دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

وبين المسلمين بشأن المسيح عليه‌السلام ، فالقرآن الكريم إنما ينفي قصة صلب المسيح وقتله تماما ، قال تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ، إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ، وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١) ، وقال تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٢) ، هذا وقد كشف إنجيل برنابا هذه الأسطورة ، فجاء فيه ، على لسان المسيح ، «فلما كان الناس دعوني الله وابن الله ، على أني كنت بريئا في العالم ، أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا ، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة ، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله ، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله».

وهذا النص يشير إلى أمرين ، الواحد : أن الذي صلب إنما هو «يهوذا الإسخريوطي» ، الذي خان السيد المسيح ودل عليه أعداءه حين قبله ، ولذا نطق المسيح بمثله المشهور «يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان» (٣) ، وأن المسيح عليه‌السلام لم يحاكم ولم يصلب ولم يرقد في قبر ، ولم يقم من بين

__________________

(١) سورة النساء : آية ١٥٧ ـ ١٥٨ ، وانظر : تفسير الطبري ٦ / ١٢ ـ ١٨ ، صفوة التفاسير ١ / ٣١٦ ، تفسير البيضاوي ١ / ١٤١ ـ ١٤٢ ، تفسير ابن كثير ١ / ٨٧٢ ـ ٨٨٩ ، التسهيل لعلوم التنزيل ١ / ١٦٣ ، في ظلال القرآن ٢ / ٨٠١ ـ ٨٠٣ ، تفسير روح المعاني ٦ / ١٠ ـ ١٣ ، تفسير النسفي ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٣.

(٢) سورة آل عمران : آية ٥٥ ، وانظر : تفسير الفخر الرازي ٨ / ٦٧ ـ ٧٠ ، تفسير ابن كثير ١ / ٥٤٨ ، في ظلال القرآن ١ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٨٩ ـ ٢٩٣ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٧٩ ـ ١٨٤ ، تفسير النسفي ١ / ١٦٠.

(٣) أنظر : إنجيل لوقا ٢٢ / ١ ـ ٧١.

٣٤١

الأموات ، كما يدعي النصارى ، وإنما كانت الواقعة تدور في فلك يهوذا الأسخريوطي ، أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر ، الذي أراد الله له تنكيلا جزاء خيانته ، ورفع نبيه المسيح إليه ، ومن ثم فالذي صلب ، كما حققه برنابا ، أحد الحواريين ، إنما هو يهوذا ، شبيه المسيح ، وليس المسيح ذاته (١) ، وأما الأمر الثاني ، فهو نبوءة المسيح بالنبي الخاتم ، سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه هو الذي سيكشف خدعة الصلب للمؤمنين بشريعة الله وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورتي آل عمران (٥٥) والنساء (١٥٧ ـ ١٥٨) (٢).

وأما الإسلام فيقرر في وضوح وتأكيد ، كما أشرنا آنفا ، أن المسيح لم يقتل ولم يصلب ، وإنما رفعه الله إليه ، قال تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وقد اختلف علماء المسلمين في معنى الوفاة والرفع والتطهير ، وقد ساق الأستاذ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» عدة آراء لعديد من المفسرين بلغت تسعا (٣) ، ثم اختار منها أوجهها إليه ، وهو أن المراد في قوله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو أني مستوف أجلك ومميتك حتف أنفك ، لا أسلط عليك من يقتلك ، وأن الآية كناية عن عصمته من الأعداء ، ثم تساءل : أين مكان عيسى ، وما الذي آل إليه أمره؟ وأجاب عن ذلك : أن الله تعالى أبهم أمره علينا ولم يقصه ، فنحن نفوض العلم بذلك إلى الله تعالى ، فليكن أنه أماته في الأرض ، أو أنامه كما أنام أهل الكهف ، أو أصعده إلى السماء ، لا نقطع بشيء من هذه الأشياء بعينه ،

__________________

(١) انظر : بعض الروايات العربية عن الموضوع (تفسير ابن كثير ١ / ٨٧٣ ـ ٨٧٦).

(٢) إبراهيم خليل أحمد : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن ـ الطبعة الخامسة ـ القاهرة ١٩٨٣ ص ٢١٨ ـ ٢٢٠.

(٣) هذه الأوجه هي : (١) المعنى رافعك إلي ومتوفيك وأن الكلام فيه تقديم وتأخير. (٢) المراد أني ـ

٣٤٢

بل نبهمه كما أبهمه الله تعالى ، ومن أراد أن يقطع فعليه دليل ما قطع به ، وتفويض العلم إلى الله تعالى أسلم في العاقبة ، وأكثر احتياطا للدين ، فليس بهين أن يشهد المرء على الله بأمر لم يشهد به على نفسه ، وليس عنده عليه سلطان مبين (١).

ويقول صاحب الظلال : لقد أراد اليهود صلب عيسى عليه‌السلام وقتله ، وأراد الله أن يتوفاه ، وأن يرفعه إليه ، وأن يطهره من مخالفة الذين كفروا والبقاء بينهم ، وهم رجس ودنس ، (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فأما كيف كانت وفاته ، وكيف كان رفعه ، فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله ، ولا طائل وراء البحث فيها ، لا في عقيدة ولا في شريعة ، والذين يجرون وراءها ، ويجعلونها مادة للجدل ينتهي بهم الحال إلى المراء وإلى التخليط وإلى التعقيد ، دونما جزم بحقيقة ، ودون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم الله (٢).

وعلى أي حال ، وكما يقول الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير

__________________

ـ مستوفيك أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك ، فالكلام كتابة عن عصمته من الأعداء ، وما هم بصدده من الفتك به عليه‌السلام ، لأنه يلزم من استيفاء الله أجله موته حتف أنفه.

(٣) المراد قابضك ومستوف شخصك من الأرض ومن توفي المال بمعنى استوفاه وقبضه. (٤) المراد بالوفاة هنا النوم ، لأن النوم والوفاة ، يطلق على كل منهما على الآخر ، وقد روي عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه‌السلام وهم نائم رفقا. (٥) أجلك كالمتوفي لأنه بالرفع أشبه. (٦) المراد آخذك وافيا بروحك وبدنك فيكون (وَرافِعُكَ إِلَيَ) كالمفسر لما قبله. (٧) المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن اتصاله بالملكوت. (٨) أن المراد مستقبل عملك! قال الألوسي : لا يخلو أكثر هذه الأوجه من بعد ، ولا سيما الأخير. (٩) أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال : توفى الله عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه ، وفي رواية للحاكم عنه : أنه توفاه سبع ساعات ثم أحياه (عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ص ٤٢٣).

(١) عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ص ٤٢٣.

(٢) في ظلال القرآن ١ / ٤٠٣.

٣٤٣

المنار ، فإن للعلماء هنا طريقتين ، إحداهما ، وهي المشهورة ، أنه رفع بجسمه حيّا ، وأنه سينزل في آخر الزمان ، فيحكم بين الناس بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يتوفاه الله تعالى (١) ، ويقول الفخر الرازي : معنى قوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي متمم عمرك ، فحينئذ أتوفاك ، فلا أتركهم حتى يقتلوك ، بل أنا رافعك إلى سمائي ، ومقربك بملائكتي ، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك ، وهذا تأويل حسن ، وهناك وجه آخر في تأويل الآية هو : أن الواو في قوله : (مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) تفيد الترتيب ، فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال ، فأما كيف يفعل ، ومتى يفعل ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت الدليل أنه حي ، وورد الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه سينزل ويقتل الدجال» ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك (٢).

وأما الطريقة الثانية ، فيما يرى الأستاذ الإمام ، فهي أن الآية على ظاهرها ، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر منه وهو «الإماتة العادية» وأن الرفع يكون بعده ، وهو رفع الروح (٣) ، يقول الفخر الرازي : إني «متوفيك» أي مميتك ، وهو مروي عن ابن العباس ومحمد بن إسحاق ، قالوا : والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتلة ، ثم أنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ، ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه ، أحدها : قال وهب توفي ثلاث ساعات ، ثم رفع ، وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفي عيسى سبع ساعات ثم أحياه ، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين ، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين ، وثانيها : قال محمد بن إسحاق توفي سبع ساعات (وهو قول لوهب كما رأينا) ثم أحياه الله ورفعه ، وثالثها ، قال الربيع بن أنس : أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء ، قال

__________________

(١) تفسير المنار ٣ / ٢٦٠.

(٢) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٦٧.

(٣) تفسير المنار ٣ / ٢٦٠.

٣٤٤

تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (١) ، وروى عن الربيع أيضا وعن الحسن أن الله تعالى رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء ، وهو نائم ، رفقا به (٢).

وهكذا وجد عندنا رأيان ، الأول ، وهو رأي الجمهور ، ويذهب إلى أن المسيح عليه‌السلام رفع إلى السماء حيا ، بجسده وروحه ، وأنه الآن ما يزال حيا يرزق عند ربه ، وفي رفعه إلى أي سماء خلاف ، والذي اختاره الكثير من العارفين أنه رفع إلى السماء الرابعة ، وعن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما ، أنه رفع إلى السماء الدنيا ، فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه الله تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس (٣) ، ويستدل الذي ينادون بأن المسيح رفع حيا إلى السماء بآيتي سورة النساء (١٥٧ ـ ١٥٨) الآنفتي الذكر ، وكذا بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (٤) ، فهي تفيد أن عيسى سينزل آخر الزمان ، وإذا نزل آمن به كل من كان موجودا حينئذ من أهل الكتاب لأنه سينزل ليحكم بشريعة محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقول الإمام القرطبي في تفسيره : إن الضمير يعود على عيسى عليه‌السلام ، أي قبل موت عيسى ، ثم يذكر رواية عن يزيد بن زريع عن الحسن البصري يقول فيها : «والله إنه لحي الآن عند الله ، ولكن إذا نزل آمن به أجمعون» (٥) ، وروى ابن أبي

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٦٧ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٧٩.

(٢) تفسير روح المعاني ٣ / ١٧٩.

(٣) تفسير روح المعاني ٣ / ١٨٢.

(٤) سورة النساء : آية ١٥٩ ، وانظر : تفسير الطبري ٦ / ١٨ ـ ٢٣ ، تفسير ابن كثير ١ / ٨٧٦ ـ ٨٧٨ ، تفسير النسفي ١ / ١٦٢ ـ ١٦٣ ، تفسير روح المعاني ٦ / ١٢ ـ ١٣ ، في ظلال القرآن ٢ / ٨٠٢ ـ ٨٠٣.

(٥) تفسير القرطبي ص ٢٠٠٧ ـ ٢٠٠٨.

٣٤٥

حاتم عن جويرية بن بشير ، قال : سمعت رجلا قال للحسن يا أبا سعيد ، قول الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، قال : قبل موت عيسى ، إن الله رفع إليه عيسى ، وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر والفاجر ، وكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد (١).

ويقول الإمام الطبري في التفسير : أن أولى الأقوال بالصحة قول من قال إنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه‌السلام ، إلا آمن به (أي عيسى) قبل موت عيسى عليه‌السلام ، ولا شك أن الذي قاله ابن جرير ، فيما يرى ابن كثير ، هو الصحيح ، لأن المقصود من سياق الآية في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شبّه لهم ، فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه ، وإنه باق حي ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة ، فيقتل مسيح الظلالة ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان ، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف ، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي قبل موت عيسى عليه‌السلام ، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب (٢).

وأما الأحاديث الشريفة المتواترة (٣) بذلك ، فمنها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ١ / ٨٧٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢١ ، تفسير ابن كثير ١ / ٨٧٨.

(٣) أنظر : تفسير ابن كثير ١ / ٨٧٩ ـ ٨٨٩ (بيروت ١٩٨٦).

٣٤٦

فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة خير له من الدنيا وما فيها» ، ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١).

وكذا رواه مسلم عن الحسن الحلواني وعبد بن حميد (٢) ، كلاهما عن يعقوب به ، وأخرجه البخاري ومسلم أيضا من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري به ، وأخرجاه من طريق الليث عن الزهري به (٣) ، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليهلن عيسى بن مريم بفج الروحاء بالحج أو العمرة أو ليثنيهما جميعا» (٤) ، وكذا رواه مسلم منفردا به من حديث سفيان بن عيية والليث بن سعد ويونس بن يزيد ، ثلاثتهم عن الزهري به (٥) ، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل عيسى بن مريم ، فيقتل الخنزير ويمحو الصليب ، وتجمع له الصلاة ، ويعطى المال حتى لا يقبل ، ويضع الخراج ، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعها» ، قال وتلا أبو هريرة : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) الآية (٦) ، وأخرج البخاري عن ابن شهاب عن نافع مولي أبي قادة الأنصاري أن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم وإمامكم منكم» (٧) ، وروى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي : تعال صل بنا ،

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ٢٠٥.

(٢) صحيح مسلم ١ / ٩٣ ، صحيح البخاري ٣ / ١٧٨.

(٣) صحيح البخاري ٣ / ١٠٧ ، صحيح مسلم ١ / ٩٣.

(٤) مسند الإمام أحمد ٢ / ٥١٣.

(٥) صحيح مسلم ٤ / ٦٠.

(٦) مسند الإمام أحمد ٢ / ٢٦٠.

(٧) صحيح البخاري ٤ / ٢٥٠ ، ورواة أيضا الإمام أحمد ومسلم.

٣٤٧

فيقول لا ، إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة» (١).

هذا ويستدل القائلون بنزول عيسى قبل يوم القيامة أيضا بآية الزخرف : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) (٢) ، وفيها قراءتان الأولى : «وإنه لعلم للساعة» بمعنى أنه يعلم بقرب مجيئها ، والقراءة الثانية : «وإنه لعلم للساعة» بمعنى أمارة وعلامة ، وكلاهما قريب من قريب (٣) ، وهذه القراءة الأخيرة (بفتح العين واللام) قرأ بها ابن عباس وقتادة الأعمش ، والمعنى أمارة وعلامة على اقتراب الساعة ، قال ابن عباس في قوله : «وإنه لعلم للساعة» هو خروج عيسى بن مريم قبل يوم القيامة» ، رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه هو والذهبي ، وقد رواه ابن حبان في صحيحه ، وقال مجاهد : «وإنه لعلم للساعة» ، أي آية للساعة خروج عيسى بن مريم عليه‌السلام قبل يوم القيامة ، وهكذا روى عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم (٤).

وهكذا تستدل جمهرة العلماء من آيات القرآن ومن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نزول عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان (٥) ، وما قاله ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما من السلف في تفسير آيتي النساء (١٥٩) والزخرف

__________________

(١) حمود بن عبد العزيز التجري : إقامة البرهان في الرد على من أنكر خروج المهدي والدجال ونزول المسيح في آخر الزمان ـ مجلة البحوث الإسلامية ـ العدد ١٣ ـ شوال ١٤٠٥ ص ١٠٩.

(٢) سورة الزخرف : آية ٦١.

(٣) في ظلال القرآن ٥ / ٣١٩٨.

(٤) تفسير ابن كثير ٤ / ٢٠١ ، حمود التويجري : المرجع السابق ص ١٠٥.

(٥) جاء في نزول عيسى عليه‌السلام أكثر من خمسين حديثا مرفوعا أكثرها من الصحاح ، والباقي غالبه من الحسان ، فمن زعم أنها كلها مزيفة ، فلا شك أنه فاسد العقل والدين (حمود التويجري : المرجع السابق ص ١٠٥ ـ ١٠٦).

٣٤٨

(٦١) من أن نزول عيسى عليه‌السلام حق ، وقال إمام أهل السنة ، أحمد بن حنبل في عقيدة أهل السنة والجماعة التي رواها عنه «عبدوس بن مالك العطار» ، «والإيمان أن المسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه كافر ، والأحاديث التي جاءت فيه ، والإيمان بأن ذلك كله كائن ، وأن عيسى بن مريم ينزل فيقتله بباب لدّ ، وفي الحديث : «يقتل ابن مريم الدجال بباب لدّ» ، وفي رواية «إلى جانب لدّ» (١) ، وقال أبو محمد البربهاري في شرح السنة : والإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه‌السلام ، ينزل فيقتل الدجال ويتزوج ، ويصلي خلف القائم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويموت ويدفنه المسلمون» ، والقائم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المهدي ، كما جاء في حديث جابر ، الآنف الذكر ، وفيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «وينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا ، فيقول لا ، إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة» ، رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بإسناد جيد ، وقد ذكره ابن القيم في كتاب «المنار المنيف» وقال إسناده جيد ، وقال الطحاوي في العقيدة المشهورة «ونؤمن بأشراط الساعة (٢) من خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه‌السلام من السماء».

وقال الإمام ابن تيمية أن عيسى بن مريم عليه‌السلام حي رفعه الله تعالى إليه بروحه وبدنه ، وقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ، أي قابضك ،

__________________

(١) مسند الإمام أحمد ٣ / ٤٢٠ ، تحفة الأحوذي ٦ / ٥١٣.

(٢) روى الإمام أحمد بسنده عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : اشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عرفة ، ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ابن مريم والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا» ، وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث فرات الفزارية (مسند الإمام أحمد ٤ / ٧ ، صحيح مسلم ٨ / ١٧٨ ، تفسير ابن كثير ١ / ٨٨٧).

٣٤٩

وكذلك ثبت أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق ، فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية حكما عدلا مقسطا ، ويراد بالتوفي الاستيفاء ، ويراد به الموت ويراد به النوم ، ويدل على كل واحد القرينة التي معه ، وقال القاضي عياض في شرح مسلم : نزول عيسى وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك ، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله ، وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن يوافقهم ، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نبي بعدي» ، وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ ، وهذا استدلال فاسد لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه‌السلام أن ينزل نبيّا ينسخ شرعنا ، ولا في الأحاديث شيء من هذا ، بل صحت الأحاديث أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا ، ويحيى من أمور شرعنا ما هجره الناس ، وقد نقله النواوي في شرح مسلم وأقره ، وقال المناوي في شرح الجامع الصغير : أجمعوا على نزول عيسى عليه‌السلام نبيّا ، لكنه بشريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال «السفاريني» في شرح عقيدته : نزول المسيح عيسى بن مريم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة ، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه ، وقد انعقد الإجماع على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية (١).

وأما الرأي الثاني ، ويقول به بعض علماء المسلمين ، ويذهب إلى أن المسيح عليه‌السلام قد توفي فعلا ، بعد أن نجاه الله من مؤامرة اليهود ، ولم يمكنهم من قتله وصلبه ، ومن ثم فإن معنى قوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) (٢)

__________________

(١) حمود التويجري : المرجع السابق ص ١٠١ ـ ١١٣.

(٢) سورة النساء : آية ١٥٨.

٣٥٠

وقوله تعالى : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) (١) ، إنما يراد به : رفع التعظيم والتكريم ، ويستدلون على ذلك بأن الله عزوجل قد قدم كلمة : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) على كلمة (وَرافِعُكَ إِلَيَ) ، كما يستدلون بقوله تعالى : (٢) (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣) ، بأن المقصود بها بأنه ليس من أحد من أهل الكتاب ، اليهود أو النصارى ، إلا ويؤمن بعيسى عليه‌السلام ، إذ عاين ملك الموت ، ولكنه إيمان لا ينفع ، لأنه إيمان عند اليأس ، وحين التلبس بحالة الموت ، فاليهودي في ذلك الوقت يقر بأنه رسول الله ، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله (٤).

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٥٥.

(٢) سورة المائدة : آية ١١٧.

(٣) يذهب الأستاذ سيد قطب ، طيب الله ثراه ، في تفسير هذه الآية إلى أن ظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله سبحانه وتعالى قد توفي عيسى بن مريم ثم رفعه إليه ، وبعض الآثار تفيد أنه حيّ عند الله ، وليس هناك ، فيما يرى ، أي تعارض يثير أي استشكال بين أن يكون الله قد توفاه من حياة الأرض ، وأن يكون حيا عنده ، فالشهداء كذلك يموتون في الأرض ، وهم أحياء عند الله ، أما صور حياتهم عنده ، فنحن لا ندري لها كيفا ، وكذلك صورة حياة عيسى عليه‌السلام ، وهو هنا يقول لربه : إنني لا أدري ما ذا كان منهم بعد وفاتي (في ظلال القرآن ٢ / ١٠٠١) ، ويقول في تفسير قوله تعالى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (مريم آية ٣٣) بأن المسيح إذن حياة محدودة ذات أمد ، وهو يموت ويبعث ، وقد قدّر الله له السلام والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ، والنص صريح هنا في موت عيسى وبعثه ، وهو لا يحتمل تأويلا في هذه الحقيقة ، ولا جدالا (في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٨) ، ويقول في تفسير قوله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (آل عمران : آية ٥٥) بأنهم أرادوا صلب عيسى عليه‌السلام وقتله ، وأراد الله أن يتوفاه ويرفعه إليه ، وأن يطرّه من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم ، وهم رجس ودنس ، وأما كيف كانت وفاته ، وكيف كان رفعه ، فهي أمور غيبية تدخل في التشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله ، ولا طائل وراء البحث فيها ، لا في عقيدة ولا شريعة (في ظلال القرآن ١ / ٤٠٣.

(٤) محمد الطيب النجار : تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن والسنّة النبوية ـ الرياض ١٩٨٣) ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٣٥١

ويقرر الأستاذ الإمام محمود شلتوت في الفتاوي أن معنى قوله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مميتك إماتة عادية ، إذ المعنى اللغوي الوضعي والمعنى القرآني لكلمة «متوفيك» إنما هو مميتك إماتة عادية (١) ، ومن قال إن عيسى حيّ في السماء ، فذلك ادعاء وزعم منه ، كما قرر أن معنى الرفع في «ورافعك إلي» ، رفع مكانة ، لا رفع جسد ، بدليل التعقيب الذي جاء بجانب الرفع ، وهو قوله تعالى : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم ، ويؤيد ذلك أن الرفع جاء في القرآن كثيرا بهذا المعنى (في بيوت أذن الله أن ترفع ـ نرفع درجات من نشاء ـ ورفعنا لك ذكرك ـ ورفعناه مكانا ـ يرفع الله الذين آمنوا ... إلخ) ، ومن ثم فقد حكم بأن التعبير بقوله تعالى : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) ، «بل رفعه الله إليه» ، كالتعبير في قولهم : «لحق فلان بالرفيق الأعلى» وفي «أن الله معنا» وفي «عند مليك مقتدر» ، وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ ، والدخول في الكنف المقدس ، فمن يؤخذ كلمة «السماء» من كلمة «إليه» ، اللهم إن هذا الظلم للتعبير القرآني الواضح ، خضوعا لقصص وروايات لم يقم على الظن بها ، فضلا عن اليقين ، برهان ولا شبه برهان.

ثم يذهب الأستاذ شلتوت بعد ذلك إلى أنه ليس في القرآن ولا في السنة المطهرة (٢) ، مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء ، وأنه حيّ إلى الآن فيها ، وأنه سينزل منها آخر الزمان ، وأن كل ما تفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى أنه متوفيه أجله ورافعه إليه ، وعاصمه من الذين كفروا ، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم يصلبوه ، ولكن وفاه الله أجله ورفعه إليه ، وأن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء وأنه حيّ إلى الآن ، وأنه سينزل آخر

__________________

(١) روى عن الجبائي : أن عيسى مات ثم رفع إلى السماء بعد ذلك (روح المعاني ٧ / ٦٩).

(٢) أنظر : ما سبق أن ذكرناه من الأحاديث النبوة الشريفة.

٣٥٢

الزمان ، فإنه لا يكون بذلك منكر لما ثبت بدليل قطعي ، فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه.

ثم أورد بعد ذلك رأي الأستاذ الإمام محمد عبده ، وتلميذه الأستاذ محمد رشيد رضا (في الجزء العاشر من المجلد ٢٨ من مجلة المنار) والذي قال فيه : وجملة القول أنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء حيا ، حياة دنيوية بهما ، بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى غذاء ، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء ، وإنما هي عقيدة أكثر النصارى ، وقد حاولوا في كل زمان ، منذ ظهور الإسلام ، بثها في المسلمين (١).

هذا ويذهب الأستاذ الإمام المراغي إلى أنه ليس في القرآن نص صريح قاطع على أن عيسى عليه‌السلام ، رفع بجسمه وروحه ، وعلى أنه حيّ بجسمه وروحه ، وقوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، الظاهر منه أنه توفاه وأماته ثم رفعه ، والظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رفعه درجات عند الله ، كما قال في إدريس عليه‌السلام : «ورفعناه مكانا عاليا» ، وهذا الظاهر ذهب إليه بعض علماء المسلمين ، فهو عند هؤلاء العلماء توفاه الله وفاة عادية ، ثم رفع الله درجاته عنده ، فهو حيّ حياة روحية ، كحياة الشهداء ، وحياة غيره من الأنبياء ، لكن جمهور العلماء على أنه رفع بجسمه وروحه ، فهو حيّ الآن بجسده وروحه ، وفسروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردت كان لها عندهم المقام الذي يسوّغ تفسير القرآن بها ، لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي توجب على المسلم عقيدة ، والعقيدة لا تجب إلا

__________________

(١) محمود شلتوت : الفتاوي ص ٥٢ ـ ٥٧ ، محمود بن الشريف : المرجع السابق ص ٢٠٧ ـ ٢٠٩.

٣٥٣

بنص من القرآن أو بحديث متواتر ، وعلى ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى عليه‌السلام حيّ بروحه وجسده ، والذي يخالف في ذلك لا يعد كافرا في نظر الشريعة الإسلامية (١) ، والأئمة المجتهدون الذي اتجهوا هذا الاتجاه كلهم قد استقوا من معين واحد ، واستمدوا رأيهم من رأي الإمام الرازي الذي قال : واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) هو الرفعة بالدرجة والمنقبة ، لا بالمكان والجهة ، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان ، بل بالدرجة والرفعة (٢).

وأما النصارى ، فقد جعلوا خاتمة المسيح عليه‌السلام ، كما يقول الأستاذ رشيد رضا ، خاتمة شنيعة ، ومأساة مروعة ، وجعلوا الاعتقاد بحصولها على الوجه الذي صوروه أصلا من أصول دينهم ، ودعامة من دعائم عقيدتهم ، لا يقبل من مؤمن إيمانه إلا بها ، وهي الاعتقاد بصلب المسيح ، وقد تلمسوا لتلك العقيدة أصلا في العهد القديم ، وأسسوا عليه صلب المسيح ، فقالوا : إن آدم ، وهو أول كل البشر ، قد عصي الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها ، فصار خاطئا ، وصار جميع ذريته خطاه مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي ، وقد جاء جميع أبناء آدم خطاة مذنبين ، فهم يحملون وزر ذنوبهم ، ووزر ذنب أبيهم ، ولما كان الله من صفاته العدل والرحمة ، فمن عدله ألا يترك الجريمة دون عقاب ، وإلا لم يكن عادلا ، ولهذا شاء الله أن يحمل ابنه ، الذي هو بنفسه (الله) في رحم امرأة من ذرية آدم ، ويتجسد حنينا في رحمها ويولد منها ، فيكون ولدها «إنسانا» كاملا من حيث أنه ابن لتلك المرأة ، و «إلها» كاملا ، من حيث أنه ابن الله ، ويكون معصوما من جميع المعاصي ، ثم بعد أن يعيش كما يعيش

__________________

(١) نفس المرجع السابق ص ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٦٩.

٣٥٤

الناس ، ويأكل كما يأكلون ، ويشرب مما يشربون ، ويتلذذ ويتألم ، كما يتلذذون ويتألمون يأتي أعداء الله ، وأعداء شريعته ، ويقتلونه شر قتلة وأفظعها ، وهي أن يصلبوه ويسمروا يديه ورجليه في الخشب ، ثم يقتلوه بعد أن يلطموه على وجهه ويسخروا منه ، ويضفروا له إكليلا من الشوك ويبصقوا في وجهه ، كل ذلك ليفدي البشر من جريمة لم يقترفها هو ، ولا هم (١).

__________________

(١) تفسير المنار ٦ / ٢٥ ، وانظر التفصيلات عن قصة الصلب هذه : إنجيل متى ٢٦ / ١ ـ ٢٨ / ٢٠ ، مرقس ١٤ / ١ ـ ١٦ / ٢٠ ، لوقا ٢٢ / ١ ـ ٢٤ / ٥٣ ، يوحنا ١٨ / ١ ـ ٢١ / ٢٥.

٣٥٥
٣٥٦

فهرست

تقديم...................................................................... ٥

الكتاب الرابع

داود وسليمان عليه‌السلام

الباب الأول

سيرة داود عليه‌السلام

الفصل الأول : بنو إسرائيل فيما بين عهدي موسى وداود عليهما‌السلام............... ١١

١ ـ دخول بني إسرائيل كنعان............................................... ١١

٢ ـ عصر القضاة.......................................................... ١٥

٣ ـ قيام ملكية طالوت..................................................... ١٩

٤ ـ حروب طالوت وظهور داود............................................. ٢٦

الفصل الثاني : داود الرسول النبي........................................... ٣٣

١ ـ معجزات داود عليه‌السلام.................................................... ٣٤

قصة الخصمين............................................................ ٤٠

الفصل الثالث : داود ملك إسرائيل.......................................... ٥٣

١ ـ داود فيما قبل الملكية................................................... ٥٣

٢ ـ اختيار داود ملكا على يهوذا............................................ ٥٦

٣ ـ داود وتوحيد إسرائيل................................................... ٥٨

٣٥٧

٤ ـ داود والفلسطينيون..................................................... ٥٩

٥ ـ داود وموآب وعمون وأرام وأدوم......................................... ٦٢

٦ ـ دولة داود ومدى اتساعها............................................... ٦٤

٧ ـ وارثة العرش والخلافات العائلية........................................... ٦٨

٨ ـ ثورة أبشالوم........................................................... ٧٠

٩ ـ التعداد العام ونتائجه................................................... ٧٤

١٠ ـ وفاة داود عليه‌السلام...................................................... ٧٧

الفصل الرابع : داود بين آي الذكر الحكيم وروايات التوراة.................... ٨١

الباب الثاني

سيرة سليمان عليه‌السلام

الفصل الأول : سليمان الرسول النبي......................................... ٩١

١ ـ وراثة سليمان داود عليهما‌السلام............................................... ٩١

٢ ـ من أحكام سليمان عليه‌السلام............................................... ٩٤

٣ ـ من معجزات سليمان عليه‌السلام.............................................. ٩٧

الفصل الثاني : بناء المسجد الأقصى...................................... ١١٥

الفصل الثالث : سليمان وملكة سبأ........................................ ١٢٩

الفصل الرابع : سليمان ملك بني إسرائيل................................... ١٥٩

١ ـ السياسة الداخلية.................................................... ١٥٩

٢ ـ السياسة الخارجية..................................................... ١٦٢

٣ ـ التنظيمات العسكرية................................................. ١٦٤

٤ ـ النشاط التجاري..................................................... ١٦٦

٥ ـ النشاط البحري...................................................... ١٧٠

٣٥٨

٦ ـ النشاط الصناعي.................................................... ١٧٩

٧ ـ مملكة سليمان ومدى اتساعها.......................................... ١٨٠

٨ ـ القدس عاصمة سليمان............................................... ١٩٧

٩ ـ مباني سليمان........................................................ ٢٠١

الكتاب الخامس

الأنبياء : من أيوب إلى يحيى عليهم‌السلام

الفصل الأول : أيوب عليه‌السلام................................................ ٢٠٩

١ ـ قصة أيوب عليه‌السلام..................................................... ٢٠٩

٢ ـ سفر أيوب عليه‌السلام..................................................... ٢٢٣

الفصل الثاني : إلياس واليسع عليهما‌السلام....................................... ٢٣١

١ ـ إلياس عليه‌السلام......................................................... ٢٣١

٢ ـ اليسع عليه‌السلام......................................................... ٢٣٩

الفصل الثالث : زكريا ويحيى عليهما‌السلام........................................ ٢٤٣

١ ـ زكريا عليه‌السلام.......................................................... ٢٤٣

٢ ـ يحيى عليه‌السلام........................................................... ٢٥٩

٣ ـ استشهاد يحيى عليه‌السلام.................................................. ٢٦٦

الكتاب السادس

المسيح عيسى بن مريم رسول الله

الفصل الأول : مريم أم المسيح عليهما‌السلام..................................... ٢٧٥

الفصل الثاني : مولد المسيح عليه‌السلام......................................... ٢٨٥

٣٥٩

الفصل الثالث : نبوة المسيح ومعجزاته..................................... ٣٠٧

١ ـ نبوة المسيح.......................................................... ٣٠٧

٢ ـ معجزات المسيح...................................................... ٣١١

الفصل الرابع : دعوى تأليه المسيح وصلبه.................................. ٣٢٥

١ ـ دعوى التأليه........................................................ ٣٢٥

٢ ـ دعوى الصلب....................................................... ٣٤٠

٣٦٠