦٣.p ، ١٩٣٢.

(٨) B.Moritz ,Arabien ,Hannover , ١١٠.p ، ١٩٢٣.

١٧٣

هي دخيلة في اللغة العبرية من بعض لغات أخرى مثل «السنسكريتية» (١) ، على أن الخيال ذهب بالبعض إلى أن يذهب أن أوفير إنما تقع في ولاية «الأمازون» البرازيلية في أمريكا الجنوبية ، اعتمادا على أن هناك حتى اليوم في ولاية الأمازون أمكنة كثيرة حافظت على أسماء عبرية وفينيقية ، كما أن السلع التي نقلتها سفن سليمان وحليفه حيرام من أوفير إلى أورشليم وصور وصيدا ، يوجد نماذج كثيرة منها هناك ، كما أن أسماءها ليست عبرية أو فينيقية ، وإنما هي من صميم لغة سكان الأمازون ، فضلا عن أن اسم «سوليمونس» الذي يحمله أحد فروع الأمازون ، إنما هو اسم الملك سليمان نفسه ، وقد أطلقه على النهر الكبير أحد أفراد الأسطول تيمنا بالملك العظيم (٢) ، وهكذا يصل الخيال بالبعض إلى هذا الحد ، إلى أن تكون أوفير في أمريكا الجنوبية.

وهناك وجه سابع للنظر يذهب إلى أن «أوفير» إنما تقع في «عسير» ، وثامن يرى أنها في مدين ، ورجح كثيرون أنها على سواحل بلاد العرب الغربية أو الجنوبية ، على أساس أن هذه الأماكن أقرب إلى الوصف الوارد في التوراة من غيرها (٣) ، هذا وقد ذكر الهمداني في معاد اليمامة موضعا سماه «الحفير» فقال : «ومعدن الحفير بناحية عماية ، وهو معدن ذهب غزير» ووجود الذهب بغزارة في الحفير إنما ينطبق على وصف أوفير إلى حد كبير ، إلا أن هذا الموضع بعيد عن البحر ، ولكن من يدري فلعل كتبة التوراة لم يكونوا على معرفة بموقع أوفير ، وإنما سمعوا بذهبه الذي يتاجر به العرب

__________________

(١) Ernest Renan, Histoire du Peuple d\'Israel, Paris, ١٢٢.p ، ١٨٨٧ وكذاJ.Finegan ,op ـ cit ,P.١٨١.

(٢) الأب أميل أدة : الفينيقيون واكتشاف أمريكا ـ بيروت ١٩٦٩ ص ٢٤ ـ ٢٥.

(٣) جواد عل : المرجع السابق ١ / ٦٣٩ ، وكذاJ.B.Montgomery ,op ـ cit ,P. ٣٨ وكذا ، B.Moritz op ـ cit ,p.٧ وكذا R. F. Burton, The Gold Mines of Midian, Sikzze, II, P. ٣٤٧.

١٧٤

الجنوبيون ، من المواني الساحلية ، فأرسل سليمان سفنه إلى موضع بيعه في سواحل بلاد العرب لشرائه ، ومن هنا ظن كتاب التوراة أن أوفير على ساحل البحر ، والحفير كما يبدو اسم قريب جدا من أوفير (١) ، وأخيرا فهناك من يرى أن «أوفير» معناها «الأرض الحمراء» (أي الحمراء بلون الذهب) ، وأنها لم تكن علما على بلد بعينه ، وإنما كانت اسم جنس ينطبق على بلاد عدة كاليمن وشرق إفريقية وغرب الهند (٢).

هذا وقد قدم لنا الأستاذ الدكتور السيد يعقوب بكر ، دراسة عليمية جادة عن موقع أوفير ، ناقش فيها كل النظريات المختلفة وخلص منها إلى أن الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية هو مكان «أوفير» (٣) ، فقد كانت بلاد العرب موطنا للذهب الأمر الذي شاع بين الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان ، حتى أنهم يذهبون إلى أنه كان يستخرج في مواضع معينة منها ، خالصا نقيا لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب الغريبة ولا يصهر لتنقيته ، ولهذا قيل له «Apyron» ومن ثم فقد ذهب بعض العلماء المحدثين إلى أن العبرانيين إنما قد أخذوا لفظة «أوفير» من «أبيرون» (Apyron) هذه (٤) ، وقد عثر في «مهد الذهب» ، ويقع شمالي المدينة المنورة ، على أدوات استعمالها القدامى في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه مثل رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح ، فضلا عما تركه القوم من آثار في حفر العروق التي يتكون منها الذهب ، مما يدل على أن الموقع كان منجما للذهب في عصور ما

__________________

(١) الهمداني : صفة جزيرة العرب ص ١٥٣ ، جواد علي : المرجع السابق ١ / ٦٣٩ ـ ٦٤٠.

(٢) J. Hornell, Navalactivity in the day of Soloman and Ramses, III, Antiquity, ـ ٢٣٩.p ، ١٩٤٧ ، ٢١J.Hormell ,Sea ـ Trade in Early Times ,Antiquity , ٣٦٤ ـ ٣٦١.p ، ١٩٤١ ، ١٥. وكذا

(٣) السيد يعقوب بكر : أوفير ص ١١٦ ـ ١٩٠ (من كتاب فضلو حورابي ـ العرب والملاحة في المحيط الهندي ـ القاهرة ١٩٥٨).

(٤) J.A.Montgomery ,Arabia and the Bible , ٣٩.p ، ١٩٣٤.

١٧٥

قبل الإسلام ، ولعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى سليمان (١).

وهكذا كان من الطبيعي أن يطلب سليمان الذهب في بلاد العرب ، وليس في مكان أقصى كالهند وإفريقية ، وكان من الطبيعي أيضا أن يطلبه في الجانب الجنوبي الغربي من بلاد العرب ، لأنه أقرب أجزائه إليه ، وبخاصة في «بيشة» وفي «خنكان» وفي المنطقة ما بين القنفذة ومرسى حلج ، فضلا عن «وادي تثليت» على مقربة من «حمضة» ، وعلى مبعدة ١٨٣ ميلا من نجران (٢) ، وربما قد حدث ذلك بعد إسلام ملكة سبأ ، في أغلب الظن.

وكان أمام سليمان للوصول إلى ذهب بلاد العرب طريقان ، طريق البر عبر الصحراء ، وطريق البحر على طول ساحل البحر الأحمر ، ولكنه آثر الطريق البحري ، رغم أن قومه كانوا أهل زراعة ورعي ، لم يتمرسوا بالبحار ، ذلك لأن طريق البر جد شائق وقد تزيد نفقاته على طريق البحر ، وثمة سبب آخر دعا سليمان إلى اختيار طريق البحر هو أنه أراد أن يشرك معه حليفه «حيرام» ملك صور ، رغبة في الانتفاع بمهارة الفينيقيين في الملاحة ، وربما بإلحاح من حيرام نفسه ، وأيا كان السبب ، فإن الجانب الجنوبي الغربي من بلاد العرب ، إنما كان المصدر الذي استقى منه سليمان الذهب ، وكان الذهب أهم السلع التي كانت تجلب من أوفير ، ثم يلي الذهب في الأهمية بين سلع أوفير ، خشب الصندل والحجارة الكريمة وهما سلع عربية كذلك ، هذا فضلا عن أن التوراة (٣) إنما تعد «أوفير» من أبناء يقطان (قحطان في جنوب بلاد العرب) تضعه بين سبأ وحويلة ، و «أوفير بن يقطان» هذا (أي شعب أوفير القحطان) هو الشعب الذي يسكن أرض «أوفير» ،

__________________

(١) جواد علي ١ / ١٩٣ ، وكذاR.H.Sanger ,The Arabian Peninsula ,Cornell , ٢٣ ، ٢٠.p ، ١٩٥٤.

(٢) K.S.Twitchell ,Sudi Arabia With an Account وكذاB.Moritz.op ـ cit ,P. ١١٠ of Dvelopment of its Natural Recources, Princeton, ٧٧.p ، ١٩٤٣.

(٣) تكوين ١٠ / ٢٩.

١٧٦

وبدهي أنه ليس هناك «أوفيران» ، أوفير في الجزيرة العربية ، وأوفير في مكان آخر ، كما يزعم البعض (١).

وأما الفضة والعاج والقرود والطواويس ، فالفضة كانت دائما غالية في بلاد العرب ، ولهذا رأى بعض الباحثين أنها مقحمة في النص (٢) ، ولكن من الممكن أنها كانت تستورد إلى أوفير ، والأمر كذلك بالنسبة إلى العاج ، إما من إفريقية القريبة ، وهو الأرجح ، وإما من الهند البعيدة ، وأما القرود فهي مستوردة أيضا ، إلا إذا كان المراد «النسانيس» كما يقول «مونتجمري» (٣) ، وهي ما تزال ترى في مرتفعات اليمن وحضرموت ، وعندئذ فهي سلعة عربية ، وكذلك «الطيوب» التي يجعلها «جلازر» مكان القرود ، سلعة عربية كذلك ، بل هي السلعة التي يتهافت عليها الشرق والغرب ، وكانت مصدر غنى وثروة لعرب الجنوب ، ثم يتبقى بعد ذلك «الطواويس» ، وهي سلعة هندية في الأصل ، فلا بد أن أوفير كانت تستوردهما من الهند ، وإذا صح ما يقوله «نيبور» من أن المراد «العبيد» ، كانت السلعة مستوردة أيضا ، ولكن من إفريقية (٤).

أضف إلى ذلك كله أن هناك ما يثبت أن الاتصال البحري بين شمال البحر الأحمر والهند لم يتم إلا في عصر قريب من القرن الأول الميلادي أو في عصر لا يبعد كثيرا عن القرن الأول ، وفي هذا زعزعة للنظرية الهندية (٥) ، وكذا النظرية «جلازر» والتي تذهب إلى أن أوفير التوراة إنما هي الساحل

__________________

(١) السيد يعقوب بكر : المرجع السابق ص ١٥٠ ـ ١٥٤.

(٢) T.A.Rickard ,Man and Metals ,I ,N.Y , ٢٦٧.p ، ١٩٣٢.

(٣) J.Montgomery ,op ـ cit ,P. ٣٩.

(٤) السيد يعقوب بكر : المرجع السابق ص ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٥) CAH ,I ,P.٢١٢ وكذاC.Renan ,op ـ cit ,P. ١٢٢ ـ ١١٩ وكذاJ.Hornell ,Antiquity , ٢٤٤.p ، ١٩٤١ ، ١٥ ، Antiauity , ٧٣ ـ ٧٢.p ، ١٩٤٧.

١٧٧

العربي من الخليج الفارسي (العربي) من الشمال حتى رأس مصندم (١) ، ثم إن هذا يثبت كذلك أن السفن قبل القرن الأول كانت تستطيع عبور باب المندب إلى عدن ، وفي هذا زعزعة لرأي «موريتز» (٢) الذي يرى أن السفن في عصر سليمان كانت أضعف من أن تتجاوز مضيق باب المندب ، وإذن فإن سفن سليمان كانت تستطيع حمل سلع أوفير من ميناء عربي قبل باب المندب ، كميناء «مخا» أو بعده كميناء «عدن» ثم إن انتساب العاج والقرود والطواويس في العربية إلى أصول هندية ، ليس دليلا على أن السلع كانت تستورد من الهند نفسها ، فقد كان باب الاستيراد مفتوحا ، كذلك لا يستطيع الاستدلال على أن أوفير في بلد ما ، بورود أسماء متشابهة لأوفير في هذا البلد ، فكثيرا ما يكون التشابه اللفظي عارضا (٣).

ويناقش الدكتور يعقوب بكر بعد ذلك الاعتراضات التي وجهت إلى هذه النظرية ، ومنها أن ذهب بلاد العرب كان قليلا بالقياس إلى المقادير الهائلة التي كانت تصل منه إلى سليمان ، وأن السنوات الثلاث التي كانت تستغرقها رحلة أوفير ، يستحيل معها أن تكون أوفير في مكان قريب من عصيون جابر ، فهذان الاعتراضات يقومان على أساس التسليم بقصة التوراة عن أوفير حرفيا ، ولكن ألا تجوز المبالغة في هذا المجال الأدبي ، ولا سيما أن الأمر يتعلق بسليمان الذي سارت بذكره الركبان ، والذي كان يحتاج فعلا إلى ذهب كثير لتزيين الهيكل وقصر الملك ، ثم ألا يمكن أن يكون الغرض من المبالغة التوراتية إظهار حملات أوفير ، وكأنها أبهى من حملات الفراعنة إلى «بونت» أو بمنزلتها على الأقل ، وأخيرا فمن المتفق عليه أن نصوص التوراة ليست فوق مظان الشك والريبة.

__________________

(١) E. Glaser, Skizze der Geschichte und Geographis Arabiens, II, P. ٣٧٣ ـ ٣٦٨.

(٢) B.Moritz ,op ـ cit ,P. ٨٩ ـ ٨٦.

(٣) السيد يعقوب بكر : المرجع السابق ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

١٧٨

وأما عن ذكر السنوات الثلاث التي كانت تستغرقها الرحلة إلى أوفير ، فهي أولا قد وردت في المصادر التوراتية المتأخرة ، ثم هي مبالغة أيضا ، فقد يجوز أن يكون المعنى أن سليمان كان يبعث بسفنه مرة كل ثلاث سنين ، وعندئذ لا تكون الإشارة إلى زمن الرحلة ، ولكن إلى المدة الفاصلة بين كل رحلة وأخرى (١) ، هذا فضلا عن أن وجهة نظر «أولبرايت» عن الرحلة ، ربما كانت تتصل برحلة أخرى غير رحلة أوفير ، ذلك لأن «ستانلي كوك» (٢) يرى أن سليمان وحيرام قد امتلكا أسطول «ترشيش» ، والذي يمكن الحكم عليه من اسمه أنه قد ذهب إلى ترشيش في أسبانيا ، وأما أسطول الفينقيين فقد أبحر من عصيون جابر في أدوم ليحضر الذهب من أرض أوفير (في جنوب بلاد العرب) ، وهكذا يبدو أن رحلة السنوات الثلاث ربما لا تتصل بأوفير ، ولكنها تتصل بأسطول «ترشيش» (٣) إلى أسبانيا ، وإن كان ذلك سيجرنا إلى متاعب أخرى ، علما بأن هناك من يرى أن هناك علاقات تجارية بين حيرام من ناحية ، وبين قبرص وأسبانيا من ناحية أخرى (٤).

(٦) النشاط الصناعي : ـ

لم تكن عصيون جابر ميناء تجاريا فحسب ، ولكنها كانت كذلك مركزا صناعيا ، وفي الواقع فلقد كان اختيار موقعها اختيارا موفقا ، في مكان لم يسكن من قبل بين تلال أدوم من الشرق ، وتلال فلسطين من الغرب ، حيث

__________________

(١) انظر عن مصادر التوراة (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ٩٧ ـ ١٠٦.

(٢) السيد يعقوب بكر : المرجع السابق ص ١٤٨ ـ ١٦٠.

(٣) S.A.Cook ,op ـ cit ,P. ٣٦٧.

(٤) يذهب البعض إلى أن «ترشيش» تقع في سردينيا ، ويذهب آخرون إلى أنها هي «ترتيسوس» في جنوب أسبانيا على مقربة من جبل طارق أو لعلها قرطاجة في شمال إفريقية (قاموس الكتاب المقدس ١ / ٢١٥ ـ ٢١٦ وكذاM.F.Unger ,op ـ cit ,P. ١٠٧١ ـ ١٠٧٠ وكذا.F Thieberger ,King Soloman ,London , ٢٠٦.p ، ١٩٥٧.

١٧٩

يمكن الإفادة إلى أقصى الحدود من الريح التي تهب من الشمال ، حيث تبلغ غاية سرعتها في وسط وادي عربة ، وذلك للانتفاع بها في تأجج النار اللازمة للتكرير ، هذا فضلا عن أدوم ، وكل المنطقة الواقعة بين البحر الميت وخليج العقبة ، غنية بالنحاس والحديد (١) ، ونقرأ في التوراة عن «أرض حجارتها حديد ، ومن جبالها تحفر نحاسا» (٢) ، ومن هنا كانت عصيون جابر ، بجانب وادي عربة والنقب ، مركزا لصهر الحديد والنحاس في عهد سليمان ، حتى كانت فلسطين في عهده من أكبر مصدري النحاس في العالم القديم (٣).

هذا وقد كشف «بتري» في «جمة» معامل لاستخراج الحديد ، أصغر كثيرا من تلك التي في عصيون جابر ، ويبدو أن داود عليه‌السلام كان قد نازع الآدومين احتكار الحديد ، واستولى عليه بعد هزيمتهم ، ومن ثم فإن مخزونات النحاس والحديد قد استخرجت وصهرت في عهد سليمان عليه‌السلام بدرجة كبيرة ، حتى أنه لم يعثر حتى الآن في أي مكان آخر في العالم القديم على ما يضاهي معامل تنقية النحاس في عصيون جابر ، ولعل أفضل هذه المعامل من جهة الإعداد والبناء ما وجد في الطبقة (ط) التي تحوي مخلفات أقدم للفترات الخمسة الرئيسية لعمران هذا الموقع (٤).

(٧) مملكة سليمان ومدى اتساعها : ـ

اختلف المؤرخون ، وما يزالون مختلفين ، حول اتساع مملكة سليمان

__________________

(١) موسكاتي : المرجع السابق ص ٢٨٠ ، وكذا J. Finegan, Op. Cit., P. ١٨١ Eissfeldt, op ـ cit, P. ٥٩٤.

(٢) تثنية ٨ / ١٢.

(٣) W. F. Albright, Archaeology and the Religion of Israel, Baltimore, F ١٣٣.p ، ١٩٦٣ وكذا وكذاNGM , ٢٣٦ ـ ٢٣٣.p ، ١٩٤٤ ، ٨٥. وكذاN.Glueck ,op ـ cit ,P.F ٨٩.

(٤) وليم أولبرايت : آثار فلسطين ص ١٢٨ ، فيليب حتى : المرجع السابق ص ٢٠٧ وكذا.W Keller ,op ـ cit ,P. ١٩٩ ـ ١٩٨.

١٨٠