الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

يد) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان

السادس من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.

قال الشيخ :

ولنستشهد أيضا على ما بيّناه بالكلام الناظر في جوهر النفس الناطقة وفي أخص فعل له بدلائل من أحوال أفعال أخرى له مناسبة لما ذكرناه فنقول :

إنّ القوّة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص أنما يستتمّ باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها ، وأن لا تعقل الآلة ، وأن لا تعقل أنّها عقلت فإنّه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس لها بينها وبين آلتها آلة ، وليس لها بينها وبين أنّها عقلت آلة لكنّها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى لها ، وأنّها عقلت فإذن تعقل بذاتها لا بآلة.

بل قد نحقق فنقول : لا يخلو إمّا أن يكون تعقّلها آلتها لوجود ذات صورة آلتها تلك ، أو لوجود صورة أخرى مخالفة لها بالعدد وهي أيضا فيها وفي آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك بالنوع وهي فيها وفي آلتها :

فإن كان لوجود صورة آلتها فصورة آلتها في آلتها وفيها بالشركة دائما فيجب أن تعقل آلتها دائما إذ كانت أنّما تعقلها لوصول الصورة إليها.

وإن كان لوجود صورة لآلتها غير تلك الصورة بالعدد فذلك باطل : أمّا أوّلا فلأنّ المغايرة بين أشياء تدخل في حدّ واحد إمّا لاختلاف المواد والأحوال والأعراض ، وإمّا لاختلاف ما بين الكلى والجزئى ، والمجرّد عن المادة والموجود في المادة؛ وليس هاهنا اختلاف مواد وأعراض فإنّ المادة واحدة والأعراض لموجودة واحدة؛

١٨١

وليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود في المادة فإنّ كليهما في المادّة؛ وليس هاهنا اختلاف الخصوص والعموم لأنّ إحداهما إن استفادت جزئية فإنّما تستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها وهذا المعنى لا يختص بإحداهما دون الأخرى. ولا يلزم هذا على إدراك النفس ذاتها فانّها تدرك دائما ذاتها وإن كانت قد تدركها في الأغلب مقارنة للأجسام التي هي معها على ما بيناه.

وأنت تعلم أنّه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها فإنّ هذا أشد استحالة لأنّ الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته ، أو لما تلك الصورة مضافة إليه فتكون صورة المضاف داخلة في هذه الصورة وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ، ولا صورة شي‏ء مضاف إليها بالذات لأنّ ذات هذه الآلة جوهر ونحن أنّما نجد (نأخذ ـ خ ل) ونعتبر صورة ذاته والجوهر في ذاته غير مضاف البتة.

فهذا برهان واضح على أنّه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته في الإدراك. ولهذا فإنّ الحسّ أنّما يحسّ شيئا خارجا ولا يحس ذاته ولا آلته ولا إحساسه. وكذلك الخيال لا يتخيّل ذاته ولا فعله البتّة ، بل إن تخيّل آلته تخيّلها لا على نحو يخصّه وأنّها لا محالة له دون غيره إلّا أن يكون الحسّ يورد عليه صورة آلته لو أمكن فيكون حينئذ أنّما يحكى خيالا مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شي‏ء حتى لو لم يكن هو آلته لم يتخيّله.

بيان : الغرض من البرهان أنّ تعقّل القوّة العقلية ليس بالآلة الجسدية ، كما هو عنوان البرهان في النجاة.

قوله : « أنّما يستتم » ، وفي نسختين من الشفاء عندنا «أنّما يستقيم» مكان «أنّما يستتمّ».

قوله : « وأنّها عقلت » عطف على قوله : « ذاتها وآلتها » أي تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى لها ، وتعقل أنّها عقلت ، أي تعقل تعقّلها وإدراكها.

١٨٢

قوله : «مخالفة لها بالعدد» أي لا بالنوع بقرينة مقابلته لقوله بالنوع. وهي أي الصورة الأخرى أيضا في النفس وفي آلتها. وأمّا بيان المخالفة بالنوع فسيأتى في قوله : وأنت تعلم أنّه لا يجوز إلخ».

قوله : «فصورة آلتها في آلتها وفيها بالشركة» قال الملّا عبد الرزاق في بيانه : «يعنى أنّ صورة آلتها قائمة في مادة آلتها فتكون في آلتها ، وكذلك تكون فيها أي في القوّة العاقلة أيضا لأنّ المفروض أنّ القوة العاقلة حالّة في مادة آلتها فهي أعنى صورة الآلة كما تكون حاضرة لمادّة الآلة تكون حاضرة للقوّة العاقلة أيضا فيجب أن تكون عاقلة لصورة الآلة دائما.

وقوله : «بالشركة» معناه أنّ صورة الآلة صورة واحدة موجودة لكليهما لا أن تكون الموجودة للعاقلة صورة أخرى مخالفة للموجود للآلة بالعدد أو بالماهية فتدبّر لتفهم معنى قوله : «وفي آلتها» في العبارتين السابقتين أيضا انتهى كلامه.

قوله : فذلك باطل أمّا أوّلا ، هكذا في جميع نسخ الشفاء التي عندنا ، ولكنه لم يأت في قباله بما يكون هو ثانيا.

قوله : «وأنت تعلم أنّه لا يجوز أن يكون بوجود صورة أخرى غير صورة آلتها» أى لا يجوز أن يكون تعقّلها آلتها بوجود صورة أخرى غير صورة آلتها بالنوع.

قوله : «على ما بيّناه» أقول : بيّنه في موضعين من نفس الشفاء أحدهما في أوّل الأولى (ج ١ ، ص ٢٨١ ، ط ١) ، وثانيهما في سابع الخامسة حيث قال : وليست هذه الأعضاء لنا في الحقيقة إلّا كالثياب التي صارت لدوام لزومها إيّانا كأجزاء منّا عندنا وإذا تخيّلنا أنفسنا لم نتخيلها عراة بل نتخيّلها ذوات أجسام كاسية والسبب فيه دوام الملازمة إلّا أنّا قد اعتدنا في الثياب من التجريد والطرح ما لم نعتد في الأعضاء فكان ظنّنا الأعضاء أجزاء منّا آكد من ظنّنا الثياب أجزاء منّا (ج ١ ، ص ٣٦٣ ، ط ١).

قوله : «وأنت تعلم أنّه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى في غير صورة آلتها». أي غير صورة آلتها بالنّوع.

قوله : «وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله البتة بل إن تخيل آلته ...». العبارة في‏

١٨٣

النجاة هكذا : «وكذا الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته بل إن تخيل آلته ...» وظنى أن العبارة في الشفاء حرّفت وإن كانت عدة نسخ مخطوطة من الشفاء كلّها كذلك.

والصواب انّ كلمة «البتة» في الشفاء أصلها «آلته» وبعد تحريف آلته بالبتة حذفت لفظة «ولا» أيضا لكى يستقيم المعنى فالصواب ولا فعله ولا آلته بل إن تخيل آلته إلخ.

اعلم أنّ الشيخ جعل هذا البرهان المذكور من الشفاء فصلا على حدة في النجاة معنونا بقوله : «فصل في أنّ تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية». وعبارتهما وإن كانت لا تتفاوت كثيرا ، ولكن عبارة النجاة تفيد بعض الإيضاحات لما في الشفاء ، وتعيننا في غرضنا الآتى ذكره حول هذا البرهان الشريف ، وما يؤول إليه من البرهان المحرّر في الإشارات الذي اعتنى به الحكماء الآلهية نقلا وفنأتى بما في النجاة أيضا ثمّ نهدى إلى طالبى الإيقان ومبتغى التحقيق ما تيّسر لنا بعون المفيض على الإطلاق وملهم الصواب والسداد. قال الشيخ :

فصل في أنّ تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية : ونقول إنّ القوّة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص أنّما يتمّ باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها ، وأن لا تعقل الآلة ، ولا أن تعقل أنّها عقلت.

فإنّه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس بينها وبين آلتها ولا بينها وبين أنّها عقلت آلة ، لكنّها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى آلتها وأنّها عقلت فإذا أنّما تعقل بذاتها لا بالآلة.

وأيضا لا يخلوا إما أن يكون تعقّلها آلتها بوجود ذات صورة آلتها إمّا تلك وإمّا أخرى مخالفة لها وهي صورتها أيضا فيها وفي آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك فيها وفي آلتها : فإن كان لوجود صورة آلتها فصورة آلتها في آلتها وفيها بالشركة دائما فيجب أن تعقل آلتها دائما التي كانت تعقل لوصول الصورة إليها.

وإن كان لوجود صورة غير تلك الصورة فأنّ المغايرة بين أشياء مشتركة في حدّ واحد إمّا لاختلاف المواد ، وإمّا لاختلاف ما بين الكلى والجزئى ، والمجرّد عن المادة والموجود في المادة؛ وليس هاهنا اختلاف مواد فإنّ المادة واحدة وليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود في المادة فإنّ كليهما في المادة؛ وليس هاهنا اختلاف‏

١٨٤

بالخصوص والعموم لأنّ أحدهما أنّما يستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها ، وهذا المعنى لا يختص بأحدهما دون الآخر. ولا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى معقولة غير صورة آلتها فإنّ هذا أشدّ استحالة لأنّ الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر القابل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته ، أو لما تلك الصورة مضافة إليه فتكون صورة المضاف داخلة في هذه الصورة وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ، ولا أيضا صورة شي‏ء مضاف إليها بالذات لأنّ ذات هذه الآلة جوهر ونحن أنّما نأخذ ونعتبر صورة ذاته والجوهر في ذاته غير مضاف إليه.

فهذا برهان عظيم على أنّه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته في الإدراك. ولهذا كان الحس أنّما يحسّ شيئا خارجا ولا يحسّ ذاته ولا آلته ولا إحساسه. وكذا الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته بل إن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصّها بأنّه لا محالة لها دون غيرها إلّا أن يكون الحس أورد عليه صورة آلته لو أمكن فيكون حينئذ أنّما يحكى خيالا مأخوذا من الحسّ غير مضاف عنده إلى شي‏ء حتى لو لم يكن هو آلته كذلك لم يتخيله. (ص ١٧٨ ـ ١٨٠ ، ط مصر).

هذا تمام كلام الشيخ في النجاة في تحرير البرهان. وكتاب النجاة وإن كان الشيخ اقتطفه من كتابه الشفاء ولكنه يفيد الباحث كثيرا في حلّ المشاكل وتفهيم المسائل فأقول : لا يخفى عليك أنّ الشيخ ناظر في صدر البرهان إلى أنّ تعقل القوّة العقلية ذاتها وآلاتها ، وكذلك تعقلها أنّها عقلت ليس بآلة جسدية بل هي بذاتها تعقل ذاتها وآلاتها وأنّها عقلت كما هو العنوان في النجاة. واستدل على ذلك بثلاثة أمور :

الأوّل : أنّ تعقّلها لو كان بآلة جسدية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها فإنّه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، والحال أنّها عاقلة بذاتها.

والثانى : أنّها لو كان كذلك لكان يجب أن لا تعقل الآلة فإنّه ليس لها ـ اى للقوّة العقلية ـ بينها وبين آلتها آلة ، والحال أنّها تدرك الآلة.

والثالث : أنّها لو كان كذلك لكان يجب أن لا تعقل أنّها عقلت فإنّه ليس للقوّة العقلية

١٨٥

بينها وبين أنّها عقلت اى وبين تعقّلها وإدراكها آلة والحال أنّها تعقل أنّها عقلت فإذن أنّها تعقل ذاتها وآلتها وتعقل أنّها عقلت بذاتها لا بآلة.

ثمّ أخذ الشيخ في تحقيق نظره المذكور أعنى أنّ تعقّل القوّة العقلية مطلقا ليس بآلة جسدية بقوله في الشفاء : «بل قد نحقّق فنقول لا يخلو إمّا أن يكون تعقلها إلخ».

وفي النجاة بقوله : «وأيضا لا يخلو إمّا أن يكون تعقلها آلتها». فتبصّر.

وفي الشفاء بعد التحقيق قال : «فهذا برهان واضح على أنّه لا يجوز إلخ» ، وفي النجاة قال : «فهذا برهان عظيم على أنّه لا يجوز إلخ».

وتحرير التحقيق أنّ القوّة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص أنّما يتم ويستقيم باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن تدرك أوّلا تلك الآلة التي استعملتها لسائر إدراكاتها إذ بها يتحقق فعلها الخاص اى التعقل ، وتعقلها آلتها يتصور على ثلاثة أوجه : وذلك لأنّه إمّا أن يكون لوجود نفس صورة آلتها تلك أي صورة ذلك المحلّ الخارجية نفسها تكفى في تعقل القوّة العاقلة إيّاها ، أو لوجود صورة أخرى والصورة الأخرى إمّا مخالفة لذات صورة الآلة بالعدد ، أو مخالفة لها بالنوع. أي لو لم تكن نفس صورة ذلك المحل الخارجية كافية افتقرت إلى صورة أخرى منتزعة من صورة المحل منطبعة في العقلية ـ وإن شئت قلت منطبعة في صورة المحل فإنّ مآلهما واحد واقعا ـ وتلك الصورة الأخرى إمّا مخالفة لذات صورة الآلة أي محل العقلية بالعدد أو بالنوع.

أمّا على الوجه الأوّل أعنى أن يكون تعقّل القوّة العقلية آلتها لوجود ذات صورة تلك الآلة ، فنقول :

إنّ صورة تلك الآلة قائمة في مادة تلك الآلة لا محالة لأنّها آلة جسدانية بالفرض. وكذلك تكون صورة تلك الآلة في القوّة العاقلة أيضا لأنّ المفروض أنّ القوة العقلية حالّة أي منطبعة في مادة آلتها الجسدانية ، فنفس صورة الآلة صورة واحدة موجودة للآلة وللقوّة العاقلة كلتيهما فكلما كانت الصورة حاضرة لمادة الآلة كانت حاضرة للقوّة العاقلة المنطبعة في تلك الآلة أيضا ، فالعاقلة المنطبعة في الآلة الجسمانية كانت من‏

١٨٦

الأمور الجسمانية والأمور الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بواسطة أجسامها التي هي موضوعاتها فإذن تلك الأجسام آلاتها في أفعالها ، وحيث إنّ القوّة العقلية حالّة منطبعة في الآلة الجسمانية ، وصورة الآلة حاضرة لمادة الآلة وللقوّة العاقلة المنطبعة فيها أيضا بالشركة فيجب أن تكون القوّة العقلية دائمة التعقل لذات صورة آلتها إذ كانت القوّة العقلية أنّما تعقل الآلة لوصول صورة الآلة إليها والمفروض أنّ تلك الصورة حاصلة للعقلية لأنّ القوّة العقلية منطبعة في تلك المادة الجسدانية بالفرض ، والحال أنّ القوّة العاقلة اى تلك القوّة العقلية ليست دائمة التعقل لمحلّها الذي هو تلك الآلة الجسدانية كالقلب أو الدماغ مثلا بل تعقّلها له حاصل حصولا منقطعا أي في وقت دون وقت لا دائما فكون القوّة العقلية منطبعة في آلة جسمانية باطل.

هذا لو قلنا إنّ مقارنة القوّة العقلية بمحلّها ذلك أعنى انطباعها في آلتها تكفى في تعقّلها له فتوجب تلك المقارنة الدائمة التعقل الدائم. وأمّا إذ قلنا إنّها لم تكف في ذلك فلا تعقله البتّة لاستحالة أن يكون تعقلها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلّها فيها اى صورة مساوية منتزعة عن محلّها وإلّا لزم اجتماع المثلين في محل واحد أحدهما الصورة المنطبعة الأصلية التي هي المحل اي الآلة العاقلة؛ وثانيهما الصورة المنطبعة المعقولة من المادة الأصلية التي هي المحل والآلة المساوية لها فقد حصل في مادة واحدة مكنوفة بأعراض بأعيانها صورتان لشى‏ء واحد ، واجتماع المثلين محال فالموقوف عليه أعنى تعقل العاقلة آلتها ممتنع ، والحال انّ القوّة العقلية ليست كذلك اعنى ليست أن لا تحتمل التعقل أصلا أي لا تعقل محلّها دائما؛ فليس ولا واحد من الأمرين بصحيح لأنّ الحق كون الإنسان متعقلا لأعضائه في وقت دون وقت ومن تلك الأعضاء ما فرض محلا للقوّة العقلية وآلة لها. وهذا الشق أنّما يتضح حق الاتّضاح ببيان الوجهين الباقيين فنقول :

أمّا على الوجه الثانى ، وهو كون تعقل القوّة العقلية آلتها لوجود صورة أخرى مخالفة لذات صورة الآلة بالعدد أي لم تكف تلك المقارنة المذكورة بل يكون تعقلها لها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلها الذي هو آلتها الجسدانية ، فنقول : إنّ ذلك باطل‏

١٨٧

لأنّ تلك الصورة الأخرى إن كانت مخالفة للأولى بالعدد كان كتغاير زيد وعمر المتحدين بالماهية الإنسانية مثلا والأمور المتحدة بالماهية لا تتغاير إلّا بسبب اقترانها بأمور متغايرة إمّا مادية كتغاير الأشخاص المتفقة بالنوع ، أو غير مادية كتغاير الأنواع المتفقة بالجنس ، أو بسبب اقتران البعض بشي‏ء وتجرد البعض عنه وذلك الشي‏ء إمّا مادّى وهو كتغاير الإنسان الجزئي للإنسان من حيث هو طبيعته ، أو غير مادى كتغاير الانسان الكلى للإنسان من حيث هو طبيعة ، ويتبيّن من ذلك امتناع تغاير الأشخاص المتفقة بالنوع من غير تغاير المواد وما يجرى مجريها ، والصورتان حالّتان في مادّة واحدة هي آلة القوّة العقلية ومحلّها فإذا فرضتا مغايرتين بالعدد فتميز إحداهما عن الآخر غير متصور فقال على هذا المنوال في وجه البطلان أي بطلان تغاير الصورتين بالعدد : لأنّ المغايرة بين أشياء تدخل في حدّ واحد ، أي مغايرة الأمور المتحدة في الماهية إمّا لاختلاف المواد والأحوال والأعراض كتغاير الأشخاص المتفقة بالنوع ، وإمّا لاختلاف بين الكلى والجزئى كتغاير الإنسان الجزئى للإنسان من حيث هو طبيعته إن أخذ الكلى كليا طبيعيا ، وإن أخذ عقليا فظاهر أيضا ، وإمّا لاختلاف المجرّد عن المادة والموجود في المادة كتغاير الإنسان الكلى للإنسان من حيث هو طبيعة خارجية مثلا ، والحال ليس هاهنا اختلاف موادّ وأعراض فان المادة واحدة والأعراض حاصلة لمادة واحدة هي آلة القوة العقلية؛ وكذلك ليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود في المادة فإنّ كليهما في المادة الواحدة؛ وكذلك ليس هاهنا اختلاف الخصوص والعموم أي الاختلاف بين الجزئى والكلى لأنّ إحدى الصورتين إن استفادت جزئية فانّها تستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها وهذا المعنى لا يختص بإحدى الصورتين دون الأخرى.

فإن قلت : الصورة الثانية حالّة في الأولى لا في مادتها؛ أو إنّ إحداهما حالّة في العاقلة وفي محلّها معا ، والأخرى حالة في محلّها فقط فلا يلزم اجتماع المثلين في محل واحد ، قلنا هذا مجرّد فرض في الذهن فإنّه إذا كان محلهما واحدا فهما منطبعان فيه خارجا مجتمعان معا في مادة واحدة. ثمّ انّ القوّة العاقلة إن كانت في تلك الآلة ،

١٨٨

والصورة الثانية حاصلة في القوّة العاقلة فالصورة الثانية للآلة أيضا حالّة في الآلة لأنّ الحال في الحال في الشي‏ء حال في ذلك الشي‏ء أيضا فيلزم منه الجمع بين المثلين أيضا على أنّ البحث عن بطلان ذلك يأتى على التفصيل أيضا.

ولا يرد هذا الإيراد أي كون تعقل القوّة العقلية لوجود ذات صورة آلتها ، أو لوجود صورة مخالفة لها بالعدد الموجب لكون القوة العقلية إمّا دائمة التعقل لآلتها أو لا تعقلها أصلا ، على إدراك النفس ذاتها فإنها تدرك دائما ذاتها وإن كانت على سبيل القضية الحينية مقارنة للأجسام التي هي أعضائها وبدنها.

وأمّا على الوجه الثالث ـ وهو كون تعقل القوّة العقلية آلتها لوجود صورة أخرى مخالفة لذات صورة الآلة بالنوع ـ فإنّ هذا أشدّ استحالة من الأولين ، وذلك لأنّ ذات هذه الآلة جوهر ونحن انّما نجد ونعتبر صورة ذاته والجوهر في ذاته غير مضاف إليه.

وأمّا الصورة المعقولة فانّها إذا حلّت الجوهر العاقل ـ وإن شئت قلت الجوهر القابل كما في النجاة ـ جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته ، أو لما تلك الصورة مضافة إليه ، فحيث إنّ صورة المضاف داخلة في هذه الصورة المعقولة ليست صورة الآلة جوهر والجوهر في ذاته غير مضاف البتة فهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ولا أيضا شي‏ء مضاف إليها بالذات فكيف يكون هذه الصورة المخالفة للآلة بالماهية آلة القوة العقلية في إدراك آلتها وحاكية لها؟ بل كيف يتحقق انطباع ثلاث صور متغايرة في محل واحد شخصى؟ ولا يخفى عليك أنّ التغاير بين الشيئين بالنوع أشدّ من التغاير بينهما بالعدد. فإذا لم يصحّ اجتماع المتغائرين بالعدد في محل شخصى واحد فإن لا يصحّ اجتماعهما بالنوع أولى. فإن لم تكن القوّة العقلية في تلك الآلة بل هي مجرّدة عن الأجسام فذلك هو المطلوب.

فهذا البرهان العظيم الدال على أنّ ما يدرك ذاته وآلته في الإدراك وإدراكه فهو بري‏ء عن المادة وأحكامها ، برهان واضح على أنّ المدرك بالآلة لا يجوز أن يدرك آلته في الإدراك. ولهذا أنّ الحس لا يدرك ذاته ولا آلته في الإدراك ولا إدراكه بل إنّما يدرك شيئا خارجا عن ذاته. وكذا الخيال لا يتخيّل ذاته ولا فعله أي إدراكه ولا آلته في‏

١٨٩

الإدراك ، بل إن تخيّل آلته تخيّلها لا على نحو يخصّها بأنّه لا محالة لها دون غيرها إلّا أنّ الحس أمكن أن يوجب تلك الخصوصيّة بأن يورد عليه صورة آلته فحينئذ يحكى خيالا مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شي‏ء حتى لو لم يكن هو آلته كذلك لم يتخيّله.

اعلم أنّ هذا البرهان في إثبات تجرّد القوّة العاقلة تام لا كلام فيه ، إلّا أنّ في الابصار والخيال تحقيقا أنيقا يأتى بعيد هذا ، وذلك التحقيق يؤكد تمامية البرهان وعظمه.

تبصرة : البرهان المذكور من الشفاء والنجاة ، قد جعله الغزالى البرهان الرابع من كتابه معارج القدس في مدارج معرفة النفس على حذو ما في الشفاء والنجاة. قال : البرهان الرابع أن نقول إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها انّما يستتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية إلخ (ص ٣١ ، ط مصر).

تذكرة : قد علمت في شرح البرهان الأوّل من الشفاء أنّ البرهان الأوّل والسادس من نفس الشفاء من غرر البراهين التي حكمت بأنّ مدرك الصورة العقلية الكلّية أعنى بها النفس الناطقة جوهر روحاني غير موصوف بصفات الأجسام ، كما قد دريت آنفا في أثناء شرح هذا البرهان أنّ الشيخ وصفه في النجاة بقوله هذا برهان عظيم. وقد أشرنا في أثناء شرح البرهان الأوّل أنّ الشيخ بدء في مختصر له موسوم بعيون الحكمة بالبرهان السادس من نفس الشفاء بتحرير آخر ثمّ أتى بالبرهان الأوّل من نفس الشفاء بالاختصار معنونا بقوله : ومما يوضّح هذا إلخ. فاعلم انّ البراهين التي في العيون ممّا يسهّل الخطب في فهم المراد منها على الوجه الذي حرّر كل واحد منها في الشفاء أو في كتاب آخر للشيخ. فنقول الشيخ أتى في الفصل السادس عشر من عيون الحكمة بمطالب أنيقة ثمّ أتبعها بتحرير عدة من البراهين على تجرّد النفس والفصل في تلك المطالب والبراهين. فقال :

الفصل السادس عشر في الإنسان : ومن الحيوان الإنسان يختص بنفس إنسانية تسمّى نفسا ناطقة ، إذ كان أشهر أفعالها وأوّل آثارها الخاصّة بها النطق. وليس يعنى بقولهم :

نفس ناطقة ، أنّها مبدأ المنطق فقط ، بل جعل هذا اللفظ لقبا لذاتها.

١٩٠

ولها خواصّ : منها ما هو من باب الإدراك ، ومنها ما هو من باب الفعل ، ومنها ما هو من باب الانفعال. فأمّا الذي لها من باب الفعل في البدن والانفعال (كذا ـ ولعل كلمة «والانفعال» زائدة.) ففعل ليس يصدر عن مجرد ذاتها. وأمّا الإدراك الخاص ففعل يصدر عن مجرّد ذاتها من غير حاجة إلى البدن ولتفسّر كل واحد من هذه؛ فأمّا الأفعال التي تصدر عنها بمشاركة البدن والقوى البدنية فالتعقّل والرؤية في الأمور الجزئيّة في ما ينبغى أن يفعل وما لا ينبغى أن يفعل بحسب الاختيار. ويتعلّق بهذا الباب استنباط الصناعات العملية والتصرف فيها كالملاحة والفلاحة والصياغة والتجارة. وأمّا الانفعالات فأحوال تتبع استعدادات تعرض للبدن مع مشاركة النفس الناطقة كالاستعداد للضحك والبكاء والخجل والحياء والرحمة والرأفة والأنفة وغير ذلك.

وأمّا الذي يخصها وهو الإدراك فهو التصوّر للمعانى الكلّية وبنا حاجة أن نصوّر لك كيفية هذا الإدراك فنقول :

إن كلّ واحد من أشخاص الناس مثلا هو إنسان ، لكن له أحوال وأوصاف ليست داخلة في أنّه إنسان ولا يعرى هو منها في الوجود مثل حده في قده ولونه وشكله والملموس منه وسائر ذلك فإنّ تلك كلّها وإن كانت إنسانية فليست بشرط في أنّه إنسان وإلّا لتساوى فيها كلها أشخاص الناس كلّهم ، ومع ذلك فإنّا نعقل أنّ هناك شيئا هو الإنسان ، وبئسما قال من قال إنّ الإنسان هو هذه الجملة المحسوسة فإنك لا تجد جملتين بحالة واحدة ، وهذه الأحوال الغريبة تلزم الطبيعة من جهة قبول مادتها صورتها فإنّ كلّ واحد من أشخاص الناس تتفق له مادة على مزاج واستعداد خاص ، وكذلك يتفق له وقت وزمان وأسباب أخرى تعاون على إلحاق هذه الأحوال للماهيّات من جهة موادّها.

ثمّ الحسّ إذا أدرك الإنسان فإنّه تنطبع فيه صورة ما للإنسان من حيث هي مخالطة هذه الأعراض والأحوال الجسمانية ولا سبيل لها إلى أن يرتسم فيها مجرّد ماهية الإنسانية حتى يكون ما يشاكل فيها نفس تلك الماهية ، وهذا يظهر بأدنى تأمل؛

١٩١

والحس كأنّه نزع تلك الصورة عن المادّة وأخذها في نفسه لكن نزع إذا غابت المادة غاب ونزع مع العلائق العرضية الماديّة فإذن لا مخلص للحسّ إلى مجرّد الصورة.

وأمّا الخيال فإنّه يجرّد الصورة تجريدا اكثر من ذلك ، وذلك أنّه يستحفظ الصورة وإن غابت المادّة ، لكن ما ينزع للخيال من الصورة المأخوذة عن الإنسان مثلا لا تكون مجرّدة عن العلائق الماديّة فإنّ الخيال ليس يتخيّل صورة إلا على نحو ما من شأن الحس أن يؤدّي إليه.

وأمّا الوهم فإنّه وإن استثبت معنى غير محسوس فلا يجرّده إلّا متعلّقة بصورة خياليّة ، فإذن لا سبيل لشي‏ء من هذه القوى أن تتصوّر ماهية شي‏ء مجرّدة عن علائق المادّة وزوائدها إلّا للنفس الإنسانية فإنّها التي تتصور كل شي‏ء بحدّه كما هو منفوض عنه العلائق الماديّة وهو المعنى الذي من شأنه أن يوقع على كثيرين كالإنسان من حيث هو إنسان فقط فإذا تصور هذه المعانى تعدى التصور إلى التصديق بأن يؤلف بينها على سبيل القول الجازم فالشي‏ء في الإنسان الذي تصدر عنه هذه الأفعال تسمّى نفسا ناطقة ، وله قوتان :

إحداهما معدّة نحو العمل ووجهها إلى البدن وبها يميّز بين ما ينبغى أن يفعل وما يحسن ويصحّ من الأمور الجزئية ويقال له العقل العملي ويستكمل في الناس بالتجارب والعادات ، والثانية قوّة معدّة نحو النظر والعقل الخاص بالنفس ووجهها إلى فوق وبها ينال الفيض الإلهى.

وهذه القوّة قد تكون بعد بالقوّة لم تعقل شيئا ولم تتصوّر بل هي مستعدّة لأن تعقل المعقولات ، بل هي استعداد ما للنفس نحو تصوّر المعقولات ، وهذا المسمى العقل بالقوّة والعقل الهيولانى.

وقد تكون قوّة أخرى أخرج منها إلى الفعل ، وذلك بأن يحصل للنفس المعقولات الأولى على نحو الحصول الذي نذكره ، وهذا المسمّى العقل بالملكة ، ودرجة ثالثة هي أن تحصل للنفس المعقولات المكتسبة فتحصل النفس عقلا بالفعل ، ونفس تلك المعقولات تسمى عقلا مستفادا.

١٩٢

ولأنّ كل ما يخرج من القوّة إلى الفعل فإنّما يخرج لشي‏ء يفيده تلك الصورة فإذن العقل بالقوة أنّما يصير عقلا بالفعل بسبب يفيده المعقولات ويتصل به أثره ، وهذا الشي‏ء هو الذي يفعل العقل فينا ، وليس شي‏ء من الأجسام بهذه الصفة فإذن الشي‏ء عقل بالفعل وفعّال فينا فيسمى عقلا فعّالا وقياسه من عقولنا قياس الشمس من أبصارنا فكما أنّ الشمس تشرق على المبصرات فيوصلها بالبصر كذلك أثر العقل الفعّال يشرق على المتخيّلات فيجعلها بالتجريد عن عوارض المادّة معقولات فيوصلها بأنفسنا.

فنقول : إنّ إدراك المعقولات شي‏ء للنفس بذاتها من دون آلة لأنّك قد علمت أنّ الأفعال التي بالآلة كيف ينبغى أن تكون ، ونجد أفعال النفس مخالفة لها ، ولو كان يعقل بآلة لكان يعقل الآلة دائما لأنّها لم تخل إمّا أن تعقل الآلة بحصول صورة الآلة ، أو بحصول صورة أخرى ، ومحال أن يعقل الشي‏ء بصورة شي‏ء آخر فإذن يعقله بصورته فإذن يجب أن تحصل صورته ، وحصول صورته لا يخلو من وجوه :

إمّا أن تحصل الصورة في نفس النفس مباينة للآلة ، أو تحصل الصورة في نفس الآلة ، أو تحصل الصورة فيهما. جميعا : فإن كانت الصورة تحصل في النفس وهي مباينة فلها فعل خاص لأنّها قد قبلت الصورة من غير أن حلّت تلك الصورة معها في الآلة ، فإن كان حصول الصورة في الآلة فيجب أن يكون العلم بها دائما إذا كان العلم بحصول الصورة في الآلة ، وإن كان بحصولهما في كليهما فهذا على وجهين : أحدهما أن يكون إذا حصل في أيّهما كان حصل في الآخر لمقارنة الذاتين فيجب أن يكون إذا كانت في الآلة صورتها أن تكون أيضا في النفس إذا كانت بمقارنة الذاتين فيكون حينئذ العلم يجب أن يكون دائما ، أو يكون يحتاج أن تحصل صورة أخرى من الرأس فتكون في الآلة صورتان مرّتين ، ومحال أن تكثر الصور إلّا بموادّها وأعراضها ، وإذا كانت المادة واحدة والأعراض واحدة لم تكن هناك صورتان بل صورة واحدة؛ ثمّ إن كان الصورتان فلا يكون بينهما فرق بوجه من الوجوه فلا ينبغى أن يكون أحدهما معقولا دون الآخر؛ وإن سامحنا وقلنا إنّ الصورة وحدها لا تتهيّأ

١٩٣

أن تكون معقولة ما لم نجد صورة أخرى فلا بدّ من أن نقول حينئذ إنّ كل واحدة من الصورتين معقولة فإذن لا يمكن أن تعقل الآلة إلّا مرّتين ولا يمكن أن تعقل مرّة واحدة؛ فإن كان شرط حصول الصورتين فيهما ليس على سبيل الشركة بل على سبيل أن يحصل في كل واحد منهما صورة ليست هي بالعدد التي هي في الأخرى رجع الكلام إلى أنّ للنفس بانفرادها صورة وقوى ما؛ فقد بان من هذا إنّ للنفس أفعالا خاصّة وقبولا للصورة المعقولة لا تنطبع تلك الصورة في الجسم فيكون جوهر النفس بانفراده محلّا لتلك الصورة.

تبصرة : قد سلك الشيخ على وزان هذا المسلك من عيون الحكمة في كتابه الفارسى دانش‏نامه علائى أيضا.

تبصرة : الحجتان الثالثة والرابعة من سابع الإشارات هما مأخوذتان من البرهان السادس من الشفاء ومؤولتان إليه على التفصيل الذي يلى ذكره :

الحجة الثالثة من الفصل الرابع من النمط السابع من الإشارات على تجرّد النفس الناطقة في الحقيقة مستخرجة من البرهان السادس المذكور من الشفاء ثمّ على سياق ما في الإشارات جعلت في الزبر الحكمية حجة على تجرّدها بتقريرات أخرى يقرب بعضها من بعض. ثمّ أورد عليها بعض الاعتراضات سنتلوها عليك مع أجوبتها الشافية.

أمّا تقرير الشيخ في الإشارات فهو ما يلى :

زيادة تبصرة ، ما كان فعله بالآلة ولم يكن له فعل خاصّ لم يكن له فعل في الآلة ، ولهذا فإنّ القوى الحساسة لا تدرك آلاتها بوجه ، ولا تدرك إدراكاتها بوجه لأنّها لا آلات لها إلى آلاتها وإدراكاتها ، ولا فعل لها إلّا بآلاتها وليست القوى العقلية كذلك فانّها تعقل كلّ شي‏ء انتهى.

أقول : هذه الحجة مذكورة في طهارة الأعراق لابن مسكويه ايضا. وهي الحجة الثانية في معتبر أبى البركات على تجرّد النفس (ج ٢ ، ص ٣٥٧ ، ط حيدرآباد) ؛ والدليل الثامن من مباحث الفخر على ذلك (ج ٢ ، ص ٣٧١ ، ط حيدرآباد) ؛ والوجه الخامس من تجريد المحقق الطوسى (ص ١٨٦ ، بتصحيح الراقم وتعليقاته عليه) ؛ والحجة الثامنة

١٩٤

من نفس الأسفار (ج ٤ ، ص ٧٣ ، ط ١) ؛ والدليل الخامس من الحكمة المنظومة للحكيم السبزوارى (ص ٣٠٢ ، ط اعلى) ؛ والبرهان الخامس من أسرار الحكم للحكيم المذكور (ج ١ ، ص ٢٤٦ ، بتصحيح الأستاذ العلّامة الشعرانى).

قال المحقق الطوسى في شرح الفصل المذكور من الإشارات ما هذا لفظه :

هذه حجة ثالثة وهي أوضح من المذكورتين قبلها. وهي مبنية على قضية واضحة هي أنّ كل فاعل ليس له فعل إلّا بتوسط آلة فلا فعل له في شي‏ء لا يمكن أن يتوسط آلته بينه وبين ذلك الشي‏ء ، ويتفرع منه مقدمة هي كبرى هذه الحجة وهي قولنا : كل مدرك بآلة جسمانية فلا يمكنه أن يدرك ذاته ولا آلته ولا إدراكه فإنّ الآلة الجسمانية لا يمكن أن تتوسط بينه وبين هذه الأمور؛ وصغراها قولنا : والعاقلة مدركة لذاتها ، ولإدراكاتها ، ولجميع ما يظن أنّها آلاتها؛ والنتيجة قولنا : فليست العاقلة مدركة بآلة جسمانية. واعتراض الفاضل الفاضل الشارح على ذلك بتجويز تعلق المدركة الجسمانية بنفسها وبما عداها مندفع بما مر في النمط السادس من امتناع صدور الأفعال عن القوى الحالّة في الأجسام من غير توسط تلك الأجسام. والشيخ أنّما تمثّل بالقوى الحسّاسة التي لا يمكن لها أن تدرك أنفسها ، ولا آلاتها ولا إدراكاتها لإيضاح فساد الحكم على القوى الجسمانية المدركة بإدراك كل شي‏ء. انتهى كلامه في الشرح.

بيان : قول الشيخ : «ولم يكن له فعل في آلة». المراد من الفعل هاهنا الإدراك والتعقل. وقوله : «لأنّها لا آلات لها إلى آلاتها» أي لأنّ القوى الحسّاسة لا آلات لها تتوسط تلك الآلات بين القوى الحسّاسة وآلاتها وإدراكاتها. وممّا أفاد القطب في المحاكمات في بيان حاصل الحجة أنّ القوة العاقلة تدرك نفسها وإدراكاتها وآلاتها ، وكلّ قوة لا تدرك إلّا بالآلة لا تدرك نفسها ولا آلاتها لامتناع أن يتوسط الآلة بين الشي‏ء ونفسه ، وبين الشي‏ء وإدراكاته ، وبينه وبين الآلة. ويمكن أن توجه بقياس استثنايى فيقال : لو كانت القوّة العاقلة لا تدرك إلّا بالآلة لما عقلت نفسها ولا إدراكاتها ولا آلتها لكنها تعقل نفسها وإدراكاتها وجميع ما يظنّ به أنّه آلتها كالقلب والدماغ‏

١٩٥

فليست القوّة العاقلة مما لا تدرك إلّا بالآلة. وقوله : «لأنّها لا آلات لها إلى آلاتها» وإلّا لزم التسلسل في الآلات.

قول المحقق الشارح : «مندفع بما مرّ في النمط السادس» كما أنّ الشيخ بعد البحث عن تأثير المقارنات وتأثرها من النمط السادس قال في الفصل السادس والثلاثين منه المعنون بقوله : «تذنيب قد استبان أنّه ليست الأجسام ...» ما هذا لفظه :

وأنت إذا فكّرت مع نفسك علمت أنّ الأجسام أنّما تفعل بصورها ، والصور القائمة بالأجسام والتي هي كمالية لها أنّما تصدر عنها أفعالها بتوسط ما فيها قوامها إلخ.

وأقول : يعنى بالتي هي كمالية لها الأعراض والنفوس. أمّا الأعراض فالأمر فيها بين من كونها كمالات ثانية. وأمّا النفوس فلأنّ النفس كمال أوّل لجسم طبيعى آلى ذى حيوة بالقوّة كما تقدّم في العين الثانية. والمراد من صدور أفعالها عنها بتوسط ما فيها قوامها ، صدورها عن الأجسام من حيث أفعالها الآلية لا مطلق أفعالها كالتعقل وإدراك ذاتها وآلاتها وذلك لأنّ النفوس الإنسانية من المفارقات بل الحيوانية أيضا لها تجرّد برزخى. وأمّا في الأعراض فصدورها عنها بتوسط ما فيها قوامها مطلقا.

وقوله : «والشيخ أنّما تمثل ...» يعنى لما كان عدم إدراك القوى الحساسة أنفسها وآلاتها وإدراكاتها أمرا واضحا تمثل الشيخ بها لإيضاح فساد الحكم على القوى الجسمانية المدركة ، بأنّها مدركة كل شي‏ء؛ لا أن الشيخ أثبت مدّعاه بالتمثيل المنطقى حيث تمسّك بالقوى الحساسة ، وبالجملة أنّ التمسّك بها على سبيل التمثّل لا على سبيل التمثيل.

اعلم أنّ صاحب المعتبر وكذلك صاحب المباحث قد اعترضا على الحجة وأطالا في الاعتراض بلا طائل تحته. وصاحب الأسفار بعد تقرير الحجة على سياق ما في المباحث أجاب عن اعتراضه مع ما فيه من مزيد استبصار في تجرّد الخيال أيضا.

فنذكر ما في المباحث أوّلا ، ثمّ نتبعه بما في الأسفار ، وبعد ذلك نحكى تقرير ما في المعتبر ، ثمّ نهدى اليك جواب اعتراضه. قال في المباحث :

الدليل الثامن قالوا : النفس غنية في أفعالها عن المحلّ ، وكل ما كان غنيا في فعله عن ‏

١٩٦

محل يحلّه فهو في ذاته أيضا يكون غنيا عن محل يحلّه ، فالنفس غنية عن المحل.

أمّا بيان أنّ النفس غنية في فعلها عن المحلّ فوجوه ثلاثة :

الأوّل أنّها تدرك نفسها ، ومن المستحيل أن يكون بينها وبين ذاتها آلة فهي في إدراك ذاتها غنية عن الآلة.

الثانى أنّها تدرك إدراكها لنفسها وليس ذلك بآلة.

الثالث أنّها تدرك آلتها التي تدعى لها ، وليس بينها وبين آلتها آلة أخرى فثبت أنّ النفس غنية في فعلها عن الآلة والمحلّ ، وكل ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا يكون غنيا عن المحلّ لوجهين :

أحدهما أنّ القوى النفسانية لما كانت جسمانية ، وكانت محتاجة في ذاتها إلى محالّها لا جرم تعذر عليها إدراك ذواتها وإدراك إدراكاتها وإدراك آلتها فلو كانت القوّة العاقلة جسمانية لتعذر عليها ذلك.

وثانيهما أنّ مصدر الفعل هو الذات فلو كانت الذات متعلقة في قوامها ووجودها بذلك المحل كان الفعل صادرا عن تلك الجهة فيكون للجهة المتعلقة بذلك الفعل مدخل في ذلك الفعل فيكون الفعل بمشاركة ذلك المحلّ وقد فرض انّه ليس كذلك فظاهر أنّ النفس غنية عن المادة.

ولقائل أن يقول : لم قلتم أنّ القوّة العاقلة لمّا كانت وحدها هي المدركة لذاتها ، ولإدراكها لذاتها ، ولإدراكها لآلتها وجب أن لا تكون جسمانية فأمّا قولكم إنّ القوى الحساسة لمّا كانت جسمانية تعذر عليها ذلك فالقوّة العاقلة لو كانت جسمانية لتعذر عليها ذلك.

فنقول : لم قلتم إنّ تلك القوى أنّما تعذر عليها هذه الإدراكات لكونها جسمانية ، وهل هذا إلّا من باب التمثيلات التي بيّنوا فسادها في المنطق؟

وأمّا قولهم : ما لا يتوقف في اقتضائه لآثاره على المحل لا يتوقف في ذاته على المحل ، فنقول : أليس أنّ الصور والأعراض محتاجة إلى محالّها ، وليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرد ذواتها ثمّ لا يلزم من استقلالها باقتضاء ذلك الحكم استغناؤها في

١٩٧

ذواتها عن تلك المحال فعلمنا أنّه لا يلزم من كون الشي‏ء مستقلا باقتضاء حكم من الاحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحل. بل نقول : إنّ جميع الآثار الصادرة عن الأجسام ومباديها قوى وأعراض معدودة في تلك الأجسام وليس لمحال تلك القوى مدخل في اقتضاء تلك الآثار لأنّ محالّها أجسام والأجسام بما هي أجسام يستحيل أن يكون لها أثر في هذه الأحكام المخصوصة فعلمنا أنّ المستقل باقتضاء تلك الأحكام هي تلك الأعراض وحدها ، ثمّ لا يلزم من انفرادها باقتضاء تلك الأحكام استغناؤها عن محالّها فكذلك هاهنا. انتهى كلام الفخر.

وأقول : إنّه أجاد في تقرير الحجة. وأمّا قوله في الاعتراض : «وهل هذا إلّا من باب التمثيلات» فقد دريت آنفا أنّه من باب التمثّل لا التمثيل. وأمّا قوله : «ليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرّد ذواتها» فمراده أنّ الصور والأعراض مع احتياجها في ذواتها إلى محالّها ليست في فعلها محتاجة إليها بل صدور الفعل منها بمجرّد ذواتها ، وأنت قد دريت آنفا أيضا امتناع صدور الأفعال عن الأمور الحالة في الأجسام من غير توسط تلك الأجسام. وقد حان أن نذكر ما أفاده صاحب الأسفار في الحجة من تقريرها الأمتن ، واستنباطه التجريد الأعم ، وجوابه عن اعتراضات المباحث فهي ما يلى :

الحجة الثامنة أنّ النفس غنية في فعلها عن البدن ، وكل غنى في فعله عن المحلّ فهو غنىّ في ذاته عنه ، فالنفس غنيّة عن المحلّ. أمّا أنّها غنية في فعلها عنه فلوجوه ثلاثة :

أحدها أنّه يدرك ذاتها ، ومن المستحيل أن يكون بينها وبين ذاتها آلة ، فهي في إدراكها ذاتها غنية عن الآلة.

وثانيها أنّها تدرك إدراكها لنفسها وليس ذلك بآلة.

والثالث أنّها تدرك آلتها وليست بينها وبين آلتها آلة أخرى. فثبت أنّ النفس غنية في فعلها عن الآلة والمحل ، وكلّ ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا غنى عن المحلّ؛ وذلك لأن كون الشي‏ء فاعلا متقوّم بكونه موجودا ، فلو كان الوجود متقوما بالمحل لكان الفعل متقوما أيضا به لأنّ الإيجاد فرع الوجود والفعل بعد الذات ، فحاجة الذات والوجود إلى شي‏ء يستلزم حاجة الإيجاد والفعل إليه من غير عكس. ولهذا لا يفعل‏

١٩٨

شي‏ء من القوى الجسمانية إلّا بمشاركة الجسم. ولأجل كون الحواس وغيرها من القوى الجسمانية الوجود لا تدرك ذاتها ولا إدراكها لذاتها ولا إدراكها لآلتها فلو كانت النفس جسمانية لتعذر عليها ذلك وقد ثبت أنّها ليس كذلك فثبت أنّها غير جرمية.

أقول : هذا البرهان دال على تجرّد النفس عن البدن سواء كانت قوّة عاقلة بالفعل ، أو كانت متخيلة؛ إذ للخيال أيضا أن يتخيّل ذاتها وآلتها ويفعل فعلها من غير مشاركة البدن؛ ولهذا يتخيل أشياء خارجة عن هذا العالم الطبيعى ممّا لا يكون بينها وبينه علاقة وضعية بالقرب والبعد. فعلم أنّ فعلها ليس بآلة بدنية وإن كان محتاجا إلى البدن في الابتداء كحاجة العقل إليه أيضا من جهة الإعداد وتخصيص الاستعداد.

واعترض صاحب المباحث على مقدمة هذا البرهان بوجهين : الأوّل بأنّ الصور والأعراض محتاجة إلى محالّها ، وليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرّد ذواتها ، ثمّ لا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في ذاتها عن تلك المحال.

الثانى أنّ جميع الآثار الصادرة من الأجسام مباديها قوى وأعراض في تلك الأجسام ، وليس لمحال تلك القوى مدخل في اقتضائها تلك الآثار لأنّ محالّها أجسام ، والأجسام بما هي أجسام يستحيل أن يكون لها أثر في هذه الأحكام المخصوصة فعلمنا أنّ المستقل في اقتضاء تلك الأحكام هي تلك الأعراض والقوى الحالّة وحدها ، ثمّ لا يلزم من استقلالها وانفرادها في تلك الأحكام استغناؤها عن محالّها في الوجود.

أقول في الجواب : أما عن الأوّل فإنّ الاحتياج والإمكان وما أشبهها أمور عقلية وأحكام ذهنية تعرض الماهيات بحسب ملاحظة الذهن إيّاها من حيث هي هى.

والكلام في الأفعال والأحكام الخارجية والصور الحالّة والأعراض ، حاجتها إلى المواد والموضوعات ليست أمرا زائدا على وجوداتها ، ووجوداتها متقوّمة بالمحلّ ، فكيف تكون مستغنية عن المحل بنفسه ما به الحاجة إلى المحلّ أعنى الوجود الحلولى؟

وأمّا عن الثاني فإنّا لا نسلّم أنّ محالّ القوى والأعراض لا دخل لها في التأثير ، كيف والتأثير يحتاج إلى وضع خاصّ ونسبته معينة للمؤثر بالقياس إلى المتأثر ، والوضع

١٩٩

لا يقوم إلّا بالجسم. والذي يذكر في الطبيعيات أنّ الجسم بما هو جسم لا يكون سببا لفعل خاص كحرارة أو برودة أو شكل أو حركة وإلّا لكان جميع الأجسام متشاركة فيه ، لا ينافي هذا الحكم إذ المراد بنفي السببيّة عن الأجسام نفى سببيّتها بالاستقلال لا نفى سببيتها مطلقا وإن كانت بالجزئية والدخول حتى لو فرض الحرارة مجرّدة عن الأجسام لكانت فاعلة لهذه السخونة؛ والسواد لو فرض تجرّده عن الأجسام لكانت أيضا قابضا للبصر ، كيف والمسألة أعنى كون تأثير القوى الحالّة في محلّ بمشاركته برهانية قطعيّة لا يتطرق في مقدّماتها شك أصلا.

انتهى كلام صاحب الأسفار. قوله : «هذا البرهان دال على تجرّد النفس عن البدن» يعنى عن البدن الطبيعى ، لا عن البدن مطلقا وذلك لما ثبت بالبراهين القاطعة من أنّ النفس لا تخلو عن أبدان متفاوتة بالكمال والنقص بحسب نشئاتها وهي لا تنافي تجرّدها. وقوله : «ولهذا يتخيل أشياء خارجة عن هذا العالم الطبيعى» وهي كجبل من ياقوت وبحر من زيبق ونحوها. وكلامه هذا إشارة إلى الحجة الأولى التي عوّل عليها أفلاطون الإلهي على تجرّد النفس وقد تقدّم نقلها وبيانها فتذكّر.

وقوله : «واعترض صاحب المباحث على مقدمة هذا البرهان» أى على قوله وكل ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا غنى عن المحلّ.

وقوله : «من استقلالها بهذا الحكم» المراد من الحكم هذا ، هو الاحتياج إلى المحلّ.

وأمّا ما في المعتبر من تقرير الحجة والاعتراض عليها ، فالتقرير موجز مفيد ، والاعتراض مدفوع بما يأتى من وجه الدفع. قال في التقرير :

احتجوا على أنّ النفس من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم ... وبأنّ القوى الجسمانية المذكورة لا تدرك ذواتها وآلاتها ، والنفس الناطقة التي هي عقل الإنسان ، تعقل ذاتها ، والبدن الذي هو آلتها ، وسائر أجزائه وأعضائه التي هي آلات خاصّة لكل صنف من أفعالها.

ثمّ أخذ في الاعتراض عليها بقوله :

وأمّا القائلة بأنّ القوى الجسمانية لا تدرك ذواتها وآلاتها ، فجوابها أنّ هذا الإدراك‏

٢٠٠