الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

المعقولة» إلى كمالاتها الذاتية الباقية معها ببقائها التي بها استدل على امتناع انطباعها في الجسم. وبقوله «بل انّما هي ذات آلة بالجسم» إلى كيفية ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها وكمالاتها المذكورة إليه. ثمّ جعل قوله «فاستحالة الجسم عن كونها آلة لها لا تضرّ جوهرها» ، تاليا لما وضعه بعد لفظة «لمّا». وأتمّ مقصوده بقوله «بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية» وذلك لوجوب بقاء المعلول مع علته التامّة. فهذا برهان لمى هو عمدة براهين هذا الباب على ما ذكره الشيخ أبو البركات البغدادى.

واعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة مع الجسم هاهنا إلى الجسم ليس بمناقض لإسناده حفظ المزاج الذي هو سبب العلاقة في النمط الثالث إلى النفس ، لأنّ النفس كما كانت حافظة لها بالذات فالجسم حافظ أيضا ولكن بالعرض. وذلك لأنّ فساد المزاج المقتضى لقطع العلاقة إنّما يتطرّق من جهة الجسم وعوارضه ولذلك أسند استحالة البدن عن كونه آلة للنفس إلى الجسم ، وعدم تطرق الفساد إلى الشي‏ء ممّا من شأنه أن يتطرق منه الفساد حفظ ما لذلك الشي‏ء لكنه حفظ بالعرض ، ثمّ إنّ الشيخ أكّد هذا المطلوب بما أورده بعد هذا الفصل. انتهى.

هذا تمام كلام المحقق الطوسى في شرح ذلك الفصل من الإشارات.

فأقول : قوله : «على بقائها بعد الموت كذلك» يعنى بقاء النفس الناطقة بعد الموت مع كمالاتها الذاتية. والكمالات الذاتية نحو شعورها بذاتها فانّها كغيرها من الجواهر المجرّدة عقل وعاقل ومعقول وهذا لا كلام فيه. ولكن عمدة النظر في بقائها مع كمالاتها المكسوبة بل مع ملكاتها المكتسبة أيضا كما قد أشار المحقق الشارح في صدر شرح النمط السابع إلى أنّ المسألة الأولى في وجوب بقاء النفوس الإنسانية بعد تجرّدها عن الأبدان مع ما تقرر فيها من المعقولات؛ والشيخ ينكر بعد هذه المسألة اتحاد العاقل بمعقولاته فيسأل عن كيفية تقرر تلك الكمالات والملكات فيها وما بيان ذلك والشيخ لم يبيّن ذلك في الإشارات بل في الشفاء أيضا. ولا محيص في بيان ذلك وفي الجواب عن السؤال إلّا بذلك الاتحاد ، كما قد استبصر الشيخ آخر الأمر وأقرّبه‏

١٤١

بنور البرهان فراجع في ذلك كله كتابنا الفارسى دروس اتحاد عاقل بمعقول سيما المدرس السادس عشر منه في بيان دليل الشيخ على الاتحاد.

قوله : «أشار بلفظة لمّا إلى ما ثبت في النمط الثالث ...» أقول : قد تقدّم في مفتتح كلامنا في بيان البرهان الأوّل من الشفاء أنّه ثبت في الفصل السادس عشر منه أنّ كل جوهر عاقل منها النفس الناطقة ليس بذى وضع. فابتدأ الشيخ في الفصل المذكور بقوله : «إشارة ، إن اشتهيت أن يتضح لك أنّ المعقول لا يرتسم في منقسم ولا في ذى وضع فاسمع إلخ ، فأثبت بعدم انقسام المعقول عدم انقسام عاقله فاستنتج أنّ جوهر النفس الناطقة من الجواهر المفارقة. ثمّ اتبعه الفصلين بعده في إزالة بعض الشبه حول المسألة ، وبعد ذلك أخذ في الفصل التاسع عشر منه في بيان أنّ كل عاقل كجوهر النفس الناطقة عقل ومعقول ، وكذلك أنّ كل معقول قائم بذاته فهو عاقل. فالفصل الأوّل من سابع الإشارات ناظر إلى تلك الحجة الباهرة في الفصل السادس عشر من ثالث الإشارات على كون النفس جوهرا مفارقا فالحجج على ذلك في النمط السابع خمس لا أربع.

قوله : «بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية» ، وهذا أحد الوجوه على تجرّد النفس الناطقة أيضا. وذلك لأنّها آخر مراتب الموجودات العقلية كما ذهب إليه المشّاء فعليك في ذلك بآخر الفصل الرابع من تاسعة إلهيات الشفاء (ج ٢ ، ص ٢٦٩ ، ط ١ ، ايران) ، والفصل الثالث من خامسة نفس الشفاء (ج ١ ، ص ٣٥٢) ، وآخر الفصل الأخير من النمط السادس من الإشارات؛ فحيث إنّ جوهر النفس الناطقة معلول العقل بلا واسطة مادية بل حادث مع البدن فهو عقل. وعلى هذا المسلك سلك القاضى سعيد القمى في آخر الفصل الثامن من القسم الثانى من كتابه بالفارسية الموسوم بـ كليد بهشت أي مفتاح الجنة (ص ٨٧ ، ط ١ ، ايران).

قوله : «واعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة إلخ» راجع في ذلك شرح العين الخامسة عشرة من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في جامع أجزاء البدن وحافظها.

١٤٢

ى) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

هذا هو البرهان الثانى من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادة جسمانية.

ثمّ قال الشيخ :

ولنا أن نبرهن على هذا ببرهان آخر فنقول : انّ القوّة العقلية هو ذا تجرّد المعقولات عن الكم المحدود والأين والوضع وسائر ما قيل من قبل ، فيجب أن ننظر في ذات هذه الصورة المجرّدة عن الوضع كيف هي مجرّدة عنه؟ أبا لقياس إلى الشي‏ء المأخوذ منه ، أو بالقياس إلى الشي‏ء الآخذ؛ أعنى أنّ وجود هذه الحقيقة المعقولة المتجرّدة عن الوضع هل هو في الوجود الخارجى ، أو في الوجود المتصور في الجوهر العاقل؟ ومحال أن نقول : انّها كذلك في الوجود الخارجى؛ فبقى أن نقول : انّها انّما هي مفارقة للوضع والأين عند وجودها في العقل ، فاذا وجدت في العقل لم تكن ذات وضع ، وبحيث تقع إليها إشارة أو تجزّ وانقسام أو شي‏ء ممّا أشبه هذا المعنى فلا يمكن أن تكون في جسم.

أقول : الدليل الثانى المذكور من الشفاء قد أتى به الشيخ في النجاة أيضا (ص ١٧٧ ، ط مصر) وفي الفصل الخامس من رسالته في النفس وبقائها ومعادها (ص ٨٤ ، ط مصر بتصحيح الأهواني ، وص ١٢٩ من مجموعة الرسائل الفلسفية ، ط استانبول) بتفاوت يسير في تقرير البرهان لا يوجب مزيد إيضاح فيه للنقل هاهنا مرة أخرى. ففي النجاة : وبحيث تقع إليها إشارة تجزؤ ، أو انقسام أو شي‏ء مما اشبه هذا المعنى. وفي رسالة النفس : بحيث تقع إليها إشارة تجزّؤ ، أي انقسام أو شي‏ء مما اشبه هذا المعنى. وعنوان‏

١٤٣

هذا البرهان في النجاة هكذا : «برهان آخر في المبحث المذكور». ثمّ اقتفاه غير واحد من الأكابر فقد عبّروا عنه في الصحف الأخرى بعد الشفاء بوجوه عديدة وكلّها يرجع إلى ما في الشفا : منها ما في حكمة العين للكاتبى وهو الدليل الثانى فيه أيضا ، قال :

الثانى أنّ المعقولات الكلية مجرّدة عن المادة ، فالقوّة العاقلة لها أيضا كذلك وإلّا لكان لها وضع ومقدار مخصوصان فالحال فيها مقترن بعوارض مخصوصة فلا يكون مطابقا للأفراد المختلفة بالصغر والكبر فلا يكون كليا (ص ١٤٢ ، ط ايران ، ١٣٣٧ هـ ش)

وقال العلّامة الحلّي في شرحه عليه (ايضاح المقاصد) :

هذا برهان ثان على تجرّد النفس الناطقة. وتقريره انّ المعقولات الكلية من حيث هي هي غير مخصصة بشخص معين ، مجرّدة عن المادة ، فانّها لو كانت مخصّصة بمادة لم يصدق على غير تلك المادة فلا يكون كلية ، هذا خلف؛ وإذا ثبت تجرّد الصورة الكلية ثبت تجرّد القوّة العاقلة ، لأنّها لو كانت ذات وضع ومقدار مخصوصين كان الحال فيه مخصصا بذلك الوضع والمقدار وذلك ينافي كلّيتها لأنّها إن لم تطابق غيرها لم تكن كلية ، وإن طابقت غيرها لزم مساوات الشي‏ء الواحد للمختلفين أعنى الأصغر والأكبر ، هذا خلف.

ومنها ما في معارج القدس في مدارج معرفة النفس للغزالى (ص ٢٨ ، ط مصر) وهو البرهان الثانى فيه أيضا. وحرّفت فيه كلمة : «هو ذا تجرّد المعقولات» بعبارة «هو ذات تجرّد المعقولات». كما حرّفت في كتاب المبدأ والمعاد للمولى صدرا أيضا هكذا «انّ القوّة العاقلة من الإنسان شي‏ء ذو تجرّد المعقولات» (ص ٢٠٧ ، ط ١ ، ايران).

ومنها ما في الحكمة المنظومة ، وهو الدليل الثانى فيه أيضا ، قال :

كذا تجرّد الذوات المرسلة. وشرحه بقوله :

والثانى : قولنا كذا أي كذا يرى تجرّد النفس الناطقة ، تجرّد الذوات المرسلة أي الطبائع الكلية العقلية. بيانه : أنّ النفس تعقل الصور العقلية المشتركة بين كثيرين ، وكل مشترك بين كثيرين مجرّد من المادة ولواحقها حتى يصدق عليها ، ومعلوم انّ هذه الصور المجرّدة موجودة في النفس كما مر في مبحث الوجود الذهنى ، فلا محالة

١٤٤

ما تقوم هي به مجرّد وإلّا لكان لها مقدار معيّن ووضع معين وأين معين بتبعيته فلا تكون مشتركة بين كثيرين هذا خلف. فهو جوهر مجرّد وهو المطلوب.

ثمّ قال :

والقرينة على أنّ المراد بالذوات الطبائع المعقولة الإرسال لأنّه الكلية والإطلاق وهما أكثر استعمالا في المفاهيم من غيرها.

ويمكن جعل الذوات المرسلة أعم منها على مذهب صدر المتألهين قدّس سرّه من أنّ إدراك الكليّات مشاهدة النفس أرباب الأنواع بالإضافة الإشراقية ولكن عن بعد ـ كما نقل الشيخ في إلهيات الشفاء عن قوم انّهم جعلوا لكل واحد من الأمور الطبيعية صورة مفارقة هي المعقولة وإيّاها يتلقى العقل إذ كان المعقول أمرا لا يفسد وكل محسوس من هذه فهو فاسد ، وجعلوا العلوم والبراهين تنحو نحو هذه وإيّاها تتناول ، وكان المعروف بأفلاطون ومعلمه سقراط يفرطان في هذا الرأى؛ انتهى ـ والحق أنّها عنواناتها وعكوسها في القلب وأنوار مشرقة من السماوات العلى التي هي عالم الابداع ، ولا سيما العنوانات المطابقة التي هي العلم بها على ما هي عليه في نفس الأمر. انتهى.

فقول الحكيم السبزواري في تعميم البرهان حيث جعله شاملا على القسمين معا بيّن لا غبار عليه ، وقد سلك أوّلا على مسلك الأوائل في المعنى الكلى المعقول ، ثمّ ارتقى فقال : «ويمكن جعل الذوات المرسلة أعم منها ... إلخ». ونعم ما فعل وتقدّم كلامنا في ذلك في بيان البرهان الأوّل من الشفاء أيضا. والعجب انّه مع هذا التصريح بالتعميم في المنظومة لم يتعرض به في تعليقاته على الأسفار.

مذهب صدر المتألهين في الادراك يطلب في الفصل الثالث والثلاثين من المرحلة السادسة من الأسفار في العلّة والمعلول (ج ١ ، ص ٢٠٠ ، ط ١) ونقل الشيخ في إلهيات الشفاء كلام أفلاطون وسقراط ، فراجع الفصل الثانى من المقالة السابعة (ج ٢ ، ص ٥٥٧ ، ط ١).

ومنهما ما في أسرار الحكم لصاحب الحكمة المنظومة وهو البرهان الأوّل فيه ،

١٤٥

المترجم بالفارسية ، وقد أجاد في ترجمته وأفاد بما هو المراد (ص ٢٣٩ ، بتصحيح الأستاذ العلامة الشعرانى وتعليقاته عليه).

ومنها ما في هياكل النور للسهروردى ، وهو الطريق الثالث من طرقه في تجرّد النفس تجردا تامّا عقليا ، قال :

لا تدرك أنت شيئا إلّا بحصول صورته عندك فانّه يلزم أن يكون ما عندك من الشي‏ء الذي أدركته مطابقا له وإلّا لم تكن أدركته كما هو وعقلته معانى يشترك فيها كثيرون فانّك عقلتها على وجه يستوى نسبتها إلى الفيل والذبابة فصورتها عندك غير ذات مقدار لأنّها تطابق الصغير والكبير ، فمحلّها منك أيضا غير متقدر وهو نفسك الناطقة لأنّ ما لا يتقدر لا يحل في جسم متقدر. فنفسك غير جسم ولا جسمانية ولا يشار إليها لتبرّيها عن الجهة. وهي أحدية صمدية لا تقسمها الأوهام أصلا. ولما علمت أنّ الحائط لا يقال له أعمى ولا بصير ، فإنّ العمى لا يقال إلّا على من يصحّ أن يبصر ، فالبارى والنفس الناطقة وغيرهما مما سيأتي ذكره ليست جسما ولا جسمانية ، فهي لا داخلة العالم ولا خارجته ، ولا متصلة ولا منفصلة ، وكل هذه من عوارض الأجسام يتنزّه عنها ما ليس بجسم. فالنفس الناطقة جوهر لا يتصور أن تقع عليه الإشارة الحسيّة من شأنه أن يدبر الجسم ، أو يعقل ذاته والأشياء الخارجة عنه بصورها.

أقول : نقلنا عبارة هذا الدليل على تجرّد النفس من نسخة مخطوطة من شرح الدوانى على هياكل النور للسهروردى وما في مطبوعة مصر تخالف بعض عباراته ففيها :

... فإنّه يلزم أن يكون ما أدركته مطابقا له ... كما هو ثمّ انك تعقل معانى كثيرة .... الأوهام ولما علمت ... ليست أجساما ولا جسمانيين ... ولا منفصلة إذ كل هذه ... ويتنزه عنها ... الجسم وأن يعقل إلخ.

والدليل أيضا مترجم في هياكل النور بالفارسية (ص ٨٦ ـ ٨٧ ، ط ايران) :

بدان كه تو چون چيزى بدانى كه ندانسته باشى ، دانستن تو آن باشد كه صورت آن چيز كه بدانستى در ذهن تو حاصل شود إلخ.

وخلاصته : أنّ الصور العلمية العقلية مرسلات كلية ومطلقات نورية فوعاؤها المتّهب‏

١٤٦

كوعائها الواهب أيضا كذلك فالعلم ووعائه مطلقا من وراء عالم المادة ، وكثير من الأدلّة في تجرّد النفس ناظر إلى سنخية بين وعاء العلم والعلم كما ستطلع عليها.

والدليل مبتن على ثلاث مقدمات :

إحداهما : أنّ العلم والتعقل انّما هو بحصول صورة المعقول عند العاقل؛

وثانيتها : انّ الصور المعقولة غير ذات مقدار؛

وثالثتها : أنّ ما لا يتقدر أي المجرّد عن المقدار لا يحل في متقدر أي في ذى مقدار فأنتجت أنّ الجوهر العاقل لهذه الصور المجرّدة أي النفس الناطقة الإنسانية مجرّد عن الجسم وأحكامه فهو موجود نورى بسيط من فوق عالم الطبيعة وورائها.

والحق أنّ حصول الصور المرسلة النورية للنفس أشمخ من نحو التعبير بالحلول والمحل.

قوله : «وهي أحدية صمدية لا تقسمها الأوهام» ، هذا الحكم الحكيم لا ينافي قولهم بأنّ كل ممكن زوج تركيبى فافهم.

ثمّ انّ الصمد ـ كما فسرّه السنة ترجمان الوحى ـ هو الذي لا جوف له ، وفي مأثور آخر : الصمد الذي ليس بجسم ولا جوف له. ـ وحققنا البحث عن الصمد مع ذكر الروايات في تفسيره عن الجوامع الروائية في رسالتنا الموسومة بـ أنّه الحق (ص ٢٨٢ ـ ٢٨٤ ، من ١١ رسالة) ـ والغرض أنّ إطلاق الصمد على النفس الناطقة الكاملة فله وجه كما أطلق على الملائكة كما في الخبر «أنّ اللّه تعالى خلق الملائكة صمدا ليس لهم أجواف». وعلى هذا الوجه الوجيه قد حقّقنا في موضعه أنّ اللّه سبحانه صمد لا مدخل فيه ولا جوف له لأنّه فعلية مطلقة لا يخلو منه شي‏ء ولا يشذ منه مثقال عشر عشر اعشار ذرة فلا يتصور له ثان ، وكذا كتابه القرآن الفرقان صمد فلا جوف له حتى يتمه ويكمله كلام آخر أو كتاب آخر ، وكذا نبيّه الخاتم في إنسانيته ونبوّته صمد فالقرآن مصمت ليس بأجوف وكذا الخاتم ليس في نبوته بأجوف حتى يتمّ ويكمل بغيره فكل واحد من الثلاثة لا يتصوّر له ثان فانّه لا ثانى بعد الصمد فافهم.

وأمّا النفوس الناطقة الناقصة من حيث إنّها نفوس فليست بصمد ، وأمّا الإنسان‏

١٤٧

الكلى الذي هو رب النوع الإنسان فهو من المفارقات النورية والملائكة المدبرة فهو أيضا صمد ليس له جوف إلّا أنّ سياق البحث لا يوافق حمل العبارة على الوجهين الأخيرين فتدبر.

ومنها ما في أسفار صدر المتألهين وهو الحجة الثالثة على تجرّد النفس ، وسيأتي نقل ما أفاده بعد الإتيان باعتراض الكاتبى الآتي على هذا البرهان وما نذكره حوله فارتقب.

اعترض الكاتبى القزوينى في حكمة العين على هذا الدليل بقوله :

وأمّا الثاني فلأنّه لا يلزم من عدم مطابقة الكلى لما تحته من الأفراد بحسب المقدار والعوارض ، عدم مطابقته إيّاها أصلا ، فيجوز أن يطابقها بحسب الماهية على معنى أنّ المفهوم الكلّى المنتزع من كل فرد من أفراده هو مفهوم ذلك الكلّى.

وقال العلّامة الحلّي في شرحه عليها :

هذا الاعتراض على الوجه الثانى ، وتقريره أن نقول : لم لا يجوز أن يكون الكلى حالّا في الجسم المتعقل وتقترن بعوارض مخصوصة من مقدار وغيره ، ويكون مطابقا للجزئيات المندرجة تحته في الحقيقة ، وإن لم يطابقها في المقدار فإنّه لا يلزم مطابقة المعقول لأفراده في كل وجه ، وكذا لا يطابقها في العوارض ، ويكون معنى المطابقة أنّ المفهوم الكلّى المنتزع من كل فرد فرد هو المفهوم الكلى الحاصل في النفس.

ثمّ قال العلامة :

وهذا الاعتراض ليس بجيد ، فإنّ الصورة العقلية إذا كانت حالّة في المادّة تخصّصت بوضع مخصوصة وعوارض مشخصة لها ، بحيث يخرج عن الكلّية أصلا فلا يصدق عليها الكلّية فإن أخذت في تلك الصورة صورة أخرى مجرّدة عن الوضع والمشخّصات كما هو المفهوم من كلام المصنف ، وجعلت تلك الصورة الثانية مطابقة للمفهوم المنتزع من تلك الأفراد وجعلت الصورة العقلية كلية باعتبار اشتمالها على الصورة الثانية ، لزم المحال من وجوه :

أحدها تجويز كون كل شخص كليا بهذا الاعتبار وذلك خلف.

١٤٨

الثانى : أنّ الصورة الثانية هي المطلوب إثباتها وبيان تجرّدها فينتقل الكلام إليها.

الثالث : أنّ كلّية الصورة العقلية ليس باعتبار صورة أخرى منتزعة عنها بل باعتبارها في نفسها ومطابقتها لأىّ فرد فرد سبق إلى العقل بحيث لا يكون للوارد من الأفراد تأثير في زيادة ذلك المعقول أو نقصانه. بل الأولى أن يقال : كما أنّ الصورة العقلية الكليّة إذا حلّت في نفس جزئية تخصّصت بها ولا يضرّ ذلك كلّيتها حيث إنّ التخصيص عرض لها باعتبار الحلول لا باعتبار الأفراد المندرجة تحتها فانّ الأفراد بعينها تلك الأفراد ، إذ لم يخرج بعضها عن الاندراج باعتبار ذلك المخصّص كذلك إذا كانت حالّة في مادة مخصوصة. انتهى كلام العلامة.

وأقول : يعنى بالجسم المتعقل ، النفس الناطقة. ولا يخفى عليك أنّ التعقل لو كان للجسميّة المشتركة لوجب أن يكون كل جسم من حيث هو جسم عاقلا متعقلا وهو زهوق بالضرورة ، إلّا أن يدّعى أنّ النفس جسم مخصوص يمتازه عن غيره بتلك الخصوصية ويصحّ له التعقل ، وهو كما ترى. نعم يجوز إطلاق الجسم بمعنى المتحقق بذاته والمتقرر القائم بنفسه على النفس وما فوقها كقولهم تجسم الأعمال والنيات وفي النظم الفارسي :

دگرباره به وفق عالم خاص

شود أعمال تو أجسام واشخاص

‏والجسم بهذا المعنى هو الجسم الدهرى ، وكذلك التجسم أعنى تجسم الأعمال والنيّات هو التجسم الدهرى. والدهر روح الزمان لا تناله أحكام الزمان والزمانى فانّها متصرمة زائلة بائدة ، والدهر باق ببقائه الأبدى بلا تصرّم وزوال فافهم. والجسم بهذا المعنى هو فوق ما هو المصطلح في الكتب الفلسفية وأعم منه ، ولا يعنيه الكاتبى في المقام بلا كلام.

ثمّ إنّ الصورة المدركة إن كانت جزئية كصورة شجرة شخصية ، لا يمتنع أن يكون لتلك الصورة الشخصية أفراد كثيرة في الخارج. فهذه الصورة كالكلّى لا يمتنع فرض صدقها على كثيرين إلّا أن يدّعى بأنّ الأين والمتى وأترابهما من المشخصات أيضا. وسيأتي في العين الثالثة والثلاثين أنّ التجريد عن العوارض المقارنة للماهية ليس من‏

١٤٩

شرائط معقولية تلك الماهية ، وذلك لأنّ التجريد في الحقيقة هو الترفيع أي ترفيع الوجود الجسمانى إلى الوجود العقلانى؛ وكذا في العين السابعة والثلاثين أنّ كل محسوس فهو معقول في الحقيقة ، وإن وقع الاصطلاح على تسميته جزئيا. وجملة الأمر في الصورة المجرّدة أنّ التجريد عن العوارض المقارنة للماهية ليس من شرائط معقولية تلك الماهية إذ للعقل أن يتصور ماهية الإنسان مثلا مع جميع عوارضه وصفاته ونعوته من كمّه وكيفه وأينه ووضعه ومتاه وكذا بشكله وأعضائه وجوارحه ، كل ذلك على الوجه العقلى الكلّى.

قول الكاتبى : «وإن لم يطابقها في المقدار إلخ» أقول : الصورة المجرّدة البرزخية في النفس بل لدى النفس القائمة بها أعنى بها الصور الخيالية ، لها تجرّد غير تام فليس تجرّدها نحو التجرّد التام العقلى ، ولها مقدار وإن لم يكن مقدارها ماديا؛ والنفس بعد تجريد الصورة عن المادة وجعلها مجرّدا خياليا مقداريا يجرّده في مرتبة أخرى أشرف وأتم من الأولى تجرّدا تاما عقليا ـ هذا لو قلنا في الصورة العلمية بتجريد النفس وانتزاعها ، وأمّا إن قلنا بإنشائها إيّاها فالأمر أدقّ من نحو هذه المباحث ، والجواب عن الاعتراض كان على وجه أرفع وأشرف ـ كيف كان والمحقّق أنّ هذا المجرّد المعقول المجرّد عن المقدار الخيالي صادق على كل فرد من أفراده الخارجية؛ فإن أراد الكاتبى من صدق المقارن بالمقدار على أفراده الخارجي هذا المعنى فلا نزاع فيه لأنّ الأمر في تقرر تلك الصورة المعقولة في النفس ، ولكنّه أراد حلول الصورة العقلية الكلية في الجسم المادّي ، ولا يخفى عليك أنّ تلك الصورة حينئذ ليست بكلّية لأنّها تخصّصت بوضع خاص وعوارض مشخصة مادّية. لست أقول إنّ الصورة الكلّية لا تصير متخصّصة بخصوصيات ولكنّها لو تخصّصت بألف خصوصية من سنخها لا تخرجها عن الكلّية ، بل انّما الكلام في تخصّص الصورة المادية الممنوّة بالوضع الخاص والعوارض المشخصة الماديّة فانّها تمنع عن الكلية ولا تقارنها ولا تجمع معها فتبصّر.

وبالجملة أنّ حلول الصورة العقلية في المادة التجرّمية محال رأسا ، والتجرّد لا يجامع التجرّم أصلا ، وأمّا انتزاع الصورة العقلية عن الصورة الجرمية فأمر آخر ،

١٥٠

وانّما ننقل الكلام في هذه الصورة العقلية ونحو حصولها للنفس. وهذه الصورة بذاتها مطابقة لأفرادها لا بصورة أخرى منتزعة عنها.

وأمّا ما قال الشارح العلّامة : «بل الأولى أن يقال كما أنّ الصورة العقلية الكلّية ... إلخ» فهذا إشكال صعب الانحلال حرره صاحب الأسفار في الحجة الثالثة من كتاب النفس على تجردها ، ثمّ أجاب عنه بتحقيقه العرشى ، ولنا حول كلماته السامية في هذه الحجة تعليقات عديدة فالصواب أن نذكر الحجة بقلمه الشريف ، ثمّ ما تيسّر لنا حولها ممّا أفاض علينا رب (ن وَالْقَلَمِ)‏ قال :

الحجة الثالثة أنّ نفوسنا يمكنها أن تدرك الإنسان الكلى الذي يكون مشتركا بين الأشخاص الإنسانية كلّها ، ولا محالة يكون ذلك المعقول مجرّدا عن وضع معيّن وشكل معيّن وإلّا لما كان مشتركا بين الأشخاص ذوات الأوضاع المختلفة ، وظاهر أنّ هذه الصورة المجرّدة أمر موجود ، وقد ثبت أنّ الكليات لا وجود لها في الخارج فوجودها في الذهن ، فمحلّها إمّا أن يكون جسما أو لا يكون ، والأوّل محال وإلّا لكان له كمّ معيّن ووضع معيّن بتبعية محلّه ، وحينئذ يخرج عن كونه مجرّدا وهو محال ، فإذن محلّ تلك الصورة ليس جسما فهو إذن جوهر مجرّد.

ولقائل أن يقول : لصورة الكلية المعقولة من الإنسان هل لها وجود أم لا؟ فإن لم يكن لها وجود فكيف يمكن أن يقال إنّ محلّها يجب أن يكون كذا؟ وإن كان لها وجود فلا محالة هي صورة شخصية حالّة في نفس إنسانية شخصية لاستحالة أن يوجد المطلقات في الأعيان وهي من حيث إنّها صورة شخصية قائمة بنفس شخصية غير مشترك فيها بين الأشخاص : أمّا أولا فلأنّ الأمر الشخصى لا يكون مشتركا فيه؛ وأمّا ثانيا فلأنّ الصورة عرض قائم بالنفس ، والأشخاص جواهر مستقلّة بذواتها ، فكيف يمكن أن يقال إنّ حقيقة الجواهر القائمة بذاتها عرض قائم بالغير؟ فإن قالوا : إنّ المعنيّ بكون تلك الصورة كلّية أنّ أيّ شخص من الأشخاص الإنسانية سبق إلى النفس كان تأثيره في النفس ذلك التأثير ، ولو إنّ السابق إليها هو الفرس لما كان أثره فيها ذلك الأثر بل أثر آخر.

١٥١

فنقول : إذا كان المعنيّ بكون الصورة كلية ذلك فلم لا يجوز أن يحصل هذه الصورة على هذا الوجه في محلّ جسمانىّ فيرتسم مثلا في الدماغ من مشاهدة إنسان معين صورة بحيث لو كان المرئى بدل ذلك الشخص أيّ إنسان شئت لكانت الصورة الحاصلة منه في الدماغ تلك الصورة؟

فإن قالوا : إنّ تلك الصورة لو حصلت في الجسم لكان لها بسبب الجسم مقدار معيّن وشكل معيّن ، وذلك يمنع من كونها كلية.

قلنا : وكذلك الصورة الحاصلة في نفس الشخص تكون صورة شخصيّة وتكون عرضا قائما بمحل معيّن ، وذلك يمنع من كونها كلية. فإن كان ما يحصل للصورة بسبب حلولها في الجسم من الشكل والمقدار بالعرض مانعا من كونها كلّية ، فكذلك ما يحصل للصورة بسبب حلولها في النفس من الوحدة الشخصيّة والعرضية وجب أن يكون مانعا من الكلّية. وإن أمكن أن يؤخذ الصورة القائمة بالنفس باعتبار آخر حتى تصير كلّية بذلك الاعتبار ، وإن كان اعتبار وحدتها وشخصيتها وحلولها في النفس الشخصية مانعا من كون الصورة الكلية ، جاز أيضا أن يؤخذ الصورة القائمة بمادة جسمانية كالدماغ وغيره باعتبار يكون هي بذلك الاعتبار كلية ، وإن كان باعتبار مقدارها وشكلها ووضعها جزئية.

وبالجملة فالصورة سواء كانت في النفس أو في الجسم فهي لا يكون مشتركا فيها من كل الوجوه لأنّ وحدتها الشخصية مانعة من العموم والكلّية ، ثمّ إنّها مع ذلك يكون مشتركا فيها باعتبار آخر.

أقول : هذا إشكال صعب الانحلال ، مذكور في مبحث الماهيات في العلم الكلّي ومباحث الكلّيات في علم الميزان ، وقد تفصّينا عنه بأنّ مناط الكلية والاشتراك بين كثيرين هو نحو الوجود العقلي. فالصورة وإن كانت واحدة معينة ذات هوية شخصية لكن الهوية العقلية والتعيّن الذهنى والتشخص العقلى لا ينافي كون الصورة متساوى النسبة إلى كثيرين ولا يمنع التشخص العقلى الكلية ، وانّما المانع عن العموم والاشتراك هو الوجود المادّي والتشخص الجسماني الذي يلزمه وضع خاصّ وأين‏

١٥٢

خاص ومقدار خاص فتختلف نسبة هذا الشخص إلى غيره من الأشخاص الجسمانية والهويات المادية ذوات الأوضاع المختلفة؛ وليس عندنا اعتبار كون الصورة العقلية كلية مشتركا فيها غير؛ واعتبار كونها موجودة متشخصة بتشخص غير ، لأنّ ذلك الوجود نحو آخر من الوجود أشد وأوسع من أن ينحصر في حدّ جزئي ، ويقصر رداؤه عن الانسحاب على كثيرين متوافقين في سنخ ذلك المعنى المحمول. وجميع المعاني والماهيات في أنفسها وبحسب حدّ معناها ممّا لا يأبى عن الحمل على كثيرين. وكذلك إذا وجدت بوجود عقلى غير مقيّد بوضع خاص ومقدار خاصّ إذا الوجود العقلى نسبتها إلى جميع الأوضاع والمقادير والأمكنة نسبة واحدة. فالصورة العقلية لماهية الإنسان من حيث وجودها مشترك فيها بين كثيرين من نوعها ، ومن حيث ماهيتها ومعناها محمولة على كثيرين.

ثمّ إنك قد علمت من طريقتنا في العقل والمعقولات أنّ التعقّل ليس بحلول الصورة المعقولة في الجوهر العاقل حتى يكون صورة الجوهر عرضيا ، ويلزم الإشكالات المذكورة في الوجود الذهنى وهاهنا ومباحث علم البارى ، بل الصورة العقلية للجواهر جواهر قائمة بذواتها وبمبدعها وهي في باب الوجود ، والتجوهر أقوى من ما هي صورتها من الصور الخارجية المادّية لكونها مفتقرة الوجود إلى المواد المتجدّدة الانفعالات والاستحالات.

وأمّا الكلام في صحة هذا البرهان ودلالته على تجرّد النفوس فأقول : إنّ هذا البرهان برهان قاطع لكن على تجرّد بعض النفوس الإنسانية لا النفوس العامّية فإنّه يدلّ على تجرّد نفس تعقل الصور العقلية ، ونشاهدها من حيث عقليتها ونحو وجودها العقلي المشترك فيه بين الأعداد الذي لا يحصل إلّا بعد تجريد المعنى الواحد عن القيود والزوائد والخصوصيات.

وبالجملة كل من يمكن له أن يلاحظ صورة الحيوان مثلا بنحو من الوجود لا يكون لها بحسبه مقدار خاصّ ومكان خاصّ ووضع خاص وزمان خاص. وكذا تعقل صورة الإنسان العقلى المجرد عن العوارض الماديّة بأن يكون إنسانا بحتا يخرج منه‏

١٥٣

جميع ما هو غير الإنسانيّة من الوضع الخاص والكم الخاص والأين الخاص ، ومع ذلك لا يحذف عنه شي‏ء من مقوماته وقواه وأعضائه حتى أنّه يعقله ذا رأس ووجه وعين ويد ورجل وبطن. وكل ذلك على الوجه العقلى المشترك فيه بين الأعداد الكثيرة لأنّ ذلك معنى إدراك الماهية الكلية لشي‏ء كما قال المعلم الأوّل في أثولوجيا :

الإنسان العقلى روحاني ، وجميع أعضائه روحانية ليس موضع العين غير موضع اليد ، ولا مواضع الأعضاء مختلفة. وكذا يمكنه أن يعقل الأرض العقلية والماء العقلي والسماء العقلية ، ويحضر في ذهنه صورة كل طبيعة من الطبائع بنحو وجودها العقلي الكلي على الوجه الذي مرّ ذكره ، لأنّ ذلك في الحقيقة معنى إدراكه الكليات. وقلّ من الناس من أمكن له الإدراك على ذلك الوجه. والذي يتيسّر لأكثر الناس أن يرتسم في خياله صورة إنسان مثلا ، فإذا أحسّ بفرد آخر منه يتنبّه بأنّ هذا مثل ذاك ، ويدرك جهة الاتحاد بينهما وانّها غير جهة الاختلاف إدراكا خياليا ، كما يدرك جهة الاتحاد بين أجزاء الماء مثلا بحسب الحس ويعلم أنّ جميع أجزاء الماء ماء ، وكما يدرك أنّ جميع أجزاء الماء ماء مع اختلافها في المقدار والجهة ، كذا يدرك أنّ أفرادها المنفصلة ماء إدراكا خياليا. (ج ٤ ، ص ٦٨ ، ط ١).

أقول : هذا تمام كلام صاحب الأسفار في تقرير الحجة ، وما أورد عليها من الاعتراض والشبهة ، والجواب عنهما. ولا يخفى عليك أنّ تلك الشبهة العويصة هي ما ذكرها الشارح العلّامة في إيضاح المقاصد ، كما أنّ أصل الاعتراض هو ما أورده الكاتبى عليها؛ ولعلهما كانا مسبوقين من غيرهما. كيف كان ، الاعتلاء إلى فهم الجواب الذي هو فائض عن بطنان عرش التحقيق في المقام يفتح بابا في معرفة النفس هو باب أبواب سائر مسائل النفس سيما مسائل أدلة تجرّدها.

قوله : «وإن أمكن أن يؤخذ الصورة القائمة بالنفس باعتبار آخر» أي باعتبار لا بشرط. وكذا قوله في جواب الشرط : «كالدماغ وغيره باعتبار» أي باعتبار لا بشرط أيضا. والأمر الأهم في المقام أن يسأل المورد عن الذي يأخذ الصورة الكلية عن الصورة الخيالية ، أو المادة العنصرية ، أو الجسم المتعقل على زعمه من هو؟ وانّما الكلام‏

١٥٤

في ذلك الآخذ وتلك الصورة الكلية فينتهى الأمر إلى الصورة المجرّدة العقلية ، ومدركها البسيط العقلى.

قوله : «ومباحث الكليات في علم الميزان» أي مباحث الإيساغوجى في المنطق.

قوله : «وقد تفصينا عنه إلخ» أي مناط الكلية هو الانبساط والسعة والإحاطة؛ والاشتراك بمعنى تساوى نسبة الكلّى السعيّ الإحاطي إلى كثيرين ، لا الاشتراك بمعناه الرائج في الميزان من انطباق الماهيات الذهنية إلى افرادها الخارجية. فقوله : «لأنّ ذلك الوجود نحو آخر ... إلخ» أي ذلك الوجود العقلي الذي هو مجرّد نورى مثل ربّ النوع أوسع من أن ينحصر في حد جزئي ويقصر رداؤه عن الانسحاب على كثيرين متوافقين في سنخ ذلك المعنى المحمول.

قوله : «وليس عندنا اعتبار ...» كلام بعيد الغور. يعنى أنّ الصورة العقلية الكلية المشترك فيها بذلك المعنى من الاشتراك ، هي بعينها موجودة متشخصة أي متعيّنة ومتحقّقة بتشخص خاص عقلاني فلا منافاة بين الكلية والتشخص فما هو مناط الشخصية بعينه مناط الكلّية. وعبارة المقام في بعض النسخ منقولة هكذا : «وليس عندنا اعتبار كون الصورة العقلية كلية مشتركا فيها غير اعتبار كونها موجودة متشخصة بتشخص غير مادّى» ولكن عدّة نسخ مخطوطة من الأسفار وبعضها قريبة العهد من المصنف موافقة لما اخترناها ولا غبار عليها ، وإن كان مآل العبارتين واحدا.

قوله : «إذ الوجود العقلى ...» هذا الكلام تعليل لإتيان لفظة خاص للمقيد والمقدار. والغرض من ذلك أنّ الجوهر المادىّ ممنوّ بالوضع الخاص والأين الخاص والمقدار الخاص وسائر أحكام المادة الخاصّة ، وأمّا الجوهر العقلى الكلى السعى الإحاطى الذي فهو مثل ربّ نوعه بإذن مبدعه (تعالى شأنه) محيط على جميع الأوضاع والمقادير والأمكنة ونسبته إليها نسبة واحدة ، فهو مع كونه متشخصا خارجيا ، عار عن أحكام المادة الخاصّة ولا يشذ عنه وضع خاص ومكان خاص ومقدار خاص. ووزانه مع الأفراد كأنّ وزان الروح الإنسانية إلى قواها ومحالّها فإنّ لكل واحدة منها تعيّنا خاصّا ، ولبعضها وضعا خاصّا ، ومقدارا خاصّا ، ولكن الروح أصلها القائم عليها ، وكلّها

١٥٥

قائمة بها ، فهي مع وحدتها المتشخصة كل القوى ومحالّها.

قوله : «فالصورة العقلية لماهية الإنسان ، إلخ» أقول : الاشتراك الوجودى بين تلك الصورة العقلية وبين أفرادها المادية متحقق دائما ، ونحن بارتقائنا العلمى واعتلائنا الوجودى نكشف ذلك الاشتراك ونعلمه ، وأمّا اشتراك ماهيتها المحمولة فهو من فعلنا وذلك الفعل هو انطباق تلك الماهية على الأفراد الخارجية أعمّ من المادية والعقلية ، وتلك الماهية من حيث هي بمعزل عن الوجود وتلك الصورة العقلية وجود نورى كلى فافهم وتبصر.

قوله : «على تجرّد بعض النفوس الإنسانية» تقدّم كلامنا في ذلك في أثناء البحث عن البرهان الأوّل من الشفاء في تجرّد النفس من أنّ الغبىّ الذي لا يعود عليه الفكر برادّة فهو بمعزل عن التعقل ولا يمكنه ملاحظة الاعتبارات الكلية بوجه ، وأنّ الواصل إلى الوجود العقلي سيما إلى الصادر الأوّل الذي هو رق منشور للكلمات النورية الوجودية قليل جدا. بل الواصل إلى الثاني هو مثل النبيّ الختم ، وأوصيائه أهل العصمة وعيب القرآن ، وأنّ لسائر الناس حظا من التعقل على مراتبهم ، فنفوسهم أوعية معقولاتهم بل نفس تلك المعقولات على اختلاف درجاتهم.

قوله : «الإنسان العقلى روحانى ، وجميع أعضائه روحانية إلخ» أقول : سواء في ذلك ربّ نوعه الذي من المثل الآلهية ، والعنصرى لأنّ الثانى أيضا في مقام روحه إنسان أحدي وجميع أعضائه موجودة بوجوده الأحديّ. وأشار إلى ذلك التعميم بقوله :

«ويحضر في ذهنه صورة كل طبيعة من الطبائع بنحو وجودها العقلى الكلّى لأنّ ذلك في الحقيقة معنى إدراكه الكليات». وانّما كان جميع أعضاء الإنسان العقلى روحانية لأنّ الرقائق نازلة من حقائقها على ما يقتضيها كل منزل من أحكامه فإنّ العوالم يحاكى ويماثل بعضها بعضا ، والفرق بالقرآن والفرقان؛ ولذا قالوا إنّ الذات الواجبية روح الأسماء ، والأسماء أرواح الأعيان الثابتة ، وهي أرواح الأرواح وهي أرواح الأشباح ، قوله (عزّ من قائل) : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) (السجدة ، ٦) ؛ وقال (سبحانه) : (وَإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر ، ٢٢) ؛ وقوله‏

١٥٦

(تعالى شأنه) : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس ، ٨٤) ، فالأولى ناطقة بأنّ الرقيقة تنزل من حقيقتها ، والثانية بأنّ الفرق بينهما بالقرآن والفرقان ، والثالثة بأنّ شيئا من الأشياء ما نزل بتمامه بل ملكوته بيده سبحانه. وبالجملة أنّ الأعضاء المعنوية هي أرواح الأعضاء الحسية مثل أنّ روح العين ما به يبصر فالعلم الحضوري بالمبصرات حقيقة العين؛ وروح اليد ما به يبطش فالقدرة على البطش بمجرد الهمة حقيقة اليد وهكذا. فالكامل حكاية للناقص بنحو الكمال ، والناقص حكاية للكامل بنحو النقصان لأنّ العلة حدّ تام للمعلول والمعلول حدّ ناقص للعلة.

قوله : «والذي يتيسّر لأكثر الناس» قد ذكر نظره هذا في تعقل النفوس في عدّة مواضع من الأسفار ، ولا يخفى عليك أنّ الحاكم على الاتحاد في الأمثلة التي أتى بها هاهنا هو العقل لا الحسّ والخيال. والصواب ما قدّمنا من أنّ الغبي الذي لا يعود عليه الفكر برادّة فهو بمعزل عن التعقل ، وأمّا سائر الناس فلهم التعقل على مراتبهم.

فتحصّل ممّا تقدم أنّ الصورة المعقولة سواء كانت صورة عرض أو صورة جوهر ، موجودة متشخّصة بتشخص خاص عقلاني ، أي ما هو مناط الشخصية هو بعينه مناط الكلية فلا منافاة بين الكلية والتشخص ، كما لا تنافي بين التعين العقلي والإبهام الخارجى الممنوّ بالمادة الطبيعية العنصريّة ، فتلك الكليات العقلية تكون مشارا إليها بالإشارة العقلية بحسب التعيّن العقلي ووجوده في العقل وأمّا من حيث إبهامه الخارجى فلا يقبلها؛ وأنّ تشخص الصورة المعقولة جار في المفارق والنفس الناطقة على السواء من حيث هو تشخص الصورة المعقولة وإن كان المفارق مفيضا والنفس مستفيضة؛ وأنّ الاشتراك الوجودى بمعنى تساوى نسبة الكلّى السعيّ الإحاطي إلى كثيرين أمر ، واشتراك ماهيتها المحمولة أي انطباقها على أفرادها الخارجية الذي هو من فعل النفس وحكمها أمر آخر؛ وأنّ للتعقل مراتب وهو يصح لأفراد الإنسان على مراتبهم إلّا الغبي الذي لا يعود عليه الفكر برادّة. ومن أخذت الفطانة بيده يعلم من هذه الأصول الرّصينة القويمة أنّ اعتراض حكمة العين كشبهة شارحها خارج عن صوب الصواب. فللّه الحمد وهو المبدأ وإليه المآب.

١٥٧

يا) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا؛ هذا هو البرهان الثالث من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية :

ثمّ قال الشيخ :

وأيضا إذا انطبعت الصورة الأحدية الغير المنقسمة التي هي الأشياء غير منقسمة في المعنى في مادة منقسمة ذات جهات فلا يخلو إمّا أن لا تكون ولا لشي‏ء من أجزائها التي تفرض فيها بحسب جهاتها نسبة إلى الشي‏ء المعقول الواحد الذات الغير المنقسم المجرّد عن المادة؛ أو تكون لكل واحد من أجزائها التي تفرض نسبة؛ أو تكون لبعض دون بعض.

فإن لم تكن ولا لشى‏ء منها فلا لكلّها فإنّ ما يجتمع عن مباينات مباين.

وإن كان لبعضها دون بعض فالبعض الذي لا نسبة له ليس هو من معناه في شي‏ء.

وإن كان لكل جزء يفرض نسبة ما ، فإمّا أن تكون لكل جزء يفرض فيه نسبة إلى الذات كما هي ، أو إلى جزء من الذات؛ فإن كان لكلّ جزء يفرض نسبة إلى الذات كما هي فليست الأجزاء إذن أجزاء معنى المعقول بل كل واحد منها معقول في نفسه مفردا. وإن كان كل جزء له نسبة غير نسبة الجزء الآخر إلى الذات فمعلوم أنّ الذات منقسمة في المعقول وقد وضعناها غير منقسمة هذا خلف. فإن كان نسبة كل واحد إلى شي‏ء من الذات غير ما إليه نسبة الآخر فانقسام الذات أظهر.

ومن هذا تبيّن أنّ الصور المنطبعة في المادة الجسمانية لا تكون إلّا أشباها لأمور جزئية منقسمة ولكلّ جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منه.

أقول : هذا تمام كلام الشيخ في البرهان الثالث.

وقوله : «إذا انطبعت الصورة الأحدية الغير المنقسمة» كصورة الوحدة ، والنقطة ، والجوهر الذي هو الجنس العالى.

والضمير في قوله : «ولا لكل واحد من أجزائها» وكذا في قوله : «أو تكون لكل واحد من أجزائها» راجع إلى قوله «مادة منقسمة ذات جهات».

وقوله : «نسبة إلى الشي‏ء المعقول ...» مرفوع اسم لقوله : «إمّا أن لا تكون».

١٥٨

وقوله : «أو تكون لبعض ...» وكذا قوله : «فإن لم تكن ولا لشي‏ء منها» ضمير الفعلين راجع إلى النسبة.

وقوله : «فلا لكلّها» جواب لقوله : «فإن لم تكن ولا لشى‏ء منها؛ فمعنى فلا لكلّها ، أي لا نسبة لكلها ، كما صرّح بها في النجاة بقوله : «فإن لم يكن ولا لشي‏ء منها نسبة فليس ولا لكلّها لا محالة نسبة».

وقوله : «فيه نسبة إلى الذات كما هي» أي إلى تمام الذات.

وقوله : «فمعلوم أنّ الذات منقسمة في المعقول ...» لأنّ النسبة إلى الشي‏ء الواحد البسيط الغير المنقسم لا تكون مختلفة إلّا أن يكون ذلك الشي‏ء مختلفا.

والبرهان المذكور قد أتى به الشيخ في النجاة أيضا (ص ١٧٧ ، ط مصر) وفي الفصل الخامس من رسالته في النفس وبقائها ومعادها (ص ١٢٩ من مجموع الرسائل الفلسفية ط جامعة استانبول. وفي مجموعة أخرى مع ثلاث رسائل للشيخ في النفس أيضا بتصحيح الأهواني ، ص ٨٤ و ٨٥ ، ط مصر) وعبارات الشيخ في الشفاء والنجاة ورسالة النفس هذه متقاربة لا يوجب نقلها من الأخيرين مزيد إيضاح. وهو البرهان الثانى من رسالته الفارسية في معرفة النفس حيث قال : برهان ديگر ، وهمچنين اگر صورت احدى در جسم منقسم بود إلخ (ص ٣٦ و ٣٧ ، ط ايران ، ١٣٧١ هـ. ق ، بتصحيح الدكتور موسى عميد). وقد نقله الغزالي في كتابه معارج القدس في مدارج معرفة النفس (ص ٢٩ ، ط مصر) وهو البرهان الثالث فيه أيضا على حذو ما في الشفاء. ثمّ قال بعد نقله ما هذا لفظه :

فإن قيل : منشأ التلبيس في هذا البرهان قولكم : إنّ المعنى المعقول إن كان له نسبة إلى بعض الذات فيكون البعض الآخر ليس من معنى المعقول في شي‏ء ، ونحن هكذا نقول فإنّ المدرك منّا هو جزء وذلك الجزء لا ينقسم وهو المسمّى بالجوهر الفرد.

قلنا أنتم بين أمرين : إمّا أن تقولوا نسبة المعقول إلى بعض منقسم ، أو إلى بعض غير منقسم؛ فإن كان نسبة إلى بعض منقسم فإذا قسمنا يلزم انقسام المعقول ويعود البرهان الأوّل بعينه؛ وإن قلتم ينتسب إلى جزء لا ينقسم فكل جزء من الجسم منقسم‏

١٥٩

وقد برهنا على ذلك ، وله براهين هندسية ليس هاهنا موضع ذكرها. انتهى.

قوله : «وقد برهنا على ذلك» يعنى في البرهان الأوّل في معارج القدس ، والبرهان الأوّل في معارج القدس على تجرّد النفس هو البرهان الأوّل من الشفاء على ذلك كما تقدّم. ثمّ انّ القول بالجوهر الفرد لا يزاحم أدلّة تجرّد النفس أصلا وهي باقية على قوتها مع القول به كما يعلم في تضاعيف البراهين الساطعة على ذلك. وأمّا البراهين الهندسية على إبطال الجوهر الفرد فقد ذكر بعضها الشيخ البهائى في اواخر المجلد الأوّل من كشكوله (ص ١١٩ ، ط نجم الدولة) ولكنها ليست بتمام ، وإن كانت على فرض تماميتها لا تضرّ التجرد.

١٦٠