الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

يب) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا؛ وهو البرهان

الرابع من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.

ثمّ قال الشيخ :

وأيضا فإنّ الشي‏ء المتكثر في أجزاء الحدّ ، له من جهة التمام وحدة ما لا تنقسم ، فلينظر أنّ ذلك الوجود الوحداني من حيث هو واحد ما كيف يرتسم في المنقسم؟ ويكون الكلام فيها وفيما لا ينقسم بالحدّ واحدا.

أقول : يعنى أنّ بعض الأشياء بسيط لا ينقسم بالحدّ ، وبعضها له أجزاء حدّية لكنّ له صورة وحدانية هي جهة تمامه وتشخصه. فيسأل عن صورة البسيط المدركة ، وكذا عن صورة ذى الأجزاء الحدية المدركة ، اللتين لكل واحدة منهما وجود وحدانى من حيث هو واحد ما كيف يرتسم في المنقسم؟ فالشي‏ء المتكثر في أجزاء الحد ، والذي لا ينقسم بالحدّ في هذا الحكم ـ وهو كون مدركهما الذي هو محل كلّ واحدة من الصورتين ـ واحد في أنّه ليس مما ينقسم أي أنّه مجرّد عن المادة الطبيعية وأحكامها.

والشيخ نقل هذا البرهان في رسالته في النفس وبقائها ومعادها أيضا. وهو البرهان الرابع فيه أيضا على ترتيب ما في نفس الشفاء ، فقال : وأيضا فإنّ الشي‏ء المتكثر أيضا في أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة هو بها لا ينقسم ، فتلك الوحدة بما هي وحدة فيه كيف ترتسم في المنقسم؟ وإلا فيعرض أيضا ما قلناه في غير المتكثر أجزاء حده (ص ١٢٩ ، من مجموعة الرسائل الفلسفية ، ط جامعة استانبول. وص ٨٥ و ٨٦ من ط مصر بتصحيح الأهواني).

تبصرة : هذه البراهين الأربعة المنقولة من نفس الشفاء وسائر مصنفات الشيخ ، لها

١٦١

وحدة جامعة وهي أنّ الصورة المعقولة أي العلم بسيطة مفارقة ، ومدركها وهو النفس الناطقة يجب أن تكون بسيطة مفارقة أيضا. وأمّا وجه امتياز كل واحد من البراهين الأربعة المذكورة عن الآخر فغير خفي على المتدرب بالفن. ثمّ انّ هذا البرهان اعنى الرابع منها غير مذكور في معتبر أبى البركات ، وحكمة العين للكاتبى ، وأسفار صدر المتألهين. والمحقق الطوسى في تجريد الاعتقاد جعل الدليل الثانى على تجرّد النفس بعبارة تشمل البراهين الأربعة المذكورة كلّها. فإنّه قال :

وهي (أي النفس) جوهر مجرّد لتجرّد عارضها وعدم انقسامه. وقوله : «وعدم انقسامه» ناظر إلى أنّ العلم بسيط مفارق ومدركه أي معروض العلم وهو النفس كذلك.

١٦٢

يج) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان

الخامس من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.

قال الشيخ :

وأيضا فإنّه قد صحّ لنا أنّ المعقولات المفروضة التي من شأن القوّة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوّة؛ وقد صحّ لنا أنّ الشي‏ء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوّة لا يجوز أن يكون جسما ولا قوّة في جسم ، قد برهن على هذا في الفنون الماضية؛ فلا يجوز إذن أن تكون الذات المتصوّرة للمعقولات قائمة في جسم البتّة ، ولا فعلها كائن في جسم ولا بجسم.

وليس لقائل أن يقول : كذلك المتخيّلات. فذلك خطأ فإنّه ليس للقوّة الحيوانيّة أن يتخيّل أيّ شي‏ء اتفق ممّا لا نهاية له في أيّ وقت كان ما لم يقرن منها تصريف القوّة الناطقة.

ولا لقائل أن يقول : إنّ هذه القوّة أي العقلية قابلة لا فاعلة ، وأنتم أنّما أثبتّم تناهى القوّة الفاعلة والناس لا يشكّون في جواز وجود قوة قابلة غير متناهية كما للهيولى.

فنقول : إنّك تعلم أنّ قبول النفس الناطقة في كثير من أشياء لا نهاية لها قبول بعد تصرف فعلى.

أقول : هذا تمام كلام الشيخ في بيان هذا البرهان. ويعنى بقوله : «الذات المتصوّرة للمعقولات» النفس الناطقة. وتصورها للمعقولات بمعنى اتصافها بها ، وأخذها إيّاها.

وقوله : «برهن على هذا في الفنون الماضية» يعنى في السماع الطبيعى.

وقوله : «ما لم يقرن منها ...» وفي نسختين مخطوطتين من الشفاء ما لم يقرن معها.

١٦٣

والشيخ ذكر اصل البرهان فقط في النجاة واكتفى به ، ولم يأت فيها بقوله : «وليس لقائل أن يقول ـ إلى قوله : بعد تصرّف فعلى». وعبارته فيها هكذا :

وأيضا فإنّه قد يصحّ (قد صحّ ـ خ. ل) لنا أنّ المعقولات المفروضة التي من شأن القوّة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوّة ، ليس واحد أولى من الآخر؛ وقد صحّ لنا أنّ الشي‏ء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوّة لا يجوز أن يكون محله جسما ولا قوّة في جسم ، قد برهن على هذا في السماع الطبيعى؛ فلا يجوز إذن أن تكون الذات القابلة للمعقولات قائمة في جسم البتة ولا عقلها بكائن (ولا فعلها الكائن ـ خ. ل) في جسم ولا بجسم (ولا بجسم ـ أو بجسم ـ خ. ل). (ص ١٧٨ ، ط مصر).

ونحو ما في النجاة ذكر البرهان في الفصل الخامس من رسالته في النفس وبقائها ومعادها (ص ١٢٩ و ١٣٠ من مجموعة الرسائل الفلسفية ، ط جامعة استانبول. وص ٨٦ ، ط مصر ، بتصحيح الأهواني).

ونسخة «ولا فعلها أكثروا أولى» ، ويؤيدها قوله : «بعد تصرف فعلى» وإن كان فعلها عقلها.

بيان البرهان : معنى صحّ أو يصحّ يساوق الإمكان. وكون المعقولات غير متناهية بالقوّة بل بالفعل مما لا ينبغى المراء فيه. وكذلك عدم تأبّيها وتعصّيها عن أن تصير معقولة للنفس مما لا يعتريه الارتياب. وأنّ النفس الناطقة يصحّ لها أن تكون عاقلة لتلك المعقولات الغير المتناهية فممّا لا يصحّ النزاع فيه ، والمنازع مكابر مقتضى عقله. والتعقّل فعل النفس فكونها قوية على أمور غير متناهية بالقوّة أي كونها قوية على إدراكات غير متناهية بالقوّة أي على أفعال غير متناهية بالقوّة. وأنّ الجسم والجسمانيات مطلقا متناهية التأثير والتأثر فمما برهن في السماع الطبيعى. فالنتيجة أنّ جوهر النفس ليس بجسم ولا جسمانى.

والشيخ في هذا البرهان كأنّه ناظر إلى كلام الفارابى في رسالة له في إطلاقات العقل من أنّ شأن ذات النفس الناطقة أن تكون عاقلة للموجودات كلها ، وشأن الموجودات‏

١٦٤

كلّها أن تعقل وتحصل صورا لتلك الذات فاذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون المعقولات من حيث هي معقولات بالفعل ، وهي عقل بالفعل أن يعقل أيضا فيكون الذي يعقل حينئذ ليس هو شيئا غير الذي هو بالفعل عقل.

والبرهان المذكور من الشفاء منقول في أسرار الحكم للحكيم السبزوارى مترجم بالفارسية وهو البرهان الثانى فيه قال : «برهان دوم آن است كه عاقله قوّت دارد بر افعال غير متناهية ... إلخ» (ص ٢٤١ ، بتصحيح الاستاد العلّامة الشعرانى وتعليقاته عليه).

وكذا نقله في الحكمة المنظومة بتحرير آخر ، قال :

والثالث قولنا : وكون فعل النفس لا انتهاء له. بيانه أنّ العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية ، ولا شي‏ء من الجسمانيات يقوى على أفعال غير متناهية. أما الصغرى فلأنّ العاقلة تقوى على معقولات غير متناهية ، ففي إدراك كل معقول كلى يحيط بجميع أفراده الغير المتناهية لأنّ ذلك المعقول من حيث التحقق عين تمام المشترك النوعى أو الجنسى أو غيرهما لجميع أفراده فإذا عقدت قضية عقلية بأنّ النار مشرقة أحاط عاقلتك بجميع النيران ماضية أو آتية ، خارجية أو ذهنية؛ بخلاف ما في الخيال من الصورة النارية الجزئية. وكون التعقل فعلا ليس فيه كثير إشكال؛ وكفاك قولهم في الملكة العلمية إنّها عقل بسيط خلاق التفاصيل. وأما الكبرى فلما ثبت أنّ قوى الجسمانية (كذا ـ القوى الجسمانية ـ ظ) متناهية التأثير والتأثر.

أقول : هذا تمام كلام السبزوارى في تقرير هذا البرهان على تجرّد النفس الناطقة.

وناظر في كلامه : «بخلاف ما في الخيال ...» إلى قول الشيخ في الشفاء : «وليس لقائل أن يقول : كذلك المتخيلات ...» وكذا كلامه : «وكون التعقل فعلا ...» ناظر إلى كلام الشيخ في الشفاء : «ولا لقائل أن يقول : إن هذه القوّة ...» كما أنّ أصل البرهان من الشفاء. ثمّ أفاد في هامش المنظومة مطالب في بيان هذا البرهان وأجاد جدا وهي ما يلى :

قولنا أمّا الصغرى فلأنّ العاقلة تقوى على معقولات غير متناهية ، أي كل منها

١٦٥

غير متناهية الأفراد وهو بوحدته كلّها لأنّه مقام الكثرة في الوحدة له ، وهي مقام الوحدة في الكثرة له ، فذلك الوجود حقيقته وهذه الوجودات رقائقه وتنزلاته بلا تجاف عن الجبروت لأنّه لسعته لا يسعه الناسوت فهو كاللّف وهي كنشره ، وكالرتق وهي كفتقه‏ (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) واذا أدركت كليا عقليا فقد شاهدت وجودا محيطا وأحاطت بجميع رقائقه المثالية والطبيعية الماضية والمستقبلة والحالية لأنّ ماهيته وماهيتها واحدة إذ الأشياء تحصل بأنفسها في الذهن والفرض وجدانك ماهيتها وعنوانها المطابق لكونك حكيما عالما بالحقائق متصورا إيّاها بالحدود والرسوم ، ووجوده النحو الأعلى الأتم لوجودها وكل بسيط الحقيقة كل ما دونه ، والوجود أي مرتبة منه مع المراتب الأخرى منه سنخ واحد ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك ولهذا كان الصورة العقلية علما بكلّها. ولو لا اتصالك بل اتحادك بهذه الوجودات المحيطة الواحدة بالوحدة الجمعية لطال الأمر عليك بل تعذر معرفة الجزئيات لحاجتك إلى استيناف نظر في كل واحد واحد لتعرفها وتعرف أحكامها ، والجزئى لا يكون مكتسبا كما لا يكون كاسبا بخلاف الكلى فإنّه نور يسعى بين يدى عقلك يهديه ويقوده إلى معرفة أحكام ذاتها وصفاتها. فعليك بمزاولة إدراك الكليات والانسلاخ عن الجزئيات لأنّ كمال النفس بمعرفة الكليّات وتعقّلها لا بادراك الجزئيات بل تلك جنبة غنائها ، وهذه جنبة فقرها إلى البدن وقواه. وهذا نقص عظيم إلّا في الابتداء ليكون ذريعة إلى نيل الكلّيات بالعنوانات المطابقة كما هو شأن الحكيم المنطبق للوضع مع الطبع وإن فقد حسّا فقد علما. ثمّ إنّ الكلّية العقلية في المعقول باعتبار سعة وجوده وحيطته وعدم تناهيه مدة وشدّة بالنسبة إلى وجود رقائقه ، وأمّا عدة فهو باعتبار حصصه الغير المتناهية في أفراده الغير المتناهية ، والحصص وإن استعملت في المشهور في الكلى الطبيعى إلّا أنّا أردنا بها الدرجات الوجودية النازلة إذ الكلام في الكلى العقلى وهذا هو مرادنا بتمام المشترك في الشرح.

وبوجه آخر أقول : للنفس تعقلات غير متناهية ، وإحاطة بعلوم غير متناهية العدد في

١٦٦

أبواب غير متناهية ، مثل أنّها تعقل أنّ كل علة متقدمة على المعلول وجامعة لكمالات المعلول وفعلياته ويتفرع عليه في موارد غير متناهية علوم غير متناهية كما في النفوس الغير المتناهية العقول المستفادة سابقة دهرا على القول بالفعل ، وهي على العقول بالقوّة ، وكل جامع لكمالات ما دونه؛ وكما في النيّرات والكواكب الثابتات التي هي أكثر من قطرات البحار وعدد الرمال فإنّ كل نيّر ونور حسّى جسمانى له نور مدبر اسفهبد فلكى ، وفوقه نور قاهر عقلى من القواهر الأدنين وكلّها اشراق نور الأنوار بهر برهانه فإنّه نور كل نور فكل نور سابق جامع للاحقه ، وكذا العلل والمعاليل الكيانية وكل مستنير من النور الأقهر الأبهر بهر برهانه‏ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ‏. آفتاب وجود كرد اشراق / نور او سربه‏سر گرفت آفاق. ومثل أنها تعقل أن الشيئين إما مثلان وإمّا خلافان وإمّا متقابلان بأربعتها وفروعاتها الكلية المعلومة لها غير متناهية مثل انّ الحلاوة مع البياض خلافان ، وكذا مع السواد مع الصفرة والحمرة ونظائرها ، وكذا هي مع كل طعم. ومثل أنّ الوجود والماهية خلافان ، ومن فروعها مخالفة الوجود مع ماهية الإنسان والفرس وغيرهما من الماهيات الغير المتناهية. وقس القواعد الأخر والفروع الأخر ، وانظر إحاطة النفس بالعلوم الغير المتناهية ، انّ اللّه خلق آدم على صورته ، غافل از خويش خدا مى‏طلبى / اى غلط كرده كه را مى‏طلبى؛ مخزن گنج معانى دل تست / مقصد هر دو جهان حاصل تست. فمن مطلع النور البسيط كلمعة / ومن مشروع البحر المحيط كقطرة.

ثمّ المتأله السبزوارى بعد ما قرّر الدليل المذكور على الوجه المقدّم ذكره قال :

وإذا عرفت تقرير هذا الدليل فلا تعبأ باعتراضات الفاضل القوشجى عليه عند قول العلّامة الطوسى قدّس سرّه وقوتها على ما يعجز المقارنات للمادة عنه. انتهى.

أقول : شرّاح التجريد كالعلامة الحلّي والفاضل القوشجى وصاحب الشوارق والشارح محمود الاصفهانى فسّروا قول المحقق الطوسى على نحو ما أفاده الشيخ في هذا البرهان من أنّ النفس تقدر على تعقل أمور غير متناهية ، والشي‏ء الذي يقوى على أمور غير متناهية ليس بجسم ولا جسمانى فالنفس مجرّدة عن المادة وأحكامها

١٦٧

المادية. ولكن الحق أنّ عبارة المحقق الطوسى أعم شمولا من التفسير المذكور لأنّه يشمل أيضا قوّة النفس وقدرتها على التصرف بمادة الكائنات ، والتعلق بها من غير أنّ تماسها أعضاؤها كالمعجزات وخوارق العادات وإظهار الكرامات والعلم بالمغيبات ، وعلم النفس بذاتها وآلاتها وإدراكاتها بلا توسط آلة بينها وبينها ونحوها مما تعجز المقارنات للمادة عنها مطلقا ، فلا وجه في انحصاره بالوجه المفسّر المذكور ، أو بالوجوه القريبة منه. ثمّ بعد ما فسّروها بالوجه المذكور أعنى كون النفس قادرة على تعقل أمور غير متناهية أوردوا عليه بعض الإيرادات الغير الواردة. وصاحب الشوارق حمل قول المحقق الطوسي على البرهان المذكور من الشفاء أوّلا ، ثمّ على برهان آخر من أنّ النفس تدرك ذاتها وآلاتها وإدراكاتها ثانيا وجعلهما بيانا لصغرى القياس. فلا بأس بنقل طائفة ممّا ذكروها حول كلامه : «وقوتها على ما يعجز المقارنات للمادة عنها» ثمّ بالإيماض إلى ما يجري بذلك :

قال في كشف المراد في شرح قول المحقق الطوسى : «وقوتها على ما تعجز المقارنات عنه» وهو الوجه الثالث من وجوه أدلة تجرّد النفس الناطقة الإنسانية ، ما هذا لفظه :

أقول : هذا هو الوجه الثالث ، وتقريره أنّ النفوس البشرية تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادة فلا تكون مادية لأنّها تقوى على ما لا يتناهى لأنّها تقوى على تعقلات الأعداد غير المتناهية ، وقد بينّا أنّ القوّة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى فتكون مجرّدة. وفيه نظر لأنّ التعقل قبول لا فعل ، وقبول ما لا يتناهى للجسمانيات ممكن. انتهى.

أقول : قوله لأنّها تقوى على ما لا يتناهى ، إن كان المراد بيان فرد مما يشمله كلام المحقق الطوسى فلا كلام فيه ، وإلّا فقد دريت انّه اعمّ شمولا منه. ثمّ انّ نظر صاحب الكشف منظور فيه وذلك لأنّ التعقل هو صورة علمية جمعية فتارة هي معنى معقول غير متناهى الأفراد ، وتارة هي حقيقة وجودية نورية لها شئون نورية ذات شجون هي رقائقه ، وهذا الشخص من الجسم الخارجى مقارن للمادة وممنو بالمكان والزمان ليس‏

١٦٨

بصورة خيالية شاعرة فضلا عن أن تكون صورة عقلية فما فوقها من الحقيقة الوجودية المتشأنة بشئوناتها الظلية. والحقّ أنّ التحقيق التام الذي حكيناه عن المتأله السبزوارى آنفا لا يبقى مجالا للتفوّه بأمثال هذه الشبه.

قال الفاضل القوشجى في شرح قول المحقق الطوسى : «وقوّتها على ما يعجز المقارنات عنه» ما هذه حكاية ألفاظه :

يعنى أنّ النفس الناطقة تقوى على معقولات غير متناهية ، وقد سبق أنّ أفعال الماديات متناهية.

وأجيب بأنّ التعقل عبارة عن قبول النفس الصورة العقلية وهو انفعال لا فعل والانفعالات الغير المتناهية جائزة على الجسمانيات كما في النفوس الفلكية المنطبعة وهيولى الأجسام العنصرية.

أقول : ولو سلّم أنّه فعل ، قولكم النفس تقوى على معقولات غير متناهية إن أردتم به أنّها لا تنتهى إلى معقول إلّا وهي تقوى على تعقل آخر بعده فالقوى الجسمانية أيضا كذلك فإنّ القوّة الخيالية مثلا لا تنتهى في تصور الأشكال إلى حدّ إلّا وهي تقوى على تصور شكل آخر بعده. وإن عنيتم به أنّها تستحضر معقولات لا نهاية لها دفعة واحدة فهو ممنوع ، إلّا أن يريدوا أنّها يتصور مفهوما كليا ويلاحظ أفراده الغير المتناهية في ضمن ذلك المفهوم الكلى إجمالا والقوى الجسمانية لا تقدر على تعقل ذلك. قلنا ذلك لأنّها لا تقدر على تعقل الكلّى فيرجع إلى الوجه الأوّل بعينه. وأيضا فإنّ النفس تدرك ذاتها وآلاتها وإدراكاتها والمدرك الجسماني ليس كذلك كالباصرة والسامعة والوهم والخيال لأنّها تنعقل بتوسط آلة ولا يمكن توسط الآلة بين الشي‏ء وذاته وآلته وإدراكاته.

وأجيب عن ذلك بأنّه لم لا يجوز أن يدرك بعض الجسمانيات ذاتها وإدراكاتها من غير توسط آلة وكذا ما هو آلة لها في سائر الإدراكات. انتهى.

أقول : التعقل كالتفكير فعل يخصّ النفس بوجه خاص. والصورة العقلية مطلقا جوهر مدرك لذاته فهو عقل وعاقل ومعقول. والتعقل في الحقيقة ارتقاء النفس إلى‏

١٦٩

تلك الصورة العقلية واتحادها بها عينا ووجودا فالتعقل أشمخ درجة من أن يتفوّه حوله القبول والانفعال والحلول والحال والمحل ونحوها. والمراد من الفعل في المقام هو مطلق اتصاف النفس بمدركاتها. فافهم.

ثمّ كون الجسم قابلا للانفعالات الغير المتناهية بالقوّة أمر ، وكون النفس حائزة للصور العلمية الغير المتناهية بالفعل إلى حد يصير وعاء لحقائق الكلمات النورية ويقرأ في شأنها (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) مثلا أمر آخر. والتفاوت بين الأمرين كالتفاوت بين الجسم والعقل كما أشرنا إليه آنفا.

قوله : «والنفوس الفلكية المنطبعة إلخ». التحقيق أنّ النفوس الفلكية كالنفوس الإنسانية لها مراتب أرفعها هي العاقلة وأنزلها هي المنطبعة. والمنطبعة وإن كانت بتبع الجسم أعنى البدن ينقسم ، ولكن النفس من حيث هي روح مدبرة للبدن غير منقسمة.

قوله : «فإنّ القوّة الخيالية مثلا ...». القوّة الخيالية كسائر القوى من شئون النفس. وليست الخيال من القوى الجسمانية ، بل هي مجرّدة بالبراهين القاطعة السالفة. ثمّ إنّ هذه القوّة التي جبلت للمحاكاة وتصوير المعانى على صور مناسبة لها ، لها فسحة عظيمة تتصوّر بالأشكال والأشباح والصور الكثيرة فوق الإحصاء دفعة واحدة. كما أنّ نمازج منها ترى في المنامات بالغة إلى ما شاء اللّه كثرة وكلها منتشأة من القوّة الخيالية المسخّرة تحت سيطرة النفس ، وأنّى للقوى الجسمانية هذه الفسحة العظيمة؟! كيف لا وقد بيّن أساطين المعارف الحقة في خواص النبوّة أنّ النبيّ يجب أن يكون قوّته المتخيّلة في كمال السعة والصفاء والقدرة كما أنّ عاقلته كذلك حتى يتعقل الحقائق الآلهية كما ، ويتمثل في خياله حقيقة الملك وصور المعانى على التفصيل الذي حرّرناه وبينّاه في شرح الفصلين الثالث والثلاثين والرابع والثلاثين من فصوص الفارابى من كتابنا نصوص الحكم (ص ١٨٨ ـ ٢٠٦ ، ط ١ ، ايران).

قوله : «وإن عنيتم به انّها تستحضر معقولات لا نهاية لها دفعة واحدة إلخ».

أقول : قد اغنانا ما تقدّم آنفا من التحقيق التام الذي أفاده المتأله السبزوارى في أنّ العاقلة تقوي على معقولات غير متناهية عن إيراد ما يرد عليه ، وإبرام ما هو الحقيق‏

١٧٠

في المقام. ويجب الفرق بين دفعة زمانية وآنية وبين دفعة دهرية فان الأوليين لا يليقان بعالم العقل بخلاف الثانية كالفرق بين الجسم الزمانى وبين الجسم الدهرى فافهم.

قوله : «وأيضا فإنّ النفس تدرك ذاتها إلخ».

أقول : هذا البيان هو أحد المصاديق المستفاد من قول المحقق الطوسى : «وقوتها على ما يعجز المقارنات للمادة عنه». كما تقدّم كلامنا فيه.

وأمّا قوله : «وأجيب عن ذلك بأنّه لم لا يجوز إلخ» فسيأتى التحقيق الحقيق بذلك في البراهين الآتية فيعلم دليل عدم الجواز الذي توهمه المجيب. وصاحب الشوارق ناظر إليه بقوله :

وما قيل لم لا يجوز أن يدرك بعض الجسمانيات ذاتها وآلتها وإدراكاتها من غير توسط آلة ، ففساده ظاهر ، لأنّه لو كان كذلك لم يكن جسمانيا ، إذ لا معنى للجسمانى إلّا ما يدرك ويعقل بالجسم.

ثمّ قال :

فإن قلت : هذا الدليل منقوض بنفوس الحيوانات العجم فإنّها تدرك ذواتها وآلاتها مع كونها مادية.

قلت إدراكها لذواتها كما يدرك الإنسان ذاته أعنى مع الغفلة عن الحواس ممنوع بل الظاهر أنّ إدراكها انّما هو لبدنها وعوارضه باللمس والحس لا غير فليتدبر وبالجملة لا نقض إلّا مع العلم. انتهى.

أقول : وقد حرّرنا الكلام في النفس الحيوانية في العين الإحدى والعشرين من كتابنا العيون.

اعلم أنّ هذا البرهان المذكور من الشفاء والنجاة ورسالة الشيخ في النفس وبقائها ومعادها ، هو ما جعله الفخر الرازى في المباحث المشرقية الدليل الثالث من أدلة تجرّد النفس الإنسانية بتحرير آخر. (ج ٢ ، ص ٣٦٠ ، ط حيدرآباد). وأيضا هو ما جعله صدر المتألهين في نفس الأسفار الحجة الرابعة من حجج تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا (ج ٤ ، ص ٦٩ و ٧٠ ، ط ، ايران) وصاحب الأسفار نقل عبارة صاحب المباحث في‏

١٧١

تقرير الحجة؛ إلّا أنّ صاحب الأسفار أفاد في أثناء عبارات المباحث عدّة إشارات لطيفة معنونة بقوله : أقول ، هي مع عبارات الفخر كالشرح المزجى لبيان الحجة ، فنحن نأتى بما في الأسفار ثمّ نتبعه بعون الفيّاض على الإطلاق بعض الإيماضات حولها فيعلم من جميع ذلك أنّ الحجة في غاية الإتقان وهي حجة قاطعة على طالبى الإيقان في معرفة النفس بنور البرهان ، والاعتراضات التي اوردوها عليها موهونة جدّا. ثمّ وقد حرّفت في الأسفار المطبوعة كلمة صاحب المباحث بصاحب المباحثات والصواب هو الأوّل بلا مراء. فعليك بما في الأسفار من تقرير الحجة على النهج الذي وصفناه :

الحجة الرابعة أنّ القوة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية ، ولا شي‏ء من القوى الجسمانية يقوي على أفعال غير متناهية ، فلا شي‏ء من القوى العاقلة جسمانية. أمّا الصغرى فانّها تقوى على إدراك الأعداد ولا نهاية لمراتبها مع أنّها أحد الأنواع المدركة للقوّة العاقلة؛ وأمّا بيان الكبرى فقد سبق.

قال صاحب المباحث أنّ إثبات كون القوى الجسمانية متناهية الفعل يحتاج إلى أن نبيّن أنّها منقسمة بانقسام محلّها فيرد النقوض الموردة على الحجة الأولى أعنى النقض بالنقطة والواحدة والإضافة ومدركات الوهم وغيرها.

أقول : قد مرّ اندفاع تلك النقوض بحمد اللّه.

ثمّ قال : ثمّ على هذه الحجة أسئلة زائدة تخصّها :

أوّلها : أنا لا نسلّم أنّ القوة الناطقة تقوى على إدراك أمور غير متناهية دفعة ، بل إدراكا لا ينتهى إلى حد إلّا ويقوى بعد ذلك على إدراك شي‏ء آخر ، ولكن لا يلزم من ذلك كونها قوية على إدراكات غير متناهية كما أنّ الجسم لا ينتهى في الانقسام إلى حدّ يقف عنده ولكن يستحيل أن يحصل له تقسيمات غير متناهية بالفعل فكذلك هاهنا. وبالجملة فالحال في فاعلية تلك القوّة كالحال في منفعليته.

الثانى : سلمنا أنّها قوية على أمور غير متناهية ، ولكن لم قلتم انّها قوية على أفعال غير متناهية؟ وذلك لأنّ الإدراك ليس فعلا بل هو انفعال وانتم تجوّزون أن يكون الأمر الجسماني قويا على انفعالات غير متناهية. والدليل عليه أنّكم تثبتون هيولى

١٧٢

أزلية قد تواردت عليها صور غير متناهية.

الثالث : النقض بالنفوس الفلكية فانّها عندكم قوى جسمانية مع أنّ أفعالها وهي الحركة الدورية غير متناهية.

والجواب : أمّا عن الأوّل فلا شك أنّ القوة الناطقة لا تنتهى إلى حد إلّا وتقوى على إدراك أمور أخر وقد قام البرهان على أنّ القوى الجسمانية لا يمكن أن يكون كذلك فقد حصل الغرض. ولقائل أن يقول : القوّة الجسمانية إمّا أن يقال إنّها تنتهى إلى وقت لا يبقى لها إمكان الوجود وبعد ذلك يصير ممتنع الوجود ، أو لا تنتهي إلى هذه الحالة البتة. والأوّل باطل لأنّ الممكن لذاته لا يصير ممتنعا لذاته. وأمّا الثاني فنقول : إذا كانت القوّة الجسمانية لا يجب انتهاؤها إلى حيث يزول عنه إمكان الوجود ، فهي إذا أبدا في ذاتها ممكنة الوجود ولا ينتهى إلى أن يستحيل بقاؤها أبدا ، ومتى كانت باقية أبدا كانت مؤثرة وتجويز ذلك يبطل أصل الحجة.

أقول : إنّ الإمكان الذاتي ومقابله من عوارض الماهيات من حيث هي إذا قيست إلى الوجود ، والقوى عبارة عن موجودات متشخصة والموجود بما هو موجود أمر شخصى ويكون الزمان الخاص من مشخصاته ، فوجوب نحو خاص من الوجود وامتناع نحو آخر منه بخصوصه لا يخرج الماهية المشتركة بينها عن الإمكان الذي هو حالها من حيث هي هى والبرهان قائم على امتناع لا تناهى الأفعال لواحد شخصى من الجسم لا على امتناع ذلك لواحد نوعى ، والوحدة العددية حكمها غير الوحدة النوعية.

وأمّا عن السؤال الثانى فهب أنّ الإدراك نفسه انفعال ولكن فعل النفس في تركيب المقدمات وتحليلها وذلك كاف في غرضنا.

أقول : انّ جهة انفعالات القوى غير منفكة عن جهة أفاعيلها وإن كانت الجهتان مختلفتين فإنّ الشي‏ء ما لم يكن له وجود لا ينفعل عن شي‏ء آخر فالقوّة الجسمانية كما لا تقوى على أفعال غير متناهية كذلك لا تقوى على انفعالات غير متناهية. وأمّا النقض بالهيولى فهو مندفع بأنّ الهيولى في ذاتها ليست لها هوية باقية بالعدد لأنّها

١٧٣

ضعيفة الوحدة مبهمة الوجود ، وحدتها على نحو الوحدة الجنسية وهي بحسب تحصّلاتها الصورية متبدلة متجددة كما مرّ بيانه.

فإن قلت : ألستم قد بيّنتم الفرق بين الحس المشترك وبين المفكرة بأنّ أحدهما مدرك والآخر متصرف والقوّة الواحدة لا تكون مبدءا للإدراك والتصرف فكيف تنسون ذلك وتحكمون بأنّ النفس قوية على الفعل وهو التصرف في المقدمات وتركيبها ، والانفعال وهو التصور وقبول الصور؟ قلت إنّ النفس لها قوتان علمية وعملية وتفعل بأحدهما وتنفعل بالأخرى.

وأمّا عن الثالث فقيل إنّ النفوس الفلكية وإن كانت جسمانية إلّا أنّها غير مستقلة في أفعالها من التحريكات ، فهي في ذاتها وإن كانت متناهية القوّة إلّا أنّها بما يسنح عليها من أنوار العقل صارت غير متناهية.

واعترض عليه بأنّ القوّة العقلية إذا حركت الفلك فإمّا أن يفيد الحركة أو قوّة بها يكون الحركة. فإن أفادت القوّة المحركة وهي جسمانية فالقوّة الفاعلة للأفعال الغير المتناهية جسمانية. وإن كانت القوّة العقلية مفيدة للحركة لم يكن القوّة الجسمانية مبدءا لتلك الحركة فلا يكون الحركة حركة. وأيضا يلزم أن يكون الجسم بما هو جسم قابلا لتأثير العقل المفارق من غير أن يكون فيه قوّة جسمانية ومحال.

أقول : هذا أنّما يلزم لو كان الوسط في التأثير قوّة واحدة بالعدد أو ضميمة واحدة بالعدد. وأمّا إذا كانت الواردات من العقل المفارق على مادة الفلك قوى متجددة كما رأينا ، أو كيفيات مستحيلة فلا يلزم شي‏ء من المحذورين ، وقد مرّ نظير هذا الكلام فيما سبق. ولكن بقي الكلام هاهنا بأنّه إذا جاز ذلك في القوى الفلكية مع كونها جسمانية فلم لا يجوز أن تكون القوّة الناطقة جسمانية؟ لكنها بما يسنح عليها من نور العقل الفعّال تقوى على الأفعال الغير المتناهية.

وأقول : ويؤيّد هذا البحث أنّ قوّة التخيل مع كونها غير عقلية أيضا تقوى على تصويرات غير متناهية لا تقف عند حدود ذلك لأنّها ، مستمدّة من عالم العقل. انتهى كلام صاحب الأسفار في المقام.

١٧٤

أقول : صاحب الأسفار نقل عبارات المباحث مع تصرّف فيها روما للاختصار. قوله : «وبالجملة فالحال ...» اى الحال في فاعلية القوّة العاقلة الناطقة كالحال في منفعلية الجسم عن الانقسام.

قوله : «والجواب أمّا عن الأوّل ...» هذا من تتمة كلام صاحب المباحث إلى قوله يبطل أصل الحجة. وكذا قوله : «وأمّا عن السؤال الثانى» إلى قوله : «كاف في غرضنا». وكذا قوله : «فإن قلت ألستم قد بينتم» إلى قوله «وقبول الصور». وكذلك قوله : «وأمّا عن الثالث» إلى قوله : «على الأفعال الغير المتناهية». ولكن كما قلنا مع نحو تصرف في عبارات المباحث.

قوله : «فإنّها عندكم قوى جسمانية». هذا على رأى طائفة من المشائين. والحق ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ أنّ وزان النفوس الفلكية مع الأجرام الفلكية وزان النفوس الناطقة الإنسانية مع أبدانها كما برهن في محلّه.

قوله : «والجواب أمّا عن الأوّل إلخ» على أنّ القوّة الناطقة وإن كانت لا تنتهى إلى حدّ إلّا وتقوى على ادراك أمور أخر والقوى الجسمانية ليست كذلك كما دل عليه البرهان ولكنّ النفس تقوى أن تدرك أيضا اللانهاية والأمور الغير المتناهية دفعة بلا دخالة تعاقب الإدراكات فافهم.

قوله : «ولقائل أن يقول القوّة الجسمانية» ، أي نوعها لا شخصها. أعنى يجب أن تكون القوّة الجسمانية الشخصية متناهية لا القوّة الجسمانية النوعية كما يشير إليه قول صاحب الأسفار في جوابه : «والبرهان قائم على امتناع لا تناهى الأفعال لواحد شخصى من الجسم ، لا على امتناع ذلك لواحد نوعي ، والوحدة العددية حكمها غير الوحدة النوعية». وهذا التحقيق الأنيق هو جواب صاحب الأسفار عن شبهة الفخر بقوله : «ولقائل أن يقول القوّة الجسمانية إلخ» فهي مدفوعة.

قوله : «أقول انّ جهة انفعالات القوى ...» كان وجه الاعتراض أنّ الإدراك ليس فعلا بل انفعال ، والأمر الجسمانى يكون قويا على انفعالات غير متناهية فلا يتم الحجة على تجرّد النفس الناطقة. فأجاب الفخر عن الاعتراض بأنّ الإدراك وإن كان انفعالا ولكن‏

١٧٥

تركيب المقدمات وتحليلها فعل النفس فبهذا الوجه تكون النفس قوية على افعال غير متناهية وليس الأمر الجسمانى كذلك فالنفس ليست بجسمانية. وأجاب صاحب الأسفار عن الاعتراض بقوله : «إنّ جهة انفعالات القوى غير منفكة عن جهة أفاعيلها إلخ». ولا يخفى عليك أنّ الفعل تارة يطلق في مقابل القوّة والاستعداد ، وتارة يطلق في مقابل الانفعال. والمقصود في المقام هو الفعل بالإطلاق الثانى ولا يخفى عليك أنّه خلّط بين الفعل في مقابل القوّة والاستعداد والفعل في مقابل الانفعال ، اللهم إلا أن يريد من الوجود مبدأ الأفعال فقوله فإنّ الشي‏ء ما لم يكن له وجود لا ينفعل عن شي‏ء آخر ، أي الوجود فعلية ومبدأ الأفعال فانفعالات القوى الغير المتناهية ترجع إلى أفاعيلها الغير المتناهية. والفرق بين جوابه وجواب الفخر عن الاعتراض ظاهر.

قوله : «وأمّا النقض بالهيولى إلخ». أجاب عن النقض بوجهين أحدهما أنّ الهيولى في ذاتها مبهمة الوجود. وثانيهما أنّها متحدة الوجود بحسب تحصلاتها الصورية بالحركة الجوهرية. والسؤال أنّما كان على وحدتها العددية الثابتة الباقية الدائمة وقبولها الصور الغير المتناهية كما هو رأى المتأخرين من المشاء فتبصّر. ولا يخفى عليك أنّ الهيولى على الحركة في الجوهر غير ثابتة في الخارج وانّما ثباتها في الذهن فقط فهي في الخارج مع كل صورة بحسبها.

قوله : «وهو محال» وذلك للزوم تجسم العقل ، أو تروح الجسم.

قوله : «قوى متجددة كما رأينا» يعنى به الحركة الجوهرية. والكيفيات المستحيلة قيل هي الأحوال الطارية على الفلك كالتعقلات المتتالية والتشبهات المتعاقبة إلى ما فوقه من العقل المفارق ، ولكن الاستحالة كالقوّة يجب أن يتطرّق فيها التناهى أو اللاتناهى وهما من صفات الكم.

قوله : «وأقول ويؤيد هذا البحث أنّ قوّة التخيّل ...» أي ويؤيّد هذا البرهان في تجرّد النفس أنّ قوّة التخيّل مع كونها دون قوّة التعقل تقوى على تصويرات غير متناهية على التعاقب لا تقف عند حدّ ، بل تقوى عليها دفعة دهرية غير آنية ولا زمانية فالقوّة العاقلة التي فوقها تجرّدا وسعة أولى بذلك. وقد تقدم آنفا الكلام في فسحة القوّة الخيالية.

١٧٦

خلاصة البرهان : المعقولات غير متناهية بالقوّة ، وشأن القوّة الناطقة أن تعقلها بالقوّة أي القوّة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية ، والجسم والجسمانى ليس لهما هذه الشأنية أي ولا شي‏ء من القوى الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية ، فالقوّة الناطقة أي النفس الناطقة ليست بجسم ولا قوّة في جسم.

بل الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه) لخّص البرهان في عيون الحكمة وقد أتى فيه أربعة براهين على أنّ جوهر النفس مفارق غير مخالط للمادة ، وهذا البرهان هو الرابع منها قال في آخر الطبيعيات منه وهو آخر الفصل السادس عشر منه ما هذا لفظه في تقرير البرهان ملخصا :

وأيضا فإنّه ليس لشي‏ء من الأجسام قوّة أن يطلب أو يفعل أمورا من غير نهاية ، والمعقولات التي للعقل أن يعقل أيّها شاء كالصورة العددية والشكل وغير ذلك بلا نهاية؛ فإذن هذه القوّة ليست بجسم ، لأنّ كلّ جسم قوّته الفعلية متناهية؛ لست أعنى الانفعالية فإنّ ذلك لا يمتنع.

ثمّ ختم كلامه بقوله : فقد بان لك أنّ مدرك المعقولات ، وهو النفس الإنسانية ، جوهر غير مخالط للمادّة ، بري‏ء عن الأجسام ، منفرد الذات بالقوام والعقل.

البرهان الرابع من الباب الخامس من رسالة الشيخ الفارسية في معرفة النفس هو البرهان الخامس من نفس الشفاء ، فقد حرره الشيخ فيها بأوجز بيان وتلخيص فقال : «برهان ديگر معلوم است كه صور معقولات كه ...» (ص ٣٩ ، ١٣٧١ هـ. ق ، ط ، ١ ، ايران ، بتصحيح الدكتور موسى عميد).

قد ذكر الشيخ في الرسالة المذكورة أربعة براهين من الشفاء على تجرّد النفس وقد أوجز في تحريرها بالفارسية : الأوّل منها هو الأوّل منه ، والثانى منها هو الثالث منه ، والثالث منها هو الثانى منه ، والرابع منها هو الخامس منه ، كما تقدم التنبيه على ذلك في أثناء شروح البراهين المذكورة.

وكذلك الشيخ قدّس سرّه في رسالته في السعادة والحجج العشر على أن النفس الإنسانية جوهر مفارق ، قد حرّر البرهان الخامس من نفس الشفاء بعبارة أخرى تتضمن تمثيلا

١٧٧

مبينا لما في الشفاء من البرهان ، قال :

الحجة الثامنة؛ الصور الهندسية والعددية والحاصلة من تركيب ذوات الموجودات القابلة له على المناسبات غير متناهية في ذواتها ، والشي‏ء الذي يعقل به الإنسان له قوّة أن يعقل أيّما واحد منها كان ، ومهما ازداد منها زاد في القوّة ، وليست الصورة التي من شأنها أن يعقلها بمفردة الذوات عن جملتها. فتبيّن أنّ قوّته غير متناهية ، إذا القوّة الغير المتناهية غير منتصفة ، وكل قوّة جسمانية منتصفة بتنصّف الجسم الذي هي فيه. فإذا محل الحكم جوهر غير جسماني؛ وذلك ما أردنا أن نبين. (ص ١٠ ، ط ١ ، حيدرآباد الدكن).

وكذلك حرّره بتحرير آخر يتضمن ذلك التمثيل أيضا مع أنّه أبسط ممّا في رسالة السعادة ، في رسالته الأخرى النفسية أهداها للأمير نوح الساماني ، وهي مبحث عن القوى النفسانيّة ، أو كتاب في النفس على سنة الاختصار ومقتضى طريقة المنطقيين. وهو البرهان الخامس فيها أيضا قال :

ومن البراهين على صحة هذه الدعوى أنّ من البيّن أن ليس شي‏ء من القوى الجسمانية له قوّة على أفاعيل غير متناهية ، وذلك لأنّ قوّة نصف من ذلك الجسم لا محالة توجد أضعف من قوّة الجميع ، والأضعف أقل تقويا عليه من الأقوى ، وما قل من غير المتناهي فهو متناه ، فإذن قوّة كل واحد من النصفين متناهية ، فإذن مجموعها متناه ، إذ مجموع المتناهيين متناه ، وقد قيل إنّه غير متناه وهذا خلف.

فإذن الصحيح أنّ قوى الأجسام لا تقوى على أفاعيل غير متناهية. ثمّ القوة الناطقة تقوى على أفاعيل غير متناهية ، إذ الصّور الهندسية والعددية والحكميّة التي للقوّة النطقية أن تفعل فيها أفعالا ما غير متناهية؛ فإذن القوّة النطقيّة ليست بقائمة بالجسم ، فهي إذن قائمة بذاتها وجوهر بذاتها. ثمّ من البيّن أنّ فساد احد الجوهرين المجتمعين لا يقتضى فساد الثانى ، فإذن موت البدن لا يوجب موت النفس. وذلك ما أردنا أن نبيّن (ص ٧١ و ٧٢ ، ط مصر بتصحيح ادور فنديك. وص ١٧٥ من أربع رسائل نفسية للشيخ ، ط مصر ، بتصحيح الأهواني).

١٧٨

بيان : الصور الهندسية في الرسالتين مبتدأ ، وغير متناهية خبر له ، فما جاء في نسخة الأهواني : «إذ للصور الهندسية والعددية ...» وهم بلا مراء ، كما أنّ عبارة الشيخ في رسالة السعادة كالنصّ على ذلك حيث وقع «الصور الهندسية» أوّل العبارة؛ على أنّ بياننا الآتى ذكره يزيح الدغدغة رأسا.

وكذا قد حرّره بتحرير آخر نافع جدّا في تقرير هذا البرهان في رسالته الأخرى ، وهي سبعة من المقاييس المنطقية على بقاء النفس الناطقة. وهذا البرهان في تلك الرسالة هو القياس الثالث منها ، قال :

القياس الثالث : العلوم الحقيقية التي يقبلها الإنسان لسعيها لا بدّ لها من محلّ جوهريّ الذات صالح لقبولها فالجبلّة الإنسانية تكون ذات جوهر صالح لقبول ما يقبله من علومه ، وليس يشكّ كلّما ازداد اقتناء للعلوم ازداد به اقتدارا على علومها فإذا الجوهر الصالح منه لقبول العلم يجب أن تكون قوته على قبوله غير متناهية ، وإذا كان هذا سوس القابل لعلمه ثمّ لم يشك أنّ القالب الجسدانى لا يجوز أن يكون ذا قوّة بقبول شي‏ء من أعراض غير متناهية فإنّه في ذاته جسم ذو مقدار متناه ولن يجوز أن يكون ذو المقدار المتناهي ذا قوة متناهية لأنّ مقداره متى يوهم مضاعفا لحصلت نسبة القوّة إليه متناصفة ، فإذا القالب الجسدانى لن يجوز أن يكون محلا للعلوم فالقابل لها إذا يجب بأن يكون جوهرا غير جسمانى ، ولو كان غير جوهر لما كان محلا للعلوم ، ولو كان جسمانيا لكان قبوله للعلم إلى نهاية محدودة لا يجاوزها في القوّة حسب ما شوهد من الحال في قبوله للسواد والحرارة وليست النفس الناطقة في الحقيقة إلّا الجوهر الصالح لأن يكون محلا للعلوم ، فالجبلّة الإنسانية إذا وإن وجدت مشتملة عليها وعلى القالب فلن يجوز أن يكون نظيرا لذى القوّة المتناهية ، وانتقاض ذا القوّة لن يجوز أن يكون موهنا لذا القوّة المتناهية؛ ثمّ الفعل المختص بالجسم لن يعدو ذات الجسم ولن يجوز أن يوجد أعظم من الجسم وفعل النفس الناطقة قد ينفذ الأماكن البعيدة في الحالة الواحدة فقد يوجد كليا أبديا ، اللهم إلّا أن يظن ظانّ أنّها لو كانت ذات قوّة غير متناهية لاستصلحت طبع القالب دفعة لا في‏

١٧٩

مدة ، ولما ضعفت عن الاستصلاح في شي‏ء من حالاتها مدة أصلا غير أن الخطب في إزالة هذا الظن يسير فإنّ استصلاحها للقالب لا يكون إلّا بآلة معدّة لها وهي الطبيعة ، ثمّ الطبيعة في ذاتها قوّة متناهية فأمّا قبولها فلن يكون إلّا لمجرّد ذاتها ، ولهذا ليست يحتاج فيه إلى المدّة ولن يلحق فتور في القوّة وباللّه التوفيق.

تبصرة : هذا البرهان كما يدل على تجرّد النفس الناطقة كذلك يدلّ على أنّ لها مقام فوق التجرّد حيث قال : «فاذا الجوهر الصالح منه لقبول العلم يجب أن تكون قوته على قبوله غير متناهية ...» ونحوه من عبارات أخرى في هذا القياس.

وكذلك البرهان الذي نقلناه قبل هذا البرهان من رسالته السعادة ناطق بأنّ للنفس مقام فوق التجرّد حيث قال : «ثمّ القوّة الناطقة تقوى على أفاعيل غير متناهية ...».

ثمّ ما أشار إليه الشيخ في رسالة السعادة في أثناء البرهان من قوله : «إذا الصور الهندسيّة والعددية ...» فراجع في بيانه الدرس الثانى عشر من كتابنا دروس معرفة الوقت والقبلة ، وكذلك كتابنا الآخر إنسان وقرآن في بيان درجات آيات القرآن (ص ٧٧ ـ ١٠٨) ، سيّما الباب الأوّل من رسالتنا المسماة بـ الصحيفة الزّبرجديّة في كلمات سجّاديّة.

١٨٠