الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

حينئذ علم كل شي‏ء ، وصارت الأشياء كلّها بارزة لها كمثل ما هي بارزة للبارى عزّ وجلّ؛ لأنّا إذا كنّا ونحن في هذا العالم الدنس ، قد نرى فيه أشياء كثيرة بضوء الشمس ، فكيف إذا تجرّدت نفوسنا وصارت مطابقة لعالم الديمومية ، وصارت تنظر بنور البارى فهي لا محالة ترى بنور البارى كلّ ظاهر وخفيّ ، تقف على كل سرّ وعلانية.

أقول : وعلى هذا المنوال جاء في كتاب اخوان الصفاء :

أنّ النفوس السعيدة إذا فارقوا الأبدان صاروا ملائكة ، والنفوس الشقية إذا فارقوها صاروا شياطين وأجنّة ، وكما إذا غلب عليه الغضب والشهوة صار سبعا وبهيمة.

وكذا قال الشيخ البهائى في الأربعين :

والعجب منك انّك تنكر على عبّاد الأصنام عبادتهم لها ، ولو كشف الغطاء عنك ، وكوشفت بحقيقة حالك ، ومثل لك ما يمثل للمكاشفين إمّا في النوم أو اليقظة لرأيت نفسك قائما بين يدى خنزير ، مشمّرا ذيلك في خدمته ، ساجدا له مرّة ، وراكعا أخرى ، منتظرا إشارته وأمره؛ فمهما طلب الخنزير شيئا من شهواته ، توجّهت على الفور إلى تحصيل مطلوبه وإحضار مشتهياته ، ولأبصرت نفسك جاثيا بين يدى كلب عقور عابدا له مطيعا لما يلتمسه ، مدققا للفكر في الحيل الموصلة إلى طاعته وأنت بذلك ساع فيما يرضى الشيطان ويسرّه فإنّه هو الذي يهيّج الخنزير والكلب ويبعثهما على استخدامك ، فأنت عن هذا الوجه عابد للشيطان وجنوده ، ومندرج في المخاطبين المعاتبين يوم القيامة بقوله تعالى‏ : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏).

وكذا قال ابن مسكويه في طهارة الأعراق :

إن أصح مثل ضرب لكم من نفوسكم الثلاث (أي النفس الناطقة ، والنفس السبعية ، والنفس البهيمية) مثل ثلاثة حيوانات مختلفة جمعت في رباط (في مكان ـ خ ل) واحد : ملك وسبع وخنزير فأيّها غلب بقوته قوة الباقيين كان الحكم له. (طهارة الأعراق في حاشية مكارم الأخلاق للطبرسى ، ط ١ ، ص ٥١).

٦١

ولك مزيد استبصار في ذلك في العين الثالثة والستّين وشرحها من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في تجسّم الأعمال أيضا.

ونظير ما تقدّم من كلام هؤلاء الأكابر في القوى الحيوانية جاء في نزهة الأرواح للشهرزورى في أخبار ديوجانس الناسك الكلبى من أنّ :

الإسكندر وقف عليه يوما فلم يلتفت إليه ، فقال : يا ديوجانس! ما هذا التهاون بى؟

أراك عنّى غنيا. فقال : وأيّ حاجة تكون لى إلى عبد عبدي؟ فقال له الإسكندر : ومن عبد عبدك؟ فقال : أنت؛ قال له : وكيف ذلك؟ قال : لأنّى ملكت الشهوة فقهرتها واستعبدتها ، وملكتك الشهوة فقهرتك واستعبدتك ، فأنت عبد لمن استعبدته أنا. (ج ١ ، ص ٢٠٨ ، ط حيدرآباد الدكن الهند).

وكذا مثله منقول عن سقراط وملك ناحيته كما في طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل ، حيث قال في أخبار سقراط ما هذا لفظه :

وخطر عليه ملك ناحيته فنظر إليه ، فوعظه سقراط ـ إلى أن قال : قال له الملك : أنت عبد لي. قال له سقراط : وأنت عبد عبدي. قال له الملك : وكيف ذلك؟ قال له سقراط : لأنّى رجل أملك شهوتى الموذية ، وأنت رجل تملكك شهوتك فأنت عبد عبدى. (ص ٣٠ ، ط مصر).

ومما هو يناسب نقله في المقام ما أفاد هؤلاء العظام ، ما حكاه صاحب الفتوحات المكية في الباب الثالث والسبعين منها بقوله :

وكان بعض أخوالى منهم (يعنى من الذين تركوا الدنيا عن قدرة) ، كان قد ملك مدينة تلمسان يقال له يحيى بن يغان ، وكان في زمنه رجل فقيه عابد منقطع من أهل تونس يقال له عبد الله التونسي عابد وقته ، كان بموضع خارج تلمسان يقال له العباد ، وكان قد انقطع بمسجد يعبد اللّه فيه وقبره مشهور يزار ، بينما هذا الصالح يمشى بمدينة تلمسان بين المدينتين اقادبر والمدينة الوسطى ، إذ لقيه خالنا يحيى بن يغان ملك المدينة في خوله وحشمه ، فقيل له هذا أبو عبد الله التونسى (كذا) عابد وقته ، فمسك لجام فرسه وسلّم على الشيخ ، فردّ عليه السلام ، وكان على الملك ثياب فاخرة ،

٦٢

فقال له : يا شيخ هذه الثياب التي أنا لابسها تجوز لى الصلاة فيها؟ فضحك الشيخ ، فقال له الملك : ممّ تضحك؟

قال : من سخف قولك ، وجهك بنفسك وحالك ، ما لك تشبيه عندى إلّا بالكلب يتمرغ في دم الجيفة وأكلها وقذارتها ، فإذا جاء يبول يرفع رجله حتى لا يصيبه البول؛ وأنت وعاء ملي‏ء حراما وتسأل عن الثياب ومظالم العباد في عنقك. قال : فبكى الملك ونزل عن دابّته وخرج عن ملكه من حينه ولزم خدمة الشيخ ، فمسكه الشيخ ثلاثة أيام ، ثمّ جاءه بحبل ، فقال له : أيّها الملك قد فرغت أيّام الضيافة قم فاحتطب ، فكان يأتى بالحطب على رأسه ويدخل به السوق والناس ينظرون إليه ويبكون فيبيع ويأخذ قوته ويتصدق بالباقى ولم يزل في بلده ذلك حتى درج ودفن خارج تربة الشيخ ، وقبره اليوم بها يزار ، فكان الشيخ إذا جاءه الناس يطلبون أن يدعو لهم يقول لهم : التمسوا الدعاء من يحيى بن يغان فإنّه ملك وزهد ولو ابتليت بما ابتلى به من الملك ربما لم أزهد (ج ٢ ، ص ٢٣ ، ط مصر).

٦٣

ز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّاً عقليّاً

هذا البرهان من أوثق البراهين على أنّ النفس الناطقة من سنخ المفارقات النورية ونشأتها غير عالم الأجسام الماديّة. وهذا البرهان ناطق بأنّ الحواسّ لا تعلم أنّ للمحسوس وجودا في الخارج بل هذا شأن العقل ، والعقل هو النفس الناطقة العاقلة المجرّدة تجرّدا تامّا عقليا. فنأتى بما حرّره صاحب الأسفار في الفصل الثانى من الطرف الثالث من المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» منه في العقل والمعقول ، قال :

فصل في أنّ الحواس لا تعلم أنّ للمحسوس وجودا في الخارج بل هذا شأن العقل : إنّ الإدراكات الحسّية يلزمها انفعال آلات الحواس ، وحصول صور المحسوسات سواء كانت في آلات الحواس كما هو المشهور وعليه الجمهور ، أو عند النفس بواسطة مظهريتها كما هو الحق؛ فهو أنّما يكون بسبب استعداد مادة الحاسة له ، فإنّ لامسة أيدينا مثلا انّما تحس بالحرارة وتتأثر عنها للاستعداد الذي هو فيها؛ والبصر انّما يقع فيه الإحساس بصورة المبصر للاستعداد الذي هو فيه؛ والسمع انّما يحصل فيه الصوت للاستعداد الذي هو فيه ، وليس للحواس إلا الإحساس فقط وهو حصول صورة المحسوس فيها ، أو في النفس بواسطة استعمالها ، فالحواس أو النفس الحساسة بما هي حساسة ليس لها علم بأنّ للمحسوس وجودا في الخارج ، انّما ذلك ممّا يعرف بطريق التجربة فهو شأن العقل أو النفس المتفكّرة ، وليس شأن الحسّ والخيال.

والدليل على صحة ما ذكرناه أنّ المجنون مثلا قد تحصل في حسّه المشترك صور يراها فيه ، ولا يكون لها وجود من خارج ، ويقول ما هذه المبصرات التي أراها؟

٦٤

ويقول : إنّي أرى فلانا وكذا وكذا؛ ويجزم بأنّ ما رآه كما رآه فهي بالحقيقة موجودة في حقه كما وجدت للإنسان سائر الصور الحسية ، لكن لمّا لم يكن له عقل يميزها ويعلم أن لا وجود لها من خارج توهم أنّ تلك الصورة موجودة في الخارج كما هي مرئية له.

وكذلك النائم يرى عند منامه بحسّه المشترك بل بخياله أشياء لا حقيقة لها في الخارج من المبصرات والمسموعات وغيرهما فيرى ويسمع ويشم ويذوق ويلمس ، ويجزم بأنّه يشاهدها بالحقيقة. وسبب ذلك وجود صور تلك الأشياء في قوّة خياله وحسّه المشترك وهي في النوم كما هي عند اليقظة ، ولتعطّل القوّة العقلية عن التدبّر والفكر فيما يراه انّه من أيّ قبيل.

وكذلك إذا تأثرت أيدينا مثلا عن حرارة وردت عليها من خارج ، أو حصلت له بسبب داخلى لسوء مزاج حارّ ، فأحست بها لا يكون لها إلّا الإحساس فإما أن يعلم أنّ هذه الحرارة لا بدّ أن يكون في جسم حار خارجا كان أو داخلا فذلك للعقل بقوّته الفكريّة.

وكذلك إذا حملت شيئا ثقيلا فانّما تحسّ بالثقل ، وتنفعل عن الثقل فقط ، وأمّا أنّ هذه الكيفيّة قد حصلت بسبب جسم ثقيل في الخارج فذلك ليس إدراكه بالحس ، ولا بالنفس في ذاتها بل بضرب من التجربة.

ومن هذا المقام يتنبّه اللبيب بأنّ للنفس نشأة أخرى غير عالم الأجسام المادية يوجد فيها الأشياء الإدراكية الصورية من غير أن تكون لها مادة جسمانيّة حاملة لصورها وكيفياتها.

ونعم العون على إثبات ذلك العالم ما حققناه في مباحث الكيفيات المحسوسة أنّ الموجودة من تلك الكيفيات في القوى الحسيّة ليست إيّاها بل من جنس آخر من الكيفيّات هي الكيفيات النفسانيّة؛ فالمسموعات والمبصرات والملموسات وغيرها كلّها كيفيّات محسوسة حكاية ، وهي نفسانية حقيقة؛ كما أنّ الصور العقلية من الجواهر الماديّة كالإنسان والفرس والفلك والكوكب والماء والنار هي إنسان‏

٦٥

وفرس وفلك وكوكب وماء ونار حكاية ، وهي جواهر عقلية متحدة بالعقل بالفعل حقيقة. وهذه الأحكام وأشباهها من عجائب معرفة النفس الآدميّة وعلم المعاد كما نحن بصدد بيانه من ذى قبل انشاء الله. (الأسفار ، ج ١ ، ص ٣٢١ ، ط ١).

أقول : العقل يحكم بأنّ ما يدركه إنسان هو أيّ نوع من الإدراكات ، وهو الحاكم مثلا بأنّ ذلك المدرك مما فاض على صقع النفس مجرّدا ثمّ تمثّل بمثال صورى في لوح النفس أيضا ، وانّ هذا المدرك هو مما أنشأه النفس في صقع ذاتها بإعداد قواها الحسيّة ، وأنّى للقوى الأخرى هذه الشأنية. والعين تنفعل من الشمس إذا قابلتها مفتوحة أو مضمومة ، والمحسوس بالذات هو ما حصل للنفس عند قوتها الباصرة ، وأمّا أنّ المحسوس بالعرض هو الشمس ولها وجود في الخارج فهو شأن العقل؛ وكذا في باقى المحسوسات. بل ربما يدرك الإنسان مثالا نوريا في الأفق الأعلى وبين جثّة المدرك وذلك المثال مسافة مراحل ، وهو يعلم أنّ ذلك المثال قائم بنفسه القدسية الكلية الإلهية المدركة وليس بخارج عنها وإن كان بظاهره خارجا عنها بتلك المسافة ، وأنّى للحواس ذلك العلم والحكم. قال سبحانه : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى‏ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى‏ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى‏ ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏ فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى)‏ (النجم ٦ ـ ١١).

فهذا الدليل حكم عدل وناطق بالصواب على أنّ القوّة الحاكمة المميّزة التي اختص بها الإنسان دون سائر الحيوانات ، هي ليست من القوى المحسوسة ، بل هي نور مجرّد من وراء عالم الطبيعة وفوقه وقبله وبعده ومحيط عليه بل محيط به.

قوله : «ونعم العون إلخ». تحقيق البحث يطلب في عدة مواضع من الأسفار منها في مبحث الوجود الذهنى. وقوله : حكاية ، ناظر إلى ما هو التحقيق في الوجود الذهنى فإنّ المدركات من حيث هي حكاية وجودات ذهنية ، ومن حيث هي نور النفس علم حضورى ووجود بسيط اتسع بها النفس اتساعا وجوديا ، وزادت انكشافا نوريا. ولمّا كان العلم والعمل جوهرين نوريّين وكان قوام النفس بهما ، وكان العلم مشخصا للنفس كما أنّ العمل كان مشخصا للبدن ، والبدن مرتبة نازلة للنفس في العوالم كلّها ، ويتجسّم ويتحقق العلم والعمل كان للإنسان معادان ، الجسمانى والروحانى معا ، ويطلب تفصيل‏

٦٦

الكلام في المعادين في العين التاسعة والخمسين من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس.

وخلاصة تحقيقه في المقام هي ما أتى به في آخر الإشراق التاسع من الشاهد الثانى من المشهد الأوّل من الشواهد الربوبية ، حيث قال :

كشف وإنارة : النفس عند إدراكها للمعقولات الكليّة تشاهد ذوات نورية مجرّدة لا بتجريد النفس إيّاها وانتزاع معقولها من محسوسها كما عليه جمهور الحكماء بل بانتقال ومسافرة يقع لها من المحسوس إلى المتخيّل ثمّ منه إلى المعقول ، وارتحال لها من الدنيا إلى الأخرى ثمّ إلى ما وراءها. وفي قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) إشارة إلى هذا المعنى. أي تقدّم النشأة الدنيا على النشأة الأخرى من جهة انتقال النفس من إدراك المحسوسات إلى ما ورائها فإنّ معرفة أمور الآخرة على الحقيقة في معرفة أمور الدنيا؛ على أنّ مفهوميهما من جنس المضاف ، وأحد المضافين لا يعرف إلّا مع الآخر؛ ولهذا قيل : الدنيا مرآة الآخرة. والعارف بمشاهدة أحوال الإنسان هاهنا يحكم بأحواله في القيامة ومنزلته عند الله يوم الآخرة. واعلم أنّ لهذه المسألة على هذا الوجه الذي أدركه الراسخون في الحكمة مدخلا عظيما في تحقيق المعادين الجسمانى والروحاني ، وكثير من المقاصد الإيمانية ولهذا بسطنا القول فيها في الأسفار الأربعة بسطا كثيرا ، ثمّ في الحكمة المتعالية بسطا متوسطا ، واقتصرنا هاهنا على هذا القدر اذ فيه كفاية للمستبصر (ص ٢٣ ، ط ١).

أقول : ما قاله في آخر كلامه في الشواهد من الفرق بين الأسفار والحكمة المتعالية ، كان باتفاق عدة نسخ من المخطوطة التي عندنا وهي نسخ معتبرة مصححة بعضها مزدانة بتعليقات بعض تلامذة المتأله السبزوارى حين كان يتعلم الشواهد منه وتلك التعليقات كلها من إفادات المتأله المذكور ، ونسخة منها بخط الحكيم المولى إسماعيل أستاذ المتأله السبزوارى.

وبالجملة النسخ كلها متفقة في نقل العبارة المذكورة أعنى قوله : «ولهذا بسطنا القول فيها إلخ» مع أنّ عباراته الأخرى ناصة على أنّ الأسفار والحكمة المتعالية كتاب‏

٦٧

واحد. كما قال في أوّل الأسفار :

فرتّبت كتابى هذا طبق حركاتهم في الأنوار والآثار على أربعة أسفار وسميته بـ الحكمة المتعالية في المسائل الربوبية (ص ٤ ، ط ١).

وقال في البحث عن كون الشي‏ء موجودا لا ينافي تأثير العلّية من شرحه على الهداية الأثيريّة : (ص ٢٥٨ ، ط ١) : «ولنا بفضل الله ورحمته برهان حكمى على هذا المقصد الشريف أوردناه في كتابنا المسمّى بـ الحكمة المتعالية» وأورده في إلهيات الأسفار.

وقال في تعليقته على الفصل الخامس من سادسة إلهيات الشفاء في إثبات الغاية ما هذا لفظه :

ونحن لما كرهنا رجوع الرجل الإلهي في شي‏ء من مسائل علمه إلى صاحب علم جزئى طبيعيا كان أو غيره سيما في المبحث الذي كان مذكورا هناك على سبيل الوضع والتسليم ، لهذا نرفع الحوالات في أكثر المواضع من شرح هذا الكتاب ونوردها بالفعل كما هو عادتنا في كتابنا الكبير المسمى بـ الأسفار وهو أربعة مجلدات كلها في الإلهيات بقسميها الفلسفة الأولى وفنّ المفارقات (ص ٢٥٦ ، ط ١).

ففي شرح الهداية سماه بـ الحكمة المتعالية ، وفي تعليقته على الشفاء بـ الأسفار الأربعة. والشواهد من كلماته وكلمات أرباب التراجم في أنّ الأسفار الأربعة هو الحكمة المتعالية كثيرة. وقال أستاذنا العلم الآية السيد ابو الحسن الرفيعى القزويني (رفع اللّه تعالى درجاته) في وجه تسمية الكتاب تارة بـ الحكمة المتعالية ، وأخرى بـ الأسفار الأربعة : «إنّ الأوّل بلحاظ الجمع ، والثاني بلحاظ التفصيل؛ كما أنّ كتاب الله الكريم بالجمع قرآن وبالتفصيل فرقان».

وأما ما في الشواهد من الفرق والتعدد فلعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا.

قوله : وفي قوله تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتُمُ)‏ الخ. أفاد المتأله السبزوارى في تعليقته على الشواهد في المقام بقوله :

أي قد علمتم انتقالكم في النشأة الأولى من المحسوسات إلى المثل المعلقة التي في‏

٦٨

عالم مثالكم الأصغر الذي هو من سنخ عالم المثال الأكبر الذي هو من سنخ برازخكم وصور أعمالها في النشأة الأخروية الصورية والجسمانية فلو لا تذكرون لها مع استغراقكم في أمثالكم وأسناخها. وكذا علمتم انتقالكم من الأشباه الصورية الأخروية والمثل المعلقة إلى الذوات العقلية والمعانى الجامعة والمثل النورية فلو لا تذكّرون لما وراء الآخرة الصورية وهو الحشر الروحانى ، وتشاهدونها عن بعد مع انهماككم فيها كما بينا من رجاء الوصول. بل علمتم انتقالكم إلى معرفة نور الأنوار وحقيقة الحقائق الذي معرفة ذاته وصفاته جنّة الذات وجنة الصفات ، سيما مرتبة حق اليقين من المعرفة فلو لا تذكّرون لغاية الغايات ومنتهى النهايات ومرجع الموجودات ألا ترى انّه أنّ إدراك كل كلى عقلى مشاهدة ذات مجرّدة نورية كذلك إدراك الكلى الذي هو الوجود المشترك فيه للمفارقات والمقارنات وهو ابده واعم من كل شي‏ء مشاهدة عن بعد لحقيقة الوجود هي أظهر وأنور وأوسع من كل نور وفي‏ء ، ونعم ما قيل :

زو قيامت را همى پرسيده‏اند

كاى قيامت تا قيامت راه چند

با زبان حال مى‏گفتى بسى

كه ز محشر حشر را پرسد كسى

‏وانّما لا يلتفت ولا يتنبه الإنسان الغافل بهذه الترقيات والعروجات مع وغوله فيها واختلاسه وتبدّله وصعوده إليها لا نزولها إليه ، لأنّه يظنّ ذاته ووجوده هذا البدن الطبيعى وهو منجمد بالجمود الزمهريرى‏ (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ)‏. حشر (٥٩) : ١٩.

٦٩

ح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا

وهو أنّه يمكننا أن نعقل ذواتنا ، وكل من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات ، فإذا لنا ماهية ذاتنا ، فلا يخلو إمّا أن يكون تعقّلنا لذاتنا لأنّ صورة أخرى مساوية لذاتنا تحصل في ذاتنا ، وإمّا أن يكون لأجل أنّ نفس ذاتنا حاضرة لذاتنا ، والأوّل باطل لأنّه يفضي إلى الجمع بين المثلين ، فتعيّن الثاني؛ وكل ما كان ذاته حاصلة لذاته كان قائما بذاته؛ فإذا القوة العاقلة قائمة بنفسها ، وكل جسم وجسماني فإنّه غير قائم بنفسه ، فإذا القوّة العاقلة ليست بجسم ولا جسماني.

أقول : أتى الفخر الرازى في المباحث المشرقية : بالدليل المذكور وقال :

هو دليل عوّل الشيخ عليه في كتاب المباحثات ، وزعم أن أجل ما عنده في هذا الباب هذا الدليل. ثمّ إنّ تلامذته أكثروا من الاعتراضات عليه والشيخ أجاب عنها ، إلّا أنّ الأسئلة والأجوبة كانت متفرقة وانا رتبناها وأوردناها على الترتيب الجيد.

ثمّ نقل الفخر الدليل وتلك الأسئلة والأجوبة (ج ٢ ، ص ٣٥٢ ـ ٣٥٩ ، ط حيدرآباد) وهو الدليل الثانى من المباحث في بيان تجرّد النفس الانسانية.

ثمّ صاحب الأسفار جعله الحجة الثانية من الحجج التي أوردها في تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا؛ إلّا أنّه حرّر ذيل الدليل هكذا :

والأوّل محال لأنّه جمع بين المثلين فتعين الثاني ، فكل ما ذاته حاصلة لذاته كان قائما بذاته فإذن النفس جوهر قائم بذاته ، وكل جسم وجسمانى غير قائم بذاته فالنفس جوهر غير جسمانى. (ج ٤ ، ص ٦٦ ، ط ١).

ثمّ انّ الدليل المذكور على تجرّد النفس جاء في تضاعيف المباحثات بانحاء عديدة

٧٠

ولكن لم أجده بتلك العبارات المنقولة من المباحث والأسفار؛ وكأنّه تحرير آخر لما في المباحثات كما سنأتى به. وصاحب الأسفار نقل العبارة من المباحث لا من المباحثات كما يعلم بعرض ما في الأسفار على المباحث. وعندنا نسخة مصوّرة من المباحثات في سفينة تحتوى ثمانى وتسعين رسالة ومقالة ، أصلها محفوظ في خزانة مكتبة الآية الحبر المعظم المرعشى زيد عزّه في دار العلم قم المحمية ، ونسخة أخرى مطبوعة مع عدة رسائل أخرى بعنوان أرسطو عند العرب دراسة ونصوص غير منشورة مما بذل الجهد فيها خدوم العلم المفضال عبد الرحمن بدوى دامت تأييداته.

والعجب أنّ النسختين لا يوافق عبارات إحداهما الأخرى كاملا. بل كأنّ كل واحدة منهما تحرير محرّر منفرد ، وتقرير جامع على حدة. كيف كان ، عبارة المباحثات في بيان الدليل المذكور على وزان ما في النسخة المطبوعة محررة هكذا :

من شأننا أن نعقل أنفسنا ، سواء كان طبعا أو كسبا ، فبعض الأشياء يعقل ذاته وجوهره ، وما يعقل شيئا فحقيقة ذلك الشي‏ء حاصلة له ، فحقائق ذواتنا حاصلة لها (لنا ـ خ) ؛ وليس مرّتين ، فإنّ حقيقة الشي‏ء ، مرّة واحدة ، وليست نفس الوجود ، فهذا لكل شي‏ء ، وليس كل شي‏ء يعقل ذاته ، فهذا لذاته ليست لغيره ، ونحن نعقل جوهرنا ، فجوهرنا ماهية لذاته ليست لغيره. فهذا إذن هو أنّ حقائق جوهرنا الأصلية ليست لغيرها. وهذا معنى قولهم : كل ما يرجع على ذاته فهو عقل ، أي تكون ماهية ذاته التي بها هي بالفعل لذاته ليست لغيره ، ونحن نعقل جوهرنا ، فجوهرنا ماهيته لذاته ليست لغيره.

ليس يجوز أن يكون أصل حقيقتنا له بالقياس إلى نفسه أنّه موجود الوجود الذي له ، ثمّ له بالقياس إلى نفسه أنّه معقول بزيادة أمر على أنّه موجود الوجود الذي له على أنّهما اثنان ، فإنّ حقيقته لا يعرض لها مرّة شي‏ء ومرّة ليس ذلك الشي‏ء ، وهي واحدة في وقت واحد ، فليس لكونها معقولة زيادة شرط على لونها موجودة وجودها الذي لها ، بل زيادة شرط على الوجود مطلقا ، وهو أنّ وجود ماهيتها التي بها هي معقولة حاصلة لها في نفسها ليس لغيرها. وهذا أجلّ ما أعرفه في هذا الباب ، ويحتاج إلى

٧١

تصور ، فإنّ الأمور التصديقية قد يخبر عنها فقدان التصور ، وإذا تمكّنت النفس من التصور سارع إليها التصديق (ص ١٣٣ ، ط ٢ ، الكويت).

ثمّ الفخر الرازى أورد الأسئلة والأجوبة حول الدليل المذكور مما دارت بين الشيخ وتلامذته. وكذا على رويته صاحب الأسفار مع إضافات نورية على ما في المباحث ، كما قال على وزان الرازى وما زاد عليها ، ما هذا لفظه :

الحجة الثانية وهي التي عوّل عليها الشيخ في كتاب المباحثات واعتقد أنّها أجلّ ما عنده في هذا الباب. ثمّ إنّ تلامذته أكثروا من الاعتراضات عليها والشيخ أجاب عنها؛ وتلك الأسئلة والأجوبة رأيتها متفرقة في مجموعة مشتملة على مراسلات وقعت من الشيخ وتلامذته فنوردها هنا على الترتيب مع زوائد سانحة لنا في الاتمام ....

والطالب وإن كان يراجع فيهما إلى المباحث والأسفار لكنّا نأتي بهما مع زيادة بيان فيهما إن شاء اللّه تعالى. وليعلم أنّى أرى أنّ عبارات المجيب ليست من قلم الشيخ ، بل إنّ أحدا من تلامذته قرّر وحرّر ما دار بين الشيخ وبين تلامذته حول هذه الحجة على ما فهمه ، وكأنّما لذلك عبر بالمجيب لا بالشيخ ، وهكذا الكلام في السائل ، كيف لا وأنت ترى أنّ بعض الأجوبة بمعزل عن التحقيق جدّا ، وبعضها ممّا يرى في المباحثات متفرقة. ونحن نأتى بهما زيادة للإستبصار في المقام وسنتلوهما عليك فإنّه حوار يشحّذ الذهن ويوجب الرياضة الفكرية فنقول أولا :

اعلم انّ المجرّد يعقل ذاته ، ولم يلزم من بيان ذلك لزوم عكسه وهو أنّ كل ما يعقل ذاته فهو مجرّد لأنّ الكلية الموجبة لا تنعكس كلية موجبة فبيّن بتلك الأصول الرصينة في الدليل المذكور في المباحثات ذلك وهو أنّ كل ما يدرك ذاته فماهيته له ، وكل ما ماهيته له فهو مجرّد فتبصّر.

وثانيا عليك بتلك الأسئلة والأجوبة حول هذه الحجة على وفق ما في الأسفار مع بعض زيادات إيضاحية منّا نهديها إليك :

قال السائل : إنّا لا نسلّم أنّ إدراكنا لذاتنا يقتضي أن تكون حقيقة ذاتنا حاصلة لنا.

٧٢

لم لا يجوز أن يكون هو أثرا ما حصل لنا من ذاتنا ، فلا يكون ذلك هو حقيقة ذاتنا. فعلى هذا يكون لنا حقيقة يحصل منها أثر فينا فنشعر بذلك الأثر ، فلا يكون ذلك الأثر هو الحقيقة فلا يكون قد حصل لنا ذاتنا مرّتين.

قال المجيب : قد سبق أنّ الإدراك ليس إلّا ثبوت حقيقة الشي‏ء. فقوله : «انّه يحصل لنا أثر منه فنشعر بذلك الأثر» إمّا أن يجعل الشعور نفس الأثر ، أو أمرا مغايرا لذلك الأثر تابعا له؛ فإن كان نفس ذلك الأثر فقوله : «فنشعر بذلك الأثر» لا معنى له بل هو مرادف لقوله يحصل لنا أثر. وإن كان الشعور تبعه (وإن كان الشعور شيئا يتبعه ، (كما في المباحث) ، فإمّا أن يكون ذلك الشعور هو حصول ماهية الشي‏ء ، أو حصول ماهية غيره : فإن كان غيره فيكون الشعور هو تحصيل ما ليس ماهية الشي‏ء ومعناه. وإن كان هو هو فيكون ماهية الذات تحتاج في أن يحصل لها ماهية الذات إلى ذلك الأثر فتكون ماهية الذات غير موجودة إلى أن حصلها ذلك الأثر فلا تكون تلك الماهية متأثرة بل متكوّنة هذا خلف. وإن كان ماهية الذات لنا بحال أخرى من التجريد والتجديد ، ونزع بعض ما يقارنها من العوارض فيكون المعقول هو ذلك المتجدد المتجرّد وكلامنا فيما إذا كان المعقول هو جوهر نفسنا الثابت في الحالين.

أقول : الحق انّ حقيقة ذاتنا حاصلة لنا بنفس ذاتها بالوجدان والإدراك الشهودي ، والتفوه بالأثر أثر من يكابر مقتضى عقله ووجدانه. نعم إنّ هذه الأسئلة والأجوبة مفيدة للرياضة الفكرية ينتفع بها المتعلم الباحث.

قال السائل : سلّمنا أنّا نعقل ذواتنا ولكن لم قلتم بأنّ من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات وإلا لكنّا إذا عقلنا الإله والعقول الفعالة وجب أن يحصل لنا حقائقها.

قال المجيب : الحاصل فينا من العقل إن أمكننا أن نعقله هو العقل الفعّال من جهة النوع والطبيعة لا من جهة الشخص لأنّ أحدهما بحال ليس الآخر بتلك الحال ، والمعقول من حقيقتك لا يفارق حقيقتك في النوع والماهية ولا بالعوارض أصلا ولا مفارقة بالشخص فيكون هو بالشخص كما هو هو بالنوع. وأمّا العقل الفعّال وما يعقل منه فهو هو في المعنى وليس هو هو بالشخص.

٧٣

ثمّ قال صاحب الأسفار بعد نقل المجيب عن السؤال الثانى ما هذا لفظه :

أقول : الحقّ أنّ الطبيعة النوعية التي للعقل الفعال لا يمكن تعدد أشخاصها لا في الخارج ولا في الذهن إذ البرهان قائم على أنّ نوعا واحدا من الجواهر المفارقة منحصر في شخصه ، وتشخص العقول من لوازم نوعياتها ، ولو تعددت أفراد ماهية واحدة لكان امتياز كل من تلك الأفراد بعرض غير لازم للطبيعة ، والعرض الغير اللازم للنوع يحتاج عروضه إلى فاعل منفصل الذات ، وقابل ذى تجدد وانفعال فلم يكن المفارق مفارقا هذا خلف. فالأولى في الجواب أن يقال : الحاصل في نفوسنا من تلك الحقائق البسيطة ليس كنه حقيقتها بل مفهومات عامة كمفهوم الجوهر المفارق ومفهوم العقل أو غير ذلك. انتهى.

وأقول : كلام الشيخ في الموضعين من المباحث هكذا (ص ١٣٥ و ١٩٣ ، ط مصر) :

الحاصل فيك من العقل الفعال هو حقيقة العقل الفعال من جهة النوع والطبيعة وإن كان ليس من جهة الشخص لأنّ أحدهما بحال ليس الآخر بتلك الحال والمعقول من حقيقتك لا يفارق حقيقتك في النوع والطبيعة ولا يفارقه بالأشياء التي له وليست له فلا يفارقه بالشخص أيضا فيكون هو هو بالشخص كما كان هو هو بالنوع ، وكان العقل الفعال وما يعقل منه هو هو في المعنى والنوع ، وليس هو هو بالشخص لأنّ هذا يقارنه ما لا يقارن ذلك ويفارقه ما لا يفارقه ذلك. انتهى كلامه.

وهذا تحقيق أنيق لا يعتريه ريب ولا يشوبه عيب ، وكلام صاحب الأسفار غير وارد عليه فتدبر. ثمّ انّ الشيخ لم يدع أنّ كنه الحقائق البسيطة المفارقة حاصل للمدرك؛ وجواب صاحب الأسفار حيث قال بأنّ مفهومات عامة منها حاصلة للمدرك ليس كما ينبغى ، بل الأمر أشمخ من هذا ويجب الفرق بين الحصول الفكرى وبين الشهودي ولكل واحد منهما مراتب من الإدراك.

قال السائل : فإذا ارتسم في عقلنا صورة مساوية لماهية الإله ، فتكون ماهية الإله تعالى مقولة على كثيرين.

قال المجيب : البرهان أنّما قام على أنّ تلك الماهية غير مقولة على كثيرين في‏

٧٤

الخارج ، فأمّا على كثيرين في الذهن فلم يقم.

ثمّ قال صاحب الأسفار :

أقول : حاشا الجناب الإلهي أن تكون له ماهية محتملة للشركة بين كثيرين لا في الخارج ولا في الذهن ، كيف وذاته صرف الوجود القائم بذاته التام الذي لا أتم منه ولا مكافي له إذ كل ماله ماهية كلية يكون تشخصه زائدا عليه ، وكذا الوجود لكونه عين التشخص؛ فكل ماهية أو ذى ماهية فهو ممكن الوجود. فالحقّ في الجواب أن يقال : نحن لا نعرف حقيقة الباري بكنهه بل نعرف بخواص ولوازم إضافية أو سلبية. انتهى.

وأقول : الجناب الإلهى وجود صمدي لا ماهية له بلا كلام ، ولكن هذا الرأى القويم في التوحيد الذي هو في الحقيقة برهان الصدّيقين ، أنّما يتأتى لمن تخلّص عن الآراء الكلامية والحكميّة الرائجة وأمّا من هو في أوائل سيره العلمي فهو يحتمل تكثّر واجب الوجود وإلّا فلم أقام الحكماء أدلّة على إثبات توحيده سبحانه بمعنى أنّه لا شريك له في وجوب الوجود أوّلا ، ثمّ على توحيده تعالى في الإلهية بمعنى أنّه لا شريك له في الإلهية وأن إله العالم واحد ثانيا؟.

قال السائل : سلّمنا أنّ من عقل ذاتا فانّه يحصل له ماهية المعقول لكن لم لا يجوز أن يحصل ذاتى في قوّتى الوهمية فتشعر قوّتى الوهمية بها ، كما أنّ القوّة العاقلة تشعر بالوهمية فعلى هذا لا يكون القوّة العاقلة مقارنة لذاتها بل للقوّة الوهمية كما انّكم تقولون القوّة الوهمية غير مقارنة لذاتها بل للقوّة العاقلة.

قال المجيب : شعورك بهويتك ليس بشي‏ء من قواك وإلّا لم يكن المشعور بها هو الشاعر. وأنت مع شعورك بذاتك تشعر انّك أنّما تشعر بنفسك وانك أنت الشاعر والمشعور به. وأيضا فإن كان الشاعر بنفسك قوّة أخرى فهي إمّا قائمة بنفسك ، أو غير قائمة بنفسك؛ وإن كانت قائمة بنفسك فنفسك الثابتة للقوّة الثابتة لنفسك ثابتة لنفسك وهو المطلوب. وإن كانت غير قائمة بنفسك بل بجسم فنفسك إمّا أن تكون قائمة بذلك الجسم أو لا يكون؛ فإن لم يكن وجب أن لا يكون هناك شعور بذاتك بوجه ولا إدراك‏

٧٥

لذاتك بخصوصها بل يكون جسم ما يحسّ بشي‏ء غيره كما تحسّ بيدك ورجلك. وإن كانت نفسك قائمة بذلك الجسم فذلك الجسم حصلت فيه نفسك وحصلت فيه تلك القوّة الشاعرة بنفسك فتلك النفس وتلك القوّة وجودهما لغيرهما ، ولا تكون النفس بتلك القوّة تدرك ذاتها لأن ماهية القوّة وجودهما لغيرهما ولا تكون النفس بتلك القوّة تدرك ذاتها لأن ماهية القوّة والنفس معا لغيرهما وهو ذلك الجسم.

قال السائل تقريرا لهذا البحث : لم لا يجوز أن يكون إدراكي لذاتي بحصول ذاتي في شي‏ء نسبته إلى ذاتي كنسبته المرآة إلى البصر؟.

قال المجيب : الذي يتوسط فيه المرآة إن سلم أنّه مصور في المرآة فيحتاج مرة ثانية أن يتصور في الحدقة فكذلك هاهنا لا بدّ وأن ينطبع صورة ذاتنا مرّة أخرى في ذاتنا.

قال السائل : لم لا يجوز أن يكون إدراكي لذاتي بحصول صورة أخرى في ذاتي؟ بيانه أنّي حال ما أعقل نفس زيد ، إمّا أن لا أعقل نفسي وهو محال لأنّ العاقل للشي‏ء عاقل بالقوّة القريبة من الفعل بكونه عاقلا وفي ضمنه كونه عاقلا لذاته. وإمّا أن أعقل نفسى في ذلك الوقت وحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الحاصل في نفسى من نفسى ومن زيد صورتان أو صورة واحدة فإن كانت واحدة فحينئذ أنا غيري ، وغيرى أنا ، إذ الصورة الواحدة من النفس مرّة واحدة يكتنفها أعراضى ، ومرّة أخرى يكتنفها أعراض زيد؛ وأمّا إن كان الحاصل صورتين فهو المطلوب.

قال المجيب : أنت إذا عقلت النفس فقد عقلت جزء ذاتك ، وإذا عقلت إنسانية زيد فقد أضفت إلى ذاتك شيئا وقرنته به فلا يتكرر الإنسانية فيك مرّتين بل يتعدد بالاعتبار. واعلم أنّ الفرق حاصل بين الإنسانية المطلقة المعتبرة بذاتها ، وبين الإنسانية من حيث إنّها كلية مشترك فيها بين كثيرين فإنّ الأوّل جزء ذاتي؛ وأمّا الإنسانية العامة فهي الإنسانية مع قيد العموم فلا يكون جزء ذاتي.

أقول : قوله «فإنّ الأوّل جزء ذاتي» ، بإضافة الذات إلى ياء المتكلم ، وفي المباحث المشرقية «فإنّ الأوّل جزء نفسي» (ج ٢ ، ص ٣٥٦).

قال السائل : إنّ القسم الذي أخرجتموه (الذى اخترتموه ـ كما في المباحث) أيضا باطل. بيانه أنّا إذا قلنا : «موجود لذاته» يفهم منه معان ثلاثة :

٧٦

أحدها : أنّ ذاته لا تتعلق في وجوده بغيره؛

الثاني : أنّ ذاته ليست حالّة في غيره مثل البياض في الجسم ، وهذان القسمان باطلان لأنّهما سلبيان والمدركية أمر ثبوتى وهو عبارة عن حصول صورة المعلوم للعالم؛

والثالث : أنّ ذاته مضافة إلى ذاته وذلك أيضا محال لأنّ الإضافة تقتضى الاثنينية والوحدة تنافيها.

لا يقال : إنّ المضاف والمضاف إليه أعمّ ممّا إذا كان كل واحد هو الآخر أو غيره ولا يمكن نفي العام بنفي الخاص؛ فإنّ هذه مغالطة لفظية كما إذ قيل المؤثر يستدعي أثرا وذلك أعم من أن يكون المؤثر هو الأثر أو غيره فيلزم منه صحة أن يكون الشي‏ء مؤثرا في نفسه ، فكما أنّ ذلك باطل فكذا هاهنا.

أقول : قوله : «فإنّ هذه مغالطة لفظية» جواب لقوله : «لا يقال إنّ المضاف إلخ».

قال المجيب : حقيقة الذات غير ، وتعينها غير ، والجملة التي هي الأصل والتعين شي‏ء آخر ، وهذا لا يختلف سواء كان التعين من لوازم الماهية كما في الإله والعقول الفعالة. أو لا يكون كذلك كما في الأنواع المتكثرة بأشخاصها في الوجود. وهذا القدر من الغيرية يكفى في صحة الإضافة ، ولهذا التحقيق صحّ منك أن تقول : ذاتي وذاتك.

قال صاحب الأسفار :

أقول : هذا الجواب ضعيف فإنّ البسيط الحقيقي المتشخص بذاته ليس فيه اعتباران متغايران الذات والتعين ، وقد سبق حلّ هذا الشك الواقع في علم البسيط بذاته في مبحث تحقيق المضاف وتحقيق مسألة العلم. انتهى.

وأقول : إنّ صاحب الأسفار لا ينكر اعتبار التغاير في علم البسيط بذاته بوجه ، وتضعيفه ناظر إلى كون التغاير على أنّ حقيقة الذات غير ، وتعينها غير.

قال السائل : هذه الحجة منقوضة بإدراك الحيوانات أنفسها ، مع أنّ أنفسها غير مجرّدة ، ولا يلتفت إلى قول من ينكر إدراكها لذواتها لأنّها تطلب الملائم وتهرب عن المنافر ، وليس طلبها لمطلق الملائم وإلّا لكان طلبها لملائم غيرها كطلبها لملائمها.

٧٧

وأيضا لو كانت طالبة للملائم المطلق لكانت طالبة للملائم من حيث هو ملائم وذلك كلى فيكون البهيمة مدركة للكليّات وليست كذلك ، فإذن البهيمة تطلب ما يلائم لنفسها وإدراكها له يستلزم إدراكها لنفسها المخصوصة فإنّ العلم بإضافة أمر إلى أمر يقتضى العلم بكلا المتضائفين.

أقول : هذا السؤال معنون في المباحثات هكذا : «سئل هل تشعر الحيوانات الأخرى سوى الإنسان بذواتها إلخ» (ص ٢٠٩ ، ط مصر).

قال المجيب : إنّ نفس الإنسان تشعر ذاتها بذاتها ، ونفوس الحيوانات الآخر لا تشعر ذواتها بذواتها بل بأوهامها في آلات أوهامها ، كما تشعر بأشياء أخر بحواسها وأوهامها في آلات تلك الحواس والأوهام؛ فالشي‏ء الذي يدرك المعنى الجزئي الذي لا يحس وله علاقة بالمحسوس هو الوهم في الحيوانات ، وهو الذي يدرك به أنفس الحيوانات ذواتها لكن ذلك الإدراك لا يكون بذواتها ولا في آلة ذواتها التي هي القلب بل في آلة الوهم بالوهم كما أنّها تدرك بالوهم وبآلته معان أخر ، فعلى هذا ذوات الحيوانات مرّة في آلة ذواتها وهي القلب ومرّة في آلة وهمهما وهي مدركة من حيث هي في آلة الوهم.

قال السائل : فما البرهان على أنّ شعورنا بذواتنا ليس كشعور الحيوانات؟

قال المجيب : لأنّ القوّة المدركة للكليات يمكنها أن تدرك ماهية ذاتها مجرّدة عن جميع اللواحق الغريبة ، فإذا شعرنا بذاتنا الجزئية المخلوطة بغيرنا ، شعرنا بواحد مركب من أمور نحن شاعرون بكل واحد منها من حيث يتميز عن الآخر ، وأعنى بتلك الأمور حقيقة ذاتنا والأمور المخالطة لها ، ويجوز أن يتمثل لنا حقيقة ذاتنا وإن كانت سائر الأمور غائبة عنّا ، وإدراك الحيوانات لذواتها ليس على هذا الوجه فظهر الفرق.

قال صاحب الأسفار :

هذا في الحقيقة رجوع عن هذه الحجة إلى الحجة الأولى. والحق أنّ نفوس الحيوانات مدركة لذواتها بنفس ذواتها إدراكا خياليا لا بآلة الخيال بل بهوياتها الإدراكية ، وذلك يقتضى تجردها عن أبدانها الطبيعيّة دون الصور الخيالية. وقد مرّ منا

٧٨

البرهان على تجرّد النفوس الخيالية عن هذا العالم. والفرق بين نفوسها ونفوس خواص الإنسان أنّ هذه النفوس تدرك ذاتها مجرّدة عن جميع الأبعاد والصور والأشكال وغيرها. انتهى.

وأقول : قوله قدّس سرّه «هذا في الحقيقة رجوع عن هذه الحجة إلى الحجة الأولى» الحجة الأولى في الأسفار على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا ، كانت من طريق إدراك النفس الكليات والطبائع الكلية من حيث عمومها وكليّتها ، وهي بمعزل عن سؤال السائل وجواب المجيب في نفوس الحيوانات الأخر. وانّما نشأ هذا الكلام الغريب منه (رضوان الله تعالى عليه) من كثرة إحاطته بالآراء والأفكار ، وتراكم الحقائق العلمية فيتبادر بعضها مكان آخر ويسبقه ويظهر من القلم.

وأما قوله : «وقد مرّ منا البرهان على تجرّد النفوس الخيالية عن هذا العالم» قد مر في الموضعين من نفس الأسفار أحدهما في الفصل الثاني من الباب الأوّل (ج ٤ ، ص ٩ من الطبع الرحلى) المعنون بقوله : «فصل في بيان تجرّد النفس الحيوانية وعليه براهين كثيرة إلخ» ؛ وثانيهما في الفصل الخامس من الباب الخامس (ج ٤ ، ص ٥٦ ـ ٥٩ ، ط ١) المعنون بقوله : «فصل في دفع ما قيل في أنّ النفس لا تدرك الجزئيات وهي وجوه عامّة ووجوه خاصة إلخ». والعينان الحادية والعشرون والثانية والعشرون من كتابنا سرح العيون في شرح العيون ، وغير واحدة من حجج تجرّد النفس في ذلك.

قال السائل : ليس إذا أمكننا أن نميّز ذاتنا عما يخالطها في الذهن وجب أن يصحّ ذلك في الخارج يعنى هذا التفصيل شي‏ء نفعله ونفرضه في أذهاننا ، وانّ ما عليه الوجود بخلاف ذلك وهذا غير مختص بما إذا أدركنا ذواتنا كلية أو جزئية مخلوطة. ثمّ التحقيق أنّ كل ما يدرك شيئا فله ذلك المدرك كلّيا كان أو جزئيا ، والحمار إذا أدرك ذاته المخلوطة فله ذاته المخلوطة ، فإذن على كل الأحوال الحمار ذاته موجودة له ، وليس ذلك القوّة واحدة فذاته مجرّدة له. ومما يبطل قولكم أنّ المدرك لذات الحمار قوّة غير ذاته ، أن نقول : المدرك لذاته إن لم يكن هو ذاته بل قوّة أخرى ، فإن كانت تلك القوّة في الحمار فذات الحمار في الحمار ، وإن كانت في غيره لم يكن الشاعر هو المشعور به‏

٧٩

فلم يكن الحمار مدركا لذاته وقد أبطلناه أوّلا. وأيضا لو سلّمنا أنّ الحمار يدرك ذاته لا بذاته بل بجزء من ذاته فذلك الجزء له صورة ذاته فذلك الجزء مجرّد. وأيضا فإذا حصلت نفس الحمار في آلة قوّته الوهميّة مع كونها مخلوطة وجب أن يكون آلة التوهم حيّة بتلك النفس كما أنّ آلة النفس حيّة بها.

وأجابوا عن هذا الآخر بأن قالوا :

حصول تلك الصور في الوهم يشبه الخضرة الحاصلة من الانعكاس ، وحصولها في آلتها الخاصّة كحصول الخضرة الأصلية من الطبيعة. هذا تمام ما قيل في هذا المقام ، والتحقيق ما لوّحناه اليك من الكلام. انتهى ما أردنا نقله من الأسفار.

قوله : «والتحقيق ما لوّحناه من الكلام» ، ناظر إلى ما أفاد في الموضعين المذكورين من نفس الأسفار قد أشرنا إليهما آنفا. وقد علمت أنّ تلك الأسئلة وأجوبتها قد جمعهما ورتبهما الفخر في المباحث أوّلا ، وصاحب الأسفار نقلهما عنه مع بعض إفاضات وإشارات منه. وما في المباحث لا يخلو من جودة تقرير حيث قال بعد تقرير الدليل المذكور على تجرّد النفس ما هذا لفظه :

والاعتراض عليه من وجوه ستة :

الأوّل لا نسلّم أنّا نعقل ذواتنا ولم لا يجوز أن يكون إدراكنا لذواتنا نوعا آخر من الإدراك مخالفا للتعقل. بيانه أنّ التعقل هو أن يحصل للعاقل ماهية المعقول فلا يمكننا أن نعرف كوننا عاقلين لذواتنا إلّا إذا عرفنا أن ذواتنا حاصلة لذواتنا ، فإن أمكننا أن نبين أنّ لنا حقيقة ذواتنا من دون وساطة التعقل فما الحاجة إلى أن نقول إنا نعقل ذواتنا ونتوصل منه إلى أنّ لنا حقيقة ذواتنا ، وإن لم يمكن ذلك فحينئذ لا يمكن بيان كوننا عاقلين بذواتنا إلا ببيان حصول حقيقة ذواتنا لنا ، ولا يمكن ذلك الّا ببيان كوننا عاقلين لذواتنا ويلزم منه الدور.

فقال المجيب : ليس يتعلق الكلام بالتعقل والشعور بل بالإدراك فإنه ثبت أنّ الإدراك عبارة عن حصول ماهية المدرك للمدرك وهذا القدر يكفى في تصحيح هذه الحجة.

قال السائل في تقرير سؤاله الأوّل : لم لا يجوز أن يكون إدراكنا لذاتنا لا يقتضى أن

٨٠