الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

البسيطة لا بالفصول ليلزم التركيب ويكون الوجود المطلق جنسا ، ولا بالمصنفات والمشخصات ليكون نوعا بل المطلق عرضى لازم لها بمعنى أنّه خارج محمول لا أنّه عرضى بمعنى المحمول بالضميمة. وقد استوفينا البحث عن ذلك بالتحقيق والتنقيب في رسالتنا الفارسية الموسومة بـ وحدت از ديدگاه عارف وحكيم (ص ٥٣ ، ط ١ وص ٥٥ ، ط ٢ ، يازده رساله).

قوله : «من الأصول الفاسدة التي سبق ذكرها». من تلك الأصول عدم الفرق بين المصداق والمفهوم. ومنها أنّ الوجود شي‏ء واحد في الجميع على السواء أي بالتواطى ، وقد سبق ذكر تلك الأصول في شرح المحقق الطوسى على الفصل السابع عشر من النمط الرابع من الإشارات في الجواب عن اضطراب الفخر الرازى في مسائل الوجود.

تبصرة : انّ صاحب الأسفار في تقرير هذه الحجة بيّن اجتماع المثلين بقوله : «الصورة المنطبعة العاقلة ، والصورة المنطبعة المعقولة» ولكن الصواب أنّ المثلين أحدهما نفس الصورة الطبيعية الجسمية التي هي المادة الأصلية ومحل للعاقلة أي هو آلتها ، وثانيهما الصورة المنطبعة المعقولة من تلك المادة الأصلية والمساوية لها. فتبصّر.

ثمّ انّه قدّس سرّه اعترض على المقدمة الثانية من المقدمات الأربع المبتنية عليها الحجة ، بناء على تحقيقه العرشى في الإبصار وتجرّد الخيال بقوله :

أقول : إنّ المقدمة الثانية غير مسلّمة عندنا لأنك قد علمت أنّ القوّة الباصرة تدرك المبصرات لا بارتسام صورها في العين؛ وكذا قوّة الخيال تدرك الصور والأشباح الجسمانية لا بانطباعها في الدماغ ، فهذه الحجة مقدوحة لأجل اختلال تلك المقدمة. انتهى.

أقول : إنّ تنقيب البحث عن ذلك القول الفصل يطلب في العينين الثلاثين ، والثامنة والخمسين ، وشرحهما من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس. ولكن رفع تلك المقدمة لا يوجب قدح الحجة ، لو لم نقل بأنّه موجب لتأكيدها وتسديدها. وذلك لأنّ الثالثة منها باقية على قوّتها وحاكمة بتّا بأنّ الأمور الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بآلاتها التي هي موضوعاتها فالحجة ناهضة بمنطقها الصواب وتلك المقدمات‏

٢٢١

قد حرّرها المحقق الطوسى في شرح الإشارات حول الحجّة لبيانها والقدح وارد على تمهيد هذه المقدمة لا على أصل الحجة. ثمّ إذا لم تكن صورة المدرك بالآلة حاصلة في الآلة بل حاضرة لدى النفس بإنشاء النفس وإعداد الآلة كما هو المحقق في الحكمة المتعالية ، كان معناه أنّ النفس في ذاتها عارية عن المحل الذي هو آلتها ، والخصم لا يقول بتجرّدها وإذا كانت مادية فالمقدمة الثالثة باقية على قوّتها ورفع الثانية يضر الحجة.

تنبيه : ما مرّ من التحقيق في أن الحجّتين الثالثة والرابعة من الإشارات على تجرّد النفس مستنبطتان من البرهان السادس من نفس الشفاء ، يؤيّده أنّ الشيخ حيث ذكرهما في الإشارات لم يذكر السادس من الشفاء فيه ، وحيث ذكر البرهان السادس في الشفاء لم يذكرهما فيه. وكذلك ترى صاحب الأسفار لم يأت بسادس الشفاء فيه لأنّ الحجتين الخامسة والثامنة منه هما الحجتان الرابعة والثالثة من الإشارات فتبصّر. هذا ما عندنا من التحقيق حول الحجج الثلاث واللّه سبحانه وليّ التوفيق.

٢٢٢

يه) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان السابع

من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.

قال الشيخ :

وأيضا ممّا يشهد لنا بهذا ويقنع فيه أنّ القوّة الدراكة بالآلات يعرض لها من إدامة العمل أن تكلّ لأجل أنّ الآلات تكلّها إدامة الحركة وتفسد مزاجها الذي هو جوهرها وطبيعتها ، والأمور القويّة الشاقّة الإدراك توهنها وربما أفسدتها ولا تدرك عقيبها الأضعف منها لانغماسها في الانفعال عن الشاق كالحال في الحس فإنّ المحسوسات الشاقة والمتكررة تضعفه وربما أفسدته كالضوء للبصر ، والرعد الشديد للسمع ، ولا يقوى الحس عند إدراك القوىّ على إدراك الضعيف فإنّ المبصر ضوء عظيما لا يبصر معه ولا عقيبه نورا ضعيفا ، والسامع صوتا عظيما لا يسمع معه ولا عقيبه صوتا ضعيفا ، ومن ذاق الحلاوة الشديدة لا يحسّ بعدها بالضعيفة ، والأمر في القوّة العقلية بالعكس فإنّ إدامتها للعقل وتصوّرها للأمور التي هي أقوى تكسبها قوّة وسهولة قبول لما بعدها ممّا هو أضعف منها ، فإن عرض لها في بعض الأوقات ملال أو كلال فذلك لاستعانة العقل بالخيال المستعمل للآلة التي تكلّ فلا تخدم العقل ، ولو كان لغير هذا لكان يقع دائما وفي الأكثر والأمر بالضدّ.

بيان : قوله : «يشهد لنا بهذا» أي بكون النفس غير جسمانية. وقوله : «تكلّ» ، الأوّل من الكلال والثانى من الإكلال. وعبارة البرهان في النجاة قريبة من عبارة الشفاء بهذا العنوان : برهان آخر في هذا المبحث ، وأيضا مما يشهد لنا بهذا ويقنع فيه إلخ. وفي النجاة : المستعمل للآلة التي تكلّ هي فلا تخدم ... وفي أكثر الأحوال الأمر بالضدّ وفي‏

٢٢٣

بعض نسخ الشفاء : يقع دائما وفي أكثر الاحوال ، والأمر بالضدّ.

وخلاصة البرهان : أن تكرّر افاعيل القوّة العاقلة يؤتيها قوّة وسهولة قبول لما هو أضعف منها ، وتكرّر أفاعيل القوى البدنية تملّها بل تكلّها بل قد تبطلها فلا تدرك عقيبها الأضعف منها ، فالقوّة العاقلة ليست ببدنية.

هذا البرهان هو الحجة الثانية في الفصل الثالث من النمط السابع من الإشارات على تجرّد النفس الناطقة في ذاتها وكمالاتها الذاتية عن المادة وما يتبعها ، حيث قال : «زيادة تبصرة ، تأمل أيضا أنّ القوى القائمة بالأبدان يكلّها تكرارا لأفاعيل إلخ». هذا على ما رآه المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات ، وعندنا أنّها حجة ثالثة كما سيأتي كلامنا فيه.

وإليه يؤول البرهان الأوّل من معتبر أبى البركات على أنّ النفس الناطقة من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم. حيث قال :

فاحتجوا على ذلك بأن قالوا : إنّ القوى الجسمانية إلخ (ج ٢ ، ص ٣٥٧ ، ط ١).

وهو الدليل التاسع في المباحث المشرقية للفخر الرازى على أنّ النفس الإنسانية ليست بجسم ولا منطبعة في جسم. حيث قال : الدليل التاسع قالوا : القوى الجسمانية تكلّ بكثرة الأفعال إلخ (ج ٢ ، ص ٣٧٢ ، ط ١).

وهو الوجه السابع على تجرّد النفس في تجريد الاعتقاد حيث قال المحقق الطوسى : ولحصول الضدّ (كشف المراد بتصحيح الراقم ، ص ١٨٧) على النحو الذي فسره الشارح العلّامة الحلى.

وهو الحجة التاسعة من نفس الأسفار على تجرّد النفس الناطقة الإنسانية تجرّدا تامّا عقليا حيث قال : «الحجة التاسعة القوى البدنية تكلّ بكثرة الأفعال إلخ» (ج ٤ ، ص ٧٣ ، ط ١).

وهو البرهان الثالث عشر من أسرار الحكم للحكيم السبزوارى بالفارسية حيث قال : «برهان سيزدهم ، قواى جسمانيه بدنيه ضعيف مى‏شوند به كثرت افعال وتكرر آنها بتجربه ودليل إلخ» (ص ٢٥٤ بتصحيح الأستاذ العلّامة الشعرانى (رضوان اللّه تعالى عليه)).

٢٢٤

اعلم أنّ هذا البرهان كما يدل على أنّ القوّة العاقلة ليست بجسمانية ، كذلك يدلّ على أنّ القوّة الخيالية أيضا ليست بجسمانية وسيأتيك بيانه. وقد اعترض أبو البركات في المعتبر ، والفخر الرازى في المباحث وشرح الإشارات عليه بما ليس بوارد حقا ، ولكن يجب نقله والتنبيه على ردّه. والحرى أن نحكى صورة البرهان من الإشارات ونأتى بما أفاده المحقق الطوسى في شرحه ثمّ نتبعه بما نهديها إليك فنقول قال الشيخ في الإشارات :

زيادة تبصرة : تأمّل أيضا أنّ القوى القائمة بالأبدان يكلّها تكرّر الأفاعيل لا سيّما القوية ، وخصوصا إذا اتبعت فعلا فعلا على الفور وكان الضعيف في مثل تلك الحال غير مشعور به كالرائحة الضعيفة إثر القويّة ، وأفعال القوة العاقلة قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف. انتهى كلام الشيخ في تقرير الحجة.

وقال المحقق الطوسى في الشرح :

يقال : خرجت في إثر فلان بكسر الهمزة أي في أثره. وهذه حجة ثانية. وتقريرها أنّ تكرر الأفاعيل ، وخصوصا الأفاعيل القويّة الشاقّة يكلّ القوى البدنية بأسرها. ويشهد بذلك التجربة والقياس : أمّا التجربة فظاهرة. وأمّا القياس فلأنّ تلك الأفاعيل لا تصدر عن قواها إلّا مع انفعال لموضوعات تلك القوى كتأثر الحواس عن المحسوسات في المدركة ، وكتحرّك الأعضاء عند تحرّك غيرها في المحرّكة ، والانفعال لا يكون إلّا عن قاهر يقهر طبيعة المنفعل ويمنعه عن المقاومة فيوهنه ، والفعل وإن كان مقتضى طبيعة القوّة لكنه لا يكون مقتضى طبائع العناصر الّتي يتألّف موضوعات تلك القوى عنها فيكون تلك الطبائع مقسورة عليها مقاومة لتلك القوى في أفعالها ، والتنازع والتقاوم يقتضى الوهن فيهما جميعا ، وربما يبلغ الكلال والوهن حدّا يعجز عنده القوّة عن فعلها أو يبطل كالعين تضعف بعد مشاهدة النور الشديد عن الإبصار أو تعمى.

قوله : «وأفعال القوّة العاقلة قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف» هذه القضية هي صغرى القياس وكبراه ما مرّ وتقريره أن يقال : العاقلة قد لا تكلّها كثرة الأفاعيل ، وكلّ قوّة

٢٢٥

بدنية فدائما تكلّها كثرة الأفاعيل ، فالعاقلة ليست ببدنية. والعاقلة وإن كانت تعقلها مع انفعال ما لكنّها لا تضعف ولا تكلّ بالانفعال لبساطة جوهرها وخلّوها عن التقاوم المذكور بخلاف البدنية.

وإنّما قال : قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف ، ولم يقل دائما لأنّ العاقلة إذا كان تعقّلها بمعاونة من الفكرة التي هي قوّة بدنية فقد تضعف عن التعقّل لا لذاتها ولكن لضعف معاونها.

والحاصل أنّ تكرر الأفعال يوهن القوى البدنية أو يبطلها دائما ، ولا يوهن العقلية دائما بل ربما يقويها ويشحذها فضلا عن الإبطال.

واعتراض الفاضل الشارح بتجويز كون العاقلة مخالفة لسائر القوى بالنوع مع كون الجميع بدنية ، وحينئذ لا يبعد اختصاص البعض بالكلال دون البعض ساقط لأنّ القياس المذكور يأباه. وأمّا قوله : الخيال يدرك البقّة بعد تخيّل الجبال فإذن الحكم بأنّ الضعيف غير مشعور به أثر القوى ليس بكلّى ، فليس بشي‏ء لأنّهم لا يعنون بقوّة المحسوس كبره ، ولا بضعفه صغره ، بل يعنون بهما شدّة تأثيره في الحاسة وضعفه.

انتهى كلام محقق الإشارات في المقام.

بيان : قوله : قدّس سرّه : «وهذه حجة ثانية». أقول : أنّه جعل الحجج على تجرّد النفس الناطقة من كلام الشيخ في الإشارات أربع ، وأخذ الفصل الثانى من سابع الإشارات وهو قوله : «تبصرة إذا كانت النفس الناطقة ، إلخ» مؤكدا للفصل الأوّل في تجرّدها حيث قال في الشرح على الفصل الأوّل : «ثمّ إنّ الشيخ أكّد هذا المطلوب بما أورده بعد هذا الفصل» ؛ ولكنّنى أقول : إنّ الحجج على تجرّدها في الإشارات خمس؛ لأنّ الفصل الأوّل هو في تجرّدها على أنّها موضوع ما للصور المعقولة فحيث إنّ الصور المعقولة عارية عن المادة وأحكامها فلا بدّ من أن يكون موضوعها من سنخها وإلّا يلزم انقسام تلك الصور المرسلة البسيطة بانقسام محلّها أي موضوعها ، وإن كان الأمر أرفع من التعبير بالمحلّ والموضوع ونحوهما من القبول والانطباع وأترابهما الرائجة في أقلام المشاء والمتكلمة.

٢٢٦

وأمّا الفصل الثانى فقد أثبت فيه تجرّدها من حيث كلال آلاتها وعدم كلالها في فعلها أي في إدراكها وتعقلها فأين أحدهما من الآخر.

ثمّ قال محقق الإشارات في شرح الفصل الثانى المذكور :

قوله : إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعال لم يضرّها فقدان الآلات ، تكرار لما سلف.

وأقول : ليس هذا بتكرار بل هو حكم فارد ، ونتيجة واحدة يستفاد من جميع أدلة تجرّد النفس فإنّ أدلّة التجرّد كلّها ناطقة بأنّ هذا الجوهر البسيط لا يضرّها فقدان الآلات.

وبالجملة لا يصح الارتياب في كون أدلّة تجرّدها تجرّدا عقليا تنتهى في النمط السابع من الإرشاد إلى خمسة فعليك بالرجوع إليه والتوغل فيه.

قوله : «التجربة والقياس» يعنى بالقياس البرهان كما نطق به غير مرّة.

قوله : «فلأنّ تلك الأفاعيل لا تصدر عن قواها إلّا مع انفعال لموضوعات تلك القوى» الموضوعات أوّلا هي الروح البخارى المصبوب في محالّه.

وقوله : «وإن كان مقتضى طبيعة القوّة» دفع دخل مقدر وهو أن يقال إذا كان الفعل مقتضى طبيعة القوّة ومناسبا لها وملائما لها فكيف يوجب وهنها وكلالها؟ فدفعه بقوله : الفعل وإن كان مقتضى طبيعة القوّة لكنه لا يكون مقتضى طبائع العناصر.

وقوله : «لبساطة جوهرها» اى ليست بمركبة من العناصر فإنّ الفساد يعرض ما هو مركب من العناصر ، فالجوهر البسيط كالنفس لن يفسد. وقولهم الممكن زوج تركيبى من وجود وماهية لا يكون نحو هذا التركيب الذي يعرض له الفساد فإنّ ذلك التركيب تحليل عقلى في وعاء الذهن.

قوله : «واعتراض الفاضل الشارح» يعنى به الفخر الرازى قد شرح الإشارات قبل المحقق الطوسى وقال المحقق في أوّل ديباجة شرحه على منطق الإشارات بعد ما وصف الفخر الرازى بشرحه الإشارات : إنّه بتلك المساعى لم يزده إلا قدحا ، ولذلك سمّى بعض الظرفاء شرحه جرحا.

٢٢٧

وقوله : «مع كون الجميع بدنية» بيان لوجه شركة القوى. وقوله : «لأنّ القياس المذكور يأباه» وذلك لأنّ القياس كلى وكان ناطقا بأنّ كل قوّة بدنية يكلها كثرة الأفاعيل وتكررها. وقوله : «بل يعنون بهما شدة تأثيره في الحاسة وضعفه» فربما كان إدراك الصغير كالبقّة مثلا أشدّ تأثيرا للمدركة وذلك لصغره ودقته ولطافته دون الكبير. ولكن جوابه غير تام والتمام مبتن على تجرّد الخيال كما سيأتي تحقيقه من صاحب الأسفار وتنقيب البحث عن ذلك منّا.

اعلم انّ الفخر في المباحث بعد تقرير البرهان المذكور جرى الحق على لسانه فاعترض على البرهان بأنّ الخيال أيضا كالقوّة العقلية لا تضعف بكثرة الأفاعيل وتكرّرها بل تقوى على القوي بعد الضعيف ، فبهذا البرهان يجب أن يكون القوّة الخيالية غير مادية مع أنّهم قائلون بأنّها جسمانية. ثمّ انّ صاحب الأسفار بعد تقرير البرهان صرّح بأنّه يدل أيضا على كون القوّة الخيالية غير جسمانية وله في المقام بعض إشارات يريد بها صاحب المباحث في اعتراضه المذكور من غير أن يصرّح باسمه وكتابه ، فالحقيق أن نذكر ما في المباحث أوّلا ثمّ ما في الأسفار وما لنا حول كلماتهما من البيان :

قال صاحب المباحث :

فإن قيل القوّة الخيالية جسمانية ثمّ انّها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة مع تخيلها للأشياء الحقيرة مثلا إذا تخيّلنا صورة شعلة يمكننا أن نتخيل مع ذلك صورة الشمس والقمر والسماء وغيرها فبطل قولكم إنّ القوى الجسمانية لا تقوى على الأفعال الضعيفة عند صدور الأفعال القوية عنها.

فنقول : إنّا إذا ادّعينا أنّ الفعل الجسمانى القوى يمنع من الفعل الجسمانى الضعيف وهاهنا إذا تخيلنا الشمس والقمر فالمدرك قوى. أما ربما لا يكون إدراكنا لهما قويا فلا جرم لا يمنع من تخيل الأشياء الضعيفة. وأما إذا قوى تخيلنا لهما بحيث صرنا مستغرقين في ذلك التخيّل امتنع علينا والحال هذه تخيل الأشياء الحقيرة. وأما القوة العقلية فليست كذلك ، فإنّا إذا عقلنا الشي‏ء العظيم أمكننا في ذلك الوقت تعقل الشي‏ء الحقير.

٢٢٨

ولقائل أن يقول : كما أنا متى استغرقنا في تخيل شي‏ء عظيم انقطعنا عن تخيل الأشياء الصغيرة ، كذلك متى استغرقنا في تعقل شي‏ء عظيم انقطعنا عن تعقل غيره. والدليل عليه أن من استغرق في جلال اللّه جلّت عظمته امتنع عليه في تلك الحالة أن يشتغل بسائر المعقولات. انتهى كلام الفخر في المقام (ج ٢ ، ص ٣٧٢ ، ط ١).

أقول : قوله : «فإن قيل القوّة الخيالية جسمانية» اعتراض الفخر مبتن على كون القوّة الخيالية جسمانية ، وقد بيّنا في العين الثانية والعشرين من كتابنا العيون أنّ المشاء كانوا قائلين بأنّها مادية ، والشيخ كان مصرا في ذلك ولكنّه استبصر بالأخرة فحكم بأنّ قوّة الخيال والصور الخيالية مجرّدة.

وجملة الأمر أنّ صاحب المباحث بنى اعتراضه أوّلا على جسمانيّة قوة الخيال ونطق بالصواب ، لكنه تصدّى لجوابه بأنّ المدرك بالفتح إذا كان قويّا كالشمس والقمر مثلا لا يوجب أن يكون إدراكهما أيضا قويا ، فأمكن أن يتخيل الإنسان شيئا قويا ولا يكون إدراكه التخيّلى قويا فلا جرم لا يمنع من تخيل الأشياء الضعيفة. أمّا إذا كان ذلك الإدراك التخيلى قويا امتنع بعده تخيل الأشياء الحقيرة ، بخلاف القوّة العاقلة. ثمّ اضطرب الفخر بما أشكل عليه من قوله : «ولقائل أن يقول كما أنا متى إلخ». فعليك بما في الأسفار في المقام حيث قال :

وهذا البرهان أيضا يدل على كون القوّة الخيالية غير جسمانية فانّها تقوى على تخيّل الأشياء العظيمة مع تخيّلها للأشياء الحقيرة. مثلا يمكنها أن تتخيّل فلك الأفلاك مع الخردلة ، وأن تتخيّل ضوء الشمس وحرارة النار مع ضوء الشرارة وحرارة الهواء المعتدلة ، وأن تتخيّل صوت الرعد مع الهمس. وهذا مما أشكل الأمر على من لم يتفطّن بتجرّد الخيال عن الموادّ المستحيلة الكائنة الفاسدة فجعل يتكلف في دفع الإشكال عن نفسه بأنّ قوّة الإدراك غير قوّة المدرك فالشمس والقمر والسماء مدركات قوية ونحن إذا تخيّلناها فإدراكنا لها لا يلزم أن يكون قويا ، ولأجل ذلك لا يمنع إدراكنا لها عن إدراك المدركات الضعيفة؛ وأمّا إذا قوى تخيلنا لها بحيث صرنا مستغرقين في ذلك التخيل امتنع علينا والحال هذه تخيل الشي‏ء الحقير.

٢٢٩

أقول : الإدراك لا يخلو إمّا أن يكون هو الصورة الحاصلة من الشي‏ء ، أو الإضافة التي بين المدرك والمدرك كما هو مذهب هذا القائل ، فعلى الأوّل لا معنى لقوّة الإدراك وضعفه إلّا قوّة المدرك وضعفه لأنّهما أمر واحد ، لأنّ المدرك في الحقيقة هو الصورة لا الأمر الخارجى الذي ربما لا يوجد في الخارج عند وجود الصورة. ثمّ لا يخفى أنّ صورة السماء التي في الخيال أقوى من صورة الخردلة فيه.

وأمّا على الثانى فالإضافة من الأمور التي لا توصف بقوّة ولا ضعف ولا عظم ولا حقارة إلّا باعتبار ما أضيف إليه. ثمّ قوله وأمّا إذا قوى تخيلنا امتنع علينا والحال هذه تخيّل الشي‏ء الحقير ، يناقض ما ذكره حيث وصف الشي‏ء المتخيل بالحقارة دون الخيال. وأيضا الاستغراق في إدراك الشي‏ء في الحقيقة يرجع إلى ضعف الإدراك بالنسبة إلى وجود المدرك وغلبة وجود المدرك واستيلائه على القوّة الإدراكية فيقهرها عن الإحاطة به والاكتناه ، فليس الاستغراق في إدراك الشي‏ء عبارة عن تسلط الإدراك على المدرك بل تسلط المدرك على الإدراك. وأيضا ما ذكره مشترك بين الإدراك العقلى والإدراك الخيالي فإنّا متى استغرقنا في تعقل شي‏ء عظيم قوىّ الوجود عالى المرتبة رفيع السمك انقطعنا عن تعقل غيره. ومن استغرق في جلال اللّه وعظمته امتنع عليه الالتفات إلى ذاته فضلا عن تعقل معقولات أخرى. انتهى كلام صاحب الأسفار في المقام. (ج ٤ ، ص ٧٤ ، ط ١).

أقول في بيان بعض كلماته المنيفة : قوله : «وهذا مما أشكل الأمر على من لم يتفطّن» ناظر إلى كلام الفخر في المباحث حيث قال : «فإن قيل القوّة الخيالية جسمانية ثمّ إنّها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة إلخ».

وقوله : «بأنّ قوّة الإدراك غير قوة المدرك» القوّة بمعناها اللغوى ، وإضافتها إلى الإدراك بمعنى كون الإدراك قويّا. وكذا قوله غير قوّة المدرك. والمدرك على صيغة اسم المفعول.

وقوله : «إلّا باعتبار ما أضيف إليه» يعنى باعتبار ما أضيفت الإضافة إليه أي أسندت الإضافة إليه ، يعنى أنّ الإضافة لا توصف بالذات بتلك الأوصاف من القوّة والضعف‏

٢٣٠

والعظم والحقارة بل باعتبار ما أضيفت إليه فإذا كان اتصافها بها لا بذاتها بل بالإضافة فإدراك القوىّ يلزم أن يكون قويا ، كذلك إدراك الشي‏ء الضعيف يلزم أن يكون ذلك الإدراك ضعيفا.

وقوله : «حيث وصف الشي‏ء المتخيل بالحقارة» يعنى أنّ الحقير في قوله تخيل الشي‏ء الحقير ، وصف للتخيل.

وقوله : «وأيضا الاستغراق في إدراك الشي‏ء في الحقيقة يرجع إلى ضعف الإدراك» كلام سام بعيد الغور وذلك لأنّ الكامل لا يشغله شأن عن شأن ، أعنى أنّه يصير مظهرا للاسم الشريف يا من لا يشغله شأن عن شأن. قال المعلّم الثانى الفارابى في الفص الواحد والخمسين والذي بعده من الفصوص :

الروح القدسية لا يشغلها جهة تحت عن جهة فوق ، ولا يستغرق الحس الظاهر حسّها الباطن ـ إلى أن قال : الأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى الباطن غابت عن الظاهر ، وإذا مالت إلى الظاهر غابت عن الباطن إلخ.

وراجع شرحنا على الفصوص الموسوم بـ نصوص الحكم على فصوص الحكم (ص ٣٠٢ ـ ٣١٥ ، ط ١).

وكذا قال الشيخ الأكبر العارف العربى في الفصّ الاسحاقى من فصوص الحكم في البحث عن خلق العارف بهمّته ما هذا لفظه :

والعارف يخلق بهمّته ما يكون له وجود من خارج محلّ الهمّة ولكن لا تزال الهمّة تحفظه ولا يئودها حفظه أي حفظ ما خلقته فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق إلّا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا إلخ.

وراجع في تنقيب ذلك شرحنا على فصوص الحكم هذا أيضا.

وقوله : «وأيضا ما ذكره مشترك إلخ» يعنى أنّ ما ذكره جار في الإدراك العقلى أيضا فيلزم منه أن تكون القوّة العاقلة أيضا جسمانية كالخيالية. فقوله : «فانا متى استغرقنا ـ إلى قوله : عن تعقل غيره» بيان لجريان ما ذكره في الإدراك التخيلى. وقوله : «ومن‏

٢٣١

استغرق في جلال اللّه ـ إلى آخره» بيان لجريانه في الإدراك العقلى. فالدليل يثبت تجرّد الخيال أيضا تجرّدا برزخيا فتبصّر.

وصاحب المعتبر أبو البركات بعد تقرير الحجة اعترض عليها بما تسمعه قال : أمّا الذين قالوا انّ النفس من الجواهر التي وجودها لا في موضوع فاحتجوا على ذلك بأن قالوا : إنّ القوى الجسمانية المدركة في الحواس الظاهرة والباطنة بآلاتها الجسمانية تستضر أفعالها بما ينال آلاتها من الضرر فتضعف أو تتشوّش أو تبطل وليس كذلك النفس الناطقة.

أقول : هذا هو تقرير أبى البركات أصل الحجة وهي الحجة الأولى في المعتبر على تجرّد النفس الناطقة. ثمّ تصدّى للاعتراض عليها بقوله :

أمّا الحجة الأولى القائلة بأنّ القوى الجسمانية إذا أصاب موضوعها الذي هو البدن آفة استضر فعلها وليس كذلك القوّة العقلية ، فنقول : في جوابه إنّ القوّة العقلية كذلك أيضا تستضر أفعالها بأمراض البدن كما يضعف الرأى والتفكر والروية في الأمراض البدنية. فإن قيل إنّ ذلك الضرر ليس فيها لكن في الآلة ، قيل : ومن لنا بذلك وما الذي يدل عليه أنّه كذلك في هذه القوّة دون غيرها إذا جمعها وعمّها مع باقى القوى ضرر الفعل بمرض البدن؟ فلم تدلّ هذه الحجة من حيث لم تميز ولم تفرق. فإن أعينت بغيرها من الحجج كانت الحجة غيرها. انتهى كلام صاحب المعتبر.

أقول : القياس المتقدم في تقرير هذه الحجة يأبى هذا الاعتراض رأسا ، وذلك لأنّ كبرى القياس في جانب القوى البدنية كلية دائمية؛ وأمّا صغرى القياس في جانب القوّة العقلية جزئية قد تستضر أفعالها بأمراض البدن فلو خالفتها وتخلفت عنها مرّة واحدة لكانت الحجة ناهضة بأنّها ليست من سنخ القوى البدنية ، والمكابر يكابر مقتضى عقله. وإنّما قلنا في صدر البحث عن هذا البرهان إنّ الحجة الأولى من المعتبر تؤول إليه ، لأنّ حجة المعتبر بظاهرها اعمّ شمولا منه وذلك لأنّها يشمل ما نال آلات القوى البدنية من الضرر كان من تكرّر أفاعيل تلك القوى أو من غيره كالأمراض الطارية عليها من جهة أخرى ولكن المآل واحد فلا ينبغى بهذا القدر من الفرق جعلهما حجتين منفردتين‏

٢٣٢

على ذلك.

وأما المحقق الطوسى فقال في التجريد : «وهي جوهر مجرّد ... ولحصول الضد» وفي كشف المراد :

هذا وجه سابع يدلّ على تجرّد النفس. وتقريره أنّ القوّة الجسمانية مع توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكلّ لأنّها تنفعل عنها ، ولهذا فإنّ من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تامّا والقوى النفسانية بالضد من ذلك فإنّ عند تكثر التعقلات تقوى وتزداد. فالحاصل عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوّة الجسمانية عند كثرة الأفعال. فهذا ما خطر لنا في معنى قوله : رحمه اللّه : ولحصول الضد. انتهى كلام الشارح العلامة (ص ١٨٧ بتصحيح الراقم وتعليقاته عليه).

تذكرة : قد تقدم ما خطر لنا في معنى قوله «ولحصول الضد» في البحث عن الحجة الثالثة من الباب الثانى ، فتذكّر.

تبصرة : ينبغى إهداء مطلب حول تقريرات هذا البرهان وهو متفرع على نقل ما في المباحث والأسفار من تقرير البرهان أيضا سيما أنّ تقرير صاحب الأسفار له دخل عظيم في تفهيم المفاد وتقريب الذهن إلى المراد. ففي المباحث :

الدليل التاسع قالوا : القوى الجسمانية تكلّ بكثرة الأفعال ولا تقوى على القوى بعد الضعف وعلة ذلك ظاهرة لأنّ القوى الجسمانية بسبب مزاولة الأفعال الكثيرة تتعرض موادها للتحلل والذبول وبسبب ذلك يعرض الضعف لها ، وأمّا القوّة العقلية فانّها لا تضعف بكثرة الأفعال وتقوى على القوى بعد الضعف فظهر أنها غير مادية أصلا.

وفي الأسفار :

الحجة التاسعة القوى البدنية تكلّ بكثرة الأفعال ولا تقوى على الضعيف بعد القوى. وعلة ذلك أنّ القوى الجسمانية المادية موادّها قابلة للتبدل والاستحالة والذبول وبسبب ذلك يعرض لها تبدل الأحوال. أمّا كلالها وضعفها فلتحلّل المادة وذبولها؛ وأمّا عدم تمكّنها من الفعل الضعيف إثر القوى فالسّر فيه أنّ القوى يناسب الأفاعيل فإنّ هذه القوى لمّا كان من شأنها الاشتداد والتضعيف والتبدّل بالاستحالة كما علمت‏

٢٣٣

فهي متفاوتة الحدوث حسب تفاوت الاستعداد فإذا استعملت الآلة الجسمانية في إدراك قوىّ أو فعل قوىّ فلا بدّ هناك من قوّة قوية فيفيض من المبدا القوّة القوية على تلك الآلة ، ثمّ إذا استعملت إثر ذلك الفعل في فعل آخر ضعيف يعسر ذلك على تلك القوّة لأنّها لا تناسبه وإنّما المناسب لهذا الفعل الضعيف قوّة ضعيفة ، والقوّة أنّما تحدث تدريجا لا دفعة كما علمت فيما سبق؛ ولأجل ذلك لا يمكن للقوّة القوية الفعل الضعيف كما لا يمكن للقوّة الضعيفة الفعل القوى ، ألا ترى أنّ القوّة المحركة التي في الحجر العظيم لا يمكن لها التحريك البطي‏ء لذلك الحجر في هويّه ، ولا للحرارة الشديدة التسخين الضعيف لما يلاقيه. وأمّا القوى الغير الجسمانية فلكونها متساوية النسبة إلى جميع القوابل وغير متناهية القوّة فلا جرم يجوز أن يصدر منها القوىّ والضعيف من الأفعال بعضها عقيب بعض من جهة الأسباب المخصّصة ، فلأجل ذلك لا تضعف بكثرة الأفعال وتقوى على القوى بعد الضعيف وعلى الضعيف بعد القوى. فإذا تقررت هذه المقدمة فنقول : القوّة العاقلة لمّا كانت هكذا لأنّها تدرك المعقولات القوية والضعيفة بعضها عقيب بعض فهي ليست جسمانية كسائر القوى البدنية التي شأنها ما ذكرناه انتهى ما أفاد في تقرير المراد.

فأقول : النفس تقوى على الضعيف إثر القوى أي عقيبه ، كما أنّها تقوى على القوى إثر الضعيف ، ولا تكون القوى الجسمانية كذلك بل تضعف وتذبل وتنفذ إثر القوي والضعيف. وعبارات الحجة بعضها يناسب تقدم القويّ على الضعيف بأن يقال ولا تقوى على القويّ بعد الضعيف كما هو عبارة المباحث والأسفار. ولا يخفى أنّ النفس تقوى على الضعيف بالتجربة والتعليم والتمرّن والتداوم وغيرها ، بل يصحّ أن يقال إنّها تقوى على القوىّ بعد الضعف كما في المباحث وعبارات صدر ما في الأسفار من تقرير الحجة أيضا تناسب هذا الوجه ، وتقرير الفخر أظهر في ذلك. وبعض عبارات الحجة على ما في الأسفار يناسب تقدّم الضعيف على القوى بأن يقال ولا تقوى على الضعيف بعد القوى كما أنّ عبارة الكتاب أعنى الأسفار وهي قوله : «وأمّا عدم تمكنها من الفعل الضعيف إثر القوي» ناصّة على ذلك. ثمّ أنّ بعض عبارات الحجة في الأسفار

٢٣٤

على الوجه التعميم حيث يقول : «يجوز أن يصدر منها القوى والضعيف من الأفعال بعضها عقيب بعض» حتى يشمل الوجهين.

وبالجملة هذه الحجة ناطقة بأنّ النفس تقوي على القوى بعد الضعف أى بعد ضعفها تقوى على القوى؛ وتقوى على الفعل القوى بعد الفعل الضعيف؛ وتقوى على الفعل الضعيف بعد الفعل القوي ، والقوى الجسمانية ليست كذلك فتبصّر.

٢٣٥

يو) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان

الثامن من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانيّة.

قال الشيخ :

وأيضا فإنّ أجزاء البدن كلّها تأخذ في الضعف من قواها بعد منتهى النشو والوقوف وذلك دون الأربعين أو عند الأربعين ، وهذه القوّة المدركة للمعقولات أنّما تقوى بعد ذلك في أكثر الأمر؛ ولو كانت من القوى البدنية لكان يجب دائما في كل حال أن تضعف حينئذ ، لكن ليس ذلك إلّا في أحوال وموافاة عوائق دون جميع الأحوال فليست هي إذن من القوّة البدنية.

ومن هذه الأشياء تبيّن أنّ كل قوّة تدرك بآلة فلا تدرك ذاتها ، ولا آلتها ، ولا إدراكها ، ويضعفها تضاعف الفعل ، ولا تدرك الضعيف إثر القوىّ ، والقوى يوهنها ، ويضعف فعلها عند ضعف آلات فعلها والقوّة العقلية بخلاف ذلك كلّه.

بيان : قوله : «وأيضا فإنّ أجزاء البدن» أى هذا دليل آخر على تجرّد النفس.

وقوله : «لكن ليس ذلك إلّا في أحوال» أي ليس ذلك الضعف للقوّة العقلية إلّا في أحوال إلخ.

وقوله : «والقوّة العقلية بخلاف ذلك كله» الواو حالية. والمراد من الأشياء في قوله : «ومن هذه الأشياء تبيّن» البراهين المتقدمة في تجرّد النفس الناطقة الإنسانية. وإلى هذا البرهان ينتهى البراهين على أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادة جسمانية من نفس الشفاء ظاهرا ولكن فيه برهانا آخر يأتى التحقيق فيه.

وهذا البرهان مذكور في النجاة أيضا. وهو في المطبوعة المصرية معنونة بقوله :

٢٣٦

برهان ثالث وأيضا فإنّ أجزاء البدن إلخ. وعبارات النجاة تحاكى عبارات الشفاء أيضا إلّا في بعض العبارات على تغيير يسير ففي النجاة : وأيضا فإنّ البدن تأخذ أجزاؤه كلّها تضعف قواها ... وهذه القوة أنّما تقوى بعد ذلك ... فليست إذا من القوى البدنية.

وهو الحجة الأولى من النمط السابع من الإشارات على تجرّدها وإن كان ما في الإشارات أعمّ شمولا من الشفاء.

وهذا البرهان هو الحجة السادسة من معتبر أبى البركات على كون النفس جوهرا غير جسمانى (ج ٢ ، ص ٣٥٨ ، ط ١) قال :

أمّا الذين قالوا انّها من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم فاحتجوا على ذلك ... وبأنّ الأبدان وقواها تضعف إذا جاوزت في قوتها ونموّها أشدّها ومنتهاها ، وتأخذ بعد بلوغ الغاية في الذبول والانحطاط ، والنفس الناطقة تقوى حينئذ في كثير من الناس أولا تضعف مع ما يضعف من القوى فليست بجسمانية مثلها.

ثمّ اعترض على حجيتها. ويأتى نقل الاعتراض وردّه.

وهو الدليل السادس من المباحث المشرقية للفخر الرازى : لو كانت القوّة العاقلة جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما إلخ (ج ٢ ، ص ٣٦٦ ، ط ١). ثمّ أخذ في الاعتراض عليه بما سنتلوه عليك مع ردّه.

وهو الوجه السادس في تجرّد جوهر النفس من تجريد الاعتقاد للمحقق الطوسى قوله : «وهي جوهر مجرّد ... ولانتفاء التبعية قال الشارح العلامة الحلى في كشف المراد :

الذي فهمناه من هذا الكلام أنّ هذا وجه آخر دال على تجرّد النفس ، وتقريره : أنّ القوّة المنطبعة في الجسم تضعف بضعف ذلك الجسم الذي هو شرط فيها ، والنفس بالضد من ذلك فإنّها حال ضعف الجسم كما في وقت الشيخوخة تقوى وتكثر تعقلاتها ، فلو كانت جسمانية لضعفت بضعف محلّها وليس كذلك ، فلمّا انتفت تبعية النفس للجسم في حال ضعفه دلّ ذلك على أنّها ليست جسمانية. (كشف المراد ،

٢٣٧

ص ١٨٧ بتصحيح الراقم وتعليقاته عليه).

وهو الحجة السادسة في الأسفار على تجرّد القوّة الخيالية والوهمية. قال : «الحجة السادسة لو كانت القوّة العاقلة جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما إلخ (ج ٤ ، ص ٧٢ ، ط ١).

وهو الحجة الخامسة من رسالة في السعادة والحجج العشر للشيخ الرئيس أيضا بتقرير آخر قال :

الحجة الخامسة ، من البيّن أنّ الأجسام الواقعة تحت النمو تأخذ في سنّ الشيخوخة في الضعف وكذلك جميع القوى الملابسة لها ، ولو كان محل العلم جسما أو قوّة جسمانية تتعلق تنميتها بكمال الجسم وقوّتها بقوّته لكانت الشيخوخة على الاضطرار تضعف القوّة المميزة ، أو الجوهر التمييزى عن تعقل الحكمة فلا يوجد أحد من الناس إلّا وهو في تلك الحال أضعف منه في الأحوال التي كان الجسم والقوى الجسمانية فيها قوية جدا ، وقد نرى من يكبر سنّه ، ويأخذ جوهره الجسمانى في الذبول يكون أقوى تمييزا ممّا كان أوّلا ، بل ذلك على الأكثر؛ ولو كان الموضوع جسما حقا لما كان يوجد هذا في حال أبدا؛ فإذا موضوع العلم جوهر غير جسمانى ، وذلك ما أردنا أن نبيّن. (ص ٩ ، ط ١ بحيدرآباد الدكن).

وهو البرهان الرابع على جوهرية النفس وغناها عن البدن في القوام ، في الفصل التاسع من رسالة الشيخ الرئيس أيضا الموسومة بـ هدية الرئيس أهداها للأمير نوح بن منصور السامانى ، بتقرير آخر. قال :

ومن البراهين الدالّة على صحة هذه الدعوى ما أنا مبيّنة فأقول : لا شك أنّ الجسم الحيواني والآلات الحيوانية إذا استوفين سنّ النمو وسنّ الوقوف أخذت في الذبول والتنقّص وضعف القوّة وكلال المنّة وذلك عند الإنافة على الأربعين سنة. ولو كانت القوّة الناطقة العاقلة قوّة جسمانيّة آليّة لكان لا يوجد أحد من الناس في هذه السنين إلّا وقد أخذت قوّته هذه تتنقص ولكنّ الأمر في أكثر الناس على خلاف هذا بل العادة جرت في الأكثر أنّهم يستفيدون ذكاء في القوّة العاقلة وزيادة بصيرة. فإذن‏

٢٣٨

ليس قوام القوّة النطقية بالجسم والآلة فإذن هي جوهر قائم بذاته وذلك ما أردنا بيانه. (رسائل الشيخ الرئيس ، ص ٧١ ، ط مصر ، سنة ١٣٢٥ ه بتصحيح ادور فنديك وص ١٧٥ من أربع رسائل نفسية للشيخ بتصحيح الأهواني ، ط مصر ، ١٣٧١ هـ).

وهذا البرهان ذكره ابن مسكويه (ابو على احمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه الخازن الرازى معاصر الشيخ الرئيس) في صدر كتاب طهارة الأعراق وقد نقلناه وبيّناه بالفارسية في الدرس السادس والخمسين من كتابنا دروس معرفة النفس (ص ١٧٥ ـ ١٧٨ ، ط ١).

اعلم أنّ أهم ما ينبغى أن يذكر حول هذا البرهان هو ما في المباحث المشرقية من التقرير والاعتراض أوّلا ، ثمّ ما في الأسفار ثانيا فإنّ صاحب الأسفار ناظر في كلماته إلى ما في المباحث ، وبعد ردّ اعتراضاته تصدّى لتحقيق تفرد هو به في الحكمة المتعالية ، ثمّ نزيد عليهما بما لنا من التعليقات الإيضاحيّة في بيان بعض عباراتهما في المقام ، قال في المباحث :

الدليل السادس ، لو كانت القوّة العاقلة جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما ، لكنّها لا تضعف في زمان الشيخوخة دائما ، فهي غير جسدانية. ويصحّح نقيض التالي بقياس من الشكل الثالث هكذا : كل ما يعقل به الشيخ الأشياء فهو قوّة عاقلة ، وليس كل ما يعقل به الشيخ الأشياء فإنّه يكلّ عند الشيخوخة ، فليس كل قوّة عاقلة تكلّ عند الشيخوخة.

واعلم أنّه ليس من الواجب في صحّة ما قلنا أن لا يكون عقل شيخ يكل بل إذا كان عقل ما لم يكل في الشيخوخة وإن كان سائر العقول يكلّ فالمطلوب قد صح ، فإنّه إن كانت النفس محتاجة في ذاتها إلى البدن كان اختلال البدن موجبا لاختلال النفس لا محالة فحينئذ يستحيل أن يختل البدن وتكون النفس سليمة ، أمّا إذا كانت النفس غنية في ذاتها عن البدن لا يلزم أن تختل أفعال النفس عند اختلال البدن. نعم قد يجوز أن يكون اشتغالها بتدبير البدن عند اختلاله يعوقها عن سائر أفعالها ، وذلك مثل ما يعرض للفارس الراكب فرسا ردىّ الحركات فإنّه يصير اشتغاله بمراعات مركبه‏

٢٣٩

مانعا له عن أفعاله الخاصّة به وليس صدورها عنه بشركة الفرس. ويجوز أن يكون الفعل الذي ليس بالشركة موقوفا على الفعل الذي بالشركة مثل انّه قد يحتاج في اكتساب المعقولات في أوّل الأمر إلى تخيلات تتصرف فيها النفس تصرفا سنذكره فإذا عاقت عن استعمال التخيلات آفة في أعضاء التخيل كلّت القوّة العاقلة عن أفعالها فالشيخ إذا عرض له الانصراف عن المعقولات فالسبب فيه أنه قد شغل عن أفعاله الخاصة أو عرضت الآفة لشي‏ء ربما احتاج إليه في هذه الأفعال لا لأنّ جوهر نفسه قد ضعف ، فانّ الشيخ لو أعطى عينا كعين الشاب في المزاج لكان حسّه مثل حسّ الشابّ بل الشيخوخة ضعف في الآلات البدنية يشبه حال السكر والإغماء.

فإن قيل الشيخ لعلّه أنّما يمكنه أن يستمرّ في أفعال عقله على الصحة لأنّ عقله يتمّ بعضو من البدن يتأخّر إليه الفساد والاستحالة إن ظهرت الآفة في سائر القوى والأفعال.

فنقول : الأعضاء الطرفية أنّما يلحقها الضعف والفساد لضعف يسبق إلى المبادي ، ولو كانت المبادي صحيحة لانحفظت الأطراف ولم تسقط قواها فكان الحال فيها كالحال في الشباب فيظهر من هذا أنّه لا كبد الشيخ ولا دماغه ولا قلبه على الحال الصحيحة أو القريبة من الصحيحة ، ولذلك يجد في نبضه وبوله وأفعال دماغه تفاوتا عظيما.

فإن قيل إنّ بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى فلعلّ مزاج المشايخ أوفق للقوّة العقلية فلهذا تقوى فيه هذه.

فنقول : مزاج المشايخ إمّا برد ويبس ، وإمّا ضعف ، وكل واحد منهما قد يوجد قبل الشيب ولا يكون لصاحبه مزيد استعداد. وأيضا فليس كل شيخ هو أقوى من الشباب ، وليس الدليل مبينا على أنّ الغالب في المشايخ كمال العقل بل على أنّه لو كانت القوّة العقلية قائمة بالبدن لاستحال أن لا تضعف عند ضعف البدن ، وقد نجد واحدا ليس كذلك فالمقدم مسلوب على أنّ ضعف البنية ليس يكون ملائما لما يقوم بالبنية بل لعلة تلائم ما لا يقوم بالبنية.

فإن قيل الشيخ تخيله وتذكره وحفظه محفوظة ليست دون حال عقله مع أنّ هذه

٢٤٠