الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

بل يصيره الهرم في أرذل العمر مشابه الطفل في نقصان القوى البدنية وإدراك الأمور التي تلينا ، ولكن ذلك ليس يضره شيئا ولا ينقصه شيئا. وفي الكافي في حديث الأرواح ذكر تلك الآية من النحل ثمّ قال :

فهذا ينتقص منه جميع الأرواح وليس بالذى يخرج من دين اللّه لأنّ الفاعل به ردّه إلى أرذل العمر فهو لا يعرف للصلاة وقتا ، ولا يستطيع التهجّد بالليل ولا بالنهار ، ولا القيام في الصف مع الناس فهذا نقصان من روح الإيمان وليس يضره شيئا.

والأرواح التي تنقص هي أرواح بخارية مادّية هي مطايا القوى البدنيّة فبضعفها لا يستطيع كسب العلم الذي مشروط بسلامة البدن ولكن ليس يضره ذلك شيئا.

وقد استوفينا البحث عن الأرواح في العين الحادية عشرة من كتابنا : سرح العيون في شرح العيون. ولو تفوه فكر عامّى بزوال ما كسب الإنسان في عمره من العلم والعمل بالهرم ونحوه رأسا لقد توهّم العبث بفطانته البتراء في فعل الحكيم على الإطلاق ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وقد أفاد القيصرى في شرحه على الفصّ اللوطى من فصوص الحكم بقوله : «قوله تعالى : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ، إشارة إلى فناء قابلية الآلة التي بها يظهر العلم في الخارج ، لا أنّ الناطقة يطرأ عليها الجهل بعد العلم ، وإلّا ما كان يبقى العلم بعد المفارقة (ص ٢٩١ ، ط ١ ، ايران).

وقد أجاد الجنابذى في تفسير بيان السعادة :

أنّ أرذل العمر يختلف بالنسبة إلى الأشخاص فربّ معمّر لا يصير خرفا في المائة أو أكثر ، وربّ رجل يصير خرفا في الخمس والسبعين ، ولذلك اختلف الأخبار في بيان وقت أرذل العمر. لكى لا يعلم من بعد علم شيئا اللام للغاية لأنّ عدم العلم بعد العلم من الغايات العرضيّة لا أنه علة غائية لأن العلة الغائية للإبقاء هي الاستكمال بالعلم والعلم لا زوال العلم بعد الاستكمال به؛ أو هو علّة غائيّة بمعنى أنّ العلوم الدنيويّة والإدراكات البشرية الحاصلة بالمدارك الدنيوية من الموذيات في الآخرة. ويبقى اللّه بعض عباده لأن يضعف عباده لأن يضعف مداركه الدنيوية ويزول عنها مدركاتها

٢٦١

ليكون على راحة منها في الآخرة ، ولذلك كان خير ابن آدم في أن يبقى بعد البلوغ إلى الشيخوخة كما في الخبر لأنّ بقاء الادراكات الدنيوية موذ لصاحبها في الآخرة ، ونعم ما قيل :

سينه خود را برو صد چاك كن

دل از اين آلودگيها پاك كن.

انتهى ما أفاد صاحب بيان السعادة.

وأقول : يسأل المتقشّف القائل بأنّ ما علمه الإنسان وما عمله يزولان عنه واقعا ، عن انّ البالغ إلى أرذل العمر وقد زال عنه ما كسب واكتسب ثمّ توفي ، هل هو مسئول بعد ذلك عن ما فعل أم لا؟ فإن كان مسئولا عنه فكيف يسأل وهو لا يعلم شيئا؟ فالسؤال خلاف العدل الإلهي؛ وإن كان غير مسئول عنه فهو خلاف مقتضى الدين الإلهي بالضرورة فافهم. على أنّه لو لم يكن قوله (تعالى شأنه) لكى لا يعلم من الغايات العرضية ، أو علّة غائية للعلوم الدنيوية للزم في فعل الحكيم على الإطلاق.

تبصرة : ما نقلنا عن الشفاء والنجاة ، من السؤال والجواب الشافي ، تجده في معارج القدس للغزالي على حذو ما في الكتابين ، حتى أنّه قال في آخره : ولنا أن نتوسّع في بيان هذا الباب من أصعب أبواب النفس إلّا أنّه بعد بلوغ الكفاية تنسب الازدياد إلى تكلف ما لا يحتاج إليه. فقد ظهر من أصولنا التي قررنا أنّ النفس ليست منطبعة في البدن ولا قائمة به فيجب أن تكون علاقتها مع البدن علاقة التدبير والتصرف (ص ٣٤ ـ ٣٦ ، ط مصر).

٢٦٢

يح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

قال الشيخ الرئيس في رسالته في السعادة والحجج العشر على أنّ النفس الإنسانية جوهر مفارق :

لو كانت الصورة المعقولة تحتل جسما من الأجسام وتلابسه لامتنع إدراك المتضادين بإدراك واحد معا لأنّ صورتى الضدين هكذا.

وبالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا ، ولكن الجسم في محلّ هذه الصورة مخالف لهذا ، فإنّه مهما حلّ فيه صورة أحد المتقابلين وجب ضرورة أن تحل معه صورة المقابل الثاني إذا علم المتقابلات يكون معا. فتبين أنّ هذا الجوهر أعنى القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى؛ وذلك ما أردنا أن نبين (ص ٨ ، ط ١ ، حيدرآباد الدكن).

أقول : هذه الحجة هي الثالثة من الحجج العشر من تلك الرسالة. ويعنى بقوله في النتيجة : «القابل للعلم غير جسم» ، العلم بالمتقابلات ، وإلّا فالكلام عن مدرك العلم فهو الحجة الأولى من تلك الرسالة الموافقة للبرهان الأوّل من نفس الشفاء كما تقدّم في أثناء بيان ذلك البرهان.

ثمّ قد دريت تفصيل البحث وتحقيقه حول هذه الحجة في الحجة الثالثة من الحجج على تجرّد الخيال بأنّ المتقابلات فيها إذا أخذت على صورها الجزئية فتختص بتجرّد الخيال ، وإذا أخذت على صورها الكلية فتختص بالتجرد العقلى فيحتجّ تارة بهذه الحجة على التجرد البرزخى الخيالى ، وأخرى على التجرد التامّ العقلى.

٢٦٣

يط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

قال الشيخ في الرسالة المذكورة في السعادة والحجج العشر :

الحجة الرابعة ، الجسم إذا وضعناه محلا للحكمة بذاته أو بمشاركة معنى ما فيه فمن الواجب أن يكون منفعلا عنه قبول الصورة الحكميّة ، إذ كل جسم من الأجسام مهما قبل صورة من الصور صحّ عليه جزم القبول بالانفعال؛ ثمّ الجوهر الذي يعقل النتائج أنّما يعقلها بالاستخراج منه لها بالتركيب والتحليل للصورة التي في ذاته ، وذلك فعل لا انفعال؛ ولو كان جسما لكانت هذه المعاني إمّا غير موجودة ، وإما انفعالات ، قد تبيّن أنّها أفعال موجودة ، فإذا ليس بجسم ، بل جوهر غير جسمانى. وذلك ما أردنا أن نبيّن. (ص ٩ ، من ط حيدرآباد الدكن).

وقد حرّره في الفصل التاسع من رسالة اهداها إلى الأمير نوح الساماني بوجه أبسط ، وهو البرهان الثالث فيها. فقال :

من البراهين التي تدلّ على هذا المطلوب ما أنا مبيّنه فأقول : حلول الصورة في الجسم انفعال وقبول ولامتناع كون الشي‏ء الواحد فاعلا ومنفعلا يتضح لنا أنّ الجسم لا يمكنه أن يلبس بذاته صورة معقولة ويخلع أخرى؛ ثمّ نرى الإنسان قد تدبّر يتصوّر عن صورة معقولة إلى أخرى ، وذلك لا يخلو إمّا أن يكون فعلا خاصّا للجسم ، أو فعلا خاصّا للقوّة الناطقة أو فعلا مشتركا بينهما وقد بيّن أنّ الفعل لا يجوز أن تكون إضافته إلى الجسم بالتخصيص.

وأقول : ولا أيضا بالشركة إذ الجسم معاون القوّة على إحلال صورة ما في ذاته وخلع صورة عن ذاته إذ علم أنّ الجسم مع القوّة يصيران موضوعين لهذه الصورة الحاصلة

٢٦٤

والموضوع لا يوسم إلّا بالانفعال المجرّد وكلا هذين فعلان فإذن هذا الفعل خاصّ إلى القوّة وكل شي‏ء لم يحتج في فعله الصادر عن ذاته إلى شي‏ء يعينه فلن يحتاج في قوام ذاته إلى شي‏ء يعينه إذ الانفراد بقوام الذات يتقدّم الانفراد بإصدار الفعل بالذات ، فإذن هذه القوّة جوهر قائم بذاته ، فإذن النفس الناطقة جوهر.

٢٦٥
٢٦٦

الباب الرابع :

من الحجج البالغة على أنّ للنفس الناطقة مقام فوق التجرّد العقلي‏

٢٦٧
٢٦٨

قد أشرنا في تضاعيف الحجج السالفة أنّ للنفس الناطقة الإنسانية مقام فوق التجرّد ، ونعنى بذلك أنّ النفس كما أنّها جوهر مجرّد عن المادّة الطبيعيّة وأحكامها كذلك لا تقف إلى حدّ بل كلّما زادت علما زادت سعة وقدرة تستعدّ للارتقاء إلى المعارج الأخرى وللاعتلاء إلى المدارج العليا ، وهذه خصيصة اختص ذلك الجوهر الفرد بها ، ولا تجد موجودا مجرّدا له هذا الشأن الارتقائى اللّايقفى ، سبحان اللّه ما أعظم شأن الإنسان وقد قال تعالى شأنه : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين ، ٥). وأشرت إلى ذلك المعنى في غزل من ديواني :

نفس را فوق تجرّد بود از أمر إله

واحد است ار چه نه آن واحد كمّ عدديست

‏ولعمرى إنّ قصيدتى التائية العائرة المسمّاة بـ ينبوع الحياة لها شأن في بيان مدارج النفس الناطقة ومعارجها ومقام فوق تجرّدها العقلى ، وهي تنتهى إلى ٤٢٦ بيتا ، ومن أبياتها :

تصفّحت أوراق الصحائف كلّها

فلم أر فيها غير ما في صحيفتى

تجرّدها ممّا هي للطبيعة

يفيد بقاء النفس للأبديّة

كذاك مقام فوق ذاك التجرّد

لها ثابت أيضا بحكم الأدلّة

على صورة الرحمن جلّ جلاله

بدى هذا الإنسان من أمشاج نطفة

وسبحان ربّي ما أعزّ عوالمي

وأعظم شأني في مكامن بنيتي

وما آية في الكون منى بأكبرا

ونفسي كتاب قد حوى كلّ كلمة

عجائب صنع النفس يا قوم ماهية

وما يعدل صنع بتلك الصّنيعة

وقد حرّرنا البحث عن هذه البغية القصوى والغاية العليا ـ أعنى أن النفس الناطقة

٢٦٩

الإنسانية لها مقام فوق تجرّد ـ في سائر مصنفاتنا بحث تحقيق وتنقيب ، فراجع في ذلك شرح العين الرابعة والعشرين من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس؛ وكتابنا الفارسى الموسوم بـ إنسان وقرآن (ص ١٩٦ ، ط ١) ؛ وكتابنا الفارسى الآخر أيضا الموسوم بـ مجموع مقالات (ص ٨٠ وص ١٤١) ؛ وكتابنا الفارسى الآخر أيضا المسمّى بـ گنجينه گوهر روان.

وقد شرحنا كلام الوصي الإمام أمير المؤمنين على عليه السّلام في هذا الموضوع الأهم والأمر المبرم حيث قال : «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتسع به» (نهج البلاغة ، باب المختار من حكمه عليه السّلام ، الحكمة ٢٠٥) ، بالفارسية وجعلنا ذلك الشرح المنيف الكلمة ١١٠ من كتابنا (هزار ويك كلمه) أى ألف كلمة وكلمة ، وتلك الكلمة رسالة فريدة قيّمة في ذلك المقصد الأقصى والمرصد الأسنى.

وإن شئت فراجع أيضا في بيان أنّ النفس الناطقة لها ذلك المقام الأشمخ رسالتنا الفارسية الكريمة الأخرى الموسومة بـ مدارج ومعارج وهي كلمة ٢٥٤ من كتابنا المذكور هزار ويك كلمه؛ والدرس التاسع عشر من كتابنا اتحاد عاقل بمعقول ، والنكتتين ٤٢١ و ٦٥٨ من كتابنا الف نكتة ونكتة ، والدروس ١٠٠ و ١٠٢ و ١٠٣ من كتابنا دروس معرفت نفس فإنّ كل واحد منها يتضمّن لطائف إشارات إلى أنّ للنفس الناطقة رتبة فوق التجرّد العقلانى.

وكذا الباب الأوّل من رسالتنا الأخرى بالعربية الموسومة بـ الصحيفة الزبرجدية في كلمات سجّادية مجد جدّا في الاعتلاء إلى ذروة التحقيق والتدقيق حول موضوع هذا الباب ، واللّه سبحانه وليّ التوفيق.

ومن تلك الإشارات المشرقيّة تنتقل إلى أنّ وحدة النفس الناطقة ليست وحدة عدديّة بل وحدة حقّة جمعيّة ظلّية للوحدة الحقّة الحقيقة الإلهيّة ، واللّه سبحانه فتّاح القلوب ومنّاح الغيوب.

وممّا يرشدك إلى أنّ للنفس الناطقة رتبة فوق التجرّد العقلانى ائتلاف حديثين شريفين من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أحدهما : «ما من مخلوق إلّا وصورته تحت العرش» ،

٢٧٠

والآخر : «قلب المؤمن عرش اللّه الأعظم» فتدبّر.

قال صدر المتألّهين قدّس سرّه في الأسفار : «إنّ النفس الإنسانية ليس لها مقام معلوم في الهوية ، ولا لها درجة معينة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعية والنفسيّة والعقلية التي كل لها مقام معلوم؛ بل النفس الإنسانية ذات مقامات ودرجات متفاوتة ، ولها نشئات سابقة ولا حقة ، ولها في كل مقام وعالم صورة أخرى كما قيل :

لقد صار قلبى قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان وديرا لرهبان ...

(أوّل الفصل الثالث من الباب الرابع من كتاب النفس ، ج ٤ ، ص ٨٣ ، ط ١).

ولنا تعليقة في المقام على الأسفار بهذه الصورة : قوله قدّس سرّه : «ليس لها مقام معلوم في الهويّة ...» أى ليس لها بحسب الوجود حدّ تقف عنده ، ويعبّر عن هذا المعنى بأنّ النفس لها مقام فوق التجرّد ، قال المتأله السبزوارى :

وانّها بحت وجود ظلّ حق

عندى وذا فوق التجرّد انطلق

‏فتدبر قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً) الآية (الكهف ١١٠) ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية (لقمان ٢٨) ، والقرآن مأدبة اللّه وما على تلك المأدبة الإلهيّة وهي غير متناهية ، طعامك‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ‏ فذاتك ظرف يتسع ما على تلك المأدبة ، وقال قدوة الموحّدين مولانا الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام : «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتّسع» ، وهذه كلّها تدل على أنّ النفس ليس لها مقام معلوم في الهوية ، وقد قال الأمير عليه السّلام في وصيته لابنه محمّد : «اعلم أنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق» (الوافي ، ج ١٤ ، ص ٥٦ ، ط ١ ، من يه) فافهم. ثمّ إنّ للنفس نشئات سابقة بنحو الجمع ، ونشئات لا حقة بنحو الفرق. والبيت من ترجمان الأشواق للشيخ الأكبر (ص ٤٣ من طبع بيروت) وبعده :

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

وقد أجاد الشيخ الإشراقى السهروردى في الهيكل الثانى من هياكله في بيان تجرّد النفس الناطقة ، وبيان فوق مقام تجرّدها بقوله القويم :

٢٧١

«كيف تتوهم هذه الماهية القدسية جسما وإذا طربت طربا روحانيا تكاد تترك عالم الأجساد وتسترط عالم ما لا يتناهى؟!».

أقول : هذه الحجة قد نقلها الشيخ البهائى عنه في الدفتر الرابع من كشكوله (ص ٣٩٨ ، ط ١). وعبارتها في النسخ مختلفة ففي طبع مصر (ص ١٣ ، ط ١٣٣٥ هـ) كيف يتصوّر الإنسان ... جسما وهي إذا طربت ... عالم الأجسام وتطلب عالم ما لا يتناهى.

وفي نسخة مخطوطة عندنا من شرح الهياكل للدوانى مطابقة لما اخترناها إلّا أنّ فيها : «كيف يتوهّم الإنسان هذه الماهية ... عالم الأجسام ويطلب عالم ما لا يتناهى» مكان «ويسترط عالم ما لا يتناهى» ؛ وقال في الشرح : «وفي نسخة أخرى يسترط» يعنى جاء في نسخة أخرى مكان يطلب ، قوله «يسترط».

وعبارتها في الكشكول هكذا :

وكيف تتوهّم هذه الماهية القدسيّة جسما والحال أنّها إذا طربت طربا روحانيا تكاد تترك عالم الأجساد وتطلب عالم ما لا يتناهى كما يشهد أرباب الشهود.

والزيادات في الكشكول كلّها في شرح الدوانى من عبارات الشرح.

قوله : «ويسترط عالم ما لا يتناهى ...» أى يبتلعه ، يقال سرطه كطلب وفرح ، واسترطه أى ابتلعه.

والحجة متقنة غاية الإتقان؛ وفي الاستراط إيماء إلى أنّ للنفس فوق مقام التجرّد ، وكأنّه ناظر إلى قوله (علت كلمته) : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، فافهم. وأنّى للجسم هذه الشأنيّة الكبرى وهو مسجون في القيود والحدود والأحياز والعوارض والعلائق؟!.

ونسخة الهياكل الفارسية ترجم الاستراط ، حيث قال :

وچگونه جسم تواند بود كه گاه باشد كه در طرب آيد وخواهد كه عالم اجسام را فرو برد وطلب عالم بى‏نهايت كند. (ص ٨٧ ـ ط ايران).

تبصرة : الحجة المذكورة قريبة ممّا أتى به المعلّم الفارابى في الفص الحادى والثلاثين من فصوصه حيث قال :

٢٧٢

إنّ الروح التي لك من جواهر عالم الأمر لا تتشكّل بصورة ، ولا تتخلّق بخلقة ، ولا تتعيّن لإشارة ، ولا تتردّد بين سكون وحركة ، فلذلك تدرك المعدوم الذي فات ، والمنتظر الذي هو آت ، وتسبح في الملكوت ، وتتنفّس من عالم الجبروت.

إن شئت فراجع شرحنا على فصوص الفارابى المسمّى بـ نصوص الحكم على فصوص الحكم (ص ١٧٩).

وقد أفاد وأجاد المتأله السبزوارى في بيان تجرّد النفس الناطقة وبيان مقام فوق تجرّدها في أوّل شرح الأسماء (ص ٤ ، ط ١) بقوله الرصين :

ولا تستبعدنّ كون النفس وجودا بلا ماهيّة إذ ليس لها حدّ يقف في مراتب الكمال فكلّ مرتبة يصل إليها يتجاوز عنها فلا سكون وطمأنينة لها ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‏ وكلّ حدّ من الفعليّة تحصل لها تكسّرها خلق الإنسان ضعيفا ، وكلّ حياة تفيض عليها تميتها اقتلوا أنفسكم فتوبوا إلى بارئكم‏ فهي شعلة ملكوتيّة لا تخمد نارها ، ولمعة جبروتية لا يطفى نورها ، لا سيّما النفس المقدّسة الختميّة التي أخبرت عن مقامها في النبويّ المشهور : لي مع اللّه وقت لا يسعنى فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ....

٢٧٣
٢٧٤

الباب الخامس :

في التبرّك بالتمسّك بطائفة من آيات وروايات في تجرّد النفس الناطقة وفوق تجرّدها العقلي‏

٢٧٥
٢٧٦

قال اللّه (تعالى شأنه) : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)‏ (القرآن الكريم ، سورة البقرة ، الآية ١٥٥).

قال البيضاوي في تفسير هذه الآية الكريمة ما هذا لفظه :

وفيها دلالة على أنّ الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحسّ به من البدن تبقى بعد الموت درّاكة ، وعليه جمهور الصحابة والتابعين ، وبه نطقت الآيات والسنن.

قوله عزّ من قائل : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (القرآن الحكيم ، سورة آل عمران ، الآية ١٧١).

وقال البيضاوى في تفسير هذه الآية :

الآية تدلّ على أنّ الإنسان غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه.

وقال اللّه سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (القرآن العظيم ، سورة الإسراء ، الآية ٨٥).

قال سبط ابن الجوزى في التذكرة (ط ١ ، من الرحلى الحجرى ، ص ٨٧) :

في رواية طويلة أنّ ملك الروم كتب إلى أمير المؤمنين على عليه السّلام : علمت أنك من أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة وأنت موصوف بالشجاعة والعلم ، وأؤثر أن تكشف لي عن مذهبكم الروح التي ذكرها اللّه في كتابكم في قوله : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّى؟ فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السّلام : أمّا بعد فالروح نكتة لطيفة ولمعة شريفة من صنعة بارئها وقدرة منشئها ، أخرجها من خزائن ملكه وأسكنها

٢٧٧

في ملكه ، فهي عنده لك سبب وله عندك وديعة ، فإذا أخذت مالك عنده أخذ ماله عندك ، والسلام.

ثمّ قال البسط : «ومن هاهنا أخذ ابن سينا فقال :

هبطت إليك من المحلّ الأرفع

ورقاء ذات تعزّز وتمنّع ؛ الأبيات»

وأفاد صاحب بيان السعادة في تفسير تلك الكريمة أعنى‏ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...) بقوله :

أي الروح التي بها الحياة الإنسانيّة فإنّ الروح تطلق على البخار المتكوّن في القلب المنتشر في البدن بواسطة الشرايين وتسمّى روحا حيوانيّة؛ وعلى البخار المتصاعد من القلب إلى الدماغ فتعتدل ببرودته وتسمّى روحا نفسانيّة؛ وعلى التي بها حياة الحيوان وتسمّى نفسا حيوانية ، وعلى التي بها حياة الإنسان وتسمّى نفسا ناطقة وهذه هي مراد السائلين لأنّها المدركة لهم بالآثار دون سابقتها فإنّها مختفية تحت شعاع نفس الإنسان؛ وتطلق على طبقة من الملائكة وتسمّى في لسان الإشراق بأرباب الأنواع وفي لسان الشرع بالصّافات صفّا؛ وعلى ملك أعظم من جميع الملائكة ، وله بعدد كل إنسان وجه وهو ربّ نوع الإنسان ، وله الرئاسة والإحاطة على جميع الأنواع وأربابها ، وهو مع كل أفراد الإنسان وليسوا معه ، وما ورد في بيان الروح أنّها ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل وكان مع محمّد صلّى اللّه عليه وآله ثمّ مع الأئمة إشارة إلى هذا المعنى. ومعنى كونه مع محمّد صلّى اللّه عليه وآله دون سائر الأنبياء عليهم السّلام أنّ معيّته مع محمّد صلّى اللّه عليه وآله معه وإلّا فهو مع كل أفراد الإنسان بل مع كلّ ذرات العالم ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي‏ إشارة إلى تلك الروح فإنّ الروح المنفوخة في آدم عليه السّلام ظل تلك الروح.

ولمّا كانت الروح المسئول عنها أمرا مجرّدا معقولا لا يدركه إلّا ذو والعقول وكان السائلون أهل الحس لا يتجاوز إدراكهم المحسوسات أمره صلّى اللّه عليه وآله بالإجمال في الجواب فقال : قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏ أى ناشئة من أمر ربّى من غير سبق استعداد مادّة حتى تكون محسوسة فتدركونها بالحواس الظاهرة أو الباطنة ، أو من عالم أمره ولا يصل إدراككم إليه ، ولذلك قال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) منكم أو قليلا من

٢٧٨

العلم وهو العلم بالمحسوس من آثارها وليس لكم علم عالم الأمر ، ولفظة ما نافية أو استفهامية إنكارية.

وقال اللّه عزّ وجلّ في سورة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...) ؛ وقال في سورة الشرح : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...) ؛ وقال : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ...) (سورة النحل ، الآية ٩٠) ؛ والإنزال دفعى ، والتنزيل تدريجى ، ويجب الفرق بين انزال القرآن وبين تنزيله فإنّ إنزاله كان في صدر خاتم الأنبياء دفعة واحدة ، وتنزيله كان في مدة ثلاثة وعشرين عاما ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يأمر كتاب الوحى وغيرهم بجعل السور والآيات التنزيلية على صورة القرآن الإنزالي؛ مثلا إنّ كريمة (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)‏ آخر آية نزلت من القرآن ، وقال جبرئيل ضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة.

وجملة الأمر أنّ ترتيب السور القرآنية وكذلك ترتيب آياتها كلّها توقيفي ، والسور والآيات التنزيلية رتّبت على صورة القرآن الإنزالى في ليلة القدر بأمر اللّه سبحانه ورسوله؛ وقد حقّقنا ذلك الأمر القويم الحكيم في رسالتنا فصل الخطاب في عدم تحريف كتاب ربّ الأرباب.

والغرض أنّ كل أثر يحاكى شأن مؤثّره كما قال اللّه سبحانه : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ)‏ (الإسراء ، ٨٥) وحيث إنّ وجود الحق سبحانه غير متناه فآثاره الوجودية من الكتاب التكوينى والتدوينى على شاكلته غير متناهية ، فالصدر الذي هو وعاء حقائق القرآن الكريم له مقام فوق التجرد العقلى فافهم وتدبّر وراجع الباب الأوّل من رسالتنا المذكورة الصّحيفة الزبرجديّة في كلمات سجّادية.

ما قدّمناها من الآيات الكريمة فإنّما كانت انموذجا في بيان تجرّد النفس الناطقة وفوق تجردها والعقلى ، وكذلك نهدى إليك بعض روايات في الأمرين المذكورين؛ وقد ذكرنا عدة آيات وروايات أخرى في آخر كتابنا الفارسى گنجينه گوهر روان فليرجع الطالب الكريم إليه :

روى الآمدي في غرر الحكم ودرر الكلم ، وابن شهرآشوب في المناقب أنّ الوصيّ‏

٢٧٩

الإمام أمير المؤمنين عليا عليه السّلام سئل عن العالم العلوي فقال : صور عارية عن المواد ، عالية من القوّة والاستعداد ، تجلّى لها ربّها فأشرقت ، وطالعها فتلألأت ، وألقى في هويّتها مثاله فأظهر عنها أفعاله؛ وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكّيها بالعلم والعقل فقد شابهت جواهر أوائل عللها ، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله :

الأرواح طيور سماوية في أقفاص الأشباح البشرية إذا التفتت بالعلم صارت ملائكة ، وإذا التفتت بالجهل صارت حشرات الأرض ...».

(مطلع الشمس ، ج ٢ ، ص ٢٤٧ ، ط ١ من الرحلى).

وإن شئت فراجع شرح الفصّ الخمسين من كتابنا الفارسى نصوص الحكم بر فصوص الحكم (ص ٢٩٥).

بصائر الدرجات بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبى عبد اللّه عليه السّلام :

مثل روح المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق إذا أخرجت الجوهرة منه أطرح الصندوق ولم يعبأ به؛ قال : إنّ الأرواح لا تمازج البدن ولا تواكله وإنّما هي اكليل البدن محيطة به» (البحار ، ج ١٤ ، ص ٣٩٨ ، ط ١).

واعلم أنّ غرر الروايات الصادرة عن أهل بيت العصمة عليه السّلام في المقام كثيرة جدّا؛ وقد نقلنا أربعين حديثا في معرفة النفس في النكتة الأخيرة من كتابنا ألف نكتة ونكتة ، وكذلك عدة روايات في ذلك في كتابنا گنجينه گوهر روان. ونختم الكتاب هاهنا بكريمة (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)‏ مبتهجا بما وعدنا اللّه سبحانه بفضله العميم : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).

وقد فرغنا من تصنيف هذا الكتاب العظيم الحكيم في يوم الجمعة

السادس من شهر ربيع الأوّل من سنة ١٤٢١ هـ ق ٢٠ / ٣ / ١٣٧٩ هـ ش.

وأنا العبد : حسن حسن زاده الطبرى الآملى.

٢٨٠