دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

عليه‌السلام ، فرأي يذهب أصحابه من المؤرخين المحدثين إلى أن المملكة التي ورثها سليمان عن أبيه داود عليهما‌السلام ، أكبر من تلك التي ورّثها سليمان لمن أتوا بعده من ملوك بيت يهوذا وإسرائيل ، وذلك لأن الأمور في خارج فلسطين لم تكن تسير في نفس المجرى الذي اتخذته في الداخل (١) ، وقد بدأت المتاعب ضد دولة سليمان تظهر على الحدود ، ذلك أن «يوآب» قائد جيش داود كان قد اجتاح «أدوم» قبل ذلك بنصف قرن ، وقتل كل ذكورها بحد السيف ، وقد استطاع «هدد» ، وهو طفل أدومي من الأسرة المالكة ، أن يهرب إلى مصر ، وحين اشتد ساعده وجد رضا في عين فرعون الذي زوجه من «تحبنيس» (تحفنيس) أخت زوجة الملكة ، ثم عاد هدد إلى أدوم ، بغير موافقة فرعون ، وأصبح العدو اللدود لسليمان مدى الحياة (٢) ، ونقرأ في التوراة أنه «أصبح ملكا على أدوم» (٣) ، وربما قد حدث ذلك في فترة مبكرة من عهد سليمان ، وطبقا لرواية أخرى في التوراة (٤) ، فقد كان لسليمان مدخل إلى خليج العقبة وميناء «عصيون جابر» ، عبر وادي عربة ، أي عبر الجزء الأساسي الهام من أدوم ، ويفترض بعض المؤرخين أن سليمان قد عقد اتفاقا مع «هدد» ، بتوسط من فرعون الذي كان يريد أن تفسد علاقاته الودية مع صهره سليمان ، إن صحت روايات التوراة ، وإن لم تعد لسليمان سيطرة على ولاية أدوم ، كما أنه ليس هناك ما يدل على أن سليمان قد اتخذ من الخطوات ما يجعله يستعيد سيطرته على أدوم مرة أخرى (٥).

ونقرأ كذلك في التوراة «أن الله أقام لسليمان خصما آخر ، هو «رزون

__________________

(١) A.Lods ,op ـ cit ,P. ٢٦٨. وكذاM.Noth ,op ـ cit ,P. ٢٠٦.

(٢) A.Lods ,op ـ cit ,P. ٣٦٨ وكذاC.Roth ,op ـ cit ,P. ٢٣ وكذاM.Noth ,op ـ cit ,P. ٢٥٦ ـ ٢٥٠ وكذاH.R.Hall ,op ـ cit ,P. ٤٣٣.

(٣) ملوك أول ١١ / ١٤ ـ ٢٢ وكذاA.H.Gardiner ,Egypt of the pharaohs , ٣٢٩.p ، ١٩٦١.

(٤) ملوك أول ١١ / ٢٥.

(٥) A.Lods ,OP.Cit.,P. ٢٦٨ وكذاM.Noth ,Op.cit.,P. ٢٠٦.

١٨١

بن اليداع» (رصين) الذي هرب من سيده «هدد عرر» ملك صوبة ، وأقام مملكة في دمشق ، وكان خصما لإسرائيل كل أيام سليمان مع «هدد» (١) ، وهكذا نمت المملكة الآرامية في دمشق ، ثم تطورت بعد فترة قصيرة حتى غدت أقوى سلطة في سورية ، الأمر الذي أدى إلى أن ما أوجده داود من نفوذ في دمشق قد ضاع الآن (٢).

هذا وفي نفس الوقت كانت مصر قد بدأت حالتها في الانتعاش ، وبالتالي فقد بدأت تحاول إعادة سيطرتها في غربي كنعان فهناك ما يشير إلى حملة ضد الفلسطينيين شعوب البحر في جنوب غرب كنعان ، فقد عثر في «تانيس» على نقش بارز على جدران مبنى شيده «بسوسنس الأول» و «سيامون» (سي آمون) من الأسرة الحادية والعشرين ، جنوب معبد آمون الرئيسي ، يصور فيه «سيامون» ، وهو يضرب عدوا راكعا أمامه ، وقابضا في يده على فأس للحرب مزدوجة من ذلك النوع الذي كان يتخذه الإيجيون من أسلحة الحرب (٣) ، هذا فضلا عن أن هناك ما يشير إلى أن سيامون قد أرسل جيوشه لمحاربة الفلسطينين في جنوب غرب كنعان ، وأن مدينة أسدود قد غزيت ، وأن هناك آثارا في «تل فرعة» لنفس الفرعون (٤) ، بل إن هناك من يذهب إلى أن سيامون قد فكر في غزو إسرائيل نفسها (٥).

أضف إلى ذلك أن أعداء سليمان قد نشطوا كثيرا ، ونجحوا في

__________________

(١) ملوك أول ١١ / ٢٣ ـ ٢٥.

(٢).M.Noth ,op ـ cit ,P. ٢٠٦.

(٣).P.Montet ,Osorkon ,II ,P.١.lp , ٣٦.

(٤). A. Malamat, Aspects of the Foreign Policies of David and Solomon, in JNES, ٤٩ ـ ٤٨.on ، ١٢.p ، ١٩٦٣ ، ٢٢.

(٥).Ibid.,P.F ١٦ ، ١٣.

١٨٢

استعادة بعض البقاع التي كانت خاضعة لداود ، وأصبح ملك سليمان في غرب الأردن فقط (١) (فلسطين) ، وأصبح الفلسطينيون الهند وأوربيون في غزو وما بعدها في نجوة من سلطانه ، هذا فضلا عن أن ممالك وملوك شعوب شرق الأردن إنما كانوا يمارسون سلطانهم المحلي بعيدا عن قبضة سليمان ، مما يدل على أن هذه الممالك والشعوب التي كان داود قد أخضعها في شرق الأردن وسورية الآرامية قد تفلتت من سيادته ، كما تفلت الفلسطينيون منها كذلك (٢).

وعلى أي حال ، فإن النبي الكريم ما أن ينتقل إلى جوار ربه ، راضيا مرضيا عنه ، حتى يستولي «شيشنق الأول» أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين (٩٤٥ ـ ٧٣٠ ق. م) على أورشليم ، ويأخذ معظم ما فيها من كنوز (٣) ، وسواء أكانت حملة شيشنق هذه ، فيما يرى البعض (٤) ، بسبب استنجاد «يربعام» زعيم الثوار الإسرائيليين بمصر ، ضد بيت سليمان ، أو أنها كانت ، فيما يرى آخرون ، لإعادة سورية وفلسطين إلى حظيرة الامبراطورية المصرية (٥) ، فإن التدخل المصري في إسرائيل ، في أعقاب موت النبي الكريم ، إنما أدى إلى احتلال معظم مدن فلسطين ، والاستيلاء على خزائن معبد سليمان وقصره (٦) ، بل إن التوراة نفسها (٧) إنما تشير إلى خضوع

__________________

(١) C.Roth ,A short History of the Jewish People , ٢١.p ، ١٩٦٩.

(٢) محمد عزة دروزة : المرجع السابق ص ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

(٣) H.G.Wells ,A Short History of the World , ٧٧ ـ ٧٦.p ، ١٩٦٥.

(٤) A.Lods ,op ـ cit ,P. ٣٧٥ ـ ٣٧٤ وكذاC.Roth ,op ـ cit ,P. ٣١ وكذاH.R.Hall ,op ـ cit ,P. ٤٣٧ ـ ٤٣٦.

(٥) A.H.Gardiner ,op ـ cit ,P. ٣٣٠ ـ ٣٢٩.

(٦) ملوك أول ١٤ / ٢٥ ـ ٢٧.

(٧) أخبار أيام ثان ١٢ / ١٨.

١٨٣

«يهوذا» التي كانت من نصيب رحبعام بن سليمان ، للامبراطورية المصرية ، أو على الأقل ، فإن معظم المدن هناك إنما كانت تقوم بدفع الجزية لمصر ، وأما الدويلة الأخرى (إسرائيل) فقد أصبحت تحت النفوذ المصري تماما (١).

على أن فريقا آخر يذهب أصحابه من المؤرخين المسلمين إلى ملك واسع لسليمان عليه‌السلام ، وربما بغير حدود ، بل إن المصادر الإسلامية إنما تزعم لدولة سليمان ما لم تزعمه لها المصادر اليهودية نفسها ، ذلك أن التوراة رغم المبالغات المعروفة عنها ، إنما تذهب إلى أن مملكة إسرائيل في أقصى اتساع لها ، وفي أزهى عهودها ، إنما كان «من دان إلى بئر سبع» (٢) (ودان تقع عند سفح جبل حرمون عند تل القاضي ، على مبعدة ثلاثة أميال غربي بانياس) (٣) من الشمال إلى الجنوب ، وأما من الشرق إلى الغرب ، «فمن النهر (الأردن) إلى أرض فلسطين وإلى تخوم مصر» (٤) ، وهي حدود تشمل فلسطين بالكاد ، ومع ذلك فإن بعض المصادر العربية تجعل سليمان عليه‌السلام واحدا من أربعة ملكوا الدنيا كلها (نمرود وبختنصر وهما كافران ، وسليمان بن داود وذو القرنين وهما مؤمنان) (٥) ، بل إن الخيال ليذهب بالبعض الآخر إلى أن يجعل عاصمة سليمان بعيدا في إيران ، حيث

__________________

(١) S.A.Cook ,op ـ cit ,p. ٣٥٩.

(٢) قضاة ٢٠ / ١ ، صوئيل أول ٣ / ٢٠ ، صموئيل ثان ٢٤ / ١٥ ، أخبار أيام أول ٢١ / ٢ ، وكذاM.F.Unger ,op ـ cit ,P. ٢٣٦.

(٣) قاموس الكتاب المقدس ١ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٤) ملوك أول ٤ / ٢١ ، ثم قارن ملوك أول ٩ / ١١.

(٥) أنظر : تاريخ الطبري ١ / ٢٣٤ ، الكامل لابن الأثير ١ / ٥٤ ، البداية والنهاية ١ / ١٤٨ ، ثم أنظر مناقشتنا لهذا الاتجاه (محمد بيومي مهران : دراسات تاريخية من القرآن الكريم ١ / ١١٦ ـ ١١٩).

١٨٤

اتخذ من «اصطخر» (التي ينسبون إليه أو إلى الجن المسخر بأمره ، أمر بنائها) ، مقرا لحكمه ، بينما يذهب فريق ثالث إلى أن ملك سليمان إنما قد وصل إلى اليمن (١).

وفي عام ١٩٨٦ م صدر كتابان ، يزعم الأول منهما أن دولة داود وسليمان عليهما‌السلام إنما قامت في غرب شبه الجزيرة العربية (من الطائف وحتى نجران) ، وليست في فلسطين ، وكما تقول التوراة «من دان إلى بئر سبع» غير أن «دان» فيما يزعم المؤلف ، ليست هي المدينة التي تقع عند سفح جبل حرمون عند تل القاضي ، حيث منابع الأردن ، على مبعدة ثلاثة أميال من بانياس ، كما هو معروف ، وإنما هي «الدنادنة» في تهامة زهران ، وأن «بئر سبع» ليست هي المدينة المعروفة في جنوب فلسطين ، وإنما هي الشباعة في مرتفعات خميس مشيط ، ومن ثم فإن دولة داود وسليمان ، فيما يزعم المؤلف ، إنما تمتد من «الدنادنة» في تهامة زهران جنوب وادي أضم ، وحتى شباعة في مرتفعات خميس مشيط ، شرقي رجال ألمع ، وأما عاصمة الدولة القدس (أورشليم) فيذكر المؤلف رواية التوراة أن داود عليه‌السلام نقل عاصمته من حبرون إلى أورشليم ، لكنه يزعم أن هناك خمسة أماكن تسمى «حبرون» ما تزال تحمل اسم «خربان» على المنحدرات البحرية لعسير ، ومن الأمكنة الخمسة يختار المؤلف قرية «الخربان» الحالية في منطقة المجاردة ، كعاصمة أولى لداود ، وهي نفسها ، فيما يزعم ، حبرون إبراهيم عليه‌السلام ، وليست «حبرون» المشهورة في فلسطين ، وهي مدينة الخليل الحالية ، على مبعدة ١٩ كيلا شمال القدس ، وأما «أورشليم» فهي ليست ،

__________________

(١) ياقوت الحموي : معجم البلدان ١ / ٢١١ (بيروت ١٩٥٥) ، دائرة المعارف الإسلامية ٣ / ٤٥٨ ـ ٥٦٩ (دار الشعب ـ القاهرة ١٩٧٠) علي إمام عطية : الصهيونية العالمية وأرض الميعاد ص ٧١ ـ ٧٢.

١٨٥

فيما يزعم ، مدينة القدس الحالية (حيث المسجد الأقصى) وإنما هي قرية «آل شريم» الحالية ، على مبعدة ٣٥ كيلا شمالي بلده «النماص» في سراة عسير ، شمال مدينة أبها (١).

وأما الكتاب الثاني فيزعم صاحباه أن سليمان عليه‌السلام قامت على عهده ، وعهد أبيه (داود عليه‌السلام) دولة إسلامية عاصمتها بيت المقدس ، وحدودها من المؤكد كانت تشمل بلاد الشام الحالية (سورية وفلسطين) وتشمل الجزيرة العربية كلها ، وأنهما يعتبران ذلك من تمكين الله لسليمان فأعطاه ملكا لم ولن ينبغي لأحد من بعده (٢) ، ثم يقولان بعد ذلك ، وفي نفس الكتاب : لا يعقل أن تكون هناك أمة مشركة في عهد سليمان الذي طويت له الأرض ، ومكن له فيها ، وأوتي من كل شيء (٣) ، فضلا عن أنهما زعما في كتاب آخر أن سليمان عليه‌السلام كان نبيا عربيا (٤) ، بينما يذهبان في كتاب آخر أنه من سلالة إسرائيل عليه‌السلام (٥).

ولعل من الأفضل هنا ، أن نرد أولا على هذه الآراء الآنفة الذكر ، قبل أن نتعرض لرأي المفسرين في تفسيرهم لقوله تعالى : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٦) ، فأما أصحاب الرأي الأول ، والذي يذهب إلى أن المملكة التي ورثها سليمان عن أبيه داود عليهما‌السلام أكبر من تلك التي ورثها سليمان لمن أتوا بعده من ملوك

__________________

(١) كمال سليمان الصليبي : التوراة جاءت من جزيرة العرب ـ ترجمة عفيف الرزاز ـ ط ثانية ـ بيروت ١٩٨٦ ـ مؤسسة الأبحاث العربية ص ١٧٥ ـ ١٩٣.

(٢) جمال عبد الهادي ووفاء محمد رفعت : ذرية إبراهيم عليه‌السلام وبيت المقدس ـ دار طيبة ـ الرياض ١٩٨٦ ص ٢٥٦ ، ٢٥٩.

(٣) نفس المرجع السابق ص ٢٧٠.

(٤) جمال عبد الهادي ووفاء رفعت : جزيرة العرب ج ١ ص ٨٠.

(٥) جمال عبد الهادي ووفاء رفعت : ذرية إبراهيم عليه‌السلام وبيت المقدس ص ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٦) سورة طه : آية ٣٥.

١٨٦

يهوذا وإسرائيل ، وذلك بسبب عودة «هدد» أمير أدوم من مصر واستقلاله بدولته ، وبسبب «رصين» الذي أقام مملكة في دمشق وقضى على نفوذ إسرائيل فيها ، وبسبب حالة الانتعاش في مصر والتي صاحبت عهد سليمان ، فذلك رأي بالغ أصحابه فيه كثيرا ، فضلا عن اعتمادهم في الدرجة الأولى على التوراة ، فيما يتصل بهدد ورصين ، والتوراة كما هو معروف ، مصدر غير موثوق فيه ، وأقل ما يوصف به أنه نص محرف (١) ، ومن ثم فلا يمكن الاعتماد عليه ، ما لم تؤيده مصادر أخرى ، وهذا ما لم يثبت حتى الآن ، ثم إن كل الدلائل ، الدينية والتاريخية ، تشير إلى أن سليمان قد مكّن له ، كما مكّن لأبيه من قبل ، وأما الانتعاش المصري والرغبة في إعادة السيادة المصرية على غربي كنعان ، فأدلة أصحاب هذا الرأي تعتمد على آثار تشير إلى حملات مصرية ضد الفلسطينيين الهند وأوربيين ، والذين كانوا يسكنون المنطقة ما بين يافا وغزة على ساحل البحر المتوسط ، وليس هناك دليل واحد يشير إلى حملات مصرية ضد مملكة سليمان ، بل إن الأدلة كلها تشير إلى علاقات ودية بين مملكة سليمان ومصر ، وأن فرعون كان حريصا على أن لا يفسد العلاقات الودية بينه وبين صهره سليمان ملك إسرائيل ، كما رأينا من قبل ، وأما حملة «شيشنق» على فلسطين ، والتي يعتبرها البعض دليلا على ضعف مملكة سليمان ، فيكفي القول إن هذه الحملة كانت بعد موت سليمان بأعوام خمسة ، ومن ثم فهي غير ذي موضوع بالنسبة لعهد سليمان ، كما أنها كانت بعد انقسام مملكة سليمان بين ولده رحبعام والثائر يربعام.

وأما ما ذهب إليه «برستد» من أن سليمان كان واليا تحت النفوذ المصري (٢) ، فيكذبه أن صاحبه لم يقدم دليلا واحدا على صحته ، وهي

__________________

(١) أنظر : سورة البقرة آية ٧٩ ، ١٥٩ ، آل عمران : آية ٧٨ ، النساء : آية ٤٦ ، المائدة ١٣ ، ١٥ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١٣٦ ـ ٣٧٩.

(٢) J.H.Breasted ,A History of Egypt ,N.Y , ٥٢٩.p ، ١٩٤٦.

١٨٧

سقطة لا شك فيها من المؤرخ الكبير ، كما أن مصر على أيام سليمان لم يكن لها نفوذ في فلسطين من أي نوع ، والأهم من ذلك كله : هل يقبل عاقل أن يكون نبيّ ، أي نبيّ ، تابعا لملك كافر ، ولما ذا يتبعه ، هل ليكون ملكا على فلسطين ، ولكن ما قيمة ملك فلسطين ، بجانب شرف النبوة ، فما بالك إذا كان هذا النبي هو سليمان ، الذي وهبه الله ، بجانب النبوة ، ملكا لا ينبغي لأحد بعده ، الهم إنا نبرأ من قول كهذا ، ونسألك أن تلهمنا جانب الصواب والأدب مع أنبيائك ورسلك ، وأن تحمينا من أن ننساق ، دون أن ندري ، في تيار كتبة التوراة ، أو في تيار قلة من المؤرخين المحدثين ممن يلقون التهم جزافا على سيدنا سليمان عليه‌السلام ، وبدهي أن خضوع سليمان النبي لفرعون من الفراعين تهمة لا شك فيها ، نبرأ إلى الله منها ، وأخيرا فإن أصحاب هذا الرأي تسقط كل حججهم بالرجوع إلى قصة سليمان مع ملكة سبأ ، كما جاءت في القرآن الكريم ، فإن الذي يهدد ملكة سبأ ، أعظم دول الجزيرة العربية ، وهي بعيدة عن مملكة سليمان بآلاف الكيلومترات ، لا يمكن بحال من الأحوال ، أن تكون دولته ضعيفة ، يهددها أمثال أمير أدوم أو دمشق أو غيرهم من النكرات التي كانت تعيش في سورية وفلسطين تحت ظلال دولة سليمان ، ثم إن سليمان الذي سخر الله له طائفة من الإنس والجن والطير والشياطين ، لن يعجز عن جماع قوم من ضعاف المشركين ، ولا ريب في أن من سخر له من يأتيه بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه ، يمكن أن يسخر له ، ما يستطيع به القضاء على كل أعدائه.

وأما أصحاب الرأي الذي يعطي سليمان عليه‌السلام ملكا واسعا ، ربما بغير حدود ، ويجعل عاصمته في «اصطخر» ويملكه بلاد اليمن ، فأما عن «اصطخر» فليت الذين ذهب بهم الخيال إلى هذا الحد يعرفون أن اصطخر لم يبدأ الفرس في بنائها إلا حوالي عام ٥٢٠ ق. م ، على أيام دارا الأول (٥٢٢ ـ ٤٨٦ ق. م) ، ولم يتم البناء إلا في عهد «أرتخششتا الأول» ،

١٨٨

حوالي عام ٤٦٠ ق. م ، أي بعد وفاة سليمان (٩٦٠ ـ ٩٢٢ ق. م) بحوالي أربعة قرون (١) ، وأما ملك اليمن فأمره عجيب ، فالبعض خلط بين إسلام ملكة سبأ وبين خضوع دولتها لسليمان ، والبعض أعطى سليمان ملك اليمن ٣٢٠ سنة ، مع أن المؤرخين ، ومنهم صاحب هذا الرأي ، يجمعون على أن ملك سليمان لم يزد عن أربعين سنة ، وأنه مات ، وله اثنتان وخمسون سنة (٢) ، وأما إسلام ملكة سبأ فقد كان لله مع سليمان «قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين» ، وهكذا اهتدى قلبها واستنار ، وعرفت أن الإسلام لله وحده ليس استسلاما لأحد من خلقه ، حتى وإن كان هو سليمان ، النبي الملك صاحب المعجزات ، إنما الإسلام إسلام لله رب العالمين ، ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقه على سنة المساواة «وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين» وقد سجل السياق القرآني هذه اللفتة الأخيرة وأبرزها ، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله والإسلام له ، فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين ، بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله لا غالب منهما ولا مغلوب ، وهما أخوان في الله رب العالمين على قدم المساواة (٣) ، ثم إن الذين يقولون بضم اليمن إلى مملكة سليمان إنما يخطئون في فهم دعوة الرسل ، فهم لا يريدون ملك الناس ودنياهم ، وإنما يريدون هدايتهم إلى عبادة الله وحده ، وإلى الإيمان بشرائعه ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل في قصة سليمان مع ملكة سبأ.

وأما الدكتور الصليبي فلم يقدم لنا في دعواه أية أدلة علمية يمكن أن تؤيد مزاعمه التي تمس الدين والوطن ، سوى الزعم بأن هناك قرى في غرب

__________________

(١) أحمد فخري : دراسات في تاريخ الشرق القديم ص ٢٢٩ ، آرثر كريستنس : إيران في عهد الساسانيين ص ٨٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ١ / ٦٠ ، ١٩٦.

(٣) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٤٣.

١٨٩

الجزيرة العربية ، يمكن أن تتشابه أسماؤها مع أسماء أماكن جاءت في توراة يهود ومن ثم زعم أن غرب الجزيرة العربية هي أرض التوراة ، وليست فلسطين ، وفي الواقع لو طبقنا مزاعمه هذه على الولايات المتحدة الأمريكية مثلا ، لكان الكثير من مدنها ، اعتمادا على تشابه أسماء بعض المدن ، إنما هي مدن عربية ، كان يسكنها العرب في العصور القديمة ، ناهيك عن تشابه أسماء بعض المدن والقرى في البلاد ، العربية نفسها ، الأمر الذي يمكن أن يتفق وما زعمه الدكتور الصليبي من مسخ للحقائق الدينية الثابتة ، فضلا عن الحقائق التاريخية والجغرافية المتعارف عليها منذ آلاف السنين.

وأما دعوة الدكتور جمال عبد الهادي والدكتورة وفاء رفعت من أن سليمان قامت على عهده ، وعهد أبيه داود ، عليهما‌السلام دولة إسلامية عاصمتها القدس ، وحدودها من المؤكد أنها كانت تشمل الشام كله والجزيرة العربية كلها ، فلست أدري من أين جاءا بدعواهما أن داود كون دولة شملت الشام كله والجزيرة العربية كلها ، وليس في القرآن الكريم والحديث الشريف ولا في المصادر العربية أو اليهودية أو الأثرية ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد ، وأما ملك سليمان لليمن فقد ناقشناه من قبل ، وليس هناك من دليل يثبت استيلاء سليمان على اليمن وضمها إلى مملكته ، فضلا عن ضم الجزيرة العربية كلها ، واليمن جزء من الجزيرة العربية ، وليس كل الجزيرة العربية ، ثم يقول المؤلفان أن الله مكّن سليمان فأعطاه ملكا لم ولن ينبغي لأحد من بعده؟ فهل ملك الشام والجزيرة العربية يعتبر هو الملك الذي لم ينبغ لأحد من بعد سليمان ، أم أن هناك آخرون ملكوا أكثر من الشام والجزيرة العربية ، فمثلا الإسكندر المقدوني في التاريخ القديم ، والدولة الإسلامية على أيام الراشدين والأمويين والعباسيين ، ناهيك عن الامبراطوريات الأوربية في العصر الحديث.

وأما القول بأنه لا يعقل أن تكون هناك أمة مشركة في عهد سليمان

١٩٠

الذي طويت له الأرض ومكن له فيها ، وأوتي من كل شيء ، فلست أدري ما ذا يعني المؤلفان بذلك ، وهل تبق حقا أمة مشركة في عهد سليمان بعد إيمان ملكة سبأ ، وهل أصبحت مصر الفرعونية أو العراق القديم مثلا ، وهما أقرب إلى فلسطين مقر مملكة سليمان من اليمن ، من الأمم المسلمة في عهد سليمان؟ ثم ، وهذا في منتهى الأهمية ، هل بعث سليمان للناس عامة ، أم أنه بعث إلى قومه خاصة ، ذلك أنه من المعروف أن كل نبيّ إنما كان يبعث إلى قومه خاصة ، وأن سيدنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وحده الذي بعث إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا» ، «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا» ، وفي الصحيحين عن جابر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (١).

ثم إن المؤلفين مضطربان في نسب سليمان عليه‌السلام ، فهو مرة نبي عربي ، وهو مرة أخرى من بني إسرائيل من سلالة يعقوب (إسرائيل) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، وهذا هو الصحيح ، ثم كيف يكون سليمان نبيّا عربيا ، وسيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في حديث أبي ذر المشهور : وأربعة من العرب ، هود وصالح وشعيب ونبيّك يا أبا ذر» (٢) ، وفي رواية : «وأربعة من العرب ، هود وصالح وشعيب ومحمد عليه‌السلام» (٣).

بقي الآن أن نتحدث عن رأي المفسرين والمؤرخين المسلمين في قوله تعالى :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ / ٨٥٧.

(٢) البداية والنهاية تفسير ابن كثير ١ / ٨٩١ ـ ٨٩٢ (بيروت ١٩٨٦).

(٣) تفسير النسفي ١ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

١٩١

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (١) ، إذ ترى جمهرة كبيرة من المفسرين والمؤرخين أن سياق الآيات الكريمة تفيد أن الزيادة التي أوتيها سليمان عليه‌السلام في ملكه المعبر عنها بقوله تعالى : (مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) إنما هي إيتاؤه بعض المعجزات التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم‌السلام ، بدليل التعقيب عليه بقوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٢) ، المتضمن استجابة الله تعالى لدعائه ، مفتتحا بالفاء الدالة على الربط والتعقيب والترتيب (٣) ، وهذا ما نميل إليه ونرجحه ، ويقول ابن الأثير أن سليمان عليه‌السلام سأل الله أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فاستجاب الله وسخر له الإنس والجن والشياطين والطير والريح ، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه ، عكفت عليه الطير ، وقام له الإنس والجن حتى يجلس (٤) ، ويقول الطبري (٥) : وسخرت له الريح والشياطين يومئذ ، ولم تكن سخرت له من قبل (أي بعد أن جلس الشيطان على كرسيه) وهو قوله تعالى : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٦) ، ومن هنا فقد ذهب المسعودي إلى أن ملك سليمان كان أربعين سنة على فلسطين والأردن (٧) ، وقول ابن خلدون : إن سليمان قد ضرب الجزية على جميع ملوك الشام مثل فلسطين وعمون وكنعان ومؤاب

__________________

(١) سورة ص : آية ٣٥.

(٢) سورة ص : آية ٣٦ ـ ٣٧.

(٣) عويد المطرفي : المرجع السابق ص ١١٤ ـ ١١٥.

(٤) الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٨.

(٥) تاريخ الطبري ١ / ٥٠١.

(٦) سورة ص : آية ٣٥.

(٧) مروج الذهب للمسعودي ١ / ٧٠ (بيروت ١٩٦٥).

١٩٢

وأدوم والأرمن (أي الآراميين) وهذا لا يعدو أيضا فلسطين وشرق الأردن (١).

وإذا ما رجعنا إلى كتب التفسير لرأينا الأستاذ سيد قطب ، طيب الله ثراه ، يقول في تفسير الآية الكريمة : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، أن أقرب تأويل لهذا الطلب من سليمان عليه‌السلام لم يرد به أثره ، وإنما أراد الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة ، فقد أراد به النوع ، أراد به ملكا ذا خصوصية تميّزه من ملك كل ملك آخر يأتي بعده ، وذا طبيعة معينة ليست مكررة ولا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس ، وقد استجاب الله له ، فأعطاه فوق الملك المعهود ، ملكا خاصا لا يتكرر (٢) ، ثم يحدد صاحب الظلال هذا الملك المعهود بأنه لا يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين وسورية ولبنان والعراق إلى ضفة الفرات (٣) ، أي الشام بمعنى آخر ، لا أكثر ولا أقل ، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعده هذه السلبة (يعني الشيطان الذي جلس على كرسيه) أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته (٤) ، ويقول النسفي أن سليمان عليه‌السلام سأل ملكا بهذه الصفة (لا ينبغي لأحد من بعدي) ليكون معجزة له ، لا حسدا (٥) ، وكان قبل ذلك لم يسخر له الريح والشياطين ، فلما دعا بذلك

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون ٢ / ١١٢.

(٢) في ظلال القرآن ٥ / ٣٠٢٠.

(٣) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٥.

(٤) الدر المنثور ٥ / ٣١٣.

(٥) تفسير البيضاوي ٥ / ١٩.

(٦) جاء في تفسير الطبري (٢٣ / ١٦٤ ط بيروت ١٩٨٤) ذكر عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه قرأ قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فقال : «إنه كان لحسودا ، فإن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء ، قيل : أما رغبته إلى ربه فيما رغب إليه من الملك ، فلم ـ

١٩٣

سخرت له الريح والشياطين ولن يكون معجزة حتى يخرق العادات (١).

ويقول ابن كثير في تفسير الآية الكريمة : قال بعضهم : معناه لا ينبغي لأحد من بعدي ، أي لا يصح لأحد أن يسلبنيه بعدي ، كما كان من قضية الجسد الذي ألقى على كرسيه ، لا أن يحجر على من بعده من الناس ، والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر ، وهذا هو ظاهر السياق من الآية ، وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية ، حدثنا إسحاق إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني عفريتا من الجن تفلت على البارحة ، أو كلمة نحوها ، ليقطع على الصلاة ، فأمكنني الله تبارك وتعالى منه ، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم ، فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام : «رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي» ، قال روح : «فرده خاسئا» ، وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به (٢).

هذا وقد قدم لنا الإمام الطبري عدة روايات في تفسير الآية الكريمة ، منها أن الله تعالى سخر لسليمان الريح والشياطين يومئذ ، ولم تكن سخرت له من قبل ذلك ، وهو قوله : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، لا يسلبنيه أحد ، كما سلبنيه قبل هذا الشيطان ، ومنها يقول تعالى ذكره : (فاستجبنا

__________________

ـ تكن إن شاء الله به رغبة في الدنيا ، ولكن إرادة منه أن يعلم منزلته من الله في إجابته فيما رغب إليه فيه ، وقبول توبته ، وإجابته دعائه».

(١) تفسير النسفي ٤ / ٤٣.

(٢) تفسير ابن كثير ٤ / ٥٦ ـ ٥٧ (ط بيروت ١٩٨٦) وانظر : صحيح البخاري ٦ / ١٥٦ ، صحيح مسلم ٢ / ٧٢ ، سنن النسائي ٣ / ١٣ ، مسند الإمام أحمد ٣ ك ٨٣.

١٩٤

له دعائه ، فأعطيناه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده) ، «فسخرنا له الريح» مكان الخيل التي شغلته عن الصلاة «تجري بأمره رخاء» يعني رخوة لينة ، وهي من الرخاوة عن الحسن : أن نبيّ الله سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عرضت عليه الخيل ، فشغله النظر إليها عن صلاة العصر «حتى توارت بالحجاب» فغضب الله ، فأمر فعقرت ، فأبدله الله مكانها ، سخر الريح تجري بأمره رخاء حيث شاء ، ومنها ما روى عن الضحاك في قوله تعالى : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، فإنه دعا يوم دعا ، ولم يكن في ملكه الريح ، وكل بناء وغواص من الشياطين فدعا ربه عند توبته واستغفاره ، فوهب الله له ما سأل ، فتم ملكه ، وعن الضحاك أيضا «والشياطين كل بناء وغواص» قال لم يكن هذا في ملك داود ، أعطاه الله ملك داود ، وزاده الريح ، «والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد» ، يقول في السلاسل ، ويقول الإمام الطبري : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن الحسن والضحاك من أنه عني بالعطاء ما أعطاه الله تعالى ذكره من الملك ، وذلك أنه جل ثناؤه ذكر عقيب خبره عن مسألة نبيّه سليمان ، صلوات الله وسلامه عليه ، إياه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فأخبره أنه سخر له ما لم يسخر لأحد من بني آدم ، وذلك تسخيره له الريح والشياطين على ما وصفت ، ثم قال له عز ذكره : هذا الذي أعطيناك من الملك ، وتسخير ما سخرنا لك عطاؤنا ، ووهبنا لك ما سألتنا أن نهبه لك من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك «فامنن أو أمسك بغير حساب» (١).

ويقول الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير في تفسير الآية : أن الملك هو القدرة ، فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة ، ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي ، والدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال عقيبه : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٣ / ١٥٨ ـ ١٦٣ (ط بيروت ١٩٨٤).

١٩٥

حَيْثُ أَصابَ) ، فكون الريح جاريا بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب ، ولا شك أنه معجزة دالة على نبوته ، فكان قوله ؛ (هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها ، فقوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) يعني لا يقدر أحد على معارضته ، وهناك وجه آخر أنه عليه‌السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة ، عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر ، فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره ، وذلك الذي سأله بقوله : (مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري (١).

وهكذا يبدو واضحا أن جمهرة المفسرين لا يذهبون إلى أن سليمان عليه‌السلام ، سأل الله ملكا واسعا ، بمعنى مساحات واسعة من الأرضين ، وإنما سأل الله تعالى ملكا معجزا لا يكون لأحد غيره من بعده ، فكانت هذه المعجزات من تسخير الريح بأمره رخاء حيث أصاب ، والشياطين كل بناء وغواص ، وآخرين مقرنين في الأصفاد ، إلى غير ذلك من معجزات لم يشاركه فيها أحد ، كما أشرنا إلى كل ذلك في مكانه من هذه الدراسة ، ومن ثم فلا مكان للربط بين ملك شاسع المساحات ، كما ذهبت إلى ذلك بعض المصادر العربية ، وبين نبوة سليمان عليه‌السلام ، وكأن مكانة النبي الكريم لا تكون إلا بملك الدنيا كلها ، كما ذهب البعض ، حيث جعلوا من سليمان عليه‌السلام ، واحدا من أربعة (نمرود وبختنصر وذو القرنين وسليمان) ملكوا الدنيا بأسرها ، بل إن سليمان ، فيما يقولون ، «كان لا يسمع بملك في ناحية من الأرض إلا أتاه حتى يذله» ، ونسوا ، أو تناسوا ، أن سليمان عليه‌السلام ، لم يكن ، ولن يكون ، جبارا في الأرض ، وإنما كان رسولا نبيّا ، وهاديا إلى الله بإذنه ، ومبشرا ونذيرا ، ونسوا كذلك أن النبوة أشرف وأكرم من ملك الدنيا وما فيها ، وإن جمع الله لسليمان ، كما جمع لأبيه من قبل ، بين

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢٠٩ ـ ٢١٠.

١٩٦

النبوة والملك ، ونسوا أيضا أنهم ربطوا سليمان بملوك أربعة ، منهم على الأقل كافران ، فإذا كان هذا الملك الواسع المساحات هو المراد من دعاء النبي الكريم : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، فهم إذن قد ساووا بين سليمان عليه‌السلام ، وبين هؤلاء الثلاثة (نمرود وبختنصر وذو القرنين) في هذا الملك الواسع العريض ، وهذا ما لم يقل به أحد.

وهكذا يبدو واضحا أن سياق الآيات الكريمة ، كما أشرنا من قبل ، إنما يشير إلى أن الزيادة التي أوتيها سليمان عليه‌السلام في ملكه والمعبر عنها بقوله : (مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) هي إيتاؤه بعض المعجزات التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم‌السلام ، بدليل التعقيب عليه بقوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) ، المتضمن استجابة الله تعالى لدعائه ، مفتتحا بالفاء الدالة على الربط والتعقيب والترتيب (١).

(٨) القدس عاصمة سليمان : ـ

تقع القدس على مبعدة ١٤ ميلا إلى الغرب من البحر الميت ، ٣٣ ميلا إلى الشرق من البحر المتوسط ، وقد عرفت بأسماء كثيرة ، حيث أطلقت عليها التوراة أو العهد القديم اسم «أريئيل» (إشعياء ٢٩) ومدينة العدل (إشعياء ١) والمدينة (مزمور ٧٢) ومدينة الله (مزمور ٤٨) ومدينة الحق (زكريا ٨) ومدينة القدس (نحميا ١١) وجبل القدس (إشعياء ٢٧) والمدينة المقدسة (متى ٤) ومدينة داود ، وأما أسماؤها العربية فهي : بيت المقدس والمقدس والقدس الشريف ، أما الإسم الغالب فهو «القدس» ، والذي يبدو أنه رافق المدينة منذ بداية تاريخها ، غير أن أشهر اسمين للمدينة إنما هما القدس وأورشليم.

__________________

(١) عويد المطرفي : المرجع السابق ص ١١٤ ـ ١١٥.

١٩٧

هذا ويظن كثير من الناس خطأ أن اسم «أورشليم» اسم عبري أو يهودي ، والحقيقة غير ذلك تماما ، ذلك لأن أقدم النقوش التي ورد فيها اسم المدينة المقدسة إنما هو نقش مصري ، يرجع إلى أخريات القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، وربما إلى أيام «سنوسرت الثالث (١٨٧٨ ـ ١٨٤٣ ق. م) أو بعده بقليل ، وربما قبله بقليل ، حيث ذكرت المدينة تحت اسم «أورشليم» (Ursalimum) على رأي (١) ، وإلى أيام الأسرة الثالثة عشرة المصرية (١٧٨٦ ـ ١٦٥٠ ق. م) فيما عرف بنصوص اللعنة تحت اسم «أوشاميم» (Aushamem على رأي آخر (٢) ، ونقرأ في رسائل العمارنة من القرن الرابع عشر قبل الميلاد (٣) ، في رسالة من نائب الفرعون إخناتون (١٣٦٧ ـ ١٣٥٠ ق. م) ويدعى «عبد خيبا» أمير القدس وكانت تدعى «أورسالم» يقول فيها «لا أبي ولا أمي وضعاني في هذا المكان ، بل يد الملك القوية هي التي وضعتني في بيت آبائي» (٤) ، وبقيت المدينة تدعى «أورسالم» ، حتى استقل بها اليبوسيون في فترة الضعف التي انتابت الإمبراطورية المصرية ، وسموها «يبوس» (٥) ، حتى جاء داود عليه‌السلام (١٠٠٠ ـ ٩٦٠ ق. م) واستولى عليها منهم ، ثم اتخذها عاصمة لدولته ، ونقل إليها «تابوت العهد» ، وأطلق عليها اسم «مدينة داود» ، ومن ثم فقد أصبحت المدينة المقدسة مركزا للحياة

__________________

(١).M.F.Unger ,op ـ cit ,P. ٥٧٦.

(٢) أحمد فخري : المرجع السابق ص ٣٣٥ وكذاJ.Wilson ,ANET , ٣٢٩.p ، ١٩٦٦ W. Ward, Egypt and The East Mediterranean in the Second Millennum B. C., in Orientalla, ٣٠ ، Roma , ٣٢.p ، ١٩٦١.

(٣) أنظر عن رسائل العمارنة (محمد بيومي مهران : إخناتون ـ الإسكندرية ١٩٧٩ ص ٢٣٣ ـ ٢٤٥).

(٤). S. A. B. Mercer, The Tel ـ El ـ Amarna Tablest, II, Toronto, ٨٩ ـ ٢٨٦.p ، ١٩٣٩ وكذاW.F.Albright ,ANET ,P. ٤٨٩ ـ ٤٨٧.

(٥). ١٩ / ١٠ ـ ١١.

١٩٨

السياسية والدينية معا ، هذا ويختلف الباحثون في أسباب تغيير اسم المدينة القديم ، فمن قائل لأن اسمها القديم كان غريبا على العبرانيين ، ومن قائل لأن فيه تخليدا للاهوت أجنبي ، ومن قائل لأن داود عليه‌السلام أراد أن يخلد اسمه على المدينة أو حتى على جزء منها ، ذلك لأن اليهود أطلقوا على المدينة أيضا اسم «يورشالايم» أو «أورشالم» بإضافة لاحقة عبرية كي تصبح عبرية النطق ، وأيا كان السبب فإن الإسم الجديد لم يحل محل الإسم القديم ، الذي له جذور عميقة في الوعي الشعبي (١).

هذا وقد دعيت المدينة في النقوش الآشورية باسم «أورساليمو» (Ursalimmu) وفي النقوش اليونانية باسم «هيروسوليما» (Hierosolyma) ) ، هذا ولم يذكر «هيرودوت» (٤٨٤ ـ ٤٣٠ ق. م) في تاريخه اسم «أورشليم» ولكنه ذكر مدينة كبيرة في الجزء الفلسطيني من الشام ، وسماها «قديتس» ، مرتين في الجزء الثاني والثالث من تاريخه ، ويقول المستشرق اليهودي «سالومون مونك» في كتابه «فلسطين» أن هذا الإسم على الأرجح هو «القدس» ، محرفا في اليونانية عن النطق الآرامي «قديشتا» (٣).

وأما معنى «أورشليم» فموضع خلاف ، ولعل أرجح الآراء من الناحية العلمية أنها مركبة من «أور» بمعنى مدينة أو موضع ، ومن «شالم» وهو إله وثني لسكان فلسطين الأصليين هو «إله السلام» ، فالمدينة إذن كانت مكرسة لإله السلام ، وهناك من يقول أن كلمة «أور» معناها «الميراث» ، فتكون

__________________

(١) صموئيل ثان ٥ / ٩ ، ٦ / ١٢ ـ ١٣ ، ٨ / ١٧ ـ ١٨ ، ٢٠ / ٢٥ ـ ٢٦ ، عبد الحميد زائد : الشرق الخالد ص ٥٦ ـ ٥٧ ، وكذاM.Noth ,The History of Israel , ١٩١.p ، ١٩٦٥ وكذاY.Yeivin ,JNES , ١٠.p ، ١٩٤٨ ، ٧.

(٢) M.F.Unger ,op ـ cit ,P. ٥٧٦.

(٣) حسن ظاظا : المرجع السابق ص ٨ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ١٣٥.

١٩٩

أورشليم بمعنى «ميراث السلام» أما أحبار اليهود فيدعون أن «سام بن نوح» قد سماها «شلم» أي السلام ، وأن إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، قد سماها «يرأه» ، وهي باللغة العبرية بمعنى الخوف ، فقرر الله أن يسميها بالاسمين معا ، «يرأه ـ شلم» أي «أورشليم» بمعنى الخوف والسلام ، وبنوا على هذه التخريجات الفلوكلورية عقائد رهيبة حول السلام المتولد عن الرعب ، وقيل أيضا أن «يرو» يمكن أن تكون في اللغات السامية بمعنى «إله» ، ويكون اسم المدينة بكل بساطة «مدينة إله السلام» (١).

وأيا ما كان الأمر ، فما أن يأتي الرومان ، وتحدث مذبحة «هدريان» (١١٧ ـ ١٣٨ م) عام ١٣٥ م ، حتى تكون ختاما نهائيا لليهود في فلسطين سياسيا وسكانيا ، ثم يغير الرومان اسم المدينة إلى «إيليا كابيتولينا» أو «إيليا» فقط ، ويصبح لفظ أورشليم لفظا تاريخيا ، يطلق فقط على المدينة التي كانت على عهد الملوك والأنبياء من بني إسرائيل ، وظلت المدينة تسمى «إيليا» ولا يسكنها اليهود حتى القرن السابع الميلادي ، وفي العام الخامس عشر الهجري يفتح المسلمون المدينة المقدسة ، ويعيدون إليها اسمها «القدس» ، وإن اشترط أهلها ألا تسلم مدينتهم إلا للخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، رضوان الله عليه ، وأن يمنحهم الأمان لدينهم وكنائسهم ، ويقبل الخليفة أن يتسلم المدينة بنفسه ، ويأتي إلى القدس في عام ١٥ ه‍ (أو عام ١٦ ه‍ ٦٣٥ م) ويتسلم المدينة من البطريرك «صفرنيوس» ، ويمنح أهلها النصارى الأمان في دينهم وأموالهم وأعراضهم ، لا يضار أحد منهم بسبب دينه ، ولا يكره على شيء في أمره ، ولا يسكن معهم أحد من اليهود (٢) ، وبينما كان الخليفة الراشد في كنيسة القيامة مع البطريرك أدركته

__________________

(١) حسن ظاظا : المرجع السابق ص ٩.

(٢) هناك رواية أخرى تذهب إلى أن الفارق عمر رفض الموافقة على استمرار القرار الروماني ـ

٢٠٠