الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

في الشرح (إيضاح المقاصد) :

أقول هذا برهان آخر يدلّ على تجرّد النفس. وتقريره أنّ القوّة العقلية تدرك الضدّين معا كالسواد والبياض ، فلو كانت جسمانية لزم اجتماع الضدّين في جسم واحد ، وقد بيّنا أنّ التعقل يستدعى الحصول في العاقل ، واجتماع الضدّين في جسم واحد محال ، وإلا لم يكونا ضدّين فوجب القول بتجرّد العاقل وهو النفس. انتهى.

ثمّ اعترض الكاتبى على الدليل بقوله :

وأمّا الرابع؛ فلا نسلّم لزوم اجتماع الضدين في جسم واحد ، وإنّما يلزم ذلك أن لو كانت صورة السواد ومثاله مضادا لصورة البياض ومثاله ، وهو ممنوع؛ بل المضادة بين السواد والبياض بعينهما لا بين مثاليهما؛ سلّمناه لكن لا نسلّم استحالة اجتماعهما في جسم واحد فإنّه يجوز أن يجتمع الضدّان في جسم واحد ، بل المستحيل اجتماعهما في محل واحد لا في جسم واحد فإنّه يجوز أن يجتمع الضدّان في جسم واحد بأن يكون أحدهما حاصلا في بعض أجزاء الجسم والآخر حاصلا في البعض الآخر وحينئذ يكون محل أحدهما غير محل الآخر.

وقال الشارح العلامة : تقرير الاعتراض على الوجه الرابع أن نقول :

الصورة المعقولة من السواد والبياض الحاصلة في الذهن أنّما هي مثال السواد والبياض وشبحهما لا نفسهما وإذا كان كذلك فيمتنع التضادّ بينهما ، وإن كان التضادّ واقعا في المنسوبين إليهما ، وإذا كان كذلك جاز اجتماعهما في القوّة الجسمانية العاقلة؛ سلّمنا وقوع التضادّ بين الصورتين لكن نمنع اجتماعهما في محل واحد لو كانت القوّة العقلية جسمانية وإنّما يلزم ذلك لو حلّا محلا واحدا ولا يلزم من اجتماعهما في جسم واحد اجتماعهما في محل واحد فإنّ الجسم منقسم فجاز أن تحصل صورة السواد في جزء منه وصورة البياض في جزء آخر. انتهى.

وأقول : قد تحقق في الحكمة المتعالية أنّ الضدّين الخارجيين والذهنيين وإن كانا بحسب نحوى الوجود متفاوتين ولكن ماهيّتيهما محفوظتين فيهما ايفاء لحق العلم فإنّه الصورة الحاصلة من الشي‏ء عند العقل ، ثمّ إذا انحلّت صورتا المتضادّين في محلين من‏

٤١

جسم واحد فكأنّهما حلّتا في الجسمين فإنّ ملاك امتناع الاجتماع هو اجتماعهما في محل واحد جسمانى ، والنفس إذا استحضرت الصورتين بالانتزاع أو الانشاء والانتشاء لتقضى عليهما بالتضادّ ونحوه فهما حاضرتان معا عندها بلا تفرقة وبينونة ، والمنازع مكابر مقتضى عقله.

تبصرة : المحقق الطوسى في تجريد الاعتقاد ذكر سبعة أوجه في تجرّد النفس ، وسابعها قوله «وهي جوهر مجرّد ... لحصول الضدّ» (ط ٧ ، ص ٢٨١ بتصحيح الراقم وتعليقاته عليه) فما يخطر لنا في معنى قوله هذا هو أنّ المراد من حصول الضدّ هو اجتماع الضدّين على هذا الوجه الذي كلامنا فيه في هذه الحجة؛ وأما الشارح العلّامة فحمل قوله هذا على وجه آخر حيث قال.

وتقريره أنّ القوة الجسمانية مع توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكلّ لأنّها تنفعل عنها ، ولهذا فإنّ من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تامّا والقوى النفسانيّة بالضدّ من ذلك ، فإنّ عند تكثر التعقّلات تقوى وتزداد ، فالحاصل عند تكثر التعقلات تقوى وتزداد ، فالحاصل عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوّة الجسمانية عند كثرة الأفعال ، فهذا ما خطر لنا في معنى قوله رحمة اللّه : ولحصول الضدّ.

تبصرة أخرى : قد أشرنا آنفا إلى أنّ هذه الحجة التي نبحث عنها دالّة على تجرّد النفس بأنحائه الثلاثة ، أمّا على نحوى تجرّد الخيال والعاقلة فقد أفاد المتأله السبزوارى في منظومته المسماة بـ ـ غرر الفوائد في فنّ الحكمة وقد جعل الحجة الدليل التاسع منها ، بقوله :

والتاسع قولنا : لها أي للنفس حاصل بلا تزاحم وتمانع كل الصور. بيانه : أنّ النفس مجمع كلّ صور الموجودات ومزدحم المتقابلات ففي مقام العاقلة مجمع الصور الكليّة والمجرّدات ، وفي مقام الخيال معترك صور السماوات والأرضين والجبال والبلدان والأشخاص وبالجملة صور جميع المحسوسات ومثل المتقدّرات ، كل ذلك بهيئاتها ومقاديرها بلا تدافع بين متقابلاتها؛ بل مورد للصور الغير الإدراكية من الميول

٤٢

المتضادة والأهواء المتخالفة ، ولا شي‏ء من الجسم والجسمانى كذلك؛ وهذا الدليل يثبت تجرّد الخيال أيضا فضلا عن العاقلة. انتهى.

وأمّا دلالتها على تجرّد النفس فوق تجرّدها العقلى فلأنّ تلك الصور سواء كانت بإنشاء النفس إيّاها ، أو بانتزاعها إيّاها لا تكون لها نفاد ، قال عزّ من قائل : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) الآية (الكهف ، ١١٠). وقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ‏) الآية (لقمان ، ٢٨). ولا تأبى تلك الكلمات النورية الوجودية على أن تكون صورها حاضرة لدى النفس قائمة بها ، ولا النفس آبية على استحضارها ، فهذا هو مقامها اللّايقفى الذي يعبّر عنه بتجرّدها فوق العقلانى. وستأتى زيادة البحث عن ذلك في ذكر الأدلّة على فوق تجرّدها.

ثمّ أنّ المتأله السبزوارى جعل هذه الحجة البرهان السابع من كتابه أسرار الحكم ، وحرّره أتم وأوسع ممّا في غرر الفرائد حتى يشمل التجرّدات الثلاثة المذكورة حيث قال في أثناء التحرير «بل كلّما زاد النفس علما زادت سعة» وهذا الكلام الكامل ناظر إلى ما أفاضه الوصيّ أمير المؤمنين على عليه السّلام من قوله المسطور في النهج : «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنّه يتّسع به» فإنّ ما أفاضه المرتضى يدلّ على تجرّد النفس فوق تجرّدها العقلى كما سيأتي التحقيق في ذلك على التفصيل.

وهذه الحجة نقلها بهمنيار في الفصل الثانى عشر من كتاب النفس من التحصيل فقال :

ومما يبيّن بسرعة أنّ للنفس قوّة مفارقة وهي المسماة بالعقلية : أنها تدرك أشياء يمتنع وجودها في الجسم كالضدّين معا ، وكالنور والظلمة معا ، وكالعدم والملكة معا؛ وأشياء كثيرة من هذا الجنس. ولوجود مثل هذه الأمور في النفس على الوجه المذكور يمكننا أن نحكم بأنّه لا وجود لشي‏ء من هذه الأشياء في الأجسام. وبالجملة فالمعقول هو الموجود المجرّد عمّا سواه ، ونحن نعقله على هذا الوجه ونحكم بأنّ كذا مجرّد عن المادة فيجب أن يكون هذا الموجود إمّا في الأعيان وإمّا في العقل ، ولا يكفى وجوده في الأعيان عند إدراكه فيجب أن يكون له وجود مجرّد عن المادة

٤٣

في النفس ، فلو وجد في قوّة جسمانيّة لم يكن وجوده وجودا عقليا أو معقوليّا بل متخيلا ، ومعلوم أنّ الوحدة المطلقة لا يمكن أن تدرك بجسم وإلّا لكانت أجزاء.

فإن قيل إنّ الوحدة قد تعرض أو تحمل على الجسم؛ كان الجواب أنّ الوحدة المقدارية لها أقسام بالقوّة ، وأمّا الوحدة المطلقة المشروطة فيها أنّه لا قسم لها لا بالقوّة ولا بالفعل فإنّها مجرّدة. بل نقول : إنّ كل معنى فهو واحد ليس فيه من حيث وحدته شي‏ء غير شي‏ء ، ونحن ندرك تلك المعانى على هذه الصفة ، فلو كانت تدركها بقوّة جسمانية لكان يعرض أن يكون فيها شي‏ء غير شي‏ء فما كنا ندركها. وأيضا فانا ندرك أشياء غير مشار إليها ونحكم بأنّها غير مشار إليها ، فلو أدركت بقوّة جسمانية لكانت مشارا إليها. (ص ٨١٠ ، ط ايران).

وهذه الحجة هو الوجه الرابع من وجوه تجريد النفس في المواقف للقاضى عضد عبد الرحمن بن أحمد الإيجى ، وقد أتى فيه بخمسة وجوه من وجوه التجريد فقط.

عبارة المواقف مع شرح السيد الشريف على بن محمد الجرجانى عليه مزجا هكذا :

الرابع منها أنّها تعقل الضدّين إذ تحكم بينهما بالتضادّ ، فلو كان مدركهما جسما أو جسمانيا لزم اجتماع السواد والبياض مثلا في جسم واحد وأنّه محال بديهة.

والجواب أنّ صورتى الضدّين لا تضادّ بينهما لأنّهما تخالفان الحقيقة الخارجية ، فليس يلزم من ثبوت التضادّ بين الحقيقتين ثبوته بين الصورتين ولو لا ذلك لما جاز قيامهما بالمجرّد أيضا لأنّ الضدّين لا يجتمعان في محل واحد ماديا كان أو مجرّدا.

وإن سلّمنا تضادّ صورتى الضدّين فلم لا يجوز أن يقوم كل منهما بجزء من الجسم الذي يعقلهما معا غير الجزء الذي قام به الآخر ، فلا يلزم اجتماع المتضادّين في محل واحد. (ص ٤٥٨ ، ط القسطنطنية).

وأنت بما قدّمنا حول هذه الحجة وغيرها تعلم أنّ كلّ واحد من قوله : انّ صورتى الضدّين لا تضادّ بينهما ، وانّ الضدّين لا يجتمعان في محل واحد ماديا كان أو مجرّدا ، ولا سيما إنّ قوله فلم لا يجوز أن يقوم ـ إلى آخره ـ بمعزل عن التحقيق فلا فائدة في إعادة لا عائدة فيها.

٤٤

د) الحجة الرابعة على تجرّد الخيال :

كل جسم وجسمانى يصحّ اجتماع المتضادّين فيه من جهة قبوله للانقسام فيقوم ببعضه سواد وببعضه بياض كالجسم الأبلق ، أو ببعضه حرارة وببعضه برودة كالانسان إذا تسخّن بعض يده بالنار وتبرّد بعض آخر بالماء ، وكجسم بعضه محاذ لشي‏ء وبعضه ليس بمحاذ له ، فقد اجتمع في جسم واحد أمران متضادّان ومتناقضان لكون وحدة الموضوع في الجسمانيات ممّا يجامع الكثرة بوجه ، وليس كذلك حال النفس فإنّها لا يمكن أن يكون عالما بشي‏ء خيالي جزئي وجاهلا بذلك الشي‏ء أيضا كعلمنا بكتابة زيد وجهلنا به ، وكذلك الشهوة لشي‏ء والغضب عليه ، والمحبة والعداوة فإنّ الإنسان الواحد لا يمكن أن يشتهى شيئا ويغضب عليه ، أو يشتاق إلى شي‏ء ويتنفّر عنه ، فعلم أنّ القوّة الإدراكية والشوقية غير جسمانية وليست أيضا عقليّة فهي مجرّدة عن عالم الأجرام غير بالغة إلى عالم المعقولات. وأمّا تجويز كونها أمرا جسمانيا غير منقسم كالنقطة فقد مرّ بطلانها فإنّ النقطة نهاية ونهاية الشي‏ء لا يمكن أن يكون محلّا لأمر آخر غير حال في محلّ تلك النهاية.

أقول : نظير هذه الحجة هو الدليل الثانى عشر كتاب المباحث المشرقية للفخر الرازى في تجرّد النفس تجرّدا تامّا عقليا فإنّه قال :

الدليل الثانى عشر لو كان محلّ الإدراك قوّة جسمانية لصحّ أن يقوم ببعض ذلك الجسم علم وبالبعض الآخر جهل فيكون الشخص الواحد عالما وجاهلا بشي‏ء واحد في حالة واحدة. (ج ٢ ، ط حيدرآباد ، ص ٣٧٦).

وصدر المتألهين في الفصل المذكور من الأسفار أتى بقيود نحو قوله : «عالما بشي‏ء

٤٥

خيالى جزئى وجاهلا بذلك الشي‏ء أيضا إلخ» ، فخصّصها بالتجرّد الخيالى. (ج ١ ، ط ١ ، ص ٣١٨ و ٣١٩). وعبارته في الأسفار هي ما نقلناها أوّلا وهي متضمّنة لبعض عبارات المباحث في أثناء اعتراضات حول الدليل المذكور في التجرّد التام العقلى فتبصّر.

وهذه الحجة في تجرّد الخيال قد حرّرناها تحرير إيضاح وبيان في الدرس الحادى والسبعين من كتابنا الفارسى : دروس معرفت نفس (ص ٢٠٩ ، ط ١).

والفرق بين هذه الحجة والحجة الثالثة أن ملاك النظر هناك هو عدم صحة اجتماع الضدين في محل واحد جسمانى ، وصحّته عند النفس؛ وملاك النظر هاهنا هو صحّة اقتران المتقابلين بل المتضادّين في جسم واحد وعدم صحّته عند النفس فالاجتماع هاهنا في عبارة الحجة بمعنى الاقتران فافهم.

قال صدر المتألهين في الفصل المذكور من عاشرة العلم الكلّى من الأسفار بعد الإتيان بالحجج الأربع المذكورة في أنّ المدرك للصور المتخيلة أيضا لا بدّ أن يكون مجرّدا عن هذا العالم ، ما هذا لفظه :

فهذه حجج قوية بل براهين قطعية على هذا المطلب ، ولهذا استبصارات أخرى أخّرنا ذكرها إلى مباحث علم النفس وعلم المعاد. وهذا الأصل عزيز جدّا كثير النفع في معرفة النشأة الثانية كما ستقف عليه انشاء اللّه؛ وبه تنحلّ إشكالات كثيرة : ما لأجله ذهب بعض الحكماء كالاسكندر إلى أنّ النفوس التي لم تبلغ مرتبة العقل بالفعل هالكة غير باقية. واستصعب الشيخ هذا الإشكال وتحيّر في دفعه في بعض رسائله كرسالة الحجج العشر. ولو لم تكن للنفس غير القوّة العقلية قوّة أخرى غير جسمانية خارجة في بابها عن القوّة إلى الفعل لكان القول بدثور العقول الهيولانية بعد دثور أبدانها حقا لا شبهة فيه عندنا وذلك لأنّ ما بالقوّة من حيث كونه بالفعل لا يمكن وجوده إلّا بأحد أمرين إمّا بخروجه من القوّة إلى الفعل بحصول ما هو قوّة عليه ، وإمّا ببقائه كما كان بتبعية ما هو قوّة منه.

وبالجملة لا بدّ من إحدى الصورتين الفعليتين إمّا السابقة أو اللّاحقة فإذا زالت الصورة الأولى ولم تحصل الآخرة فلا جرم تبطل تلك القوّة رأسا فإذا لو لم تكن في‏

٤٦

الإنسان إلّا صورة طبيعيّة تقوم بها قوّة عقلية هيولانية فإذا فسد البدن تفسد تلك القوّة بفساده فلم يبق من الإنسان شي‏ء يعتدّ به مع أنّ الشرائع الآلهية ناصّة على النفوس الإنسانية سعيدة كانت أو شقية كاملة أو ناقصة عالمة أو جاهلة. (ج ١ ، ط ١ ، ص ٣١٩).

أقول : قد أشار صدر المتألّهين في كلامه المذكور إلى أمرين ينبغى للباحث المحقّق حثّ النظر إليهما : أحدهما مطويّ في قوله : «فهذه حجج قوية» حيث وصفها بالقوّة ، وثانيهما قوله : «وبه تنحلّ إشكالات كثيرة إلخ».

أمّا الأوّل فناظر إلى قول الفخر في المباحث فإنّه بعد ما نقل اثني عشر دليلا في تجرّد النفس منها بعض الحجج المذكورة كما أشرنا إليه قال :

فهذه جملة ما وجدناه من الأدلّة على إثبات تجرّد النفس ولم يقنعنا شي‏ء منها للشكوك المذكورة فمن قدر على حلّها أمكنه أن يحتجّ بها انتهى.

وحيث إنّ تلك الشكوك عند صاحب الأسفار موهونة مدفوعة وأجاب عن بعضها بما دريت ، قال : «هذه حجج قوّية».

وأمّا الأمر الثانى فهو ناظر إلى أصلين أصيلين أحدهما حشر النفوس التي لم تبلغ مرتبة العقل بالفعل؛ وثانيهما أنّ الحشر بالمعادين أي الجسمانى والروحانى معا. وقد نطق ببعض الإشارات إلى حشر تلك النفوس العين الثانية والعشرون من كتابنا سرح العيون في شرح العيون ، وبالكلام في المعادين العين التاسعة والخمسون منه.

تبصرة : أدلة تجرّد الخيال تثبت حشر النفوس التي لم تبلغ مرتبة العقل بالفعل ، وهذا كلام كامل رصين معاضدة بالنصوص الواردة على حشر النفوس مطلقا. ونحن نزيد ونقول انّ لها مع ذلك تكاملا برزخيا أيضا والتكامل البرزخى ينبّه عليه في العين الخامسة والخمسين من كتابنا عيون مسائل النفس وشرحها سرح العيون في شرح العيون ، ثمّ إنّ النكتة ٣٣٧ من كتابنا ألف نكتة ونكتة حائزة لمطالب أصيلة في ذلك.

تبصرة أخرى : هاهنا أدلة أخرى تثبت تجرّد النفس عقليا وخياليا معا. منها البراهين الثلاثة : السادسة والسابعة والثامنة من نفس الشفاء كما يأتى بيانها عن قريب.

٤٧
٤٨

الباب الثالث :

من الحجج البالغة على تجرّد القوّة العاقلة

٤٩
٥٠

الف) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا :

أنّ الرّوح التي لك من جواهر عالم الأمر لا تتشكل بصورة ولا تتخلّق بخلقة ولا تتعين لإشارة ولا تتردّد بين سكون وحركة فلذلك تدرك المعدوم الذي فات والمنتظر الذي هو آت؛ وتسبح في الملكوت وتنفّس من عالم الجبروت.

أقول : ما نقلناه هو من كلام الفارابى في الفصوص. وهو يحتوى الدليلين على تجرّد النفس تجرّدا تامّا عقلانيا. أحدهما عدم تشكلها بصورة ، وعدم تخلّقها بخلقة ، وعدم تعيّنها لإشارة ، وعدم تردّدها بسكون وحركة والجوهر الكذائى ليس من الطبائع المادية المتصرّمة المقيّدة بالأحياز وسائر الأحكام الجسمانية. ثمّ قال فلعدم كونه كذلك يدرك المعدوم الذي فات والمنتظر الذي هو آت في وقت واحد وحالة فاردة والموجود الذي يجمع الماضى المعدوم والآتى المنتظر فهو فوق عالم الأجسام ومحيط عليها حيث يدرك في أفقه الأعلى السابق واللاحق كليهما. وكفى بذلك شاهدا القرآن الكريم حيث يخبرك الكشف المحمّدى صلّى اللّه عليه وآله ما مضى وما يأتى كأنّهما نصب عينك.

وثانى الدليلين هو قوله : «وتسبح في الملكوت ثمّ تتنفّس من عالم الجبروت».

وسباحة الروح التي للإنسان في الملكوت وتنفّسها من عالم الجبروت أمر وراء عدم تشكّلها بصورة وسائر أعدامها الراجعة إلى إطلاق جوهرها وبساطة ذاتها وإرسال حقيقتها.

وقريب من الدليل الثانى هو ما قاله الشيخ الإشراقى في الهيكل الثانى من هياكل النور : كيف تتوهّم هذه الماهية القدسية جسما وإذا طربت طربا روحانيا تكاد تترك‏

٥١

عالم الأجساد وتسترط عالم ما لا يتناهى.

وبالجملة أنّ بدن الإنسان مجاور للأرض ومحشور مع الطبيعة ، والإنسان في هذه الحال يدرك ما فات وما هو آت في الأعصار الخالية والقرون الآتية ، ويسبح في بحار الملكوت ثمّ يتنفس من ما ورائها عالم الجبروت فما هو وقع على الأرض غير ما هو أدرك وسبح وتتنفّس ثمّ المدرك والسابح الكذائى مجرّد عن المادة الطبيعية الجسمية وأحكامها. وشرحنا على فصوص الفارابى المسمّى به نصوص الحكم على فصوص الحكم في المقام لا يخلو عن بعض فوائد فإن شئت فراجعه (ص ١٧٩ ـ ١٨٢ ، ط ١).

٥٢

ب) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

أنك لا تغفل عن ذاتك أبدا وما من جزء من أجراء بدنك إلّا وتنساه أحيانا ، ولا يدرك الكلّ إلّا بأجزائه ، فلو كنت أنت هذه الجملة ما كان يستمر شعورك بذاتك مع نسيانها فأنت وراء هذا البدن أو أجزائه.

أقول : نقلنا هذه الحجة من هياكل النور للسهروردي من نسخة مخطوطة من شرح الدوانى عليه. وفي مطبوعة مصر كانت العبارة هكذا : أنت لا تغفل عن ذاتك وما من جزء .. ، فلو كنت أنت هذه الجملة أو جزءا من أجزائها ما كان ... فأنت وراء هذه الجملة.

ولكن قوله : «أو جزءا من أجزائها» ، من عبارة الدوانى في الشرح. وبالجملة هي تدلّ بظاهرها على مغايرة جوهر النفس للبدن ، وبعد الغور فيها يستفاد منها تجرّدها أيضا لأنّه بعد ما ثبت أنّ النفس الناطقة من مقولة الجوهر ـ كما حرّر تحقيقه في شرح العين السادسة من كتابنا سرح العيون في شرح العيون. ـ وقد تحقق فيه أيضا أنّ كل جوهر شاعر بذاته فهو مجرّد عن المادة وأحكامها سواء كان مجرّدا تامّا عقليا كامل الجوهر بفضيلته الذاتية وهي الأمور الدائمة المتشابهة الأحوال أعنى بها المجردات المحضة التي هي المفارقات الكليّة ، أو كان نفسا عاقلة مستكملة ببدنها كالنفوس الإنسانية التي هي مبدأ الإرادة الكلية والجزئية وتتصور بالكليّات ، أو كان نفسا حيوانية لها تجرّد خيالى برزخى وكلها جوهر مجرّد قائم بذاته وشاعر بذاته.

تبصرة : قد تحقّق عند المشّاء أنّ كل عاقل فهو معقول؛ وأنّ كل معقول قائم بذاته فهو عاقل ، وقد برهن في الفصل التاسع عشر من النمط الثالث من إشارات الشيخ وشرح‏

٥٣

المحقق الطوسى عليه. وقد تحقق في الحكمة المتعالية أنّ كل عاقل فهو معقول وأنّ كل معقول فهو عاقل على التفصيل المستوفى بيانه في كتابنا الفارسى دروس اتحاد عاقل به معقول.

ثمّ انّ النفوس الحيوانية مجرّدة دون التجرّد العقلى على التفصيل الذي تبيّن في العين الاحدى والعشرين من كتابنا المذكور سرح العيون في شرح العيون ، فهي جواهر مجرّدة غير تامة التجريد ، ولذا قلنا : كل جوهر شاعر بذاته فهو مجرّد ليعمّ الحكم الأقسام كلّها؛ ولو قلنا مكانه : انّ كل جوهر عاقل بذاته فهو مجرّد لم يشمل النفوس الحيوانية.

وحاصل هذا الاستدلال قياس من الشكل الثانى ، مؤدّاه أنّ ذاتك معلومة لك دائما ، وبدنك أو كل جزء منه غير معلوم لك دائما ، وغير المعلوم دائما غير المعلومة دائما فذاتك غير بدنك وغير أيّ جزء من أجزائه فتدبّر.

ثمّ انّ ظاهر الاستدلال يفيد مغايرة النفس للبدن وأما كونها مجرّدة فيتمّ بكونها جوهرا غير غافل عن ذاته والجوهر الشاعر بذاته مجرّد إما تجرّدا غير تام ، أو تجرّدا تامّا عقليا ، أو تجرّدا أتم من ذلك.

ثمّ يجب التعمّق في ما هو مأخوذ في هذا الدليل من أنّ النفس تغفل عن أجزاء بدنه أحيانا ، وفي ما قاله ابن الفنارى في جواب السؤال الخامس من خاتمة مصباح الأنس من أنّ الباطن غير غافل عن الظاهر حتى النائم في نومه والسكران في سكره ولذا يتنبّه بأدنى ما يصيبه لكنّ الظاهر قد يغفل عن الباطن مع حضوره بالاشتغال بغيره (ص ٣٠٤ ، ط ١).

وهذا الدليل من هياكل النور بالعربية مترجم في الهياكل النور بالفارسية : بدان كه تو غافل نباشى از خود هرگز ... (مجموعة مصنفات الشيخ الإشراقى ، ج ٣ ، ص ٨٥ ، ط ايران).

٥٤

ج) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

أنّ بدنك أبدا في التحلّل والسيلان ، وإذا أتت الغاذية بما تأتى وإن لم يتحلّل من بدنك العتيق عند ورود الجديد لعظم بدنك جدّا ، ولو كنت أنت هذا البدن أو جزءا منه لتبدّلت أنانيتك كلّ حين ولما دام الجوهر المدرك منك فأنت أنت لا ببدنك كيف ويتحلّل وليس عندك منه خبر فأنت وراء هذه الأشياء.

أقول : هذا الدليل نقلناه من هياكل النور للسّهروردى من نسخة مخطوطة من شرح الدوانى عليها. والعبارة نقلت في طبعة مصر هكذا :

بدنك أبدا في التحلل والسيلان ولو أتت الغاذية بما تأتى به ولم يتحلّل من العتيق قبل ورود الجديد شي‏ء لعظم بدنك جدّا ، ولمّا كان الجوهر المدرك منك ثابتا على حال واحد فأنت أنت لا ببدنك وكيف تكون أنت إيّاه وهو في التحلّل وليس عندك منه خبر فأنت وراء هذه الأشياء (ص ١١).

ثمّ إنّ ما هو مستفاد من ظاهر هذا الدليل هو أنّ الإنسان وراء هذا البدن أي يفيد مغايرة النفس للبدن وأمّا انّ ذلك الأمر حقيقة مجرّدة عن المادة وأحكامها فيحتاج إلى ضميمة أمور أخرى وتضمينها في الدليل.

والزيادات في المطبوع المذكور توجد في عبارات شرح الدوانى عليه. وخلاصة الدليل : أنّ البدن يتبدّل دائما والنفس باقية مستمرّة فهي غيره.

وهذا الدليل مترجم بالفارسية في هياكل النور : «بدان كه تن تو پيوسته در نقصانست إلخ (مجموعة مصنّفات الشيخ الإشراقى ج ٣ ، ص ٨٥ ، ط ايران).

٥٥

د) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا

أنّ الحواس لا تدرك إلّا المفردات أعنى أنّ مدركاتها مفردات ، وليس فيها حكم والحكم معتبر فيه الإسناد ويتطرق فيه الصدق والكذب وفينا حاكم يصدّق بعض مدركات الحواس ، ويردّ بعضها الآخر وهو العقل؛ فلو كان جميع قوى الإنسان مادّية لكان عاريا عن ذلك الحاكم العاقل والتالي باطل فالمقدّم مثله.

ولست أعني بقولي هذا أنّ الحكم مركّب وذلك لأنّ الحكم فعل من أفعال النفس وإنشائها وهو بسيط ، ولكنّ ذلك الحكم البسيط لا يصدر عن القوى الحسّية فافهم.

وهذا الدليل قويم جدّا ، وواجب تسرّيه في جميع الأحكام المتفرعة على المفردات المدركة فإنّها من حيث هي أحكام من المعاني الكلية لن تنالها أيدى الحواس قط ، فالمدرك الذي يستنبط منها أو من غيرها أحكاما ويحملها عليها غيرها بالضرورة وذلك الغير هو المدرك للكلّيات أي العقل فتبصّر.

٥٦

هـ) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا

أنّ الإنسان يسمع الصوت ويميّز بين القريب والبعيد منه وهما من المعانى فالسمع بمعزل عن إدراكها. وصاحب الأسفار في الفصل الثانى من الباب الرابع من الجواهر والأعراض منه بعد إثبات وجود الصوت في الخارج ، أفاد بقوله الشريف :

أنّ المدرك والمحسوس لا بدّ وأن يكونا أمرا موجودا عند المدرك حالة إدراكه والموجود عند الجوهر الحاس لا بدّ وأن يكون ملاصقا له ، وهيئة الصوت وشكل التموّج وإن كانا موجودين عند السامعة لكن صفتى القرب والبعد غير موجودتين عندها. والتحقيق أن يقال إن تعلق النفس بالبدن يوجب تعلقها بما اتصل به كالهواء المجاور بحيث كأنهما شي‏ء واحد تعلقت به النفس تعلّقا ولو بالعرض ، فكلما حدث فيه شي‏ء مما يمكن للنفس إدراكه بشي‏ء من الحواس من الهيئات والمقادير والأبعاد بينها والجهة التي لها وغيرها فأدركت النفس له كما هو عليه. انتهى كلام صدر المتألهين في المقام (ج ٢ ، ص ٣٢ ، ط ١).

أقول : قوله «والتحقيق أن يقال إلخ» ، هذا التحقيق الأنيق هو أحد البراهين على أنّ النفس الناطقة تصير بتكاملها الجوهرى عارية عن المواد ومجرّدة عن الأحياز وسائر أوصاف المادة وهذا التحقيق كلام سام سامك يعقله من كان له قلب.

فالنفس الناطقة لمّا كانت غير منطبعة في البدن فبحكم تجرّدها النورى المبسوط تتعلق بما ورائه فيدرك القرب والبعد في الأصوات من هذه الحيثية. ويمكن إدراج هذا الدليل في الرابع من هذا الباب ، كما لا يخفى على المستبصر.

٥٧

و) ومن الأدلّة على تجرّد النفس النّاطقة تجرّدا تامّا عقليّا

كما في رسائل الكندى الفلسفية (ص ٢٧٣ ، ط مصر) :

أنّ النفس بسيطة ذات شرف وكمال ، عظيمة الشأن ، جوهرها من جوهر البارى عزّ وجلّ ، كقياس ضياء الشمس من الشمس.

وقد بيّن أنّ هذه النفس منفردة عن هذا الجسم مباينة له ، وأنّ جوهرها جوهر الهى روحانى ، بما يرى من شرف طباعها ومضادّتها لما يعرض للبدن من الشهوات والغضب.

وذلك أنّ القوّة الغضبيّة قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم فتضادّها هذه النفس وتمنع الغضب من أن يفعل فعله أو أن يرتكب الغيظ وترته وتضبطه ، كما يضبط الفارس الفرس إذا همّ أن يجمح به أو يمدّه.

وهذا دليل بيّن على أنّ القوّة التي يغضب بها الإنسان غير هذه النفس التي تمنع الغضب أن يجرى إلى ما يهواه ، لأنّ المانع لا محالة غير الممنوع لأنّه لا يكون شي‏ء واحد يضادّ نفسه.

فأمّا القوّة الشهوانية فقد تتوق في بعض الأوقات إلى بعض الشهوات ، ففكّر النفس العقلية في ذلك أنّه أخطأ ، وأنّه يؤدّي إلى حال رديّة فتمنعها عن ذلك وتضادّها. وهذا أيضا دليل على أنّ كلّ واحدة منهما غير الأخرى.

وهذه النفس التي هي من نور البارى عزّ وجل إذا هي فارقت البدن علمت كلّ ما في العالم ، ولم يخف عنها خافية والدليل على ذلك قول أفلاطن حيث يقول : إنّ كثيرا من الفلاسفة الطاهرين القدماء لما يتجرّدوا من الدنيا وتهاونوا بالأشياء المحسوسة ،

٥٨

وتفرّدوا بالنظر والبحث عن حقائق الأشياء ، انكشف لهم علم الغيب ، وعلموا بما يخفيه الناس في نفوسهم ، واطّلعوا على سرائر الخلق.

فإذا كان هذا هكذا ، والنفس بعد مرتبطة بهذا البدن في هذا العالم المظلم الذي لو لا نور الشمس لكان في غاية الظلمة ، فكيف إذا تجرّدت هذه النفس وفارقت البدن ، وصارت في عالم الحق الذي فيه نور البارى سبحانه فأمّا من كان غرضه في هذا العالم التلذذ بالمآكل والمشارب المستحيلة إلى الجيف ، وكان أيضا غرضه في لذة الجماع فلا سبيل لنفسه العقلية إلى معرفة هذه الأشياء الشريفة ، ولا يمكنها الوصول إلى التشبّه بالبارى سبحانه. ولقد صدق أفلاطون في هذا القياس وأصاب به البرهان الصحيح.

أقول : صدر ما نقلناه من رسائل الكندى من أنّ النفس تمنع الغضب والشهوة عن فعلهما ، دليل على أنّ المانع غير الممنوع فحسب ولا يدلّ على تجرّد المانع عن المادة والماديات الطبيعية. والوجه الأعم مأخذا من ذلك ما قلنا في صدر العين الخامسة من كتابنا عيون مسائل النفس ، وشرحه : سرح العيون في شرح العيون من أنّ الدليل على مغايرتها له انّك لا تجعل طبيعتك حاكمة عقلك إلخ.

وأما ما نقله عن أفلاطن الإلهى فهو صريح على تجرّدها العقلانى ، وكونها من صقع العالم الربوبى. والتمثيل بنور الشمس وما أفاد حوله كلام في غاية الكمال.

ثمّ ما أفاد الكندى من أنّ جوهر النفس من جوهر البارى عزّ وجلّ كقياس ضياء الشمس من الشمس ، فله شأن ينبغى أن ينظر فيه نظر دقّة وتحقيق وتفكير.

والمروى في روضة الجنان عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام انّه قال : «يفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس».

وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير قال سمت أبا عبد الله عليه السّلام يقول :

المؤمن أخ المؤمن كالجسد الواحد ، إن اشتكى شيئا منه وجد الم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة ، وانّ روح المؤمن لأشد اتصالا بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها. (ج ٢ ، من المعرب ، ص ١٣٣).

٥٩

وغرضنا الأهم من نقل ما في رسائل الكندى في المقام هو كلام أفلاطن الدال على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا.

وخلاصة الدليل أنّ الإنسان بالتجرّد والتفرّد والإعراض عن الأحوال الدنيّة البهيمية والسبعية ، والانصراف إلى البحث عن حقائق الأشياء ، انكشف له علم الغيب ، وعلم بما يخفيه الناس ، واطلع على سرائر الخلق. وما هذا شأنه فليس إلا من وراء الطبيعة ، وأين للطبيعة الخروج عن حيّزها ، واطلاعها على المغيبات ، وصيرورتها عيبة للحقائق النورية ، والأمور الغيبية المحيطة على الزمان والمكان وسائر الأوصاف المادية؟

ثمّ قال الكندى :

انّ أفلاطن قاس القوّة الشهوانية التي للإنسان بالخنزير ، والقوة الغضبية بالكلب ، والقوّة العقلية بالملك. وقال : من غلب عليه الشهوانية وكانت هي غرضه وأكثر همته فقياسه قياس الخنزير؛ ومن غلبت عليه الغضبية فقياسه قياس الكلب؛ ومن كان الأغلب عليه قوّة النفس العقلية وكان أكثر أدبه الفكر والتمييز ومعرفة حقائق الأشياء ، والبحث عن غوامض العلم ، كان إنسانا فاضلا قريب الشبه من البارى سبحانه؛ لأنّ الأشياء التي نجدها للبارى عزّ وجلّ هي الحكمة والقدرة والعدل والخير والجميل والحق. وقد يمكن للإنسان أن يدبّر نفسه بهذه الحيلة حسب ما في طاقة الإنسان فيكون حكيما عدلا جوادا خيرا يؤثر الحق والجميل ، ويكون بذلك كلّه بنوع دخل النوع الذي للبارى سبحانه من قوّته وقدرته ، لأنّها انّما اقتبست من قربها قدرة مشاكلة لقدرته.

فانّ النفس على رأى أفلاطن وجلّة الفلاسفة باقية بعد الموت ، جوهرها كجوهر البارى عزّ وعلا في قوّتها إذا تجرّدت أن تعلم سائر الأشياء كما يعلم البارى بها ، أو دون ذلك برتبة يسيرة ، لأنّها أو دعت من نور البارى جلّ وعزّ.

واذا تجرّدت وفارقت هذا البدن وصارت في عالم العقل فوق الفلك صارت في نور البارى ، ورأت البارى عزّ وجلّ ، وطابقت نوره ، وجلّت في ملكوته ، فانكشف لها

٦٠