الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

تكون حقيقة ذاتنا حاصلة لنا بل هو أثر ما يحصل لنا من ذاتنا إلخ؟

الاعتراض الثانى سلّمنا أنّا نعقل ذواتنا ولكن لم قلتم بأنّ كل من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات إلخ؟

الاعتراض الثالث سلّمنا أنّ من عقل ذاتا فانّه يحصل له ماهية المعقول لكن لم لا يجوز أن تحصل ماهية ذاتى في قوّتى الوهمية إلخ؟

الاعتراض الرابع لم لا يجوز ان يكون إدراكى لذاتى بحصول صورة أخرى في ذاتى؟

بيانه إلخ.

الاعتراض الخامس قالوا : القسم الذي اخترتموه أيضا باطل. بيانه أنا إذا قلنا : «موجود لذاته» إلخ.

الاعتراض السادس المعارضة بإدراك سائر الحيوانات أنفسها مع أنّ أنفسها ليست مجرّدة ، ولا يلتفت إلى قول إلخ.

٨١

ط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا

فاعلم أنّ في الثانى من خامسة نفس الشفاء عدة براهين تنتهى إلى ثمانية بل إلى تسعة على تجرّد النفس الناطقة بالبيان الذي ستسمعه منّا ، أطولها الأوّل منها ، وأقصرها الرابع منها ، والأوّل والسادس منها من غرر تلك البراهين. ونحن نأتى بها ونذكر حولها بعض ما لعلّها يوضح المراد ويفيد المستفيد. على أنّا نأتى بها مصححة من نسخنا المصحّحة المعروضة على عدة نسخ مخطوطة قد وفّقنا بتصحيحها بعرضها عليها في سنى تدريسنا الشفاء.

قال الشيخ :

الفصل الثانى في إثبات أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادّة جسمانية :

انّ ممّا لا شك فيه أنّ الإنسان فيه شي‏ء وجوهر ما يتلقّى المعقولات بالقبول، فنقول :

إنّ الجوهر الذي هو محلّ المعقولات ليس بجسم ولا هو قائم بجسم على أنّه قوّة فيه أو صورة له بوجه فإنّه إن كان محلّ المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير فإمّا أن تكون الصورة المعقولة تحلّ منه شيئا وحدانيا غير منقسم ، أو تكون انّما تحلّ منه شيئا منقسما؛ والشي‏ء الذي لا ينقسم من الجسم هو طرف نقطىّ ولنمتحن (ولنمعن ـ خ) أوّلا أنّه هل يمكن أن يكون محلّها طرف غير منقسم؟ فنقول : انّ هذا محال ، وذلك لأنّ النقطة هي نهاية ما لا تميّز لها عن الخط في الوضع ، أو عن المقدار الذي هو منته إليها تميزا يكون له النقطة شيئا يستقرّ فيه شي‏ء من غير أن يكون في شي‏ء من ذلك المقدار ، بل كما أنّ النقطة لا تنفرد بذاتها وانّما هي طرف ذاتى لما هو بالذات مقدار ، كذلك انّما يجوز أن يقال بوجه ما انّه يحل فيها طرف شي‏ء حال في‏

٨٢

المقدار الذي هي طرفه ، فهو متقدر بذلك المقدار بالعرض؛ وكما أنّه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة فتكون نهاية بالعرض مع نهاية بالذات ، كما يكون امتداد بالعرض مع امتداد بالذات؛ ولو كانت النقطة منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات فكانت النقطة اذن ذات جهتين : جهة منها تلي الخط الذي تميّزت عنه ، وجهة منها مخالفة له مقابلة فتكون حينئذ منفصلة عن الخط بقوامها ، وللخط المنفصل عنها نهاية ولا محالة غيرها تلاقيها فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه ، والكلام فيها وفي هذه النقطة واحد ، ويؤدّى هذا إلى أن تكون النقط متشافعة في الخطّ إمّا متناهية وإمّا غير متناهية ، وهذا أمر قد بان لنا في مواضع أخرى استحالته فقد بان أنّ النقط لا يتركب بتشافعها جسم ، وبان أيضا أنّ النقطة لا يتميز لها وضع خاص ولا بأس بأن نشير إلى طرف منها فنقول :

انّ النقطتين اللتين تليان نقطة واحدة من جنبتيها حينئذ إمّا أن تكون النقطة المتوسلة تحجز بينهما فلا تتماسان فيلزم حينئذ أن تنقسم الواسطة على الأصول التي علمت وهذا محال.

وإمّا أن تكون الوسطى لا تحجز المتكتنفتين عن التماس فحينئذ تكون الصور المعقولة حالة في جميع النقط وجميع النقط كنقطة واحدة وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة منفصلة عن الخط فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها فتكون تلك النقطة مباينة لهذه في الوضع وقد وضعت النقط كلها مشتركة وهذا محال (فهذا خلف ـ خ).

فقد بطل إذن أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم ، فبقى أن يكون محلّها من الجسم إن كان محلّها في الجسم منقسما :

فلنفرض صورة معقولة في شي‏ء منقسم فإذا فرضنا في الشي‏ء المنقسم أقساما عرض للصورة أن تنقسم فحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين :

فإن كان متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس بهما إذ الكل من حيث هو كل ليس هو الجزء الّا أن يكون ذلك الكل شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة في المقدار ، أو

٨٣

الزيادة في العدد لا من جهة الصورة ، فحينئذ تكون الصورة المعقولة شكلا ما أو عددا ما وليس كل صورة معقولة بشكل أو عدد وتصير حينئذ الصورة الخيالية لا معقولة ، وأنت تعلم انّه ليس يمكن أن يقال : إنّ كل واحد من الجزءين هو بعينه الكل ، وكيف والثاني داخل في معنى الكل ، وخارج عن معنى الجزء الآخر؟ فمن البيّن الواضح أنّ الواحد منهما وحدّه ليس يدلّ على نفس معنى التمام.

وان كانا غير متشابهين فلينظر كيف يمكن أن يكون ذلك ، وكيف يمكن أن تكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة؟ فانّه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلّا أجزاء الحدّ التي هي الأجناس والفصول وتلزم عنها (وتلزم من هذا ـ خ) محالات : منها أنّ كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا في القوّة قبولا غير متناه فيجب أن تكون الأجناس والفصول في القوّة غير متناهية وهذا محال وقد صحّ أنّ الأجناس والفصول الذاتية للشي‏ء الواحد ليست في القوّة غير متناهية؛ ولأنّه ليس يمكن أن يكون فيه توهم القسمة يفرز الجنس والفصل ، بل ممّا لا نشكّ فيه أنّه إذا كان هناك جنس وفصل يستحقّان تميّزا في المحل أنّ ذلك التميز لا يتوقف إلى توهم القسمة فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالفعل أيضا غير متناهية ، وقد صحّ أنّ الأجناس والفصول وأجزاء الحدّ للشي‏ء الواحد متناهية من كل وجه ، ولو كانت الأجناس والفصول يجوز لها أن تكون غير متناهية بالفعل لما كان يجوز أن تجتمع في الجسم اجتماعا على هذه الصورة فإنّ ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية بالفعل.

وأيضا ولتكن القسمة ممّا قد وقع من جهة فأفرز (فأفرزت ـ خ) من جانب جنسا ومن جانب فصلا ، فلو غيّرنا القسمة لم يخل إمّا أن يقع بها في كل جانب نصف جنس ونصف فصل ، أو يوجب انتقال الجنس والفصل إلى القسمين فيميل الجنس والفصل كلّ إلى قسم من القسمة فيكون فرضنا الوهمى أو قسمتنا الفرضية يدور بمكان الجنس والفصل ، وكان يجرّ كل واحد منها إلى جهة ما بحسب إرادة مريد من خارج فيه ، على أنّ ذلك أيضا لا يغني فانّه يمكننا أن نوقع قسما في قسم.

٨٤

وأيضا ليس كل معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط منه فإنّ هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات وهي مباد للتركيب في سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول ، ولا هي منقسمة في الكم ، ولا هي منقسمة في المعنى؛ فاذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المفروضة متشابهة كل واحد منها في معنى الكل وانّما يحصل الكل بالاجتماع فقط. ولا أيضا يمكن أن تكون غير متشابهة فليس يجب أن تنقسم الصورة المعقولة ، واذا لم يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة ، ولا أن تحل طرفا من المقادير غير منقسم ، ولا بدّ لها من قابل فينا ، فلا بدّ من أن نحكم أنّ محلّ المعقولات جوهر ليس بجسم ، ولا أيضا متلقّيها منّا قوّة في جسم فانّها يلحقها ما يلحق الجسم من الانقسام ثمّ يتبعه سائر المحالات ، بل متلقّى الصورة المعقولة جوهر منّا غير جسمانيّ. انتهى (كتاب النفس من الشفاء بتصحيح الراقم وتعليقه عليه ، ص ٢٨٨ ، ٢٩٤).

بيان : قوله : «أو عن المقدار الذي هو منته إليها» أي سواء كان خطّا أو غير الخطّ كالمخروط.

وقوله : «يستقرّ فيه شي‏ء» الشي‏ء هو الصورة المعقولة في المقام.

قوله : «فكانت النقطة إذن ذات جهتين» وبعبارة أخرى إن كان لها تميز عن ذلك المقدار في الوجود فهو محال ، وإلّا لكانت منقسمة كما بيّن في موضعه.

قوله : «لا تحجز المكتنفتين عن التماس» فتتداخل النقاط فلا يحصل منها خط إذ لا يحصل امتداد على هذا الفرض قطعا ، وأيضا تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقط إلخ؛ ولقد أسقط اللازم من التشافع وأقام المطلوب مقامه فإنّ ابطال التشافع مقصود بالعرض.

قوله : «وقد وضعت النقط كلّها مشتركة في الوضع» لأنّ المفروض أنّ الوسطى لا يحجز.

قوله : «إمّا أن يكون الجزءان متشابهين» أي الجزءان من الصورة المعقولة.

قوله : «إذا لكل من حيث هو كل» تعليل لقوله : ما ليس بهما.

٨٥

قوله : «وليس كل صورة معقولة بشكل» الواو حالية.

قوله : «انّ الواحد منهما وحده» وحده بالواو العاطفة وتشديد الدال ، ويمكن كونها كلمة واحدة اى موحدا.

وقوله : «على نفس معنى التمام» أي معنى التمام من الكل.

قوله : «وقد صح أنّ الأجناس» الواو حالية في الموضعين.

قوله : «وأجزاء الحد لشي‏ء الواحد متناهية» لأنّها إن كانت غير متناهية لزم عدم تعقل كنه ماهية من الماهيات.

وعلى هذا البيان قوله في الموضع الأوّل المقدم : «وقد صح أنّ الأجناس والفصول الذاتية للشي‏ء الواحد ليست في القوّة غير متناهية».

قوله : «اجتماعا على هذه الصورة» أي على الصورة الغير المتناهية.

قوله : «فيكون فرضنا الوهمي» أي الجزئى. وقوله : «أو قسمتنا الفرضيّة» أي الكلي وقوله : «أن نوقع قسما في قسم» فلا محالة في تنصيف كل منهما. وقوله : «فإن هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات» كالأجناس العالية والفصول الأخيرة.

وأقول : خلاصة البرهان أنّ محل المعقولات إن كان جسما أو جسمانيا فهو إمّا شي‏ء وحدانيّ أو منقسم ، والأوّل طرف نقطى والنقطة غير متميزة بذاتها فمحال أن تكون محلّ المعقولات.

والثاني لزم منه انقسام الصورة المعقولة فأجزائها إمّا متشابهة أو غير متشابهة ، فعلى التشابه كيف يجتمع منها ما ليس بها إذا لكل من حيث هو كل ليس هو الجزء إلّا أن يحصل ذلك الكل أي الصورة المعقولة من الأجزاء ولها الزيادة في المقدار أو العدد فحينئذ خرجت عن كونها معقولة بل تصير صورة خيالية.

وإن كانت غير متشابهة فهي أجناس وفصول وهما متناهيتان لأنّها لو كانتا غير متناهيتين لزم عدم تعقل كنه ماهية من الماهيات؛ على أنّ هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات ليس لها أجناس ولا فصول ، ولا هي منقسمة في الكم ، ولا هي منقسمة في المعنى لأنّ الحقيقة البسيطة لا يمكن أن يطرأ عليه التجزى أصلا ، فلا بدّ من أن نحكم‏

٨٦

أنّ متلقّى الصورة المعقولة جوهر منّا غير جسماني. وبعبارة أخرى : انّ الجوهر الذي تحلّ فيه الصورة العقلية الكلّية ـ وإن شئت قلت : الجوهر الذي يدرك الصور العقليّة ـ جوهر روحاني غير موصوف بصفات الأجسام.

وعصارة البرهان : أنّ الصورة المعقولة بسيطة مفارقة ووعاء المفارق مفارق.

وأخصر من هذه أن تقول : وعاء العلم مجرّد لأنّه مجرّد. أو تقول : العلم بسيط فمدركه بسيط.

هذا ما أردنا من تلخيص البرهان. ولا يخفى عليك أنّ قول الشيخ : «وتصير حينئذ الصورة خيالية لا معقولة» صريح بأنّ البرهان يدلّ على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقلانيا ، ولا يدلّ على تجرّدها الخيالى البرزخى الغير التام ، ولذلك جعلناه في بيان تجرّدها العقلي. فيسأل الشيخ والذين اقتفوا لآرائه وممشاه عن النفس التي لم تتجرّد تجرّدا عقليا فإن أقاموا البرهان على تجرّدها البرزخى أيضا فهو المراد وإلّا فالإيراد وارد عليهم في بقاء النفوس التي لم يحصل لها تجرّد عقلى بعد. فتأمل.

تحقيق : اعلم أنّ هذا البرهان أعنى به البرهان الأوّل من نفس الشفاء هو عندهم من أقوى البراهين الدالّة على تجرّد النفوس الناطقة المدركة للمعانى الكلية. وغرضنا الآن في التّحقيق أنّ للشيخ عناية خاصة به وأتى به في سائر تصانيفه بتقريرات يقرب بعضها من بعض ، مع ذلك فيها فوائد في تقريب البرهان وتشحيذ الأذهان ، ودفع اعتراضات قد تورد عليه ، أوجبت نقل بعض ما في تلك المصنّفات من تقرير البرهان ، وإن كان بظاهره يوهم الإسهاب ولكن عظم الأمر يجبره فعليك بما نتلوه منها وهي ما يلى :

١ ـ قال في النجاة :

فصل في تفصيل الكلام على تجرّد الجوهر الذي هو محل المعقولات. ثمّ نقول : انّ الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ولا قائم بجسم ـ إلى آخر ما نقلناه من الشفاء ، وقد علمت أنّ الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه) اقتطف النجاة من كتابه الكبير الشفاء. (النجاة ، ١٧٤ ـ ١٧٧ ، ط مصر ، الطبعة الثانية ، ١٣٥٧ هـ. ق).

٨٧

٢ ـ قد تصدّى الشيخ لبيان هذا البرهان في الفصل السادس عشر والفصلين بعده من النمط الثالث من كتاب الإشارات ، وفي الفصل الأوّل من سابع الإشارات ، كما يأتي استيفاء النقل والتحقيق والتنقيب في ذلك.

٣ ـ اكتفى في الفصل السادس من المقالة الثالثة من رسالته في المبدا والمعاد بذلك البرهان الأوّل من الشفاء فقط على كون النفس جوهرا مفارقا بتقرير آخر مع اختصار فقال ما هذا لفظه :

فصل في أنّ المعقولات لا تحل جسما ، ولا قوّة في جسم ، بل جوهرا قائما بنفسه.

ونحن الآن ملتمسون أن نعرف كيف تأخذ كلّ قوّة مدركة صورة المدرك ، فنقول : إنّ المدرك إذا كان ذاتا عقلية فلا يجوز أن يدركه قوّة حسيّة ، ولا قوّة في جسم بوجه من الوجوه.

والبرهان على ذلك أنّ كل قوّة في جسم فإنّ الصورة التي تدركها تحلّ جسما لا محالة ، ولو كان محلّه مجرّدا عن الجسم لكان لتلك القوّة قوام دون الجسم. ثمّ لا يجوز أن يكون لصورة عقلية ، كيف كانت ، عقلية بذاتها أو بتجريد العقل لها ، تصوّر وحلول في الجسم ، وذلك لأنّ كل معنى وذوات عقلية فهي بريئة عن المادة وعن عوارض المادة ، وانّما هو حدّ فقط.

ثمّ كل صورة تحل جسما فقد يمكن فيها أن تنقسم؛ فإن تشابهت الأقسام فيكون الشي‏ء لم يدرك مرّة ، بل مرارا كثيرة ، بل مرارا بغير نهاية بالقوّة. وإن لم تتشابه الأقسام وجب أن تختلف ، فيجب أن يكون بعضها قائما مقام الفصول من الصورة التامّة ، وبعضها قائما مقام الجنس ، لأنّ أجزاء تلك الصورة تكون أجزاء معنى الذات ، ومعنى الذات لا يمكن أن يقسم إلّا على هذا الوجه. لكن القسمة ليست واجبة أن تكون على جهة واحدة ، بل يمكن على جهات مختلقة ، فيمكن أن تكون أجزاء الصورة كيف اتفق فصلا أو جنسا ، فلنفرض جزء جنسا وجزء فصلا معيّنا. ولنقسم على خلاف تلك القسمة : فإن كان ذلك بعينه فهذا محال ، وإن كان فصل آخر وجنس آخر حدث للشي‏ء فصول كيف اتفق وبغير نهاية وأجناس كذلك فهذا محال.

٨٨

ثمّ كيف يجوز ولم يجب أن تكون صورة هذا الجانب مختصا بأنّه جنس ، وصورة هذا الجانب أنّه فصل. وإن كان هذا الاختصاص يحدث بتوهم القسمة فالتوهم بغير صورة الشي‏ء ، وهذا محال؛ وإن كان موجودا فيجب من ذلك أن يكون عقلنا شيئين ، لا شيئا واحدا. والسؤال في كل واحد من الشيئين ثابت ، فيجب أن يكون عقلنا أشياء بلا نهاية. فيكون للمعقول الواحد مباد معقولة بلا نهاية.

ثمّ كيف يمكن أن يحصل من المعقولين معقول واحد ، ونحن نعقل طبيعة الفصل بعينها لطبيعة الجنس ، فيجب أن تحلّ طبيعة الفصول وصورته في الجسم حيث طبيعة الجنس ، فيستحيل.

ثمّ الواحد الذي لا قسمة له كيف يعقل ، والحدّ من جهة ما هو حدّ واحد ، فكيف يعقل من جهة وحدته ، والفصول المجرّدة لا تنقسم بالفصول ، والأجناس المجرّدة التي ليس لها أجناس ، وصورة المعقولات التي لا قسمة لها إلى مبادى حدود كيف تعقل؟

وقد بان واتضح أنّ المعقولات الحقيقية لا تحلّ جسما من الأجسام ولا تقبلها صورة متقررة في مادة جسم ، هذا قسم. (ص ١٠٠ و ١٠١ ، ط ١ ، ايران).

٤ ـ هذا البرهان هو البرهان الأوّل من الفصل الخامس من رسالة الشيخ في النفس وبقائها ومعادها أيضا. (مجموعة الرسائل الفلسفية ، ص ٨٠ ـ ٨٤ ، ط مصر ، وص ١٢٦ ـ ١٢٩ ، ط جامعة استانبول).

وهذه الرسالة للشيخ قد طبعت مرّة مع رسائل أخرى فلسفية تنتهي إلى اثنتين وعشرين رسالة في جامعة استانبول ، عنى بنشرها الفاضل حلمى ضيا ولكن بمناسبة ذكرى ابن سينا الألفية؛ ومرّة أخرى مع ثلاث رسائل أخرى للشيخ في النفس أيضا في قاهرة مصر ، حققها وقدّم إليها الدكتور أحمد فؤاد الأهوانى سنة ١٣٧١ هـ. وقد بذل في تصحيحها بعرضها على نسخ أخرى عتيقة جهده ، فرأينا نقل البرهان من الرسالة بهذا التصحيح البليغ في المقام حقيقا لقرب عباراته من عبارات الشفاء وإيجابه تسهيل الفهم من ما في الشفاء أيضا. إلّا أنّا نجعل اختلاف النسخ التي أورده في ذيل الصفحات بين الهلالين بدون ذكر رموز النسخ روما للاختصار ، فهي ما يلى :

٨٩

الفصل الخامس في أنّ إدراكها لا يكون بآلات (بالآلة) في حال (فصل في تفصيل الكلام على تجرّد الجوهر الذي هو محل المعقولات؛ فصل في أنّ المدركة للصور الكلية لا يكون بآلات بحال) نقول : انّ الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ، ولا قائم بجسم ، على أنّه قوّة فيه ، أو صورة له بوجه. فإنّه إن كان محل المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير ، فإمّا أن يكون محل الصور (الصورة) فيه طرفا منه لا ينقسم ، أو يكون أنّما يحل منه شيئا منقسما.

ولنمتحن أوّلا أنّه هل يمكن أن يكون طرفا غير منقسم؟ فأقول : إنّ هذا محال. وذلك لأنّ النقطة هي نهاية ما لا تميز لها (له) في الوضع عن الخط أو المقدار الذي هو متصل به (والمقدار الذي هو منته إليها) حتى ينتقش فيه (حتى يستقر فيه) شي‏ء من غير أن يكون في شي‏ء من ذلك الخط. بل كما أنّ النقطة لا تنفرد بذاتها وإنّما هي طرف ذاتي لما هو بالذات مقدار ، كذلك أنّما يقال بوجه ما إنّه (بوجه إنّه) يحلّ فيها طرف شي‏ء حال في المقدار الذي هو طرفه متقدر (فيتقدر) به بالعرض؛ وكما (فكما) أنّه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة (بالعرض في النقطة).

ولو كانت النقطة منفردة (مفردة) تقبل شيئا من الأشياء ، لكان يتميّز لها ذات ، فكانت (وكانت) النقطة حينئذ ذات جهتين : جهة منها تلي الخط (الخط الذي تميزت عنه) ، وجهة منها مخالفة له (لها) مقابلة (وجهة منها تخالف الذي تتميز به عنه وهي له مقابلة) ، فتكون حينئذ منفصلة عن الخط ، وللخط نهاية غيرها تلاقيها ، فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه (هذا) ، والكلام فيها وفي هذه النقطة واحد ، ويؤدّي هذا إلى أن تكون النقط متشافعة (متتابعة) في الخط ، إمّا متناهية وإمّا غير متناهية؛ وهذا أمر (الأمر) قد بان لنا في مواضع أخرى استحالته. فقد بان أنّ النقط لا تتركب بتشافعها ، وبان أيضا أنّ النقطة لا يتميز (لا يتم) لها وضع خاص. ونشير إلى طرف منها فنقول :

إنّ النقطتين حينئذ اللتين تطبقان بنقطة واحدة من جنبتيها (جنبتيه) إمّا أن تكون هذا النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا تتماسان ، فيلزم حينئذ في البديهة العقلية الأوّلية أن تكون كل واحدة منهما تختص بشي‏ء من الوسطى تماسّه ، فتنقسم حينئذ الواسطة ،

٩٠

وهذا محال.

وإمّا أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس فحينئذ تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقط ، وجميع النقط كنقطة واحدة. وقد وضعنا هذا النقطة الواحدة منفصلة عن الخط ، فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها بها ينفصل عنها ، فتلك النقطة تكون مباينة (متباينة) لهذه في الوضع ، وقد وضعت النقط كلّها مشتركة في الوضع ، هذا خلف. فقد بطل (بطل إذن) أن يكون محلّ المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم. فبقى أن يكون محلّها (محله) من الجسم ـ إن كان محلّها جسما ـ شيئا منقسما.

فلنفرض صورة معقولة في شي‏ء منقسم ، فإذا فرضناها (فرضنا) في الشي‏ء المنقسم انقساما عرض للصورة أن تنقسم ، فحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين فان كانا متشابهين فكيف يجتمعان منهما ما ليس هما؟ الّا أن يكون ذلك الشي‏ء شيئا يحصل فيهما من جهة المقدار (من جهة بالزيادة في المقدار) أو الزيادة في العدد ، لا من جهة الصورة ، فتكون حينئذ الصورة المعقولة شكلا ما أو عددا ما ، وليس كل صورة معقولة بشكل ، وتصير حينئذ الصورة خيالية لا عقلية.

وأظهر من ذلك أنّه ليس يمكن أن يقال إنّ كل واحد من الجزءين هو بعينه الكل في المعنى ، لأن الثاني إن كان غير داخل في معنى الكلّ ، فيجب أن نضع في الابتداء معنى الكل لهذا الواحد لا لكليهما (لا كليهما) وإن كان داخلا في معناه فمن البيّن الواضح أنّ الواحد منهما وحده ليس يدلّ على نفس معنى التمام (على معنى نفس التّمام).

وإن كانا غير متشابهين فلننظر كيف يمكن أن يكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة؟ فانّه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلّا أجزاء الحدّ التي هي الأجناس والفصول ، ويلزم من هذا محالات : منها أنّ كلّ جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا بالقوّة (في القوّة) قبولا غير متناه ، فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالقوّة غير متناهية؛ وقد صحّ أنّ الأجناس والفصول الذاتية للشي‏ء الواحد ليست في القوّة غير متناهية. ولأنّه ليس يمكن أن يكون توهّم القسمة بقدر الجنس والفصل‏

٩١

(والفصل تمييزا بينهما). بل ممّا لا شكّ فيه أنّه إذا كان جنس وفصل يستحقّان تمييزا في المحلّ ، أنّ ذلك التمييز لا يتوقف على (إلى) توهم القسمة ، فيجب أن تكون الأجناس والفصول أيضا بالفعل غير متناهية؛ وقد صحّ أنّ الاجناس والفصول وأجزاء الحدّ (والفصول والحد) للشي‏ء الواحد متناهية من كل وجه. ولو كانت غير متناهية بالفعل هاهنا لكانت توجب أنّ الجسم (أن يكون الجسم) الواحد يفصل (انفصل) بأجزاء غير متناهية. (بالفعل هاهنا لما كان يجوز أن يجتمع في الجسم اجتماعا على هذه الصورة فإنّ ذلك يوجب أنّ الجسم الواحد ...)

وأيضا لتكن القسمة وقعت (وقع) من جهة ، وأفرزت (فأفرزت ، فأفرد ، وأفرد) من جانب جنسا ، ومن جانب فصلا. فلو غيّرنا القسمة لكان يقع منها في جانب نصف جنس ونصف فصل ، أو كان ينقلب [الجنس إلى مكان الفصل ، والفصل إلى مكان الجنس‏] (زيادة في نسخة) فكان فرضنا الوهمى يدور مقام الجنس والفصل فيه (وكان يغير كل واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة من بدن خارج). على أنّ ذلك أيضا لا يغنى ، فانّه يمكننا أن نوقع قسما في قسم.

وأيضا ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات أبسط منه ، فإنّ هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات ، ومبادي للتركيب (ومبادي ليست للتركيب) في سائر المعقولات ، وليس لها أجناس ولا فصول ، ولا هي منقسمة في الكم ، ولا منقسمة في المعنى. فإذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المتوهمة فيه غير متشابهة ، وكل واحد (متشابهة كل واحد) منها هو غير معنى الكل (منها وهو غير معنى الكل) ؛ وإنّما يحصل الكل (الكلى) بالاجتماع. فإذا (فإن) كان ليس يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة (صورة معقولة) ، ولا أن تحلّ طرفا من المقادير غير منقسم (غير منقسم ولا بدّ لها من قابل فينا) ، فبيّن أنّ محلّ المعقولات جوهر ليس بجسم ، ولا أيضا قوّة في جسم ، فيلحقه (فيلحقها) الجسم من الانقسام (في الانقسام) ، تث يتبعه سائر المحالات. انتهى.

اعلم أنّ عبارات الشيخ في تقرير البرهان من الرسالة المذكورة ، ومن النجاة كأنّهما واحدة لا تتفاوت كثير تفاوت فيها.

٩٢

٥ ـ قد علمت أنّ البرهان الأوّل من نفس الشفاء على اثبات تجرّد النفس هو من أقوى البراهين عندهم على ذلك. وهو البرهان الأوّل في أكثر مصنفات الشيخ لكنّه بدأ في مختصر له موسوم بـ عيون الحكمة بالبرهان السادس الآتى من نفس الشفاء على تجرّدها ، ثمّ أتى بعده بخلاصة البرهان الأوّل من نفس الشفاء ايفاء لحق العيون في الاختصار فقال :

وممّا يوضّح هذا أنّ الصورة المعقولة لو حلّت جسما أو قوّة في جسم لكانت تحتمل الانقسام وكان الأمر الوحداني لا يعقل. وليس يلزم من هذا أنّ الأمر المركب يجب أن لا يعقل بما لا ينقسم؛ وذلك لأنّ وحدة الموضوع لا تمنع كثرة المحمولات فيه ، لكنّ تكثّر الموضوع يوجب أن يكثر المحمول (ط مصر بتحقيق عبد الرحمن بدوى ، ص ٤٣ ـ ٤٤).

ثمّ لا بأس في تقديم الأوّل على السادس مرّة ، وأخرى بالعكس لما تقدّم من أنّهما من غرر تلك البراهين. وقد وصف السادس في النجاة بقوله : «فهذا برهان عظيم ...»

كما سيأتي تفصيله.

٦ ـ قد حرّر الشيخ ذلك البرهان الأوّل من الشفاء في الفصل التاسع من رسالة له في القوى النفسانية بتحرير آخر مع اختصار في البرهان إلّا أنّه قدّم له خمس مقدمات مستنبطة من متن البرهان ، تسهيلا لنيل المراد من البرهان. وهذه الرسالة قد طبعت في مصر مرّة سنة ١٣٢٥ هـ. بتصحيح الفاضل ادورد ابن كرنيليوس فنديك الأمير كاني وضبطه ومقدمته مع شرح كل فصل منها بإشارات منيفة وقد بذل جهده في التصحيح والضبط جدّا ، وأفاد وأجاد بما عمل في طبع الرسالة ونشرها. ومرّة أخرى سنة ١٣٧١ هـ. مع ثلاث رسائل أخرى لابن سينا في النفس باهتمام الدكتور أحمد فؤاد الأهواني. ونحن نأتى بتحرير الشيخ على وفق هذين الطبعين ، ونجعل بعض اختلاف النسخ ممّا أفاده ادورد فنديك ، بين الهلالين بلا نقل رموز النسخ روما للاختصار. قال الشيخ :

الفصل التاسع في إقامة البراهين على جوهرية النفس وغناها عن البدن في القوام‏

٩٣

على مقتضى طريقة المنطقيين. [وإليك‏] أحد البراهين المنطقية في إثبات هذا المطلوب ، ولنقدّم له مقدّمات :

الف) منها أنّ الإنسان يتصوّر المعانى الكلية التي يشترك فيها كثرة ما ، كالإنسان المطلق والحيوان المطلق. وهذه المعانى الكلية منها ما يتصوّره بتركيب جزئي (بتركيب جبرىّ) ، ومنها ما يتصور (لا يتصور) لا بالتركيب بل بالانفراد. وما لم يتصوّر القسم الأخير فلا يمكن أن يتصور القسم الأوّل. ثمّ انّما يتصور كل واحد من هذه المعانى الكلية صورة واحدة مجرّدة عن الإضافة إلى جزئياتها المحسوسة ، إذ جزئيات كل واحد من المعانى الكليّة لا تتناهى بالقوّة ، وليس بعضها أولى بذلك من بعض.

ب) ومنها أنّ الصورة مهما حلّت جسما من الأجسام وبالجملة منقسما من المنقسمات فقد لابسته في تمام أجزائه ، وكل ما لابس منقسما في تمام أجزائه فهو منقسم فكل صورة لابست جسما من الأجسام فهي منقسمة.

ج) ومنها أنّ كل صورة كلية إذا اعتبر فيها الانقسام بمجرّد ذاتها فلا يجوز أن تكون أجزاؤها المعتبرة مشابهة للكل في تمام المعنى ، وإلّا فالصورة الكلية التي اعتبر الانقسام في ذاتها لم تنقسم ذاتها ، بل انقسمت في موضوعاتها إمّا أنواعها وإمّا أشخاصها؛ وتكثّر الأنواع والأشخاص لا يوجب الانقسام في تجرّد ذات الكلّي ، وقد وضع أنّه وقع وهذا خلف. فإذن. قولنا : إنّ أجزاءها لا تشابهها في تمام المعنى ، قول صادق.

د) ومنهما أنّ الصورة الكليّة (العقلية) إذا اعتبر فيها الانقسام فلا يجوز (فلا يجب) أن تكون أجزاؤها عرية عن جميع معناها ، وذلك أنّنا إذا جوّزنا ذلك وقلنا إنّ هذه الأجزاء مباينة لتمام صورة الكلّي أنّما تحصل الصورة فيها عند اجتماعها فهي أشياء خالية عن صورة ما يحصل فيها عند التركيب فهذه صفة أجزاء القابل ، فإذن لم تقع القسمة في الصورة الكليّة بل في قوابلها ، وقد قيل إنّه وقع فيه ، وهذا خلف. فإذن قولنا : لا يجوز أن تكون أجزائها مباينة لها في جميع المعنى ، قول صادق.

هـ) ومنها وهي نتيجة المقدمتين ، أنّ الصورة الكلّية إذا أمكن أن يعتبر فيها الانقسام‏

٩٤

فإنّ أجزاءها لا خالية عن كمال الصورة ولا مستوفية لها استيفاء تامّا ، وكأنّها أجزاء حدّه ورسمه.

فإذا تقررت هذه المقدمات فنقول : لا محالة أنّ الصورة المعقولة ، وبالجملة العلم ، تقتضي محلّا من ذات الإنسان جوهرىّ الذات محلّه ، فلا يخلو أن يكون هذا الجوهر جسما منقسما أو جوهرا غير جسم ولا منقسم. وأقول ولا يجوز أن يكون جسما؛ وذلك أنّ الصورة المعقولة الكلّية إذا حلّت جسما فلا محالة أنّه يمكن أن يعرض فيها الانقسام على ما أوضحناه أوّلا. ولا يجوز أن تكون أجزاؤها إلا متشابهة للكل من وجه ، مباينة من وجه؛ وبالجملة في كلّ واحد منها بعض معنى الكلّ. والصورة الكلّية ليس شي‏ء منها يتركب منه وله بعض معناها إلّا الأجناس والفصول ، فإذن هذه الأجزاء أجناس وفصول ، فكل واحد منها صورة كلّية ، والقول فيها كالقول الأوّل ، ولا محالة إمّا سينتهي إلى صورة أولى لا تنقسم إلى أجناس وفصول لامتناع التمادي إلى ما لا يتناهى في أجزاء مختلفة المعاني إذا تقرر أنّ الأجسام تتجزّأ إلى ما لا يتناهى. ومعلوم أنّه إن كانت الصورة الكلّية لا تنقسم إلّا إلى أجناس وفصول وإن كان منها (وفصول إن كان منها) ما لا تنقسم إلى أجناس وفصول ، فليس تنقسم بوجه من الوجوه في ذاته إذن ولا المركب منهما ، إذ من المعلوم أنّ الإنسان لا يمكن أن يتصوّر إلّا مع تصوّر الحىّ الناطق.

وبالجملة لا يمكن أن تتصوّر الصورة الكلية التي لها جنس وفصل إلّا بتصوّرها جميعا. فإذن الصورة التي وصفناها أنّها حلّت في الجسم لم تحلّ فيه وهذا خلف؛ فنقيضه ، وهو قولنا : إنّ الصورة الكلية لا تحلّ جسما من الأجسام ، صادق. فإذن الجوهر الذي تحل فيه الصورة العقلية الكلية جوهر روحاني غير موصوف بصفات الأجسام ، وهو الذي نسمّيه بالنفس الناطقة. وذلك ما أردنا أن نبين.

٧ ـ للشيخ رسالة فارسية في معرفة النفس قد طبعت بمناسبة ذكرى ابن سينا الألفية في جامعة طهران ، عاصمة ايران ، سنة ١٣٧١ هـ. ق ١٣٣١ هـ. ش بتصحيح الدكتور موسى عميد ، وقد بذل جهده في تصحيحها بعرضها على نسخ عديدة عرفها في مفتتح‏

٩٥

الرسالة ، وفي تحشيتها ، والإتيان بمقدمة مجدية لها. وهذا البرهان من الشفاء هو البرهان الأوّل فيها على أنّ النفس الإنسانية جوهر مفارق غير مخالط للمادة بري‏ء عن الأجسام منفرد الذات بالقوام والعقل؛ إلّا أنّ الشيخ لخّص البرهان وأتى به في الرسالة بالفارسية؛ قال في الباب الخامس منها : «اكنون مى‏گوييم كه هر جوهرى كه تصور معقولات كند ...» (ص ٣٤ ، ط ١).

٨ ـ البرهان الأوّل من نفس الشفاء على أنّ النفس الناطقة جوهر مفارق ، محرّر في رسالة للشيخ (رضوان اللّه عليه) في السعادة والحجج العشر بتحرير آخر مفيد في بيانه جدّا. وهذه الرسالة طبعت في حيدرآباد الدكن مع عدة رسائل أخر فلسفية للشيخ سنة ١٣٥٣ هـ. ق والبرهان المذكور هو الحجة الأولى في تلك الرسالة أيضا ، وتؤول إلى البرهان الأوّل من الشفاء ، وليست غيره عند التحقيق قال :

الحجة الأولى في أنّ النفس جوهر [مفارق‏] ؛ يجب أن يتحقق أنّ الإنسان فيما هو انسان يباين سائر الحيوانات بقوّة تخصه من بين جملتها له بها إدراك المعقولات الكلية ، وقد جرت العادة بتسمية هذه القوّة العقل الهيولانى والنفس الناطقة ، وبها يسمّى الإنسان ناطقا. وهذه القوّة موجودة في كل واحد من الناس طفلا كان أو بالغا ، مجنونا كان أو عاقلا ، مريضا كان أو سليما.

فأوّل ما يحصل في هذه القوّة من المعقولات هي المسماة بداية العقول والآراء العالية أعنى المعانى المتحققة بغير حاجة إلى قياس وتعلم ، إذ لو كان لكل واحد من المعقولات حاجة إلى تقدم تعلم وقياس لوصل الأمر إلى ما لا يتناهى وذلك محال. فظاهره أنّ من المعقولات معقولات أوّل لا تحتاج إلى قياس وتعلم في أن تكون معقولات ، ويجب أن يكون حصولها في النفس في أوّل مرتبة لأنّها يجب أن تكون العلة لسائر المعقولات في أن تكون معقولات ، فإنّ كل واحد لما هو أوّل في كل واحد من المعاني علة لما هو الثاني في ذلك المعنى من حيث هو ذلك المعنى ، ولا بدّ من تقدم وجود هذه المعاني في القابل لها من الإنسان.

ثمّ لا يخلوا ما أن تكون هذه المعاني جواهر أو أعراضا حالّة فيها. وكلّ من نفي كون‏

٩٦

النفس الناطقة داخلة في حقيقة الجوهر فإنّه يسمّي هذه المعاني أعراضا.

ثمّ من المعلوم المقبول عند كل واحد من الفرق أنّ العرض لا يستتمّ قوامه ما لم يحط بحامل جوهرى الذات يحمله ، إذا اسم العرض موضوع لهذا المعنى. ولا بدّ أن يكون لهذه المعاني على هذا الوضع حامل من ذات الإنسان يحملها. وهذه المعانى كلية ، لأنّ من حكم بأنّ الشي‏ء لا يصدق عليه نعم ولا معا ، ولا يكذبان عليه معا ، بل يصدق أحدهما ويكذب الآخر ، فليس يطلقه إلّا إطلاقا كليا. وكذلك من قال : إنّ الكلّ أعظم من الجزء. وكذلك من قال : إنّ الأشياء المساوية لشي‏ء واحد متساوية.

فلينظر من هو حامل هذه المعاني الكلّية من ذات الإنسان؟ وهل هو جسم ، أو جوهر غير جسم؟.

ومن البيّن أنّ حاملها لو كان جسما لامتنع أن يقبل شيئا من المعانى المعقولة الكلية. وذلك أنّه ليس شي‏ء من هذه ينقسم إلّا إلى الأجزاء الجزئية إن كانت له ، والأجزاء الرسمية الوهمية إن كانت له ، والأجزاء القولية إن كانت له. وأمّا من جهة الكمية فكلّا؛ وتبيّن ذلك آنفا.

ثمّ من البيّن أنّ كلّ صورة لابست جسما من الأجسام فإنّها تنقسم بانقسام الجسم. ثمّ من الممتنع أن يكون انقسامها من جهة الكميّة ، وذلك أنّ الأجزاء التي تنقسم إليها الصورة المعقولة لا يخلو إمّا أن يكون لها أو لبعضها شي‏ء من معنى الكل ، أو لا يكون لها أو لبعضها شي‏ء من معنى الكل ، فإن كان هذا القسم فالصورة الكلّيّة إذا تتركب من أجزاء ليس لا شي‏ء من معنى الكل ، وإذا كانت أجزاء خالية عن صورة وانّما تحصل فيها الصورة عند اجتماعها ، فليس بأجزاء لصورة تقبل هي أجزاء قابل الصورة ، فاذا ليست الصورة التي وصفناها بمنقسمة وهذا خلف.

فبقى إن كانت الصورة الكلية منقسمة ، أن تنقسم إلى أجزاء لها معناها؛ وذلك على قسمين :

إمّا أن يكون لكل واحد منها أو بعضها تمام صورتها ومعناها : فتكون الصورة الكلية محمولة على هذه الأشياء ، وهذه الأشياء إمّا أشخاص تحتها ، أو أنواع؛ ومن البيّن أنّا

٩٧

إذا وضعنا الصورة الكلية نوعا من الأنواع الأخر أنّ هذه الأجزاء تكون أشخاصها يحمل عليها معنى الصورة الكلّية ، ثمّ عند تركبها يحصل المعنى الكلى ، وذلك محال على ما بيّن على لسان المنطقيين ولسان الفاحصين عن الفلسفة الأولى؛ ثمّ مع ذلك لا يكون الانقسام عارضا لها بل لموضوعاتها التي تحمل هي عليها وذلك غير الموضوع.

فبقى أنّما إذا انقسمت فإنّما تنقسم إلى أشياء ليس لها تمام معناها ، ولا هي أيضا عرية عنها ، وتلك هي أجزاء الحد والرسم ، فإذا إنّما تنقسم إلى أجزاء حدّية أو رسمية ، ولا يخلو إمّا أن تكون هذه الأجزاء كلّية أو شخصيّة : فإن كانت الشخصية فحدّ الكلى مركب من أجزاء شخصيّة وذلك محال على ما بينه المنطقيون. وإن كانت كلّية فالمسألة راجعة من الرأس في كل واحد من الأجزاء. فأمّا إن بلغت القسمة إلى ما لا تتناهى فتكون صورة كلية مركبة من مباد صورية كلّية لا تنقسم في ذاتها إلى الأجناس الأولى. وبين أنّ هذه الصورة الكلية ليس من شأنها الحلول في جسم من الأجسام لأجل امتناعها عن الانقسام. فإذا لا الصورة التي هذه الصورة مبدؤها وجزؤها وحدها بحالّة في الجسم ، وإلّا فيكون الإنسان موجودا ولا حيوانا وهذا محال.

فتبيّن أنّ الصورة الكلية لن تحلّ جسما من الأجسام البتة ، ولا أيضا في قوّة جسمانية ، إذ حال القوّة الملابسة للجسم في الانقسام كحال الجسم. فقد اتضح أنّ محلّ الحكمة من ذات الإنسان جوهر غير جسماني قائم بذاته ، وذلك ما أردنا أن نبيّن.

وهذا البرهان قد لخّصه الغزّالي بتحرير آخر ونقله في كتابه معارج القدس في مدارج معرفة النفس وهو البرهان الأوّل فيه أيضا. (ص ٢٥ ، ط مصر).

وكذا قد نقله الفخر الرّازي في المباحث المشرقية بتحرير آخر ، وهو الدليل الأوّل فيه أيضا على تجرّد النفس الإنسانيّة؛ ثمّ أتى في أثناء التحرير بمطالب على سبيل السؤال والجواب حول الدليل لا تخلو من فوائد (ج ٢ ، ص ٣٤٥ ، ط ١) ؛ وكذا في المسألة الثامنة والعشرين من كتابه المسمّى بـ الأربعين (ج ١ ، ص ٢٦٧ ، طبع حيدرآباد الدّكن).

٩٨

وكذلك هو الحجة الأولى من نفس الأسفار ، غير أنّ صاحب الأسفار نقلها من المباحث المشرقية وحرّره بتحرير آخر أيضا قريب من ما في المباحث وزاد بعض كلمات تمثيليّة ، ثمّ أورد اعتراضات الفخر في أثناء تحرير الدليل على حذوه بتعبير واعترض هاهنا تارة ، فإن قلت أخرى ، فأجاب عنها ، من غير أن يصرّح باسم الفخر أو يسمّى بـ المباحث ، ـ ولا بأس بذلك ـ. ثمّ نقل مسلكا آخر في تقرير الحجة واعتراضات بعض المتأخرين عليه ، فأجاب عنها؛ ويريد بذلك البعض صاحب المباحث ، وأفاد بعض إشارات لطيفة في تضاعيف الحجّة.

واعلم أنّ أوّل من تصدّى لبيان هذا البرهان المذكور من الشفاء ، هو الشيخ نفسه في الفصول الثلاثة السادسة عشرة وتاليتيه من النمط الثالث من كتاب الإشارات ، فوزّع البرهان في ثلاثة فصول : فصل في تحرير أصل البرهان ، وفصلين في الجواب عن توهّم الإيرادين حوله؛ سيّما أنّ الشارح المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات بيّنها أتمّ تبيين؛ على أنّ لنا حول كلماتهما السامية تعليقات لعلّها لمجدية لمن هو يبتغى الإيمان والاطمينان بنحو هذه المعارف الإيقانيّة ، فعليك بما نهديها إليك ، واللّه سبحانه وليّ التوفيق؛ قال الشيخ :

«إشارة ، إن اشتهيت الآن أن يتّضح لك أنّ المعقول لا يرتسم في منقسم ولا في ذى وضع فاسمع انك تعلم أن الشي‏ء غير المنقسم قد يقارنه أشياء كثيرة لا يجب لها أن يصير منقسما في الوضع ، وذلك إذا لم تكن كثرتها كثرة ما ينقسم في الوضع كأجزاء البلقة لكن الشي‏ء المنقسم إلى كثرة مختلفة الوضع لا يجوز أن يقارنه شي‏ء غير منقسم ، وفي المعقولات معان غير منقسمة لا محالة وإلّا لكانت المعقولات أنّما تلتئم من مبادئ لها غير متناهية بالفعل؛ ومع ذلك فإنّه لا بدّ في كلّ كثرة متناهية أو غير متناهية من واحد بالفعل ، وإذا كان في المعقولات ما هو واحد ويعقل من حيث هو واحد فانّما يعقل من حيث هو واحد فانّما يعقل من حيث لا ينقسم ، فإذن لا يرتسم فيما ينقسم في الوضع ، وكل جسم وكل قوّة في جسم منقسم.»

أقول قوله : «فاذن لا يرتسم فيما ينقسم في الوضع» نتيجة البرهان. أي لا يرتسم‏

٩٩

ما هو واحد بالفعل معقول من حيث هو كذلك فيما ينقسم في الوضع أي لا يمكن أن يكون العاقل منقسما في الوضع. ولا يخفى عليك أنّ هذا البيان هو تحرير متن البرهان المذكور في الشفاء. وكذلك الفصلان الآتيان في دفع بعض الشبه الواردة عليه أيضا قد استخرجا من تقرير برهان الشفاء.

وبالجملة تحرير هذا البرهان في الفصول الثلاثة من الإشارات ، تنقيح ما في الشفاء على أسلوب آخر أحسن وأبين. وعليك بشرح المحقق الطوسى عليه :

قوله : «إشارة ، إن اشتهيت ... فاسمع» يريد بيان أنّ النفس الناطقة ، وبالجملة كل جوهر عاقل فهو ليس بجسم ولا جسمانى ، وبالجملة ليس بذى وضع. قال الفاصل الشارح : إيراد هذه المسألة كان بالنمط المترجم بالتجريد أولى ، إلّا أنّه لما بنى إثبات الجوهر المفارق على أنّ النفس الإنسانية ليست جسما ولا جسمانية احتاج إلى بيان ذلك فاكتفى هاهنا ببرهان واحد لذلك وذكر سائر البراهين في النمط المذكور.

وأقول : إنّه أراد في هذا النمط أن يبحث عن ماهية النفس وكمالاتها فبيّن أوّلا أنّها جوهر مفارق الوجود عن الأجسام والجسمانيات ، ثمّ أثبت لها كمالات تصدر عنها لذاتها من غير توسط آلة وكمالات تصدر عنها بتوسط آلات؛ وأراد في نمط التجريد أن يبحث عن حالها بعد التجرّد عن البدن فبيّن هناك بقائها مع كمالاتها الذاتية ولم يتعرض لبيان امتناع كونها جسما أو جسمانيا ، بل بالغ في إيضاح الفرق بين الكمالات الذاتية الباقية معها والكمالات البدنية الزائلة عنها بزوال البدن فوقع اشتراك النمطين في البحث عن تلك الكمالات من غير قصد على ما يتّضح في موضعه ولم يورد كما ذكره الشارح هاهنا شيئا ممّا يجب أن يبين هناك.

وأقول : هذا ما قاله المحقق الطوسي في صدر الفصل من بيان غرض الشيخ الرئيس ، والجواب عن اعتراض الفخر الرازي عليه. ولكن لا يخفى عليك أنّ أدلّة تجرّد النفس كلّها تنتج أنّها جوهر بسيط مفارق الوجود عن المادّة وأحكامها وما هو شأنه كذلك فلا يتطرّق إليه الفساد والزوال أبدا ، فانقطاع النفس عن بدنها العنصري لا يضرّ بقائها الأبدي كما صرّح الشيخ به في السادس من سابع الإشارات المترجم بقوله :

١٠٠