دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

أسلمه من الدماء ، فلما ملك سليمان بناه وشرفه (١) : ويتفق ابن الأثير في روايته مع الطبري تماما (٢).

ويقول المسعودي : وابتدأ سليمان ببنيان بيت المقدس ، وهو المسجد الأقصى ، الذي بارك الله عزوجل حوله (٣) ، ويقول اليعقوبي : وابتدأ سليمان في بيت المقدس وقال : إن الله أمر أبي داود أن يبنى بيتا ، وإن داود شغل بالحروب ، فأوحى الله إليه أن ابنك سليمان يبنى البيت باسمي ، فأرسل سليمان في حمل خشب الصنوبر وخشب السرو ، ثم بنى بيت المقدس بالحجارة ، فأحكمه ولبسه الخشب من الداخل ، وجعل الخشب منقوشا ، وجعل له هيكلا مذهبا ، وفيه آلة الذهب ثم أصعد تابوت السكينة فجعله في الهيكل ، وكان في التابوت اللوحان اللذان وضعهما موسى (٤) ، ويقول ابن خلدون : ولأربع سنين من ملكه (أي سليمان) شرع في بناء بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك ، وقد تم بناء الهيكل في سبع سنين (٥).

هذا وقد أشرنا من قبل إلى الحديث الشريف الذي يقول فيه سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عزوجل خلالا ثلاثا ، سأل الله عزوجل حكما يصادف حكمه فأوتيه ، وسأل الله عزوجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله عزوجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» (٦) ، وعن رافع بن عمير قال سمعت رسول

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ، ثم قارن : صموئيل ثان ٧ / ١ ـ ١٧ ، ٢٤ / ١٦ ـ ٢٤.

(٢) الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٣) مروج الذهب للمسعودي ١ / ٧٠ ، وانظر ١ / ٦٩.

(٤) تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٨.

(٥) تاريخ ابن خلدون ٢ / ١١١ ـ ١١٣ ، ثم قارن ملوك أول ٦ / ١ ـ ٩ / ٢٥.

(٦) سنن النسائي ٢ / ٤٣ ، سنن ابن ماجة ١ / ٤٥١ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٥٨.

١٢١

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : قال الله عزوجل لداود عليه الصلاة والسلام ابن لي بيتا في الأرض ، فبنى داود بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي ، قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ، ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا فشكا ذلك إلى الله عزوجل ، فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتا قال ولم يا رب ، قال لما جرى على يديك من الدماء ، قال يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك ، قال بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم ، فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان ، فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه ، ولما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل ، فأوحى الله إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي ، فسلني أعطك ، قال أسألك ثلاث : خصال ، حكما يصادف حكمك ، وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ، ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما الثنتان فقد أعطيهما ، وأنا أرجو أن يكون قد أعطى الثالثة» (١).

وانطلاقا من كل هذا ، فإنني أميل ، حدسا عن غير يقين ، إلى أن إبراهيم عليه‌السلام ، هو الذي وضع الأسس للمسجد الأقصى ، على أساس أن رواية مسلم إنما تتحدث عن أول مسجد ، وليس أول بيت ، وهي العقبة التي احتج بها صاحب تفسير المنار ، وعلى أساس ما جاء في الأحاديث الشريفة من أن سليمان هو الذي بنى بيت المقدس ، وعلى أساس ما ذهب إليه جمع كبير من المؤرخين من أن سليمان قد بنى المسجد الأقصى بعهد أبيه إليه بذلك ، وعلى أساس أن إبراهيم عليه‌السلام ، طبقا لرواية العهد القديم (٢) ، إنما قد زار القدس ، وأنه قد أقام المحاريب لله في فلسطين ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ١ / ٥٨ (ط بيروت ١٩٨٦).

(٢) تكوين ١٢ / ٦ ـ ٩ ، ١٤ / ١٩ ـ ٢٠.

١٢٢

وخاصة في شكيم وبيت إيل وبلوطات ممرا ، ومن ثم فليس هناك ما يمنع من أن يكون أبو الأنبياء قد فعل الشيء نفسه في القدس ، هذا فضلا عن أنه إذا ما كان صحيحا ما ذهبنا إليه في هذه الدراسة وغيرها من أن إبراهيم عليه‌السلام كان يعيش في الفترة (١٩٤٠ ـ ١٧٦٥ ق. م) وأنه قد بنى الكعبة البيت الحرام حوالي عام ١٨٢٤ قبل الميلاد (١) ، ومن ثم فإن بناءه أو وضعه لأسس المسجد الأقصى بعد ذلك بأربعين عاما ، أي حوالي عام ١٧٨٤ قبل الميلاد ، يكون أمرا مقبولا ، وأن ذلك قد تم قبل أن يولد حفيده يعقوب عليه‌السلام بأربع سنوات ذلك لأنه طبقا لما جاء في هذه الدراسة ، وكما أشار العهد القديم (٢) ، فإن الخليل عليه‌السلام قد رزق بولده إسحاق عليه‌السلام ، وقد أكمل المائة من عمره (بعد أن رزق بإسماعيل وهو في السادسة والثمانين من عمره) وقد عاش إسحاق ١٨٠ عاما ، ومن ثم فهو كان يعيش في الفترة (١٨٤٠ ـ ١٦٦٠ ق. م) ، وأن يعقوب كان يعيش في الفترة (١٧٨٠ ـ ١٦٣٣ ق. م) على أساس أنه ولد لأبيه إسحاق ، وهو في الستين من عمره ، وأنه عاش ١٤٧ سنة ، وأن بنى إسرائيل قد دخلوا مصر حوالي عام ١٦٥٠ قبل الميلاد ، حين كان يعقوب في الثلاثين بعد المائة من عمره (٣) ، وأما سليمان فهو الذي بدأ بناء المسجد الأقصى ، الذي وضع إبراهيم أسسه ، في عام حكمه الرابع ، حوالي عام ٩٥٧ قبل الميلاد (٤).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا بإيجاز إلى رواية العهد القديم

__________________

(١) انظر عن بناء الكعبة المشرفة (محمد بيومي مهران : دراسات تاريخية من القرآن الكريم ١ / ١٨٣ ـ ١٩٧).

(٢) تكوين ١٧ / ١٧ ، ٢٥ / ٢٦ ، ٣٥ / ٢٨ ، ٤٧ / ٩ ، ٢٨.

(٣) انظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٨٠ ـ ٨٢ ، دراسات تاريخية من القرآن الكريم ١ / ١٩٤ ـ ١٩٥.

(٤) انظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٨٤٠ ـ ٨٦٠.

١٢٣

عن بناء المسجد الأقصى ، والذي تدعوه بيت الرب ، حيث تذهب إلى أن مكان البيت إنما كان على جبل المريا في بيدر أرونة اليبوسي ، فاشتراه منه داود ومعه بقر للقرابين بخمسين شاقلا من الفضة (١) ، هذا وتشير الرواية بوضوح إلى أن داود عليه‌السلام إنما كان أول من فكر في إقامة بيت للرب ، إلا أن فكرته هذه لم تجد قبولا حسنا من رب إسرائيل ، الذي كان يدخر هذا العمل لولده سليمان (٢) ، ومع ذلك فإن داود عليه‌السلام ، قبل أن ينتقل إلى جوار ربه ، راضيا مرضيا عنه ، أراد أن يسجل معاونته الفعالة لولده سليمان في إقامة بيت الرب ، فأخذ يجهز المواد اللازمة للبناء ، وكان القوم في عصره ما يزالون في بداوة بدائية ، يندر فيهم من يعرف أصول حرفة أو صناعة أو علم من علوم الدنيا ، وسنرى أن الاعتماد على الفينيقيين كان الحل الوحيد الممكن أمام داود وسليمان حتى يرتفع هيكل الرب ، ونقرأ في التوراة أن داود قد «أمر بجميع الأجانب الذين في أرض إسرائيل فاتخذ نحاتين لنحت حجارة مربعة لبناء بيت الله ، وهيأ داود حديدا كثيرا للمسامير لمصاريع الأبواب والأوصال ، ونحاسا كثيرا بلا وزن ، وخشب أرز لم يحدد له عدد» ، هذا فضلا عن كميات كبيرة من الذهب والفضة والنحاس والحديد والخشب (٣).

وهكذا ، وفي ربيع السنة الرابعة من عهد سليمان (حوالي عام

__________________

(١) من عجب أن بعض الروايات العربية التي تنسب إلى أبي بن كعب تذهب إلى أن صاحب المكان غلام إسرائيلي ، وليس يبوسيا كنعانيا ، وأن داود أراد أن يغتصبه منه ، فنهاه ربه عن ذلك ، ومن ثم فقد اشتراه بتسعة قناطير من الذهب (السمهودي : وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ١ / ٣٤٣ ط القاهرة ١٣٢٠ ه‍) والثمن جهد مغالا فيه ، بل إن رواية التوراة جعلت ثمنه هو والبقر ، خمسين شاقلا من الفضة صموئيل ثان ٢٤ / ٢٤).

(٢) صموئيل ثان ٧ / ١ ـ ١٧ ، ٢٤ / ٢٦ ـ ٢٤ ، ملوك جول ٢ / ٢ ، وانظر : تفسير ابن كثير ١ / ٥٨ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٨ ، تاريخ ابن خلدون ١ / ١١١ ، ابن الأثير ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٣) أخبار أيام أول ٢٢ / ٢ ـ ١٦ ، أخبار أيام ثان ٢ / ١٧ ـ ١٨.

١٢٤

٩٥٧ ق. م) وضع الحجر الأساسي لبناء بيت المقدس الذي استمر العمل فيه قائما على قدم وساق سبعة أعوام ، ثم واصل مهرة الصناع والفعلة العمل ثلاثة عشر عاما بعد ذلك ليشيدوا صرحا أكبر يسكن فيه سليمان ونساؤه (١).

هذا ولم يقدم لنا موقع المعبد أي دليل الاعتماد عليه لتحقيق تصميمه ، ومن هنا فإن أية محاولة في هذه المجال لا تزيد عن كونها مجرد اجتهاد (٢) ، غير أن المعلومات التي يوفرها سفر حزقيال (٤٠ ـ ٤٤) للمعبد الجديد ، ربما تجعل من الإمكان استعادة تخطيطه ، كما يمكن قول شيء عن شكله الخارجي وتنظيمه الداخلي (٣) ، ومن ناحية أخرى فإن المعلومات التي جاءت في سفر الملوك الأول (٦ ـ ٣٨) إنما تشير بوضوح إلى التأثير المصري والعراقي ، رغم الإشادة المستمرة بالمساعدة الفينيقية وبضخامة الإنفاق (٤).

ونقرأ في التوراة أن سليمان عليه‌السلام ، إنما أقام حفلا كبيرا بمناسبة الانتهاء من بناء المسجد الأقصى ، دعا إليه شيوخ إسرائيل وكل رءوس الأسباط «لإصعاد تابوت عهد الرب من مدينة داود ، وأن الجميع ، وعلى رأسهم سليمان ، قد اجتمعوا أمام التابوت «يذبحون من الغنم والبقر ما لا يحصى ولا يعد من الكثرة ، وأدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه في محراب البيت ، في قدس الأقداس ، وهنا ملأ الغمام بيت الرب ، حتى أن الكهنة ، ما كانوا بقادرين على أداء الطقوس الدينية ، ويعلن سليمان أن الرب إنما يسكن في الضباب (٥) ، ونقرأ في سفر الملوك الأول (٨ ـ ٥٣)

__________________

(١) ملوك أول ٦ / ١ ـ ٢ ، ٣٧ ـ ٣٨ ، ٧ / ٢ ، وانظر : تاريخ ابن خلدون ٢ / ١١٢ ـ ١١٣.

(٢) J. L. Myres, Reconstructing Solomon\'s Temple and other Buldings and Works of Art, PEQ, وكذاF ١٤.p ، ١٩٤٨ ، ٨٠ P. L. Garlier, Reconstructing Solomon\'s Temple, BA, F ٢.p ، ١٩٥١ ، ١٤.

(٣) O.Eissfeldt ,op ـ cit ,p. ٥٩٨.

(٤) أندريه إيمار وجانين أو بوايه : المرجع السابق ص ٢٦٧.

(٥) ملوك أول ٨ / ١ ـ ١٣.

١٢٥

دعوات سليمان الحارة إلى الله تعالى ، ثم ينهض من أمام المذبح ، ويداه مبسوطتان إلى السماء ، ليعلن أمام خراف بيت إسرائيل الضالة «ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله ، وليس آخر ، فليكن قلبكم كاملا لدى الرب إلهنا ، إذ تسيرون في فرائضه ، وتحفظون وصاياه» (١) ، ثم يشكر الرب على أنعمه التي أسبغها عليه وعلى بيت أبيه من قبل ، سائلا إياه سبحانه وتعالى أن يجيب دعوات بني إسرائيل حين يدعونه في هذا البيت ، وأن يغفر لهم خطاياهم (٢) ، ثم تنتهي الاحتفالات بتقديم الذبائح لرب إسرائيل ، والتي بلغت عددا كبيرا جدا ، وصل إلى «اثنين وعشرين ألفا من البقر ، ومن الغنم مائة ألف وعشرين ألف ، فدشن الملك وجميع بني إسرائيل بيت الرب» (٣).

وعلى أية حال ، فإن المسجد الذي بناه سليمان إنما قد دمر تماما أثناء غزو «نبوخذ نصر» للقدس عام ٥٨٦ ق. م ونهب الغزاة القدس وأشعلوا فيها النيران وأحرقوا القصر الملكي والمسجد ، وهكذا ضاع كل أثر للمسجد ، ومعه البقية الباقية من التابوت الذي كفت الروايات عن ذكره بعد نقله لمعبد سليمان (٤) ، ولم يستطع القوم إعادة البناء إلا عام ٥١٥ ق. م. ، على أيام الملك الفارسي «دارا الأول» (٥) ، ثم دمر المعبد الثاني هذا عام ٧٠ م على يد القائد الروماني تيتوس ، وأضرمت النيران في المدينة ، وهدم المعبد وضارعت آثاره تماما ، حتى أن الناس قد نسوا فيما بعد ، إذا كان هذا المعبد

__________________

(١) ملوك أول ٨ / ٦٠ ـ ٦١.

(٢) ملوك أول ٨ / ٢٥ ـ ٣٤.

(٣) ملوك أول ٨ / ٦٢ ـ ٦٥ ، وانظر : تاريخ ابن خلدون ٢ / ١١٣.

(٤) محمد بيومي مهران ، إسرائيل ٢ / ٩٩٧ ـ ١٠٠٤ ، وكذا K. M. Kenyon, Archaeologyin the M. Noth, The History of Israel, London, ٢٨٧.p ، ١٩٦٥. وكذاHaly Land ,P. ٢٩١

(٥) محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ١٠٣٦ ـ ١٠٤٩ ، وكذا : عزرا ٣ / ٧ ، ٦ / ١٥ ، قاموس الكتاب المقدس ٢ / ١٠١٤ ، وكذا C. Roth, AShort History of the Jewish People, London, ٥٥ ـ ٥٤.p ، ١٩٦٩ وكذاS.A.Cook ,op ـ cit ,p. ٤٠٩ وكذاM.Noth ,op ـ cit ,p. ٣١٤.

١٢٦

على التل الشرقي أو الغربي من المدينة المقدسة (١).

وفي عام ١٣٥ م استولى الروم على القدس ، ثم أمر الامبراطور «هدريان» (١١٧ ـ ١٣٨ م) بتدمير المدينة تماما وبنى فوقها مدينة جديدة باسم «إيليا كابيتولينا» (Aelia Capitolina) وأبدل المعبد القديم بمعبد آخر كرس للإله الوثني «جوبتر كابيتولينس» (Jupiter Capitolinus) ثم قام الرومان بمذبحة نهائية ختمت مصير اليهود في فلسطين ، كدولة وكقومية ، وانتهت بذلك علاقة اليهود بفلسطين سياسيا وسكانيا ودينيا (٢).

__________________

(١) محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ١١٥٠ ـ ١١٥٥ ، وكذاC.Roth ,op ـ cit ,p. ١٠٧ ـ ١٠٣ وكذاW.Keller ,The Bible as History , ٣٨٨.p ، ١٩٦٧.

(٢) محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ١١٥٥ ـ ١١٥٨ ، وكذاH.Strathmann ,P JB ,F ٩٢.p ، ١٩٢٧ ، ٢٣ وكذاA.Schulten ,ZDPV ,F ١٨٠.p ، ١٩٣٣ ، ٥٦ وكذاM.Noth ,op ـ cit ,p. ٤٥٤ ـ ٤٥٣.

١٢٧
١٢٨

الفصل الثّالث

سليمان وملكة سبأ

جاءت قصة سليمان عليه‌السلام مع ملكة سبأ في التوراة (١) والإنجيل (٢) والقرآن العظيم (٣) ، وإن اختلفت الكتب الثلاثة في سردها للقصة تبعا للهدف من القصة لكل منها ، غير أنها جميعا لم تذكر اسم ملكة سبأ ، أو الأرض التي كانت تقيم فيها ، إلا إذا كان المراد بكلمة سبأ هنا ، تلك الدولة التي قامت في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية (٤). ومن عجب أن يذهب بعض النقاد ممن تعرضوا لقصص التوراة بالنقد ، إلى أن قصة زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه‌السلام ، إنما هي أسطورة من الأساطير دونها كتبة التوراة لبيان عظمة سليمان وحكمته (٥) ، ولو تريث هؤلاء البعض من النقاد بعض الشيء ، ولما وقعوا في هذا المنزلق الخطير ، وربما خيّل لهؤلاء المتحذلقين من أدعياء التاريخ الذين يجمعون التمحيص كله في الإنكار ، أنه خبر يسهل إنكاره بغير حجة ، وكأن المنكر لا يطالب بحجة ، ولا

__________________

(١) ملوك أول ١٠ / ١ ـ ١٣ ، أخبار أيام ثان ٩ / ١ ـ ٩.

(٢) إنجيل متى ١٢ / ٤٢.

(٣) سورة النمل : آية ٢٠ ـ ٤٤.

(٤) قدم المؤلف دراسة مفصلة عن تاريخ دولة سبأ في أدوارها الأربعة (محمد بيومي مهران : دراسات في تاريخ العرب القديم ـ الرياض ١٩٧٧ ص ٢٦١ ـ ٣٦٨).

(٥) J. Hastings, A Dictionary of the Bible, Edinburg, ٨٤٣.p ، ١٩٣٦.

١٢٩

يعاب على النفي الجزاف ، والحق أن إنكارنا لأمر تجمع عليه التوراة والإنجيل والقرآن العظيم ، لا يتفق ومنهج البحث العلمي ، فضلا عن تعارضه مع إيماننا بما جاء في كتب السماء بإجماع ، أضف إلى ذلك إنه ليس في زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه‌السلام أمرا مستحيلا ، أو تصرفا شاذا يستوجب الاستنكار ، كما يجنح إلى ذلك بعض الباحثين (١) ، وخاصة إذا كان هؤلاء الباحثون لهم دراية بقصص القرآن.

على أن هناك فريقا آخر من الباحثين إنما يذهب إلى أن هذه القصة لا يمكن فهمها جيدا ، إلا إذا قدّرنا أن السبئيين إنما كانوا يقطنون في شمال بلاد العرب (٢) ، ولعل أصحاب هذا الرأي ممن يذهبون إلى أن السبئيين إنما ترجع أصولهم الأولى إلى شمال بلاد العرب ، في بلاد الجوف أو قريبا منها ، وليس في جنوبها (٣) ، وأن دولتهم الحقيقية لم تبدأ في جنوب بلاد العرب ، إلا حوالي عام ٨٠٠ قبل الميلاد (٤) ، أي بعد هذه الأحداث بما يقرب من القرن ونصف القرن من الزمان ، ومن ثم فإن هذه الملكة التي زارت سليمان عليه‌السلام ، لم تكن ملكة سبأ الشهيرة في اليمن ، وإنما كانت ملكة على مملكة

__________________

(١) محمد عزة دروزة : تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ـ بيروت ١٩٦٩ ص ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) فريتز هومل : التاريخ العربي القديم ص ٦٣ (مترجم).

(٣) انظر عن : السبيئيين والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي (محمد بيومي مهران : دراسات في تاريخ العرب القديم ص ٢٦٥ ـ ٢٧٠).

(٤) يرى بعض الباحثين أن عصر مملكة سبأ إنما يبدأ حوالي عام ٧٥٠ ق. م ويرى آخرون أنه كان حوالي عام ٨٠٠ ق. م ، ويذهب فريق ثالث إلى أنه كان في القرن التاسع قبل الميلاد ، والرأي عندي أنه كان في القرن العاشر ، أو قبله بقرن ، اعتمادا على علاقة ملكة سبأ بسليمان عليه‌السلام ، والذي كان ، فيما يجمع المؤرخون ، يعيش في القرن العاشر قبل الميلاد (انظر : محمد بيومي مهران : المرجع السابق ص ٢٧١ ـ ٢٧٣ ، جواد على : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ٢ / ٢٦٩ ، وكذاBASOR , ٣٨.p ، ١٩٥٥ ، ١٧٣ وكذا R. Bowen and W. Albright, Archaeological Discoveries in South Arabia, ٣٧.p ، ١٩٥٨ وكذاA.Grohmann ,Arabien ,Munchen , ١٢٢.p ، ١٩٦٣.

١٣٠

صغيرة في أعالي شبه الجزيرة الغربية ، كان سكانها من السبئيين القاطنين في الشمال ، أو هي ملكة على الحكومات المحلية في منطقة معان والعلا ، والتي ورثها السبئيون عن المعينيين (١) ، ويستدلون على ذلك بأدلة منها (أولا) العثور على أسماء ملكات عربيات مثل زبيبة وشمس (٢) ويثعي (ياتي) وتلخونو (تعلخونو) وتاربو (بتوءة) (٣) وبائلة (باإيلو) وغيرهن في النصوص الآشورية ، في حين أن العلماء لم يعثروا حتى الآن على اسم أية ملكة في النصوص العربية الجنوبية ، غير أن هذا السبب في حاجة إلى إعادة نظر ، ذلك لأن هؤلاء الملكات اللائي ذكرن آنفا إنما عشن في فترة متأخرة زمنيا عن عصر سليمان عليه‌السلام ، كما أن عدم العثور حتى الآن على أسماء ملكات في اليمن لا يعني بالضرورة عدم وجود ملكات في تاريخ سبأ ، كما أنه من المعروف أنه لم تجر حتى الآن حفريات كافية تثبت عدم وجود ملكات في سبأ ، ومن يدري فقد تكشف لنا الحفريات في وقت قريب أو بعيد عن أسماء

__________________

(١) كثيرا ما تخلط الوثائق الآشورية بين ملك معين أو سبأ في جنوب غرب بلاد العرب ، وبين الوالي المقيم في العلا ومعان نائبا عن ملك معين أو سبأ ، ومن ثم فقد كان الآشوريون يذكرون هذا الوالي كما لو كان هو الملك الجنوبي ، وهذا يفسر لنا الإشارات التي ترد في الوثائق السريانية والعبرية عن المعينيين والسبئيين وتذكرهم كما لو كانوا يقيمون في الجنوب الشرقي للبحر الميت ، وقد أدى هذا الخلط إلى أن يظن البعض أن الملكين الأشوريين سرجون الثاني وسنحريب قد وصل نفوذهما إلى سبأ نفسها ، ومع أن المراد في النصوص الجاليات المعينية والسبئية في العلا ومعان ، وإن أطلق الآشوريون على حكامها لقب ملك (محمد بيومي مهران : المرجع السابق ص ٢٧٥ ـ ٢٧٨ وكذاA.Musil ,The Northern Hegas , ٢٩٥.p ، ١٩٢٦.

J. B. Phully, The Background of Islam, p. ١٤١. وكذاF.Hommel ,Grundriss ,p. ٥٨٠)

(٢) A.Musil ,Op ـ cit ,p. ٤٧٧ وكذاN.Abbot ,Pre ـ Islamic Queens ,AJSL , ٤.p ، ١٩٤١ ، ٥٨ وكذاA.L.Oppenchein ,ANET , ٢٨٨.p ، ١٩٦٦

(٣) D.D.Luckenluill ,ARAB ,II , ٥١٨.p ، ١٩٢٧ وكذاA.L.Oppenheim ,Op ـ cit ,p. ٢٩١ وكذاA.Musill ,Arabia Deserta , ٤٨٠.p ، ١٩٣٨.

١٣١

ملكات في اليمن ، فعلم ذلك عند علام الغيوب.

ومنها (ثانيا) صعوبة تصور زيارة ملكة عربية جنوبية لسليمان عليه‌السلام ، وتعجبها من بلاطه وحاشيته وعظمة ملكه ، مع أن بلاط أورشليم (القدس) يجب ألا يكون شيئا بالنسبة إلى بلاط ملوك سبأ ، ومن ثم يجب ألا تكون هذه الملكة التي زارت سليمان ، في نظر هذه الجماعة من علماء التوراة وبعض العلماء المحدثين (١) ، إلا ملكة عربية صغيرة ، لم تكن بعيدة عن عاصمة دولة سليمان في فلسطين ، فقد تكون في جبل شمر ، وتقع بين الحافة الجنوبية للنقود الكبير ، وفي وادي الرمة ، وتتكون من سلسلتي جبال أجأ وسلمى ، وقد تكون في نجد أو في الحجاز (٢).

والرأي عندي ، أن من لجأوا إلى المقارنة بين بلاط سليمان عليه‌السلام ، وبلاط ملكة سبأ ، للوصول إلى رأي بشأن ملكة سبأ ، وهل هي ملكة عربية جنوبية أو شمالية ، إنما قد أخطئوا الطريق ، فالمقارنة هنا لا تجدي نفعا ولا تحل المشكلة ، كما أنها لا تعقدها ، بل إن المقارنة لا تصح هنا أصلا بحال من الأحوال ، وذلك لأن بلاط سليمان ، فيما نرى ونؤمن به الإيمان كل الإيمان ، إنما يمثل معجزة نبيّ ، وليس عظمة ملك من الملوك ، فالحديث هنا عن سليمان النبي عليه‌السلام ، وليس سليمان الملك ، والذي يقرأ الآيات الكريمة التي تحدثت عن القصة ، كما جاءت في سورة النمل ،

__________________

(١) انظر عن هذه الآراء :. وكذاM.Noth ,op ـ cit ,p. ٢٠٦ وكذاC.Roth ,op ـ cit ,p. ٢٣ ـ ٢١A.Lods ,op ـ cit ,p. ٣٧٥ ـ ٣٦٨ وكذاA.Malamat ,JNES , ١٦ ـ ١٣ ، ٩ ـ ٤٨.no , ٢١.p ، ١٩٦٣ ، ٢٢ وكذاH.G Wells ,op ـ cit ,p. ٧٧ ـ ٧٦ وكذاJ.H.Breasted ,A history of Egypt ,P. ٥٢٩.

(٢) جواد علي : المرجع السابق ١ / ٦٣٦ ، ٢ / ٢٦٢ ، عبد الفتاح شحاتة : تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الإسلام ص ٨٣ ـ ٨٩ وكذا J. Montgomery, Arabia and the Bible, Philadelphia, ١٨١.p ، ١٩٣٤ وكذا R. Dussaud, Les Arabes en Syria avant L\'Islam, Paris, ١٠.p ، ١٩٠٧ وكذاE Dhorm ,Revue Biblique ,P. ١٠٥.

١٣٢

والتي سنوردها هنا بنصها كاملا فيما بعد ، ليعرف تماما أن الملك سليمان ما كان في استطاعته مثلا أن يفعل بعرشها ما فعل ، وإنما الذي يستطيع ذلك ، بإذن الله ، إنما هو سليمان النبيّ ، ذلك لأن ما حديث إنما كان يمثل معجزة للنبي الكريم ، سيدنا سليمان عليه‌السلام ، وصدق الله العظيم حيث يقول تعالى ، على لسان سليمان ، (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (١).

أضف إلى ذلك أن سليمان عليه‌السلام ، كما رأينا من قبل ، قد منحه الله تعالى كثيرا من المعجزات ، فقد علمه الله منطق الطير وسائر لغات الحيوان ، فكان يفهم عنها ما لا يفهمه سائر الناس ، وربما تحدث معها ، كما كان الأمر مع الهدهد والنمل ، كما كان جند سليمان عليه‌السلام مؤلفا من الإنس والجن والطير ، وقد نظم لهم أعمالهم ورتب لهم شئونهم ، فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل يحيط به الجند والخدم من كل جانب ، فالإنس والجن يسيرون معه ، والطير تطلّله بأجنحتها من الحر ، هذا فضلا عن تسخير الريح له ، بل وتسخير طائفة من الجن ومردة الشياطين يعملون له من الأعمال ما يعجز عنها البشر ، كبناء الصروح الضخمة والقصور العالية والقدور الراسيات والجفان التي تشبه الأحواض ، وأخيرا ، وليس آخرا ، فكما الآن الله الحديد لداود أبيه ، فقد أسال له عين القطر (٢) ، وكل تلك أمور من معجزات النبي سليمان عليه‌السلام ، وما كان ولن يكون أبدا لملكة سبأ ، أيا كانت ، شيء من ذلك ، ومن ثم فالمقارنة بين البلاطين غير ذي موضوع.

__________________

(١) سورة النمل : آية ٣٨ ـ ٤٠.

(٢) انظر سورة الأنبياء : آية ٨١ ـ ٨٢ ، النمل : آية ١٥ ـ ٣١ ، سبأ : آية ١٢ ـ ١٣ ، ص : آية ٣٠ ـ ٤٠.

١٣٣

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أننا نستطيع أن نقدم ، من آي الذكر الحكيم ومن دراستنا لتاريخ العرب القديم ، كثيرا من الأدلة التي تشير بوضوح إلى أن ملكة سبأ التي زارت سليمان عليه‌السلام ، إنما كانت ملكة عربية جنوبية ، وأنها كانت تجلس على عرش مملكة سبأ المشهورة في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية والتي منها (أولا) أن الذي يفهم صراحة من القصة القرآنية أن سليمان عليه‌السلام ، لم يكن يعرف شيئا عن هذه الملكة سواء من ناحية دولتها أو ديانتها (١) ، ومن هنا نراه يقول للهدهد ، بعد أن أعلمه خبرها قال : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢) ، وليس من المقبول أن يكون سليمان ، وهو الملك العظيم ، كما هو النبي الكريم ، لا يعرف شيئا عن ملكة سبئية تقيم في مجاورات فلسطين ، وعلى تخوم دولته ، خاصة وأن هناك علاقات تجارية بين سبأ وفلسطين ، تتولى أمرها الجالية السبئية في العلا ومعان ، كما أن فلسطين مقر دولة سليمان ، إنما تقع في نهاية طريق القوافل التي تشرف عليهما الجالية السبئية في واحة «ديدان» (العلا) ومعون (معان) ، هذا فضلا عن أن «عصيون جابر» (تل الخليفة على الطرف الشمالي لخليج العقبة) وكانت نقطة بداية تحرك أسطول سليمان التجاري ، إنما كانت تمثل محطة هامة في طريق القوافل التجارية القادمة من جنوب بلاد العرب إلى وادي عربة وشرق الأردن حتى سورية ، وهو طريق ذو أهمية خاصة للملك سليمان (٣) ، فكيف لا يعرف سليمان شيئا عن هذه الملكة الشمالية ، سواء كانت ملكة لمملكة مستقلة أو على الجاليات السبئية في العلا ومعان ، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن هذه الملكة التي زارت سليمان إنما كانت ملكة في جنوب بلاد العرب حيث تقع دولة سبأ المشهورة.

__________________

(١) سورة النمل : آية ٢٢ ـ ٢٦.

(٢) سورة النمل : آية ٢٧.

(٣) O. Eissfeldt, The Hebrew Kingdom, in CAH, II, Part ٢, Cambridge, ٥٩٣.p ، ١٩٧٥.

١٣٤

ومنها (ثانيا) أن النص القرآني صريح في أن هذه الملكة إنما كانت ملكة دولة سبأ ، قال تعالى : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) فالآية الكريمة تحدد هنا مجيء الهدهد من سبأ ، ولا يعرف التاريخ دولة بهذا الاسم غير دولة سبأ المعروفة في جنوب غرب بلاد العرب ، ومنها (ثالثا) أن وصف القرآن الكريم لملكة سبأ بها (أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (١) ، يجعلها يقينا ملكة جنوبية ، وليست شمالية ، بخاصة وأن القرآن الكريم يصف قومها بالقوة والبأس الشديد ، قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد ، «ويصف هذه الملكة بأنها صاحبة الأمر والنهي في دولتها. (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) (٢) ، ومن ثم فإن ما جاء في هاتين الآيتين الكريمتين من أوصاف لهذه الملكة وقومها ، لا يمكن أن ينطبق على ملكة صغيرة في شمال شبه الجزيرة العربية ، وإنما على ملكة عظيمة تجلس على عرش دولة عظيمة تدعى سبأ ، ولا يعرف التاريخ دولة بهذه الأوصاف سوى مملكة سبأ المشهورة في جنوب غرب بلاد العرب ، وبعبارة أخرى ، فإن هذه الملكة إنما هي ، على وجه اليقين ، ملكة جنوبية ، وليست شمالية.

ومنها (رابعا) أنه من المعروف أن العرب الشماليين إنما كانوا يعبدون الأصنام ، بينما سادت عبادة الكواكب عند العرب الجنوبيين ، وخاصة عبادة ذلك الثالوث المشهور ، والمكون من القمر والشمس والزهرة (وكانت الشمس تمثل فيه دور الأم ، ويمثل القمر دور الأب ، بينما كانت الزهرة تمثل دور الابن) وقد عبدت الشمس بصفة خاصة في ممالك معين وسبأ وحضرموت وقتبان (٣) ، والقرآن الكريم صريح في أن ملكة سبأ هذه وقومها إنما كان

__________________

(١) سورة النمل : آية ٢٣.

(٢) سورة النمل : آية ٣٣.

(٣) كانت إلهة الشمس تسمى عند المعينيين «نكرح» ، وعند السبيئيين» ذات غضرن» و «ذات حمى» (ذات حميم) بمعنى ذات حرارة أو «ذات الحمى» ، والحمى الموضع الذي يحمي ،

١٣٥

يسجدون للشمس من دون الله ، قال تعالى : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) (١) ، ومن ثم فهذا دليل واضح على أن ملكة سبأ التي زارت سليمان عليه‌السلام إنما كانت ملكة عربية جنوبية ، وليست شمالية.

على أن الغريب من الأمر ، أن يزعم المؤرخ اليهودي يوسف بن متى «أن ملكة سبأ هذه إنما هي ملكة أثيوبية ، كما يزعم أن «سبأ Saba» هو اسم عاصمة الأحباش ، وأن اسم الملكة هو (maukalis) ، ومن ثم تكون ملكة سبأ حبشية ، وليست عربية (٢) ، وأما الروايات الحبشية نفسها فتذهب إلى أن «منيلك» أول ملوك أثيوبيا في القرن العاشر قبل الميلاد ، إنما كان ابنا لبطلة الشمي «بلقيس» (أو مكيدا أو مقيدا) وبطل القمر سليمان الحكيم ، ومن ثم فقد حمل ملوك الحبشة (أثيوبيا) من بين ألقابهم لقب «أسد يهوذا» أو «الأسد الخارج من سبط يهوذا» (٣) حتى نهاية دولتهم في (٢١ مارس ١٩٧٥) ، على أن الأمر بهذه الصورة جد مضلل ، فليس صحيحا أن اسم عاصمة الأحباش كان «سبأ» كما زعم يوسف اليهودي ، هذا فضلا عن أن مملكة أكسوم إنما قامت في القرن الأول قبل الميلاد ، وليس في القرن العاشر ، كما تزعم الروايات الحبشية ، كما أن ملكة سبأ ليست حبشية ، وإنما هي ملكة عربية

__________________

ويخصص للإله أو المعبد أو الملك أو سيد القبيلة ، والمكان الذي يحيط بالمعبد يكون حرما آمنا لا يجوز لأحد انتهاكه ، وتسمى الشمس عند القتبانيين «ذات صبهرن» و «ذات رحبن» ، وهذا وقد انتسب بعض العرب إلى الشمس فسمي «عبد شمس» ، وطبقا لرواية الإخباريين فقد كان سبأ الأكبر ، أول من تسمى بهذا الاسم ، كما كان أول من تعبد للشمس ، ومن ثم فقد دعى «عبد شمس» (انظر عن التفصيلات والمراجع : محمد بيومي مهران : الديانة العربية القديمة ـ الإسكندرية ١٩٧٨ ص ٢٢ ـ ٢٤ ، ٨٦ ـ ٩٠).

(١) سورة النمل : آية ٢٤.

(٢) EI ,I ,P. ٠٢٧.

(٣) الحيمي الحسن بن أحمد : سيرة الحبشة ـ القاهرة ١٩٥٨ ، نجيب ميخائيل : مصر والشرق الأدنى القديم ٣ / ٣٧٨ ـ ٣٨٥ ، وكذا.J.B.Conelbeaux ,Histoire de L\'Abyssinie ,I ,P. ١٠٨ وكذا E. A. W. Budge, History of Ethiopia, Nulia and Abyssinia, I, London, ١٩٣.p ، ١٩٢٨.

١٣٦

تحكم دولة عربية في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية ، ومن ثم فليس هناك من شك في أن تلك أساطير نشأت بعد هجرة اليهود إلى الحبشة ، في القرن السادس قبل الميلاد ، أو القرن الأول أو حتى الثاني بعد الميلاد ، حتى إن «ليتمان» قد قرأ في بعض نقوش الملك الحبشي «عيزانا» عبارة «ملك صهيون» ، ورغم أن هذا الرجل الذي اعتلى العرش عام ٣٢٥ م ، قد اعتنق النصرانية ، فربما كانت هناك حركة تبشير باليهودية والنصرانية ، أو بمذهب يجمع بين الديانتين (١).

على أن هناك وجها آخر للنظر في تفسير الروايات التي تذهب إلى أن ملكة سبأ حبشية ، وليست عربية ، أقدمه هنا بحذر ، واعتمد فيه على فرضين ، لا أرجح الواحد على الآخر ، أما أول الفرضين فهو أن تلك الروايات ربما كانت نتيجة انتشار آراء التوراة المضطربة حول أصل السبيئيين ، فهم مرة من الساميين (٢) ، وأخرى من الحاميين (٣) ، ثم إن سبأ مرة من ولد يقطان (٤) ، ومرة من ولد يقشان (٥) ، ومن ثم فقد ذهب بعض الباحثين ، نتيجة لهذا الاضطراب إلى أن هذا دليلا على انتشار السبيئيين في آسيا (اليمن) وفي إفريقيا (أرتيريا والحبشة) (٦) ، وأما الفرض الثاني ، فربما كانت نفس تلك الآراء متأثرة بالرأي الذي ينادي بأن مملكة أكسوم نفسها إنما أقامها العرب الجنوبيون (٧).

__________________

(١) A. Kammerer, Esia sur L\'Histoire Antique D\'Abyssinie, Paris, ٦٨.p ، ١٩٢٦.

(٢) تكوين ١٠ / ٢٨.

(٣) تكوين ١٠ / ٧ ، أخبار أيام أول ١ / ٩.

(٤) تكوين ١٩ / ٢٨.

(٥) تكوين ٢٥ / ١ ـ ٣ ، وكذا انظر : W. F. Allright, The Bible and the Ancient Near East, London, ٣٠٠.p ، ١٩٦١.

(٦) EB ,P. ٢٥٦٤ وكذاJ.Hasting ,op ـ cit ,p. ٤٠.

(٧) جواد علي ٣ / ٤٥١ ، جورج فضلو حوراني : العرب والملاحة في المحيط الهندي ص ٨٥ (مترجم) ، وكذا.

١٣٧

وتذهب الروايات العربية إلى أن ملكة سبأ هذه إنما كانت تسمى «بلقيس» أو «بلقمة أو يلقمة» (١) ، ويرى أستاذنا الدكتور أحمد فخري ، طيب الله ثراه ، أن أحد الاسمين ، وربما كان يلقمه ، نتيجة خطأ في النقل عن الآخر ، وربما كان اسم الإله الوثني «الموقاة» (بمعنى إيل قوي ، أي الله قوي) يدخل تركيبه ، أما اسم «بلقيس» الذي تكرر ذكره في كتب المؤرخين المسلمين ، فلم يرد على الإطلاق بين الأسماء السبئية (على الأقل حتى الآن) وهناك احتمال بأنه منقول عن العبرية التي نقلته عن اليونانية ، ومعناه «أمة» ، أو «جارية» (٢) ، وأما أستاذنا الدكتور حسن ظاظا ، فالرأي عنده أن اسم هذه الملكة لم يكن يقينا «بلقيس» ، وربما كانت هذه صفة تنطق في العبرية والآشورية «بلجشن» أو «فلجش» ، ومعناه العشيقة أو الزوجة غير الشرعية ، والراجح أن ملكة سبأ وصمت بذلك من الشعب اليهودي الذي لم يكن يستريح إلى مثل هذه الصلات بين ملوكه والنساء الأجنبيات (٣).

وأيا ما كان اسم ملكة سبأ التي زارت سليمان عليه‌السلام ، وأيا كان السبب في تسميتها بهذا الاسم أو ذاك ، كما تذكره المصادر العربية والعبرية واليونانية والحبشية ، فالتوراة تزعم أن ملكة سبأ إنما كانت تهدف من وراء زيارتها هذه إلى البحث عن الحكمة وامتحان سليمان ، وأنها حينما تأكدت من حكمته وعظمة ملكه ، سرعان ما قدست إله إسرائيل ، الذي جعل سليمان ملكا تجري على يديه الحكمة وفصل الخطاب ، ثم دعت إله إسرائيل أن يثبت عرشه إلى الأبد «ليكن مباركا إلهك الذي سر بك وجعلك على كرسي

__________________

F. Altheim and R. Steihl, Die Arabier in der Alten Welt, Berlin, I, ١١٤.p ، ١٩٦٤.

(١) تاريخ الطبري ١ / ٤٨٩ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٩ ، البكري ٤ / ١٢٩٨ ، ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ٢١.

(٢) أحمد فخري : المرجع السابق ص ٧٣.

(٣) حسن ظاظا : المرجع السابق ص ١٣٣.

١٣٨

إسرائيل ، لأن الرب أحب إسرائيل إلى الأبد جعلك ملكا لتجري حكما وبرا» ، ثم انتهى بأن تبادل الملكان الهدايا ، «وأعطت الملك مائة وعشرين وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وأحجار كريمة لم يأت بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي أعطته ملكة سبأ للملك سليمان» ، وأعطى الملك سليمان لملكة سبأ كل مشتهاها الذي طلبت عدا ما أعطاها إياه حسب كرم الملك سليمان ، وذهبت إلى أرضها هي وعبيدها» (١).

على أن هناك فريقا من الباحثين إنما يجنح إلى أن زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه‌السلام ، إنما كانت لتوثيق العلاقات التجارية وتسهيل التعاون التجاري بينهما ، بل إن هناك من يزعم أن هذه الملكة لم تكن الحاكم الفعلي لبلادها (٢) ، ولكنها هي التي قامت بالزيارة ، ومن ثم فيمكن الاستنتاج من ذلك أنها هي التي رغبت في القيام بأعمال تجارية مع سليمان ، وربما كان ذلك لتنظيم سير القوافل التجارية والإشراف عليها ، على أن هناك من يرى أن سليمان هو الذي دعا ملكة سبأ لزيارته والإقامة فترة من الزمان في مكان ما من هضاب أدوم لمشاهدة عمال الملك وهم يستخرجون النحاس من المناجم الممتدة من هناك (٣).

وهكذا يبعد هؤلاء الباحثون عن الأهداف الحقيقية لزيارة ملكة سبأ لنبيّ الله سليمان عليه‌السلام ، وإيمانها بدعوة النبي الكريم «قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين» (٤) ، يبعد الباحثون عن

__________________

(١) ملوك أول ١ / ١ ـ ١٣.

(٢) تكذب آيات القرآن الكريم هذا الادعاء ، كما يبدو ذلك واضحا من الآيات ٢٣ ـ ٣٥ ، ٤١ ـ ٤٢ ، ٤٤ من سورة النمل.

(٣) محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٧٧٢ وكذا W. Albright, Archaeology and the Religion of Israel, ١٢٤.p ، ١٩٦٣K.M.Kengon ,Excavation in Jerusalem , ١٩٦٢ ، in PEQ ,F ٧.p ، ١٩٦٣ ، ٩٥. وكذا

(٤) سورة النمل : آية ٤٤.

١٣٩

هذا الهدف النبيل من الزيارة ، فيذهبون إلى أن مملكة سليمان إنما كانت في نهاية طريق البخور ، وكان وكلاء سليمان يقومون بالإجراءات الجمركية ، إن صح هذا التعبير ، على البضائع الثمينة ، كما كانوا هم الذين يسمحون للقوافل بالاستمرار في رحلتها إلى مصر وفينيقيا وسورية عبر مملكة سليمان في فلسطين ، ومن ثم فليس من الغريب أن تصل شهرة سليمان إلى ملكة سبأ (١) ، وهكذا «فقد أتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدا ، بجمال حاملة أطيابا وذهبا كثيرا جدا ، وحجارة كريمة ، وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما في قلبها» (٢).

والحق كل الحق ، أن القصة كلها إنما تتصل بدعوة النبي سليمان عليه‌السلام ، وليس بالملك سليمان ، ولنقرأ أولا هذه الآيات الكريمة التي تصور القصة أصدق تصوير ، يقول تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ،) فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبإ يقين ، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ، ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ، قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ما ذا يرجعون ، قالت : يا أيها الملأ إني ألقى إلى كتاب كريم ، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ، قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ، قالوا

__________________

(١) جواد علي ٢ / ٢٦٣ ، وكذا.W.Keller ,op ـ cit ,p.S ٢١٥ ـ ٢١٣ وكذاJ.Hastings ,op ـ cit ,p. ٨٤٣O.Eissfeldt ,op ـ cit ,p. ٣٩٥٩٣. وكذا

(٢) ملوك أول ١٠ / ٢.

١٤٠