الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

القوى جسمانية.

فنقول : ليس الأمر كما ذكرتموه ، وأمّا ذكره الأمور الماضية التي كانت في ذكره في زمان الشباب فإنّما يكون كذلك لأنّ تكرر مذكوراتها على وهمه وهو شيخ أكثر من تكررها عليه وهو شاب فيكون السبب لذكره أقوى فيه مما في الشباب. وأما حفظه الأشياء التي يحفظها عند الشيخوخة فهو ضعيف ، فالشيخ لا في حفظه تصور المحسوسات ولا في حفظها معانيها كالشاب. وإن شئت أن تعلم ذلك فجرّب حفظ الشيخ للشي‏ء الذي يحفظه عند شيخوخته كحفظه عند ما كان صبيّا أو شابا فانك تجده لا محالة لا ينحفظ له الشي‏ء لا معناه ولا صورته لا عدة ولا مدة كما كان ينحفظ له قبل ذلك وتجد تذكره أضعف مما كان أيضا إلّا فيما للعقل سبيل إلى المعونة فيه. وأمّا الأمور المحفوظة قديما فإنّما يساوى الشيخ الشاب في حفظها لأنّه يتساوى فيهما السبب للحفظ عددا ومع ذلك فإنّ المرتسم من ذلك في حفظ الشاب أوضح وأصفى وأشد استصحابا بالأحوال المطيفة به والمرتسم في حفظ الشيخ أطمس وأدرس وأخفى لمعانا وظهورا.

فإن قيل الشيخ ليس أنّما يوجد سليم العقل بحسب الأمور العقلية الكلية ، بل هو أثقب رأيا وأصحّ مشورة من الشاب في الأمور الجزئية الخيالية وأنت لا تقول أنّ خياله أسلم من خيال الشاب أو مثله.

فنقول : إنّ ذلك لشيئين : أحدهما أنّ الآلة أكبر ، وثانيهما أنّه يستعين بما هو مساو لمثله من الشاب أو أقوى بسبب قلة المنازعات. أمّا أن الآلة أكبر فهو أنّ الأمثلة الجزئية عنده أكثر لأنّ تجاربه أوفر. ثمّ إنّه ليس يتصرف فيها بالخيال والقوى الوهمية فقط بل يرجع فيها إلى العقل فيستعين به في طريق القسمة للأسباب الواقعة الممكنة وطريق الاعتبار للأوائل.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنّ الشيخ قد استفاد في استعمال العقل دربة فصارت الآلة وإن ضعفت إلّا أنّ كثرة دربته تتدارك ما فات بسبب نقصان الآلة ولذلك فإنّ الشيخ المتدرب أقوى في صناعاته واستعماله لها من الشاب.

٢٤١

فنقول : الدربة أنّما يحصل لها أثر من وجهين : أحدهما أنّ هيئات التحريك الصادرة بالإرادة تتمثل في الخيال أشدّ فيكون وجه استعمالها عند الوهم أحضر. وثانيهما وهو أنّ الأعضاء تستفيد بذلك حسن تشكّل تستعد به لهيئة التحريك. وليس يمكن أن يقال هذا في باب المعقولات فإن العقل وإن سلمنا أنه يفعل بتحريكات الآلات فليس ينحفظ في النفس خيال شي‏ء منها كما ينحفظ لهيئة تحريك اليد والقدم ونحوه. ولا أيضا يمكن أن يقال أنّه يستعين بآلات جسدانية وهي عاصية فيفيدها الاستعمال طاعة فإنا وإن سلمنا العقل يفعل بتحريك فليس بتحريكات مستعصية ولذلك فإنّ صحيح الفطرة الأصيلة يشرع في العلوم فيقف عليها على الاستواء وإن كان بعض الناس يحتاج إلى أن يراض من جهة التفطن لمعانى الألفاظ ، ومن جهة معاوقة من خياله ومعارضة منه لعقله حتى يفهم الحال في ذلك فيعقله ويستوى في أدنى مدة وأخف كلفة. انتهى كلام الفخر.

بيان : قوله : «ويصحّح نقيض التالى بقياس من الشكل الثالث» برهان تام ، والشكل الثالث ينتج نتيجة جزئية موجبة أو سالبة ، ونتيجة هذا القياس هي السالبة الجزئية وهي قوله : «فليس كلّ قوّة عاقلة تكلّ عند الشيخوخة» ولا تنافي لفظة الكل في النتيجة الجزئية لأنّ سور السالبة الجزئية ليس بعض ، وبعض ليس ، وليس كلّ ، وما يساويها. فإذا كانت القوّة العاقلة لها فعلها بنفسها أعنى أنّ لها تعقلا بذاتها ، عند كلال الآلات الجسدانية البدنية وضعفها وفتورها كانت الحجة تامة على إثبات تجرّدها ولو كان وقوع ذلك الفعل مرّة واحدة؛ كما أنّ رؤيا واحدة مثلا إذا تحقق لها تعبير صحيح كفى ذلك لإثبات الرؤيا الصادقة وإن كان كثيرا من الرؤيا أضغاث أحلام ، كما أفاد صاحب المباحث بقوله : «واعلم أنّه ليس من الواجب في صحة ما قلنا إلخ». ولكنّ تمسكه بأعضاء التخيل ليس بتمام لما دريت من تجرّد القوة الخيالية أيضا. وقوله : «ليس من الواجب إلخ» كلام كما في الأسفار في قوّة قياس استثنائي تاليه متصلة كلّية موجبة استثنى فيه نقيض التالى وهو سالبة جزئية لينتج نقيض المقدم ، صورته هكذا : لو كانت الناطقة جسدانية تفعل بالآلة لكان كما عرض للبدن آفة أو مرض أو كلالة

٢٤٢

يعرض لها في التعقل فتور وليس كذلك كليا ، ينتج أن تعقلها ليس بآلة بدنية. فلا يرد عليه أنّ كثيرا ما يعرض الاختلال في التعقل عند اختلال قوى البدن لأنّ هذا بمنزلة استثناء لعين التالى لا لنقيضه فلا ينتج شيئا.

قوله : «نعم قد يجوز إلخ» بيان لسبب عروض الاختلال في التعقل تارة ، ووجهه ظاهر.

قوله : «الأعضاء الطرفية» الأعضاء الطرفية في كتاب القصاص والديات من الكتب الفقهية يراد بها ما دون النفس كاليد والرجل والأذن ونحوها ، وهاهنا بمناسبة البحث جعل الكبد والدماغ والقلب أصلا وما سواها أطرافا ، والأعضاء الرئيسة والمرءوسة في كتب الطبّ على تفصيل آخر.

قوله : «فإن قيل الشيخ تخيله إلخ» لما لم يكن صاحب المباحث قائلا بتجرّد الخيال والقوّة الوهمية بل كان هو كغيره من المشاء قائلا بجسمانيتهما ، ثمّ رأى بقاء التخيل والتذكر كالعاقلة عند الشيخوخة تكلفوا تمحّلات شديدة في دفع البقاء عندها ، فاعلم أنّ الحجة السادسة من كتاب الأسفار على تجرّد النفس في الحقيقة تلخيص عبارات المباحث في تقرير الدليل المذكور إلّا أنّ صاحب الأسفار تفرّد في البحث عن الخيال ونحوه ، وكذا عن الاعتراضات الواردة من المباحث عليها بعد تقرير أصل الحجة تلخيصا بتحقيقه الشريف فقال :

حكمة عرشية : اعلم أنّ هذا البرهان أيضا غير دالّ على أنّ لكل إنسان جوهرا مفارقا عقليا ، بل يدلّ على أنّ القوّة العاقلة غير بدنية. وهو كما يدل على أنّ القوّة العاقلة ليست بدنية ، يدلّ على أنّ القوّة الخيالية والوهمية أيضا ليست بدنية ، فإنّ بعض المشايخ والمرضى قد يكون تخيّله وتصوّره للمعانى الجزئية بحاله. ولو كانت القوّة الخيالية طبيعية قائمة بهذا البدن الطبيعى لكان كلما عرضت لها آفة أو مرض وقع الاختلال في تخيّله وتصوّره وليس كذلك إذ قد تكون غير مختلّة في فعلها ، والقضية السالبة الجزئية تكفى لاستثناء نقيض التالى كما علمت. والقوم لعدم اطلاعهم على تجرّد الخيال تكلّفوا تمحّلات شديدة في دفع بقاء التخيّل والتذكر عند الشيخوخة

٢٤٣

واختلال البدن. انتهى كلام صاحب الأسفار فيما تفرد به في المقام.

أقول : أمّا قول صاحب الأسفار «انّ هذا البرهان أيضا غير دال على أنّ لكل إنسان جوهرا مفارقا عقليا» قد تقدّم التحقيق ذلك منّا في أثناء البحث عن البرهانين الأوّل والثانى من الشفاء ، فقد دريت في الموضعين أنّ ما أدّى إليه نظره الشريف في هذا الأمر ليس على ذلك الإطلاق بصحيح.

وأمّا قول الفخر في المباحث : «وأمّا حفظه الأشياء التي يحفظها عند الشيخوخة فهو ضعيف» فأقول : ينبغى أن يميّز ويفرق في المقام بين فعل النفس من حيث هي عاقلة لذاتها ولما كسبتها ، وبينه من حيث هي فاعلة بالآلات البدنية ، والنظر الأصيل في مباحث تجرّدها هو الأوّل وهو باق على قوّته عند الشيخوخة سواء كثرت معلوماته أو قلّت؛ وأما الثاني فكلاله لا يضرّ تجرّدها. مثلا أنّ القوّة المتفكرة متحركة في فعلها ، ولا بد في الحركة هذه من استعمال الآلة الجسدية والآلات الجسدية يكلّها تكرّر الأفاعيل. وفي اللآلى المنتظمة للحكيم السبزوارى (ص ٨ ، ط ١) :

والفكر حركة إلى المبادى

ومن مبادى إلى المراد

والغرض إنّ الشيخ الهرم مثلا أمكن أن يدركه الضعف في تفكّر مسألة علمية من حيث سرعة كلال آلة الفكر ، قبل الشاب بزمان ، ولكن ذلك لا ينافى أن يتعقّل معانى عقلية متواليا من غير عروض كلال وفتور لأنّ المتفكرة في فعلها تحتاج إلى آلة جسدية دون العاقلة ، ويجب الفرق بينهما ، وانّما الكلام في تجرّد العاقلة. فحيث إنّ العاقلة في إدراكاتها وتعقلاتها المعانى المكسوبة المخزونة فيها باقية على قوّتها عند الشيخوخة مثلا علمنا أنّ النفس مجرّدة في ذاتها ويكفى ذلك في تجرّدها. فقوله : «وأمّا الأمور المحفوظة ...»

فيه كفاية لعدم كون النفس من المقارنات. وأما قوله في الفرق بين المرتسمين في الشيخ والشاب فوهمانى صرف لا برهان عليه ، بل العكس صواب.

قوله : «فإن قيل الشيخ ليس ...» السؤال يتضمن أمرين : أحدهما أنّ الشيخ ليس في الأمور العقلية الكلية سليم العقل ، وثانيهما أنّه في الأمور الجزئية الخالية أثقب رأيا من‏

٢٤٤

الشاب ، ثمّ سأل عن الأمر الثانى بأنّه كيف يكون كذلك مع أنّ القوّة الخيالية عندكم جسمانية؟ فأجاب عن الثانى بقوله : انّ ذلك لشيئين إلخ ، وأمّا الأمر الأوّل فكأنه سلم أنه كذلك. ولا يخفى عليك أنّ قوله : «ثمّ انّه ليس يتصرف فيها بالخيال والقوى الوهمية فقط ...» ليس جوابا عن الأمر الأوّل. وأنت بما أسلفنا دريت أنّ الخيال مجرّد أيضا فالكلام في العاقلة. وانّ الأمر الأوّل في السؤال وهم وافتراء ، بل الصواب هو في خلاف ذلك.

قوله : «فإن قيل لم لا يجوز إلخ». الدربة هي ملكة تكسب من تمرّن العمل ، فما يستفاد من استعمال العقل ملكات علمية وإطلاق الآلة عليها أنّما هو على المجاز وضرب من التوسع في التعبير ، والبحث في الآلات الجسدية وفتورها. وتلك الملكات تكسب النفس سعة نورية وجودية على ما تحقق بالبراهين القاطعة على اتحاد العاقل بمعقولاته ، والتجارب لقاح العقول.

قوله : «وليس يمكن أن يقال هذا في باب المعقولات ...». بل ذلك في باب المعقولات أشد فإنّ النفس الفسيحة بالملكات النورية العلمية كان تصرفها في قواها مطلقا أقوى وآكد وإن كانت محال بعض القوى من حيث كونها مادية واهنة مستعصية.

وعمدة النظر في البرهان هي تجرّد النفس الناطقة الإنسانية من حيث بقاء فعل القوّة العاقلة مع فتور آلاتها الجسمانية ، والحجة قول فصل على ذلك وأمثال تلك الوساوس حوار لفظية لا اعتداد بها. ومن تلك الوساوس اعتراض أبى البركات في المعتبر على الحجة حيث قال معترضا بعد تقريرها بما تقدم ما هذا لفظه :

وأمّا الحجّة القائلة بضعف القوى البدنية وقوّة العقل في الشيخوخة ، فجوابه أنّ تسليم الدعوى لا يثبت الغرض المطلوب فإنّ لكل قوّة مزاجا يوافقها يقوى به فعلها فلا عجب أن تقوى من البدن قوّة مع ضعف أخرى كما يقوى السمع والحفظ في الأعمى ، وتضعف الشهوة بقوّة الغضب ، والغضب بالشهوة ، فلعلّ المزاج الشيخوخى موافق لهذه القوّة أكثر من موافقة غيره ، ولعلّ الرياضة بالتجارب والتعاليم الحاصلة في طول العمر تجتمع لها ويتبع ضعفها فيما بعد مع تزايد ضعف البدن وقواه بآخرة

٢٤٥

وعند الموت تضعف القوى بأسرها وهذه في جملتها فيشتبه الأمر ولا تفيد الحجة سوى أنّ هذه غير هذه وكل واحد منها كذلك هي غير الباقية ولا يحصل بالجسمانية وغير الجسمانية من ذلك تصديق في واحدة دون الأخرى. انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى عليك أنّ كلام صاحب المعتبر غير معتبر فإنّ قوله : «فلا عجب أن تقوى من البدن قوّة مع ضعف أخرى» لا ينافي فتورها وضعفها عند الشيخوخة وإنكار عروض الذبول والنقص على القوى البدنية عندها يعدّ من إنكار البديهيات. ولو كان اقتضاء المزاج الشيخوخى ما قال لوجب أن يوافق كل مزاج شيخوخى كذلك ، ووجب أن يوافق إدراك المعقولات أكثر من مزاج غيره وهو كما ترى.

وأمّا ما تمسك بالرياضة على اجتماع العلوم الكثيرة فغير ما نحن فيه رأسا وذلك لأنّ إنسانا إذا فرض قليل البضاعة في المعقولات جدا ، وكان عند الشيخوخة عاقلا لمعنى واحد كلّى فقط هو كان مكسوبه منذ زمان شبابه ، أفادت الحجة تجرّد النفس العاقلة.

ثمّ إنّ اعتراض صاحب المعتبر ، واعتراض تلميذه صاحب المباحث وشرح الإشارات على الحجة ـ كسائر وساوسهما على العلوم العقلية ـ متقاربان ، وقد أورد التلميذ في الشرح هذا الاعتراض عليها أيضا ، وسترى حسم مادّته عن المحقق الطوسى من شرحه على الإشارات. وينبغى أن يعدّ أمثال أبى البركات الطبيب والفخر الرازى الخطيب والمتكلم المنشى الغزالى صاحب التهافت من المتفلسفة لا من الفلاسفة الحكماء ، وتجوال الفكر حول عباراتهم كثيرا يحاسب من تضييع العمر كما ضيّعنا ، إلّا أن الأمر خطير ولعلّ عظم الخطر في ذلك يجبره.

بقي في المقام نقل كلام الشيخ في الفصل الثانى من النمط السابع من الإشارات ، وشرح المحقق الطوسى عليه في تقرير الحجة ، وبعض الإشارات منّا حولها ، فهي ما يلى :

قال الشيخ :

تبصرة : إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعّال لم يضرّها فقدان الآلات لأنّها تعقل بذاتها كما علمت لا بآلتها. ولو عقلت بآلتها لكان لا يعرض للآلة كلال البتّة إلّا ويعرض للقوّة كلال ، كما يعرض لا محالة لقوى الحس والحركة ،

٢٤٦

ولكن ليس يعرض هذا الكلال بل كثيرا ما تكون القوى الحسيّة والحركيّة في طريق الانحلال والقوّة العقليّة إمّا ثابتة ، وإمّا في طريق النموّ والازدياد. وليس إذا كان يعرض لها مع كلال الآلة كلال يجب أن لا يكون لها فعل بنفسها وذلك لأنك علمت أنّ استثناء عين التالى لا ينتج. وأزيدك بيانا فأقول : إن الشي‏ء قد يعرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه ، فليس ذلك دليلا على أنّه لا فعل له في نفسه ، وأمّا إذا وجد قد لا يشغله غيره ولا يحتاج إليه فدلّ على أنّ له فعلا بنفسه. انتهى كلام الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه).

بيان : قوله : «قد استفادت ملكة الاتصال».

أقول : تحقيق البحث عن ذلك وتنقيبه يطلب في شرح العين الثامنة والعشرين من كتابنا سرح العيون في شرح العيون.

وقوله : «ويعرض للقوّة كلال» يعنى بالقوّة القوّة العاقلة قد عبّر عنها بالقوّة العقلية أيضا. وقوله : «لأنّك علمت أنّ استثناء ...» يعنى علمت في منطق كتاب الإشارات. واستثناء عين التالى في المقام بأن يقال : لكن قد يعرض لها كلال حينما يعرض للآلة كلال؛ أو نحوها من عبارات أخرى تفيد هذا المعنى.

وقوله : «إنّ الشي‏ء قد يعرض إلخ». الشي‏ء المبحوث عنه هاهنا هو النفس الناطقة كما قال في صدر كلامه : إذا كانت النفس الناطقة؛ وإن شئت قلت هو القوّة العاقلة أو القوّة العقلية. والمراد بالغير هو الآلة البدنية. والمقصود عن فعل نفسه هو التعقل فإنّه فعل الشي‏ء أى فعل النفس الناطقة. وضمير إذا وجد يرجع إلى ذلك الفعل. وضمير إليه في قوله «ولا يحتاج إليه» يرجع إلى غيره في قوله «قد لا يشغله غيره» ، والغير كما قلنا هو الآلة الجسمانية الجسدية.

وأمّا ما أفاده المحقق الطوسى في الشرح فهو قوله :

التبصرة جعل غير البصير كالأعمى بصيرا ، والتنبيه جعل غير اليقظان كالنائم يقظان؛ ففي تسمية هذا الفصل بالتبصرة دون التنبيه تعريض بأنّ البحث المذكور فيه أوضح من الأبحاث المذكورة في الفصول الموسومة بالتنبيهات لأنّ المبالغة عند حثّ الغافل‏

٢٤٧

عن إدراك الشي‏ء الحاضر أمامه أنّما يكون في نسبته إلى العمى أكثر منها في نسبته إلى النوم. وأمّا كون هذا البحث أوضح من غيره فلأنّه يفيد استبصار العاقل لذاته بذاته ، وما عداه يفيد استبصاره بغيره.

فقوله : «إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعال لم يضرّها فقدان الآلات» تكرار لما سلف في الفصل المتقدم مع مزيد فائدة وهي أنّ فقدان الآلات بعد حصول ملكة الاتصال للنفس بالعقل الفعال لا يضرّها في بقائها في نفسها ، ولا في بقائها على كمالاتها الذاتية المستفادة من العقل الفعّال ، فإنّ الفاعل والقابل لها موجودان معا عند فقدان الآلات ، والآلات المفقودة ليست بآلات لها بل لغيرها.

وقوله : «لأنّها تعقل بذاتها كما علمت» إشارة إلى ما مرّ في النمط الثالث من بيان كون النفس عاقلة بذاتها لا بالآلات البدنية. ثمّ أنّه أراد المبالغة في إيضاح ذلك ليتضح الفرق بين الكمالات الذاتية الباقية مع النفس والكمالات الذاتية الزائلة عنها بعد المفارقة فذكر على ذلك أربع حجج منها واحدة في هذا الفصل. وهي استثنائية متصلة ، مقدّمها قوله : «ولو عقلت بآلتها» وتاليها متصلة كليّة موجبة هي قوله : «لكان لا يعرض للآلة كلال إلّا ويعرض للقوّة كلال» وصورتها هكذا : لو كان تعقل النفس بآلة بدنية لكان كلّما يعرض لتلك الآلات كلال يعرض لها في تعقّلها كلال. وذلك واضح فإنّ اختلال الشرط يقتضى اختلال مشروطه.

وقوله : «كما يعرض لا محالة لقوى الحس والحركة» استشهاد بالأفعال التي تصدر عنها بالآلات البدنية وتختل باختلالها. وفائدة هذا الاستشهاد أنّ جودة الفاعلية قد تكون بسبب التمرّن الحاصل للفاعل بعد صدور الفعل عنه دفعات كثيرة ، وقد تكون بسبب التجربة الحاصلة عند استحضار صور أفعال مختلفة صدرت عنه ، وقد تكون بسبب القوّة التي بها يكون اقتداره على الفعل أتمّ اقتدار. والإنسان في سنّ الانحطاط يكون أجود تعقلا منه في سنّ النمو بالوجوه الثلاثة جميعا ، ويكون أجود إحساسا بالوجهين الأولين أعنى بسبب التمرّن والتجارب المقتضية لاستثبات المحسوسات دون الوجه الأخير فإنّه لا يكون أحدّ سمعا ولا بصرا. والمراد هاهنا الفرق بين‏

٢٤٨

الأمرين بهذا الوجه فلذلك أورد الاستشهاد بالإحساس والتحرّك.

وقوله : «ولكن ليس يعرض هذا الكلال» استثناء لنقيض التالى وهو متصلة سالبة جزئية ، تقديره : ولكن ليس كلما يعرض للآلات كلال يعرض للنفس في تعقّلها كلال ، بل قد تكلّ الآلات ولا تكلّ هي في تعقلها ، بل إمّا تثبت وإمّا تزيد وتنمو كما في سنّ الانحطاط. وأيضا كما يكون بعد توالى الأفكارى المؤدية إلى العلوم فإنّ الدماغ يضعف بكثرة الحركات الفكرية ، والنفس تقوى لازدياد كمالاتها. وهذا الاستثناء أنتج نقيض المقدم وهو أنّ تعقلها ليس بآلات بدنيّة ، وهاهنا قد تمّت الحجّة.

ثمّ الشيخ اشتغل بنفى وهم يمكن أن يعرض هاهنا وهو أن يقال : لو كان عدم كلال النفس في تعقّلها مع كلال الآلة دالّا على أن تعقلها ليس بالآلة لكان وجود كلالها في تعقلها مع كلال الآلة دالّا على أنّ تعقّلها بالآلة ، فذكر أنّ هذا استثناء لعين التالي وهو غير منتج. ثمّ زاد في بيانه بأنّ وجود الفعل لشي‏ء في صورة معيّنة يدلّ على كونه فاعلا مطلقا ، أمّا عدمه في صورة معينة فلا يدلّ على كونه غير فاعل أصلا.

قال الفاضل الشارح معترضا على ذلك :

يجوز أن يكون المعتبر في بقاء النفس على كمال تعقلها حدّا معيّنا من الصحة البدنية وهو باق إلى آخر الشيخوخة ويكون النقصان الحاصل في زمان الكهولة واقعا في ما يزيد على ذلك المعتبر بخلاف الحاصل في آخر الشيخوخة فإنّه واقع في نفس ذلك المعتبر ، وحينئذ يكون النقصان الثانى مخلّا دون الأوّل ، كما أنّ للصّحة المعتبرة في بقاء القوّة الحيوانية حدّا ما لا تبقى تلك القوّة بدونها وتبقى مع الازدياد والانتقاص فيما وراءها. ثمّ إنّه حمل الازدياد في الكهول على الاجتماع العلوم الكثيرة عندهم في ذلك السنّ مع عدم الاختلال.

وأقول : القوّة الحيوانية تقع بالاشتراك على الكمال الأوّل الذي به يكون الحيوان حيوانا ، وعلى كمالات الثانية الصادرة عنه. والأوّل أمر لا يحتمل الزيادة والنقصان بخلاف الثاني ، فالحدّ المعيّن من الصحة الذي لا يزيد ولا ينقص معتبر في بقاء الأوّل.

وأمّا المعتبر في الثاني فالصحة القابلة للازدياد والانتقاص ، ولذلك يزيد تلك‏

٢٤٩

الكمالات بازديادها وتنتقص بانتقاصها ، وهاهنا ليس الكلام في الكمال الأوّل للنفس العاقلة بل في كمالاتها الثانية القابلة وللازدياد والانتقاص ، وظاهر أنّها لو كانت مقتنصة بالآلات المختلفة الأحوال لاختلفت باختلافها كما اختلفت الكمالات الحيوانية وليس الأمر كذلك. وأمّا حمل الازدياد الحاصل في الكهولة على اجتماع العلوم الكثيرة فغير ما نحن فيه على ما مرّ. هذا مع أنّ الشيخ معترف بأنّ هذه الحجة والحجّة التي أوردها بعد من الحجج الإقناعية في هذا الباب على ما ذكره في سائر كتبه؛ يعنى أنها تكون مقنعة للمسترشدين وإن لم تكن مسكتة للجاحدين فإنّ الإقناعيات العلمية تكون هكذا ، لا على ما يستعمل في الخطابة فانّها تطلق هناك على كل ما يفيد ظنّا ما صادقا كان أو كاذبا ، فهي بهذا الاعتبار يشمل التجربيات وما يجرى مجريها مما يعدّ من اليقينيات.

بيان : قوله : «فإنّ الفاعل والقابل لها موجودان معا» يعنى بالفاعل العقل الفعّال ، وبالقابل النفس الناطقة ، وضمير لها راجع إلى كمالاتها الذاتية.

قوله : «فذكر على ذلك أربع حجج» بل ذكر على ذلك خمس حجج كما تقدّم كلامنا في ذلك في شرح البرهان السابع من الإشارات.

قوله : «والمراد هاهنا الفرق بين الأمرين بهذا الوجه» اى الفرق بين التعقل والاحساس بالوجه الأخير وهو قوله وقد تكون بسبب القوة التي بها يكون اقتداره على الفعل أتم اقتدار.

قوله : «قال الفاضل الشارح معترضا على ذلك» يعنى به الفخر الرازى ، وقد تقدّم اعتراضه هذا في المباحث المشرقية أيضا ، ونحوه عن استاذه أبى البركات في المعتبر.

قوله : «وظاهر أنّها لو كانت مقتنصة بالآلات ...» الاقتناص الاصطياد ووجهه ظاهر. وفي نسخ : لو كانت مقتضية أى لو كانت النفس العاقلة مقتضية للتعقل بالآلات المختلفة الأحول أى هي مختلفة في أحوال من حيث كلالها وضعفها تارة ، وقوّتها وتصلّبها أخرى ، لاختلفت الكمالات الثانية باختلافها قوّة وضعفا وليس الأمر كذلك.

قوله : «فغير ما نحن فيه على ما مرّ» يمكن أن يقال في بيانه : وذلك لأنّ الكلام‏

٢٥٠

فيما نحن فيه هو تعقّل النفس ولا ريب أنّها تعقل غير ما اجتمع عندها من العلوم وتزيد معقولاتها عليها على مرّ آنفا من أنّ الكلام في كمالاتها الثانية القابلة للازدياد والانتقاص. ولكنّ للسيّد السند على بعض النسخ المخطوطة عندنا من شرح المحقق الطوسى على الإشارات تعليقة شريفة في المقام هكذا :

قوله فغير ما نحن فيه؛ لأنّ الكلام ليس في أنّ حصول الكمالات الثانية وزيادتها من أين ، بل إنّما الكلام في كون تلك الكمالات القابلة للزيادة والنقصان للنفس من دون الآلات وزيادتها بحسب الفاعل وجودته بأمور ثلاثة وإلى هذا أشار بقوله على ما مرّ أى في هذه التبصرة عند ما قال إنّ جودة الفاعل تكون لأحد أمور ثلاثة : إمّا التمرن أو التجربة أو ازدياد الآلة قوّة. أي الذي ذكره الإمام يرجع إلى الأمرين الأولين لا إلى الأخير الذي به فرقنا بين القوّة العاقلة والقوة (ص ١٥٠ نسخه اصلى) النفسانية. وبالجملة أنّ كلامنا فيما يكون جودة الإدراك بواسطة جودة الآلات ، فلو كان الإدراك بها اختلّ التعقل باختلال الآلة. انتهت التعليقة.

قوله : «فهي بهذا الاعتبار» أى الإقناعيات بهذا الاعتبار إلخ.

ولا يخفى عليك أنّ الحجة المنقولة من الإشارات أعمّ شمولا من البرهان الثامن المنقول من الشفاء أوّلا ، فإن نظر ما في الشفاء هو سنوح ضعف القوى البدنية بعد منتهى النشو والوقوف عند الشيخوخة؛ وأمّا نظر ما في الإشارات فهو كلال الآلات مطلقا ، إلّا أنّ المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات ساق البحث أيضا إلى سنّ الانحطاط والشيخوخة تمثيلا لظهوره من حيث وضعه الطبيعى قال عزّ من قائل : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) وملاك ما في الشفاء والبرهان وتقريره واحد.

والحكيم الرياضى الإلهي أبو العباس فضل بن محمّد اللوكري كان من أعاظم تلامذة بهمنيار ، وأستاذ عدة من الأعاظم ، كأنّه في هذين البيتين ناظر إلى هذا البرهان :

الجسم يبلى إذا طال الزمان به‏

والنفس تبقى وهذى غاية الناس

لا تيأسنّ من النفس التي بقيت

إن كنت عن جسمك الفانى على يأس

٢٥١

يز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان التاسع

من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية :

قد نقلنا ثمانى حجج على تجرّد النفس الناطقة من الفصل الثانى من المقالة الخامسة من نفس الشفاء مع بيانها وتحقيقات منّا حول كل واحدة منها ، فاعلم أنّ الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه) تصدّى في ذيل الفصل المذكور بعد الإتيان بتلك البراهين لإزالة وسوسة ربما ننسخ على بعض الأوهام العامية. وقد سلك في كتاب النجاة أيضا هذا المسلك السوىّ ، وقد سمعت منّا سالفا أنّ الشيخ اقتطف كتابه النجاة من كتابه الشفاء ، ولكن الذيل المذكور في النجاة معنون بهذا العنوان : «سؤال وشرح شاف للإجابة عنه» وكأنّ هذا العنوان من مصحّح طبع النجاة (ص ١٨٠ ، ط مصر ، ١٣٥٧ هـ)؟ وكيف كان فغرضنا الآن أنّ جوابه عن السؤال متضمّن برهانا آخر على تجرّد النفس الناطقة ، كما أنّ الشيخ نفسه جعله الحجة التاسعة من رسالته في السعادة والحجج العشر على أنّ النفس الإنسانية جوهر مجرّد فتنتهى براهين الشفاء على ذلك إلى تسعة كما أومأنا إليه في صدر مقالنا حول الفصل المذكور من الشفاء. ثمّ جعله أبو البركات في المعتبر الحجّة العاشرة على تجرّدها على حذو كلام الشيخ في ذلك (ج ٢ ، ص ٣٥ ، ط حيدرآباد الدكن) ، ثمّ اتبعه باعتراض ستسمعه. ثمّ جعله صدر المتألهين في نفس الأسفار الحجة الحادية عشرة على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا وبها تنتهى حجج الأسفار على ذلك (ج ٤ ، ص ٧٤ ، ط ١) ثمّ جعله الحكيم السبزوارى الدليل السابع من الحكمة المنظومة (ص ٣٠٣ ، ط اعلى) ؛ والبرهان الحادى عشر من كتابه أسرار الحكم بالفارسية (ج ١ ، ص ٢٥٣ ، بتصحيح الاستاذ العلامة الشعراني وتعليقاته عليه) فعليك‏

٢٥٢

بما نتلوها من كلماتهم ، وما نتبعها من زيادة استبصار في ذلك : قال الشيخ في ذيل الفصل المذكور من الشفاء ما هذا لفظه :

وأمّا الذي يتوهم من أنّ النفس إذا كانت تنسى معقولاتها ولا تفعل فعلها مع مرض البدن ، وعند الشيخوخة فذلك لها بسبب أنّ فعلها لا يتم إلّا بالبدن فظنّ غير ضروري ولا حقّ وذلك أنّه قد يمكن أن يجتمع الأمران جميعا فتكون النفس لها فعل بذاتها إذا لم يعق عائق ولم يصرف عنه صارف ، وأنّها أيضا قد تترك فعلها الخاص مع حال يعرض للبدن فلا تفعل حينئذ فعلها وتصرف عنه ، ويستمرّ القولان من غير تناقض وإذا كان كذلك لم يكن إلى هذا الاعتراض التفات.

ولكنّا نقول : إنّ جوهر النفس له فعلان : فعل له بالقياس إلى البدن وهو السياسة ، وفعل له بالقياس إلى ذاته وإلى مباديه وهو الإدراك بالعقل. وهما متعاندان متمانعان فإنّه إذا اشتغل بأحدهما انصرف عن الآخر ويصعب عليه الجمع بين الأمرين.

وشواغله من جهة البدن الإحساس والتخيّل والشهوات والغضب والخوف والغم والفرح والوجع.

وأنت تعلم هذا بأنّك إذا أخذت تفكر في معقول تعطّل عليك كلّ شي‏ء من هذه إلّا أن تغلب هي النفس وتقسرها رادّة إيّاها إلى جهتها. وأنت تعلم أنّ الحس يمنع النفس عن التعقل فإنّ النفس إذا أكبّت على المحسوس شغلت عن المعقول من غير أن يكون أصاب آلة العقل أو ذاتها آفة بوجه. وتعلم أنّ السبب في ذلك هو اشتغال النفس بفعل دون فعل ، فكذلك الحال والسبب إذا عرض إن تعطّلت أفعال العقل عند المرض.

ولو كانت الملكة العقلية المكتسبة قد بطلت وفسدت لأجل الآلة لكان رجوع الآلة إلى حالها يحوج إلى اكتساب من الرأس (من رأس ـ خ ل) وليس الأمر كذلك فإنّه قد تعود النفس إلى ملكتها وهيأتها عاقلة بجميع ما عقلته بحالها إذا عاد البدن إلى سلامته ، فقد كان إذن ما كسبته موجودا معها بنوع ما إلّا أنّها كانت مشغولة عنه.

وليس اختلاف جهتى فعل النفس فقط يوجب في أفعالها التمانع ، بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك بعينه فإنّ الخوف يغفل عن الوجع ، والشهوة تصدّ عن الغضب ،

٢٥٣

والغضب يصرف عن الخوف. والسبب في جميع ذلك واحد وهو انصراف النفس بالكلية إلى أمر واحد. فبيّن من هذا أنّه ليس يجب إذا لم يفعل شي‏ء فعله عند اشتغاله بشي‏ء أن لا يكون فاعلا فعله إلّا عند وجود ذلك الشي‏ء المشتغل به.

ولنا أن نتوسع في بيان هذا الباب ، إلّا الإمعان في المطلوب بعد بلوغ الكفاية منسوب إلى التكلّف لما لا يحتاج إليه.

فقد ظهر من أصولنا التي قرّرنا أنّ النفس ليست منطبعة في البدن ، ولا قائمة به ، فيجب اختصاصها به على سبيل مقتضى هيئة فيها جزئية جاذبة إلى الاشتغال بسياسة البدن الجزئى بعناية ذاتية مختصة به صارت النفس عليها كما وجدت مع وجود بدنها الخاصّ بهيئته ومزاجه.

انتهى كلام الشيخ في ما أتى به في ذيل ذلك الفصل بتمامه من إثبات أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادة جسمانية. وعباراته في النجاة قريبة من الشفاء ، والتفاوت يسير جدا لا حاجة إلى نقلها إلّا أنّ عبارته في صدر السؤال في النجاة جاءت هكذا :

... فظن غير ضرورى ولاحق ، وذلك أنّه بعد ما صحّ لنا أنّ النفس تعقل بذاتها يجب أن نطلب العلة في هذا العارض المشكك فإن كان يمكن أن يجتمع أنّ للنفس فعلا بذاتها وانّها تترك فعلها مع مرض البدن ولا تفعل من غير تناقض فليس لهذا الاعتراض اعتبار إلخ.

قوله : «فلا تفعل حينئذ فعلها وتصرف عنه» أى تصرف عن فعلها.

وقوله : «ويستمرّ القولان من غير تناقض». عدم التناقض من حيث إن أحدهما ذاتي والآخر عرضى. وقوله : «وشواغله من جهة البدن الإحساس ...». شواغله مبتداء ، والإحساس إلى قوله : «الوجع» خبر له.

قوله : «إلّا أن تغلب هي النفس» ضمير هي راجع إلى كلمات الإحساس وما يتلوه إلى الوجع. وقوله : «أصاب آلة العقل أو ذاتها آفة بوجه» كلمة آفة مرفوع فاعل لفعل أصاب ، وآلة العقل وكذا ذاتها منصوبة على المفعولية. وقوله : «إذا عرض أن تعطلت»

٢٥٤

جملة أن تعطّلت فاعل لفعل عرض. وقوله : «بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك» قد يوجب خبر للتكثر. والمراد من جهة واحدة أن تكثر أفعال يقع في جهة واحدة. وقوله : «على سبيل مقتضى هيئة فيها» تلك الهيأة في النفس كتصور كمال واستكمال. وقوله : «كما وجدت مع وجود بدنها» أى من أوّل وجودها.

وأمّا أنّ جوابه عن السؤال المذكور يتضمّن برهانا آخر على تجرّد النفس ، فذلك لمكان قوله : «ولو كانت الملكة العقلية المكتسبة قد بطلت إلخ». وقد حرّره على التفصيل والتبيين في رسالة السعادة والحجج العشر بقوله :

الحجة التاسعة ، لو كان العلم عرضا حالا في الجسم لوجب من ذلك أنّه متى زال عنه بنسيان أو غيره أن يعود لا كما حصل أوّلا ، إذ فراغ الجسم القابل في الحالتين بمرتبة واحدة ولكنا نرى المرء يعرض له ما يزيل عنه الصورة المعلومة ثمّ إذا رؤيت عادت بغير حاجة إلى استئناف الجسد فتبيّن أنّ محل العلوم ليس بجسم بل هو جوهر غير جسمانى ولا يلزم هذا على الجوهر الذي نصفه نحن فإنّ هذا الجوهر إذا ليس بجسماني فليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه والصورة المعلومة فيه وانّه ربما تزول عنه هذه الأسباب لا قباله على تصور شي‏ء من الأمور العاجلة البدنية عند مرض أو شغل قلب لم يعرض له ولا تزول عنه هذه الصورة المستحفظة في ذاته على الإطلاق لأجل أنّه روحانى النسج بل يكون في ذات بنوع قوّة لا كقوّة الصبىّ على الكتابة بل كقوة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة ، ثمّ إذا أردنا إشغاله عنها عاود بنوع فعلى بتلك الصورة المستحفظة مهما أراد. وأما الجسم فلا يمكن عليه تزاحم صوّر مختلفة مدركة ولا استحفاظها بوجه من الوجوه ألا ترى أن الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة وتقبل أخرى لأنّ الجسم ما لم ينحلّ عن إحدى الصورتين لم تحلّ المبائنة فيه ، ولا معاودته للصورة وقبولها بنوع فعلى بل بنوع انفعالى فإذا لا يتقرر هذا القدر فاذا ليس هذا الجوهر المذكور بجسم ولا قوة جسمانية لأنها إن احتاجت إلى وقوع الصورة لتعلّقها فالمسألة قائمة ، وان كفت بذاتها فليست بجسمانية بل هو الجوهر الذي في الجسم نصف وذلك ما أردنا أن نبيّن.» انتهى‏

٢٥٥

(ص ١١ ط حيدرآباد الدكن).

وعلى هذا السياق قال صاحب المعتبر : «أما الذين قالوا إنها من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم فاحتجّوا على ذلك ... وبأن العلم المعقول لو حلّ الأجسام والقوى الجسمانية لم يعد منه ما يزول بالنسيان إلا بسبب محصّل وارد من خارج لأنه يكون بعد انمحاء الصورة المنتقشة مثله قبل انتقاشها بالنسبة اليها في كونها معدومة فيه ولا تحصل له ثانيا إلا بسبب موجب كما حصلت له أولا ، والقوة التي تنسى وتذكر من غير أن تستعيد ذلك من سبب من خارج ، والصور المعلومة تكون حاصلة عندها مع اشتغالها بغيرها عن ذكرها فلا تنمحى عنها الأوّل بالثوانى لأنها روحانية بل تكون فيها بنوع قوة لا قوة الصبى على الكتابة بل كقوة العاقل على الكتابة حيث لا يكتب ويكتب متى أراد ، والقوى الجسمانية لا يمكن فيها تزاحم الصور المختلفة لا في الإدراك ولا في الحفظ ، ألا ترى أن الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة إذا أقبلت على غيرها لأن الجسم ما لم يخل عن إحدى الصورتين لن تحله الأخرى فالقوة العاقلة غير جسمانية.» (ص ٣٥٨ ، ج ٢ ، ط حيدرآباد الدكن). ثمّ اعترض عليها بقوله :

«وأما القائلة بالحفظ والنسيان فعلى مذهب القائل لا تفيد في الاحتجاج فإن القوة الحافظة الذاكرة على مذهبه جسمانية وتلحظ وتعرض وتحفظ وتنسى فإن جعل للحفظ قوة وللذكر أخرى فالعقل أيضا يقول فيه إن الحافظة للمعقولات قوّة والذاكرة لها أخرى ويجوز منه في هذه ما جاز في تلك فلا تفيد الحجة على مذهبه» (ج ٢ ص ٣٦٢) انتهى.

أقول : هذه الحجة في الحقيقة تتضمن حجة أخرى أيضا على تجرد جوهر النفس الناطقة الإنسانية قد ادرجت في تقرير الحجة الأولى تمثيلا وتثبيتا لها. وهي أن النفس جوهر ليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه والصور المعلومة فيه. وهذا الجوهر مع أن تلك الصور والأمور حاصلة عنده يقبل إلى غيرها وذلك الإقبال ربما يشغله عن ذكر تلك الصور والتوجه اليها مع انها لا تنمحى عنه بإقباله إلى غيرها بل هي حاصلة عنده‏

٢٥٦

نحو حصول قوة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة فمتى شاء أن يكتب يكتب بلا حاجة إلى تحصيل ملكة الكتابة جديدا ، والحال أن الجسم الطبيعى ليس له هذه الشأنية فان ما زال عنه يجب حصوله له بسبب محصّل جديد من خارج ، فكما أن تلك الصور حاصلة عند جوهر النفس وما زالت عنه بذلك الإقبال كذلك سنوح العوارض من مرض أو نسيان أو نحوهما لا يوجب زوالها عنه فإذا زال المرض والنسيان مثلا رؤيت تلك الصور والأمور كما كانت من غير كسب جديد فهي كانت مستكنّة فيه إلّا أن الرادع كأن يشغله عنها. فهاتان الحجتان تفيدان اتحاد النفس بمسكوباتها وجودا. فالنفس هي صورها العلمية وملكاتها العلمية. وتفصيل البحث عن الاستقصاء موكول إلى كتابنا دروس اتحاد العاقل بمعقوله.

وأمّا ما في المعتبر من الاعتراض على الحجة فنقول : إنّ المشاء ذهبوا إلى أنّ القوّة الحافظة الذاكرة خزانة للمعانى الجزئية ، وأمّا المعانى العقلية فخزانتها العقل الفعّال. قال الشيخ في آخر الفصل الأوّل من رابعة نفس الشفاء في إثبات الحواس الباطنة ، ما هذا لفظه :

وقد جرت العادة بأن يسمى مدرك الحس المشترك صورة ، ومدرك الوهم معنى. ولكل واحد منهما خزانة فخزانة مدرك الحس وهو الصورة هي القوّة الخيالية ، وموضعها مقدم الدماغ فلذلك إذا حدثت هناك آفة فسد هذا الباب من التصوّر إمّا بأن تتخيّل صورا ليست ، أو تصعب استثبات الموجود فيها. وخزانة مدرك المعنى هو القوّة التي تسمّى الحافظة ، ومعدنها مؤخر الدّماغ ، ولذلك إذا وقع هناك آفة وقع الفساد فيما يختص بحفظ هذه المعانى. وهذه القوّة تسمّى أيضا متذكرة ، فتكون حافظة لصيانتها ما فيها ، ومتذكرة لسرعة استعدادها لاستثباته والتصوّر به مستعيدة إيّاه إذا فقد إلخ. (ج ١ ، ص ٣٣٤ ، ط رحلى ايران).

ومدرك الوهم معنى جزئى كما نص به الشيخ في الموضع المذكور من الشفاء أيضا.

وقد أثبت في الفصل الثالث عشر من النمط الثالث من الإشارات العقل الفعال من حيث كونه خزانة للمعقولات ، وإفاضته إيّاها على النفوس الإنسانية.

٢٥٧

وبالجملة أنّ المعانى ليست بمنحصرة في الجزئيات ، والحجة ناطقة بأنّ الصور العلمية تحصل للنفس بسبب من الأسباب كالكفر والتعليم ونحوها ، ثمّ قد تذهل النفس عنها بحدوث نسيان أو مرض أو اشتغال بأمور ، وبعد إزالة المانع تريها حاضرة عندها من غير استيناف ذلك السبب بل هي مكتفية بذاتها فيها. فالحجة على صورة القياس من الشكل الثانى تمام لا ريب فيها وهيأته أن يقال : النفس مكتفية بذاتها وباطن ذاتها في استرجاع صورها المكسوبة العلمية ، ولا شي‏ء من المنطبعات بمكتف كذلك ، فالنفس ليست بمنطبعة. فالقول بأنّ قوى النفس جسمانية لا تزاحمها ، وإن كان الحكم بكونها غير جسمانية تؤكّدها. على أنّ الحق أنّ الوهم عقل ساقط ، وسلطان البرهان على ذلك في العين الإحدى والثلاثين من كتابنا العيون؛ وأنّ البحث عن سهو النفس ونسيانها ثمّ تذكّرها ينجرّ إلى التحقيق في نفس الأمر فراجع العين الرابعة والثلاثين ، وأنّ الصور العلمية حتى المحسوسات بالذات هي لدى النفس كليات مجرّدة على التحقيق في العيون الأخرى من ذلك الكتاب.

بقي في المقام نقل ما أفاده صاحب الأسفار في تقرير الحجة قال :

الحجة الحادية عشرة أنّ كل صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب من الأسباب فإذا زالت عنه وبقي فارغا عنها فيحتاج في استرجاعها إلى استيناف سبب أو سببيته كالماء إذا تسخن بسبب كالنار مثلا ثمّ إذا زالت عنه السخونة لا يمكن عودها إليه إلّا بسبب جديد ، وهذا بخلاف النفس في إدراكاتها فإنها كثيرا ما يحدث فيها صورة علمية بسبب فكر أو تعليم معلّم ثمّ يزول عنها تلك الصورة عند الذهول أمكنها استرجاع تلك الصورة لذاتها من غير استيناف ذلك السبب.

وبالجملة النفس من شأنها أن تكون مكتفية بذاتها في كمالاتها ، ولا شي‏ء من الجسم مكتف بذاته فالنفس تعالت عن أن تكون جرمية.

لا يقال : الجسم أيضا قد يعود إليه صفته التي كانت فيه بعد زوالها من غير استيناف سبب جديد كالماء إذا زالت عنه البرودة بورود السخونة التي هي ضدّها ثمّ يستعيد طبعه البرودة التي كانت له.

٢٥٨

لأنّا نقول : كلامنا في الصفة الطارية للشي‏ء لأجل سبب خارج عن ذات الموصوف ، وبرودة الماء صفة ذاتية علّتها طبيعة الماء بشرط عدم القاسر ، ثمّ إذا عادت البرودة إليه ما عادت إلّا مع سببها أعنى مجموع الطبيعة وعدم المانع. انتهى كلامه.

وعلى سياق ما في الأسفار تجد الحجة مترجما بالفارسية في أسرار الحكم للحكيم السبزوارى حيث قال : «برهان يازدهم آن است كه هر صورتى يا صفت طارية كه متجدد شود إلخ». وكذلك على السياق المذكور وتجدها في كتابه غرر الفرائد في الحكمة المنظومة هكذا :

وأنّها بذاتها مستكفية

في عود رسم هي عنه ساهية

وقال في شرحه :

والسابع قولنا وأنّها اى النفس بذاتها مستكفية ـ أى لا يحتاج إلى أسباب خارجة ، وأمّا الاحتياج إلى الأمور الداخلة ومقومات الذات فلا ينافي الاستكفاء ـ في عود رسم هي أى النفس عنه أى عن ذلك الرسم ساهية. بيانه : أنّ النفس مستكفية بذاتها ، ولا شي‏ء من الجسم بمستكف بذاته. أمّا الصغرى فلأنّه قد يزول عن النفس صورة علمية اكتسبتها ، والنفس استرجعتها من غير استيناف سبب حصولها. وأمّا الكبرى فلأنّ الماء مثلا إذا تسخّن بسبب فإذا زالت السخونة عنه احتيج في استرجاعها إلى استيناف سبب ، والكلام في الصفة الطارية لعلّة فخرج عود مثل البرودة على الماء بعد زوال السخونة. انتهى.

عبارة الشيخ في رسالة السعادة والحجج العشر على أنّ النفس الإنسانية جوهر مفارق ، في تقرير هذه الحجة هكذا :

الحجة التاسعة؛ لو كان العلم عرضا حالا في الجسم لوجب من ذلك أنّه متى زال عنه بنسيان أو غيره أن يعود لا كما حصل أوّلا ، إذ فراغ الجسم القابل في الحالتين بمرتبة واحدة ، لكنا نرى المرء يعرض به ما يزيل عنه الصورة المعلومة ثمّ إذا زويت عادت بغير حاجة إلى استئناف الجسد. فتبيّن أنّ محلّ العلوم ليس بجسم بل هو جوهر غير جسماني.

٢٥٩

ولا يلزم هذا على الجوهر الذي نصفه نحن فإنّ هذا الجوهر إذ ليس بجسماني فليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه والصورة المعلومة فيه. وربما تزول عنه هذه الأسباب لإقباله على تصور شي‏ء من الأمور العاجلة البدنية عند مرض أو شغل قلب لم يعرض له ولا تزول عنه هذه الصورة المستحفظة في ذاته على الإطلاق لأجل أنّه روحانى النسج ، بل يكون في ذاته بنوع قوّة لا كقوّة الصبىّ على الكتابة ، بل كقوّة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة؛ ثمّ إذا أردنا إشغاله عنها عاود بنوع فعلي بتلك الصورة المستحفظة مهما أراد.

وأمّا الجسم فلا يمكن عليه تزاحم صور مختلفة مدركة ولا استحفاظها بوجه من الوجوه. ألا ترى أنّ الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة وتقبل أخرى لأنّ الجسم ما لم ينحلّ عن إحدى الصورتين لم تحلّ المبائنة فيه ولا معاودته للصورة وقبولها بنوع فعلي بل بنوع انفعالي ، فإذا لا يتقرّر هذا القدر. فإذا ليس هذا الجوهر المذكور بجسم ولا قوّة جسمانية لأنّها إن احتاجت إلى وقوع الصورة لتعلقها فالمسألة قائمة ، وإن كفت بذاتها فليست بجسمانية ، بل هو الجوهر الذي في الجسم نصف.

وذلك ما أردنا أن نبيّن (ص ١١ ، ط حيدرآباد الدكن).

أقول : كون النفس في الصور المدركة على نوع فعلي لا انفعالي ، برهان آخر قويم على أنّها جوهر روحانى النسج. والحجة الرابعة من الرسالة المذكورة في ذلك. وسيأتى تفصيل البحث عن ذلك في البراهين الآتية.

تبصرة : قد دريت بما تقدّم أنّ جوهر النفس الناطقة باق باستقلاله على ما هو عليه من علومه وأعماله ، وإن كان قد يعرض عليه أطوار مادّية تشغله عن بعض شأنه ، وتحجبها عن الإقبال إلى الأمور التي قبلنا ، والكسب عن العلوم الجديدة. كما قال عزّ من قائل في موضعين من القرآن العظيم : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) (النحل ٧١). (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (الحج ٦). فإنّ وهن القوى البدنية وفتور محالّها وضعف مزاجها واختلالها تمنعها عن أن يعلم ويكسب بعد ما علم علوما جديدة ،

٢٦٠