موسوعة كشّاف إصطلاحات الفنون والعلوم - ج ١

محمّد علي التهانوي

موسوعة كشّاف إصطلاحات الفنون والعلوم - ج ١

المؤلف:

محمّد علي التهانوي


المحقق: الدكتور علي دحروج
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

البصير بذنبه ، المداوم على عبادة ربه ، الورع الكافّ عن أعراض المسلمين. قال أصحاب الشافعي (١) : الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ، والمراد بالحكم النسبة التامة الخبرية التي العلم بها تصديق وبغيرها تصوّر ، فالفقه عبارة عن التصديق بالقضايا الشرعية المتعلّقة بكيفية العمل تصديقا حاصلا من الأدلة التفصيلية التي نصبت في الشرع على تلك القضايا ، وهي الأدلة الأربعة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

اعلم أنّ متعلّق العلم إمّا حكم أو غير حكم ، والحكم إمّا مأخوذ من الشرع أو لا ، والمأخوذ من الشرع إمّا أن يتعلق بكيفية عمل أو لا ، والعملي إمّا أن يكون العلم حاصلا من دليله التفصيلي الذي ينوط به الحكم أو لا. فالعلم المتعلّق بجميع الأحكام الشرعية العملية الحاصلة من الأدلة هو الفقه.

فخرج العلم بغير الأحكام من الذوات والصفات ، وبالأحكام الغير المأخوذة من الشرع بل من العقل كالعلم بأن العالم حادث ، أو من الحسّ كالعلم بأن النار محرقة ، أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع. وخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية المسماة بالاعتقادية والأصلية ، ككون الإجماع حجة والإيمان به واجبا. وخرج علم الله تعالى وعلم جبرائيل وعلم الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكذا علم المقلّد لأنه لم يحصل من الأدلة التفصيلية. والتقييد بالتفصيلية لإخراج الإجمالية كالمقتضي والنافي ، فإن العلم بوجوب الشيء لوجود المقتضي أو بعدم وجوبه لوجود النافي ليس من الفقه. والمراد بالعلم المتعلق بجميع الأحكام المذكورة تهيؤه للعلم بالجميع بأن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه ، بأن يرجع إليه فيحكم ، وعدم العلم في الحال لا ينافيه (٢) لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة أو لعدم التمكن من الاجتهاد في الحال لاستدعائه زمانا ، وقد سبق مثل هذا في بيان العلوم المدوّنة وعلم المعاني.

ثم إنّ إطلاق العلم على الفقه وإن كان ظنيا باعتبار أنّ العلم قد يطلق على الظنيات كما يطلق على القطعيات كالطب ونحوه. ثم إن أصحاب الشافعي جعلوا للفقه أربعة أركان : فقالوا الأحكام الشرعية إمّا أن تتعلق بأمر الآخرة وهي العبادات ، أو بأمر الدنيا ، وهي إمّا أن تتعلّق ببقاء الشخص وهي المعاملات ، أو ببقاء النوع باعتبار المنزّل وهي المناكحات ، أو باعتبار المدينة وهي العقوبات.

وهاهنا أبحاث تركناها مخافة الإطناب ، فمن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى التوضيح والتلويح.

وموضوعه فعل المكلف من حيث الوجوب والندب والحلّ والحرمة وغير ذلك كالصحة والفساد.

وقيل موضوعه أعمّ من الفعل ، لأن قولنا : الوقت سبب لوجوب الصلاة من مسائله وليس موضوعه الفعل. وفيه أن ذلك راجع إلى بيان حال الفعل بتأويل أنّ الصلاة تجب بسبب الوقت ، كما أن قولهم النية في الوضوء مندوبة ، في قوة أنّ الوضوء يندب فيه النية. وبالجملة تعميم موضوع الفقه مما لم يقل به أحد ، ففي كل مسألة ليس موضوعها راجعا إلى فعل المكلّف يجب تأويله حتى يرجع

__________________

(١) الشافعي هو الامام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي ، أبو عبد الله. ولد في غزة بفلسطين عام ١٥٠ هـ / ٧٦٧ م ثم رحل إلى بغداد فمصر حيث توفي فيها عام ٢٠٤ هـ / ٨٢٠ م. أحد الأئمة الأربعة الكبار في الفقه ، أصولي ولغوي ومفسر. له كتب هامة في الفقه والأصول والاحكام. الاعلام ٦ / ٢٦ ، تذكرة الحفاظ ١ / ٣٢٩ ، تهذيب التهذيب ٩ / ٢٥ ، وفيات الاعيان ١ / ٤٤٧ ، إرشاد الأريب ٦ / ٣٦٧ ، غاية النهاية ٢ / ٩٥ ، صفة الصفوة ٢ / ١٤٠ ، تاريخ بغداد ٢ / ٥٦ ، حلية الأولياء ٩ / ٦٣ ، طبقات الشافعية ١ / ١٨٥ وغيرها.

(٢) ينفيه (م).

٤١

موضوعها إليه ، كمسألة المجنون والصبي فإنه راجع إلى فعل الولي ، هكذا في الخيالي (١) وحواشيه.

ومسائله الأحكام الشرعية العملية كقولنا الصلاة فرض ، وغرضه النجاة من عذاب النار ونيل الثواب في الجنة. وشرفه مما لا يخفى لكونه من العلوم الدينية.

علم الفرائض :

وهو علم يبحث فيه عن كيفية قسمة تركة الميّت بين الورثة ، وموضوعه قسمة التركة بين المستحقين. وقيل موضوعه التركة ومستحقّوها ، والأول هو الصحيح ، لأنهم عدوّا الفرائض بابا من الفقه ، وموضوع الفقه هو عمل المكلّف ، والتركة ومستحقوها ليس من قبيل العمل ، كذا في الخيالي.

علم السلوك :

وهو معرفة النفس ما لها وما عليها من الوجدانيات على ما عرفت قبيل هذا ، ويسمّى بعلم الأخلاق وبعلم التصوّف أيضا. وفي مجمع السلوك : وأشرف العلوم علم الحقائق والمنازل والأحوال ، وعلم المعاملة والإخلاص في الطاعات والتوجّه إلى الله تعالى من جميع الجهات ، ويسمّى هذا العلم بعلم السلوك. فمن غلط في علم الحقائق والمنازل والأحوال المسمّى بعلم التصوّف فلا يسأل عن غلطه إلاّ عالما منهم كامل العرفان ، ولا يطلب ذلك من البزدوي (٢) والبخاري (٣) والهداية (٤) وغير ذلك. وعلم الحقائق ثمرة العلوم كلها وغايتها ، فإذا انتهى السالك إلى علم الحقائق وقع في بحر لا ساحل له ، وهو أي علم الحقائق علم القلوب وعلم المعارف وعلم الأسرار ، ويقال له علم الإشارة. وفي موضع آخر منه. ويقول كبار مشايخ أهل الباطن : إنه يجب بعد تحصيل علم المعرفة والتوحيد والفقه والشرائع أن يتعلّم (السّالك) علم آفات النّفس ومعرفتها وعلم الرياضة ، ومكايد الشيطان للنفس وسبل الاحتراز منها. ويقال لهذا العلم علم الحكمة ، ذلك أن نفس السالك متى استقامت على الواجبات. وصلح طبع السّالك. وتأدّب بآداب الله. أمكنه حينئذ أن يراقب خواطره وأن يطهّر سريرته ؛ وهذا العلم يقال له علم المعرفة. وأمّا مراقبة الخواطر فهي أن يتفكّر في الحق ولا يمكنه أن يشغل كل خواطره بذات الحق ، بل بالأعراض ، أي فيما سوى الله تعالى.

__________________

(١) حاشية الخيالي للمولوي عبد الحكيم بن شمس الدين الهندي السيالكوتي (ـ ١٠٦٧ هـ / ١٦٥٦ م) على حاشية شرح العقائد النسفية لأحمد بن موسى الشهير بخيالي (ـ ٨٦٢ هـ / ١٤٥٧ م) كشف الظنون ٢ / ١١٤٥ و ١١٤٨.

(٢) البزدوي هو علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم ، أبو الحسن ، فخر الاسلام البزدوي. ولد عام ٤٠٠ هـ / ١٠١٠ م توفي عام ٤٨٢ هـ / ١٠٨٩ م. فقيه أصولي من أكابر الحنفية ، له تصانيف هامة. الاعلام ٤ / ٣٢٨ ، الفوائد البهية ١٢٤ ، مفتاح السعادة ٢ / ٥٤ ، الجواهر المضية ١ / ٣٧٢.

(٣) البخاري هو محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن المغيرة البخاري ، ابو عبد الله. ولد في بخاري عام ١٩٤ هـ / ٨١٠ م ومات بسمرقند عام ٢٥٦ هـ / ٨٧٠ م حبر الاسلام ، والحافظ لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صاحب الجامع الصحيح المعروف بصحيح البخاري ، له عدة تصانيف. الاعلام ٦ / ٣٤ ، تذكرة الحفاظ ٢ / ١٢٢ ، تهذيب التهذيب ٩ / ٤٧ ، وفيات الاعيان ١ / ٤٥٥ ، تاريخ بغداد ٢ / ٤. طبقات السبكي ٢ / ٢ ، طبقات الحنابلة ١ / ٢٧١ ، آداب اللغة ٢ / ٢١٠ وغيرها.

(٤) الهداية شرح البداية لبرهان الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني (ـ ٥٩٣ هـ / ١١٩٧ م) ، طبع في لندن باعتناءCh.Hamilton ، ١٩٧١ م. معجم المطبوعات العربية ١٧٣٩.

٤٢

وأما تطهير السّرائر فهو أن يتطهر من كل ما يلوّثه ، حتى إذا وصل إلى علم المعرفة أصبح بمقدوره أن يصل إلى علم المكاشفة والمشاهدة ، وهذا ما يطلق عليه الإشارة. انتهى (١).

وموضوعه أخلاق النفس إذ يبحث فيه عن عوارضها الذاتية ، مثلا حبّ الدنيا في قولهم : حبّ الدنيا رأس كل خطيئة ، خلق من أخلاق النفس حكم عليه بكونه رأس الخطايا ورأس الأخلاق الرذيلة التي تتضرر بسببها النفس ، وكذا الحال في قولهم : بغض الدنيا رأس الحسنات ؛ وغرضه التقرّب والوصول إلى الله تعالى.

فائدة

ورد في مجمع السلوك ، أيّها الاخ العزيز : بما أنّ مقامات الناس وأفهامها مختلفة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم» (٢). لذا اتفق الصوفية على اصطلاحات وألفاظ فيما بينهم ، وأشاروا إلى تلك الألفاظ بالمصالح ، لكي يدرك عنهم كلّ من كان له حظّ من الفهم ؛ وأمّا من كان غير أهل لذلك فإنه يبقى بعيدا (٣).

العلوم الحقيقية

هي العلوم التي لا تتغيّر بتغيّر الملل والأديان ، كذا ذكر السيّد السّند في حواشي شرح المطالع ، وذلك كعلم الكلام إذ جميع الأنبياء عليهم‌السلام كانوا متّفقين في الاعتقاديات ، وكعلم المنطق وبعض أنواع الحكمة. وعلم الفقه ليس منها لوقوع التغير فيه بالنسخ.

__________________

(١) مشايخ كبار اهل باطن مى فرمايند بعد تحصيل علم معرفت وتوحيد وفقه وشرائع لازم است كه علم آفات نفس ومعرفت آن وعلم رياضت ومكايد شيطان ونفس وسبيل احتراز آن بياموزد واين را علم حكمت گويند تا چون نفس سالك بر واجبات استقامت يافت وطبع وى صالح گشت وبآداب خداى مؤدب گشت ممكن گردد مر وى را مراقبه خواطر وتطهير سرائر واين را علم معرفت گويند. ومراقبه خواطر آنست كه همه از حق انديشد ونتواند همه خواطر بحق مشغول داشتن مگر باعراض از ما سوى الله تعالى وتطهير سرائر آن باشد كه مر او را بشويد از هر چيزى كه مر او را بيالايد تا چون علم معرفت دست دهد ممكن بود كه بعلم مكاشفه ومشاهده رسد واين را علم اشارت گويند ، انتهى.

(٢) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس. ج ١ / ٣٩٨ ، عن ابن عباس ، الحديث رقم ١٦١١ ، بلفظ : آمرت أن نكلم الناس على قدر عقولهم. واخرجه الهندي في كنز العمال ، ١٠ / ٢٤٢ ، رقم ٢٩٢٨٢ ، بلفظ «امرنا ...» وعزاه للديلمي. واخرجه السخاوي في المقاصد الحسنة ، ٩٣ رقم ١٨٠ ، وقال عقبه : ... ورواه ابو الحسن التميمي من الحنابلة في العقل له بسنده عن ابن عباس بلفظ : «بعثنا معاشر الأنبياء نخاطب الناس قدر عقولهم» ، وله شاهد من حديث مالك عن سعيد بن المسيب رفعه مرسلا : «إنا معاشر الأنبياء أمرنا ...».

(٣) در مجمع السلوك مى آرد اى عزيز چون مقامات وفهم مردم مختلف شد وحضرت رسالت پناه عليه الصلاة والسلام فرموده اند «نحن معاشر الأنبياء امرنا ان نكلم الناس على قدر عقولهم» لا جرم صوفية تدبير كرده اند وميان خويش اندر علم خود ألفاظي بنهادند واصطلاح كردند وبدان الفاظ بمصالح اشارت كردند تا هركه خداوند مقام وفهم بود دريافت وهركس كه نااهل بود نيافت.

٤٣

علم المنطق :

ويسمّى علم الميزان إذ به توزن الحجج والبراهين. وكان أبو علي (١) يسمّيه خادم العلوم إذ ليس مقصودا بنفسه ، بل هو وسيلة إلى العلوم ، فهو كخادم لها. وأبو نصر (٢) يسمّيه رئيس العلوم لنفاذ حكمه فيها ، فيكون رئيسا حاكما عليها. وإنّما سمّي بالمنطق لأن النطق يطلق على اللفظ وعلى إدراك الكليّات وعلى النفس الناطقة. ولما كان هذا الفن يقوّي الأول ويسلك بالثاني مسلك السّداد ، ويحصل بسببه كمالات الثالث ، اشتق له اسم منه وهو المنطق. وهو علم بقوانين تفيد معرفة طرق الانتقال من المعلومات إلى المجهولات وشرائطها ، بحيث لا يعرض الغلط في الفكر. فالقانون يجيء بيانه في محله. والمعلومات تتناول الضرورية والنظرية. والمجهولات تتناول التصوّرية والتصديقية. وهذا أولى مما ذكره صاحب الكشف (٣) : تفيد معرفة طرق الانتقال من الضروريات إلى النظريات ، لأنه يوهم بالانتقال الذاتي على ما يتبادر من العبارة ، والمراد الأعمّ من أن يكون بالذات أو بالواسطة. والمراد بقولنا بحيث لا يعرض الغلط في الفكر عدم عروضه عند مراعاة القوانين كما لا يخفى ، فإنّ المنطقي ربما يخطئ في الفكر بسبب الإهمال ، هذا مفهوم التعريف.

واما احترازاته فالعلم كالجنس ، وباقي القيود كالفصل احتراز عن العلوم التي لا تفيد معرفة طرق الانتقال ، كالنحو والهندسة ، فإن النحو إنما يبيّن قواعد كلية متعلقة بكيفية التلفّظ بلفظ العرب على وجه كلي ، فإذا أريد أن يتلفظ بكلام عربي مخصوص على وجه صحيح احتيج إلى أحكام جزئية تستخرج من تلك القواعد كسائر الفروع من أصولها. فتقع هناك انتقالات فكرية من المعلوم إلى المجهول لا يفيد النحو معرفتها أصلا. وكذلك الهندسة يتوصل بمسائلها القانونية إلى مباحث الهيئة بأن تجعل تلك المسائل مبادئ الحجج التي تستدلّ (٤) بها على تلك المباحث ، وأما الأفكار الجزئية الواقعة في تلك الحجج فليست الهندسة مفيدة لمعرفتها قطعا. قيل التعريف دوري لأن معرفة طرق الاكتساب جزء من المنطق ، فيتوقف تحققه على معرفة طرق الاكتساب ؛ فلو كانت معرفتها مستفادة من المنطق توقفت عليه فلزم الدور.

وأجيب بأنّ جزء المنطق هو العلم بالطرق الكلية وشرائطها ، لا العلم بجزئياتها المتعلّقة بالمواد

__________________

(١) ابن سينا الشيخ الرئيس هو الحسين بن عبد الله بن سينا ، أبو علي ، شرف الملك ، الفيلسوف الرئيس ، ولد في ضواحي بخارى عام ٣٧٠ هـ / ٩٨٠ م ومات بهمذان عام ٤٢٨ هـ / ١٠٣٧ م. من دعاة الباطنية. فيلسوف إلهي ، ناظر العلماء واشتهر ، وله العديد من المؤلفات المعروفة. الاعلام ٢ / ٢٤١ ، وفيات الأعيان ١ / ١٥٢ ، تاريخ حكماء الاسلام ٢٧ ـ ٧٢ ، خزانة الأدب ٤ / ٤٦٦ ، دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٢٠٣ ، لسان الميزان ٢ / ٢٩١ ، تاريخ آداب اللغة ٢ / ٣٣٦ وغيرها.

(٢) ابو نصر الفارابي هو محمد بن طرخان بن أوزلغ ، أبو نصر الفارابي ، ولد بفاراب عام ٢٦٠ هـ / ٨٧٤ م. وتوفي بدمشق عام ٣٣٩ هـ / ٩٥٠ م أكبر فلاسفة المسلمين ، ويعرف بالمعلم الثاني. تركي الأصل ، مستعرب ، أول من وضع آلة القانون. له العديد من المصنفات الهامة. الاعلام ٧ / ٢٠ ، وفيات الاعيان ٢ / ٧٦ ، طبقات الاطباء ٢ / ١٣٤ ، تاريخ حكماء الاسلام ٢٣٠ ، آداب اللغة ٢ / ٢١٣ ، البداية والنهاية ١١ / ٢٢٤ ، الوافي بالوفيات ١ / ١٠٦ ، مفتاح السعادة ١ / ٢٥٩ ، دائرة المعارف الاسلامية ١ / ٤٠٧ وغيرها.

(٣) الكشف الأرجح أنه جامع الدقائق في الكشف عن الحقائق لعلي بن عمر بن علي الكاتبي القزويني ، (ـ ٦٧٥ هـ / ١٢٧٧ م). كشف الظنون ١ / ٥٤٠ ومعجم المؤلفين ٧ / ١٥٩.

(٤) يستدل (م ، ع).

٤٤

المخصوصة ، وهذا هو الذي جعل مستفادا من المنطق والمشعر على ذلك استعمال المعرفة في إدراك الجزئيات. ثم هذا التعريف مشتمل على العلل الأربع ، فإنّ مادته هي القوانين ، تحتمل هذا الفن وغيره ، كما أن المادة أمر مبهم في نفسها تحتمل أمورا ولا تصير شيئا معيّنا منها ، إلاّ بأن ينضم إليها ما يحصله وما يعينه. وقولنا تفيد معرفة طرق الانتقال إشارة إلى الصورة لأنه المخصّص لها ، أي للقوانين بالمنطق ، وقد أشير أيضا إلى العلّة الفاعلية بالالتزام ، وهو العارف بتلك الطرق الجزئية المفادة العالم بتلك القوانين المفيدة إياها. وقولنا بحيث لا يعرض الغلط إشارة إلى العلّة الغائية.

اعلم أنّ المنطق من العلوم الآليّة لأنّ المقصود منه تحصيل المجهول من المعلوم ، ولذا قيل الغرض من تدوينه العلوم الحكمية ، فهو في نفسه غير مقصود ؛ ولذا قيل المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر ، فالآلة بمنزلة الجنس والقانونية بمنزلة الفصل تخرج الآلات الجزئية لأرباب الصنائع ، وقوله تعصم مراعاتها الخ يخرج العلوم القانونية التي لا تعصم مراعاتها عن الضلال في الفكر بل في المقال (١) كالعلوم العربية.

والموضوع ، قيل موضوعه التصوّرات والتصديقات ، أي المعلومات التصوّرية والتصديقية لأن بحث المنطقي عن أعراضها الذاتية ، فإنه يبحث عن التصوّرات من حيث أنها توصل إلى تصوّر مجهول إيصالا قريبا أي بلا واسطة كالحدّ والرسم أو إيصالا بعيدا ككونها كلية وجزئية وذاتية وعرضية ونحوها ، فإن مجرد أمر من هذه الأمور لا يوصل إلى التصوّر ما لم ينضم إليه آخر يحصل منهما حدّ أو رسم ، ويبحث عن التصديقات من حيث أنها توصل إلى تصديق مجهول إيصالا قريبا كالقياس والاستقراء والتمثيل ، أو بعيدا ككونها قضية وعكس قضية ونقيضها ، فإنها ما لم تنضم إليها ضميمة لا توصل إلى التصديق ، ويبحث عن التصوّرات من حيث أنها توصل إلى التصديق إيصالا أبعد ككونها موضوعات ومحمولات. ولا خفاء في أن إيصال التصوّرات والتصديقات إلى المطالب ، قريبا أو بعيدا ، من العوارض الذاتية لها ، فتكون هي موضوع المنطق. وذهب أهل التحقيق إلى أن موضوعه المعقولات الثانية لا من حيث أنها ما هي في أنفسها ولا من حيث أنها موجودة في الذهن ، فإن ذلك وظيفة فلسفية بل من حيث أنها توصل إلى المجهول ، أو يكون لها نفع في الإيصال ، فإن المفهوم الكلّي إذا وجد في الذهن وقيس إلى ما تحته من الجزئيات فباعتبار دخوله في ماهياتها يعرض له الذاتية ، وباعتبار خروجه عنها العرضية ، وباعتبار كونه نفس ماهياتها النوعية.

وما عرض له الذاتية جنس باعتبار اختلاف أفراده وفصل باعتبار آخر. وكذلك ما عرض له العرضية إمّا خاصة أو عرض عام باعتبارين مختلفين. وإذا ركبت الذاتيات والعرضيات إمّا منفردة أو مختلطة على وجوه مختلفة عرض لذلك المركّب الحدّية والرّسمية. ولا شك أن هذه المعاني ، أعني كون المفهوم الكلي ذاتيا أو عرضيا أو نوعا ونحو ذلك ، ليست من الموجودات الخارجية بل هي مما يعرض للطبائع الكلية ، إذا وجدت في الأذهان ، وكذا الحال في كون القضية حملية أو شرطية ، وكون الحجة قياسا او استقراء أو تمثيلا ، فإنها بأسرها عوارض تعرض لطبائع النسب الجزئية في الأذهان إما وحدها أو مأخوذة مع غيرها ، فهي أي المعقولات الثانية موضوع المنطق.

ويبحث المنطقي عن المعقولات الثالثة وما بعدها من المراتب ، فإنها عوارض ذاتية للمعقولات

__________________

(١) المثال (م).

٤٥

الثانية ، فالقضية مثلا معقول ثان يبحث عن انقسامها وتناقضها وانعكاسها وإنتاجها إذا ركّبت بعضها مع بعض ، فالانعكاس والإنتاج والانقسام والتناقض معقولات واقعة (١) في الدرجة الثالثة من التعقّل ، وإذا حكم على أحد الأقسام أو أحد المتناقضين مثلا في المباحث المنطقية بشيء كان ذلك الشيء في الدرجة الرابعة من التعقّل ، وعلى هذا القياس. وقيل موضوعه الألفاظ من حيث أنها تدل على المعاني ، وهو ليس بصحيح لأن نظر المنطقي ليس إلاّ في المعاني ، ورعاية جانب اللفظ إنما هي بالعرض.

اعلم أن الغرض من المنطق التمييز بين الصدق والكذب في الأقوال والخير ، والشرّ في الأفعال ، والحق والباطل في الاعتقادات. ومنفعته القدرة على تحصيل العلوم النظرية والعملية. وأما شرفه فهو أن بعضه فرض وهو البرهان ، لأنه لتكميل الذات ، وبعضه نفل (٢) وهو ما سوى البرهان (٣) من أقسام القياس ، لأنه للخطاب مع الغير ، ومن اتقن المنطق فهو على درجة من سائر العلوم ، ومن طلب العلوم الغير المتّسقة وهي ما لا يؤمن فيها من الغلط ولا يعلم المنطق فهو كحاطب الليل وكرامد العين ، لا يقدر على النظر إلى الضوء لا لبخل من الموجد بل لنقصان في الاستعداد. والصواب الذي يصدر من غير المنطقي كرمي من غير رام. وقد يندر للمنطقي خطأ في النوافل دون المهمّات ، لكنه يمكنه استدراكه بعرضه على القوانين المنطقية.

ومرتبته في القراءة أن يقرأ بعد تهذيب الأخلاق وتقويم الفكر ببعض العلوم الرياضية من الهندسة والحساب. أما الأول فلما قال ابقراط (٤) : البدن الذي ليس ينقّى كلّما غذوته إنما يزيده شرّا ووبالا ، ألا ترى أنّ الذين لم يهذّبوا أخلاقهم إذا شرعوا في المنطق سلكوا منهج الضلال ، وانخرطوا في سلك الجهّال ، وأنفوا أن يكونوا مع الجماعة ، ويتقلّدوا ذلّ الطاعة ، فجعلوا الأعمال الطاهرة والأقوال الظاهرة من البدائع التي وردت بها الشرائع وقر (٥) آذانهم ، والحق تحت أقدامهم وأما الثاني فلتستأنس طبائعهم إلى البرهان ، كذا في شرح إشراق الحكمة. ومؤلّف المنطق ومدوّنه أرسطو (٦).

__________________

(١) واضحة (م).

(٢) نقل (م).

(٣) البراهين (م).

(٤) ابقراط (٤٦٠ ـ ٣٧٧ ق. م.) أقام في حمص وكان عالما موسوعيا في الطب جمع علوم عصره ومن سبقه. مارس الطب تاركا آثارا كثيرة جمعها خلال ملاحظاته ومعالجاته. اعتقد أن الجسم يتكون من عناصر أربعة رئيسية ، وأن المرض يقع عند ما يحدث اختلال في توازن هذه العناصر في الجسم الإنساني. نقلت أعماله إلى اللغات الأوروبية الحديثة. واستفاد منه أطباء العرب والمسلمين وعرفوه. أشهر مؤلفاته كتاب الفصول المتضمن لمقالات عدة باليونانية.

Laroue du xxeme siec. T . ٣ ، P. ٦٣٠١.

Webster\'s, New International Dictionary ، P. ١٨١١.

صوان الحكمة ، ص ٢٠٧ ـ ٢١٤ ، إخبار العلماء بأخبار الحكماء ، ١٣٢٦ هـ ، ص ٦٤.

(٥) دبر (م).

(٦) أرسطو طاليس (٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق. م.) ولد في اسطاغيراStageria وهي مدينة يونانية من أعمال آسيا الصغرى ـ تركيا ـ وتقع على بحر ايجه هو ابن نيقوماخوس طبيب البلاط عند الملك امنتاس Amyntas الثاني المقدوني. والد فيليب وجد الاسكندر الأكبر. فلا عجب إن أصبح أرسطو معلما للإسكندر. تلقى ارسطو المبادئ العلمية فتشبّع في النظرة الواقعية ، بمثل ما تشبّع بفكر أفلاطون معلمه بعد التحاقه بمدرسته في أثينا ، حيث بقي يتتلمذ على يديه زهاء عشرين عاما. فلا مندوحة إن جمع ارسطو نظرة واقعية وفكرا مثاليا من معلمه افلاطون ذهب إلى اسوس Aus من أعمال

٤٦

وأما القسمة فاعلم أنّ المنطقي إما ناظر في الموصل إلى التصوّر ويسمّى قولا شارحا ومعرّفا ، وإمّا ناظر في الموصل إلى التصديق ويسمّى حجة. والنظر في المعرّف إمّا في مقدماته وهو باب إيساغوجي وإمّا في نفسه وهو باب التعريفات. وكذلك النظر في الحجة ، إمّا فيما يتوقف عليه وهو باب (١) ارمينياس وهو باب القضايا وأحكامها ، وإمّا في نفسها باعتبار الصورة وهو باب القياس ، أو باعتبار المادّة وهو باب من أبواب الصناعات الخمس ، لأنه إن أوقع ظنا فهو الخطابة ، أو يقينا فهو البرهان ، وإلاّ فإن اعتبر فيه عموم الاعتراف والتسليم فهو الجدل وإلاّ فهو المغالطة. وأمّا الشعر فلا يوقع تصديقا ولكن لإفادته التخييل الجاري مجرى التصديق من حيث إنه يؤثر في النفس قبضا أو بسطا ، عدّ في الموصل إلى التصديق. وربما يضم إليها باب الألفاظ فتحصل الأبواب عشرة ، تسعة منها مقصودة بالذات وواحد بالعرض.

له تعريفات ، فقيل : هو علم باحث عن أحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية. ولفظ على متعلّق بقوله باحث. والبحث عن أحوال أعيان الموجودات ، أي أحوال الموجودات العينية الخارجية ، حمل تلك الأحوال عليها ، يعني علم تحمل فيه أحوال أعيان الموجودات عليها على وجه هي أي أعيان الموجودات عليه ، أي على ذلك الوجه من الإيجاب والسلب والكلية والجزئية في نفس الأمر. وقوله بقدر الطاقة البشرية متعلّق أيضا بقوله باحث ، لكن بعد اعتبار تقييده بقوله على ما هي عليه ، يعني بذل جهده الإنساني بتمامه في أن يكون بحثه مطابقا لنفس الأمر ، فدخلت في التعريف المسائل المخالفة لنفس الأمر المبذولة الجهد بتمامه في تطبيقها على نفس الأمر ، ولما كان في توصيف العلم بالباحث مسامحة قيل : هو علم بأعيان الموجودات الخ.

وإن قيل التعريف لا يشتمل العلوم التصوّرية ، قلت : هذا على رأي الأكثرين القائلين بأنها ليست داخلة في الحكمة. وقيل المراد بالأحوال المبادئ فقط وهي التي تتوقف عليها المسائل تصورات كانت أو تصديقات أو هي والمحمولات.

وإن قيل يخرج عن الحكمة العلم بأحوال الأعراض النسبية إذ النسبة ليست موجودة في الخارج ، قلت : هي موجودة عند الحكماء. ولو سلّم عدم وجودها فالبحث عنها استطرادي ، أو نقول : البحث عنها في الحقيقة بحث عن أحوال العرض الذي هو موجود خارجي ، وإن لم يكن بعض أنواعه أو أفراده موجودا ، كما يبحث في الحكمة عن الحيوان وبعض أنواعه كالعنقاء ، وبعض أفراده غير موجود ولا يخرج الحيوان عن الموجودات الخارجية فتأمل. ولا يرد أنّ قيد ما هي عليه يغني عن قيد

__________________

طروادة في آسيا الصغرى ليؤسس فرعا لاكاديمية أفلاطون الأتينية. ثم طلبه فيليب المقدوني ليقيم في بلاطه ويعلم ابنه. عاد أرسطو إلى أثينا ليؤسّس مدرسة عرفت باللوقيوم Lyceum ، إذ سمّيت فيما بعد بالمدرسة المشائية ، لأن افرادها كانوا يتناقشون في المسائل الفكرية اثناء مشيهم جيئة وذهابا. ترك ارسطو جمعا كبيرا من المؤلفات أوردها على هيئة محاورات توزعت على مراحل : فترة الشباب ثم الرجولة فالدور الأخير ، وكان لكل منها طابعه ، ففي البداية تأثر بأفلاطون ، ثم نقد نظرية المثل عنده ، ثم قدم آراءه العلمية. وترك ارسطو مجموعة منطقية مهمّة سمّيت لاحقا بالاورغانون. كما ترك آراء في الطبيعة والحياة والماورائيات والاخلاق والسياسة ونسب إليه كتب منحولة.

(١) بارى (م) باب (ك ع).

٤٧

نفس الأمر لأن العلوم العربية علم بأحوال الموجود كالألفاظ على وجه يكون الموجود على ذلك الوجه ، ككون اللفظ مفردا أو مركبا ونحو ذلك ، لكنها ليست بنفس أمرية بل باعتبار المعتبر وضع الواضع فلا بدّ من تقييده. ولا يلزم من عدم كونها نفس أمرية كذبها ، إذ لزوم الكذب إنما يلزم لو حكم على مسائلها كذلك في نفس الأمر مع قطع النظر عن الوضع ، وليس كذلك ، فإنهم يحكمون بأن بعض الألفاظ مفرد وبعضها مركّب بحسب وضع الواضع ، وهذا الحكم مطابق لنفس الأمر فلا يكون كاذبا. ولا يتوهّم دخولها على هذا في الحكمة لأن معنى نفس الأمر هاهنا هو الواقع مع غير ملاحظة الوضع.

إن قيل : قوله بقدر الطاقة البشرية يخرج علمه تعالى من الحكمة ، إذ علمه فوق طوق البشر فلا يكون هو حكيما ، قلت : علمه تعالى حاصل مع الزيادة ، والتقييد يفيد أن هذا القدر ضروري لأن الزائد على هذا القيد مضرّ. أو يقال : هذا تعريف حكمة المخلوق لا حكمة الخالق. ثم إنه لا ضير في كون الحكمة أعلى العلوم الدينية ، وكونه صادقا على الكلام والفقه ، إذ التحقيق أنّ الكلام والفقه من الحكمة. قال المحقق التفتازاني : إن الحكمة هي الشرائع ، وهذا لا ينافي ما ذكروا من أنّ السالكين بطريق أهل النظر والاستدلالات وطريقة أهل الرياضة والمجاهدات ، إن اتبعوا ملة فهم المتكلمون والصوفيون ، وإلاّ فهم الحكماء المشّائيون والإشراقيون ، إذ لا يلزم منه أن لا يكون المتكلّم والصوفي حكيما ، بل غاية ما لزم منه أن لا يكون حكيما مشّائيا وإشراقيا.

إن قلت : فعلى هذا ينبغي أن تذكر العلوم الشرعية في أنواع الحكمة. قلت : لا امتناع في ذلك ، لكونها شاملة للعلوم الشرعية بحسب المفهوم ، إلاّ أنّ الحكمة لما دوّنها الحكماء الذين لا يبالون بمخالفة الشرائع ، فالأليق أن لا تعدّ العلوم الشرعية منها. وأيضا العلوم الشرعية أشرف العلوم ، فذكرها على حدة إشارة إلى أنها بشرفها بالغة إلى حدّ الكمال ، كأنها منفردة من الحكمة ، وأنواعها غير داخلة فيها.

إن قيل : الحدّ لا يصدق على علم الحساب الباحث عن العدد الذي ليس بموجود ، ولا على الهيئة الباحثة عن الدوائر الموهومة ، قلت : العدد عندهم قسم من الكمّ الذي هو موجود عندهم. نعم عند المتكلمين ليس من الموجودات ، والتعريف للحكماء ، والبحث عن الدوائر الهيئية من حيث إنها من المبادئ ، وليست موضوعاتها ، بل موضوعها الأجرام العلويّة والسفليّة ، من حيث مقاديرها وحركاتها وأوضاعها اللازمة لها.

إن قيل : يصدق التعريف على علم العقول مع أنهم لا يطلقون أن العقل حكيم ، وعلى علم الأفلاك والكواكب على رأي من يثبت النفوس الناطقة لها ، فيكون الفلك والكوكب حكيما ، ولا قائل به. قلت : هذا التعريف لحكمة البشر كما عرفت. أو نقول بتخصيص العلم بالحصولي الحادث. ويجاب أيضا عن الأخير بأن هذا التعريف على رأي من لا يثبت النفوس الناطقة لها.

إن قيل : يصدق التعريف على العلم بالأحوال الجزئية المتعلقة بالأعيان كالعلم بقيام زيد ، قلت : إنّ المراد بالأحوال ما له دخل في استكمال النفس وهذه الأحوال ليست كذلك ، أو المراد ما يعتدّ به من الأحوال. ثم المراد من الأحوال جميع ما يمكن لأوساط الناس العلم به أو البعض المعيّن المعتدّ به مع القدرة على العلم بالباقي بقدر الطاقة على ما هو شأن جميع العلوم المدوّنة. فحاصل

٤٨

التعريف على تقدير شموله للعلوم التصورية أنّ الحكمة علم متعلّق بجميع أحوال الموجودات العينية المكمّلة للنفس بحسب ما يمكن ، أو بعضها المعتدّ به تصوريا أو تصديقيّا محتاجا إلى التنبيه ، أو نظريا على وجه تكون الموجودات وأحوالها على ذلك الوجه في الواقع لا بالوضع ، والاعتبار بقدر الطاقة البشرية من أوساط الناس ، فيصير مآل هذا التعريف ، وما قيل إنّ الحكمة علم بأعيان الموجودات وأحوالها على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية واحدا. وإذا قلنا بعدم شموله للتصورات حذفنا عن هذا الحاصل القيد الذي به يلزم الشّمول. ومنهم من ترك قيد الأحوال لشمول العلم التصوّر والتصديق ، وترك قيد نفس الأمر لأن التقييد به مستدرك ، فقال : الحكمة علم بأعيان الموجودات على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية.

اعلم أنهم اختلفوا في أنّ المنطق من العلم أم لا. فمن قال إنه ليس بعلم فليس بحكمة عنده إذ الحكمة علم. ومن قال بأنه علم اختلفوا في أنه من الحكمة أم لا. والقائلون بأنه من الحكمة يمكن الاختلاف بينهم بأنه من الحكمة النظرية جميعا أم لا ، بل بعضه منها وبعضه من العملية ، إذ الموجود الذهني قد يكون بقدرتنا واختيارنا وقد لا يكون كذلك. والقائلون بأنه من الحكمة النظرية يمكن الاختلاف بينهم بأنه من أقسامها الثلاثة أم قسم آخر ، فمن أخذ في تعريفها قيد الأعيان ، كما في التعريفات المذكورة ، لم يعدّه من الحكمة ، لأن موضوعه المعقولات الثانية التي هي من الموجودات الذهنية. وإنما أخذ قيد الأعيان لأن كمال الإنسان هو إدراك الواجب تعالى ، والأمور المستندة إليه في سلسلته العليّة بحسب الوجود الأصلي ، أي الخارجي ، ولا كمال معتدّا به في إدراك أحوال المعدومات ، وإذا بحث عنها في الحكمة كان على سبيل التبعية. والبحث عن الوجود الذهني بحث عن أحوال الأعيان أيضا من حيث إنها هل لها نوع آخر من الوجود أو لا. ومن حذف قيد الأعيان فقال : هي علم بأحوال الموجودات الخ ، عدّه من الحكمة النظرية إذ لا يبحث في المنطق إلاّ عن المعقولات الثانية التي ليس وجودها بقدرتنا واختيارنا.

ومنهم من فسّر الحكمة بالكمال الحاصل للنفس الخارج من القوة إلى الفعل بحسب القوانين (١) ، اي النظرية والعملية ، ولا حاجة إلى التقييد بالخارج من القوة إلى الفعل لأنه معتبر في الكمال.

ومنهم من فسّرها بما يكون تكمّلا للنفس الناطقة كمالا معتدّا به. وقيل هي خروج النفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم والعمل ، أما في جانب العلم فبأن تكون متصوّرة للموجودات كما هي ومصدّقة بالقضايا كما هي ، وأما في جانب العمل فبأن تحصل لها الملكة التّامة على الأفعال المتوسّطة بين الإفراط والتفريط. والمراد بالخروج ما يخرج به النفس ، إذ الخروج ليس بحكمة. قيل الحكمة ليست ما تخرج به النفس إلى كمالها بل هي الكمال الحاصل الخ فمؤدّى التعريفات الثلاثة واحد. والمنطق على هذه التعاريف من الحكمة أيضا.

ويقرب من التعريف الأخير من هذه التعاريف الثلاثة ما وقع في شرح حكمة العين من أن الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتحصيل ما عليه الوجود في نفسه ، وما عليه الواجب مما ينبغي أن يعمل من الأعمال ، وما لا (٢) ينبغي ، لتصير كاملة مضاهية للعالم العلوي ، وتستعد بذلك للسعادة القصوى الأخروية بحسب الطاقة البشرية.

__________________

(١) القوين (ع).

(٢) لا (ـ م).

٤٩

الموضوع : موضوع الحكمة على القولين أي القول بأن المنطق منها والقول بأنه ليس منها ، فليس شيئا واحدا هو الموجود مطلقا أو الموجود الخارجي ، بل موضوعها أشياء متعدّدة متشاركة في أمر عرضي هو الوجود المطلق أو الخارجي ، وإلاّ لم يجز أن يبحث في الحكمة عن الأحوال المختصة بأنواع الموجود إذ البحث عن العارض لأمر أخصّ الذي هو من الأعراض الغريبة غير جائز. فإذا لم يكن موضوعها شيئا واحدا فالأحسن أن تقيّد الأحوال المشتركة فيها بقيود مخصّصة لها بواحد واحد من تلك الأشياء لئلاّ تكون تلك الأحوال من الأعراض العامة الغريبة ، كتقييد الوجود الذي يحمل على الواجب بكونه مبدأ لغيره ليكون مختصّا بالواجب وهكذا. والغرض من الفلسفة الوقوف على حقائق الأشياء كلّها على قدر ما يمكن للإنسان أن يقف عليه ويعمل بمقتضاه ليفوز بسعادة الدارين.

الأعيان الموجودة إما الأفعال والأعمال ووجودها بقدرتنا واختيارنا ، أو لا. فالعلم بأحوال الأول من حيث إنه يؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد يسمّى حكمة عمليّة لأن غايتها ابتداء الأعمال التي لقدرتنا مدخل فيها ، فنسبت إلى الغاية الابتدائية. والعلم بأحوال الثاني يسمّى حكمة نظرية.

وذكر الحركة والسكون والمكان في الحكمة الطبعية (١) بناء على كونها من أحوال الجسم الطبعي (٢) الذي ليس وجوده بقدرتنا ، وإن كانت تلك مقدورة لنا. وإنّما سمّيت حكمة نظرية لأن غايتها الابتدائية ما حصل بالنظر وهو الإدراكات التصوّرية والتصديقية المتعلّقة بالأمور التي لا مدخل لقدرتنا واختيارنا فيه. ولا يرد أنّ الحكمة العملية أيضا منسوبة إلى النظر لأن النظر ليس غايتها ، ولأن وجه التسمية لا يلزم اطراده. وإنما قيدت الأحوال بالحيثية المذكورة لأنهم كما لا يعدّون من الكمال المعتدّ به النظر في الجزئيات المتغيّرة من حيث خصوصها ، كذلك لا يعدّون من الكمال النظر في الأعمال لا من هذه الحيثية.

قيل إن أريد بالأحوال ما لا يوجد إلاّ بقدرتنا واختيارنا ، فيخرج عن الحكمة العملية بعض الأخلاق كالشجاعة والسخاوة الذاتيتين ، وإن أريد بها ما يوجد بقدرتنا واختيارنا في الجملة فيدخل فيها بعض مباحث الحكمة النظرية كالأصوات والنغمات.

ويجاب باختيار الشقّ الأول : ولا بأس بخروج الأخلاق الذاتية لأنها ليست من تهذيب الأخلاق.

وعدم دخولها في السياسة المدنية وتدبير المنزل ظاهر ، وباختيار الشقّ الثاني وارتكاب كون الأصوات من الحكمة العملية. لا يقال الأعيان قد تكون ذواتا وهي خارجة من التقسيم ، لأنّا نقول هي داخلة في القسم الثاني أي قولنا أو لا.

ثم الحكمة العملية ثلاثة أقسام ، لأنها إمّا علم بمصالح شخص بانفراده ويسمّى تهذيب الأخلاق ، وعلم الأخلاق والحكمة الخلقية. وفائدتها تهذيب الأخلاق ، أي تنقيح الطبائع بأن تعلم الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكى بها النفس ، وأن تعلم الرذائل وكيفية توقّيها لتطهّر عنها النفس. وإمّا علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالولد والوالد والمالك والمملوك ونحو ذلك ويسمّى تدبير

__________________

(١) الطبيعية (م).

(٢) الطبيعي (م).

٥٠

المنزل. وفي بعض الكتب ويسمّى علم تدبير المنزل والحكمة المنزلية. وفائدتها أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم بها المصلحة المنزلية التي تهمّ بين زوج وزوجة ، ومالك ومملوك ، ووالد ومولود. وإمّا علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة (١) ويسمّى السياسة المدنية ، بفتح الميم والدّال المهملة لا بضمهما ، سمّيت بها لحصول السياسة المدنية أي مالكية الأمور المنسوبة إلى البلدة بسببها. وفي بعض الكتب ويسمّى علم السياسة والحكمة السياسية والحكمة المدنية وسياسة الملك. وفائدتها أن تعلم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان.

واعلم أنّ فائدة الحكمة الخلقية عامة شاملة الجميع أقسام الحكمة العملية. ثم مبادئ هذه الثلاثة من جهة الشريعة وبها تتبيّن كمالات حدودها ، أي بعض هذه الأمور معلومة من صاحب الشرع على ما يدلّ عليه تقسيمهم الحكمة المدنية إلى ما يتعلّق بالملك والسلطنة إذ ليس العلم بهما من عند صاحب الشرع ، كذا ذكر السيّد السّند في حواشي شرح حكمة العين (٢).

ومنهم من قسّم المدنية إلى علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة تتعلّق بالملك والسلطنة ويسمّى علم السياسة ، وإلى علم بمصالح مذكورة تتعلّق بالنبوّة والشريعة ويسمّى علم النواميس.

وتربيع القسمة لا يناقض التثليث لدخول قسمين منها في قسم واحد عند من يثلّث القسمة. قيل في تربيع القسمة نظر ، لأن التعلّق بالشريعة كما يجري في المدينة (٣) كذلك يجري في الآخرين. فالوجه في التقسيم على هذا أن يقال كلّ واحد من الأقسام الثلاثة إمّا أن يعتبر تعلّقه بالشريعة أو لا ، فالأقسام ستة حاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين.

ثم اعلم أنّ موضوع الحكمة العملية الأفعال الاختيارية ؛ فالمراد بقولهم علم بمصالح شخص أو جماعة أنه علم بأحوال أفعال اختيارية صالحة تتعلّق بكل شخص أو جماعة. وفي الصدري (٤) موضوع الحكمة العملية النفس الإنسانية من حيث اتصافها بالأخلاق والملكات انتهى.

ثم توضيح الحصر في الأقسام الثلاثة أنّ الأفعال الاختيارية لا بدّ لها من غاية وفائدة ، وتلك الفائدة عائدة إلى كمال القوّة العملية للشخص ، إما بالقياس إلى نفسه أو إلى الاجتماع مع جماعة خاصة أو عامة. فالعلم بأحوال الأفعال بالقياس إلى الأول تهذيب الأخلاق وبالقياس إلى الثاني تدبير المنزل وبالقياس إلى الثالث السياسة المدنية. فلا يرد أنه يتداخل الأقسام إذا كان لفعل واحد فائدة راجعة إلى الكلّ. ولا يرد أيضا أن أكثر مباحث الحكمة الخلقية غير مخصوص بشخص بانفراده ، بل يصلح لمصالح الجماعة. ولا يرد أيضا أنه يخرج عن الحكمة العملية العلم بمصالح جماعة متشاركة في غير المنزل والمدينة كالقرية وأمثالها.

__________________

(١) المدينة (م ، ع).

(٢) حاشية على شرح حكمة العين لعلي بن محمد الجرجاني (ـ ٨١٦ هـ / ١٤١٣ م) علّق فيها على شرح قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي (ـ ٧١٠ هـ / ١٣١٠ م) لحكمة العين. وحكمة العين متن مختصر في الإلهي والطبيعي نجم الدين أبي الحسن علي بن محمد الكاتبي القزويني (ـ ٦٧٥ هـ / ١٢٧٧ م). كشف الظنون ، ١ / ٦٨٥

(٣) المدينة (ع).

(٤) الصدري ، أو شرح وقاية الرواية في مسائل الهداية لصدر الشريعة الثاني عبيد الله بن مسعود المحبوبي (ـ ٧٥٠ هـ / ١٣٤٩ م) وقد فرغ من وضعه سنة ٧٤٣ هـ / ١٣٤٢ م ، وسمي الصدري لغلبة نعته على شرحه حتى صار اسما للشرح.

كشف الظنون ، ١ / ٢٠٢١.

٥١

والحكمة النظرية أيضا ثلاثة أقسام لأنها إما علم بأحوال ما لا يفتقر في الوجود الخارجي والتعقّل ، أي الإدراك والوجود الذهني إلى المادّة كالإله ، ويسمّى بالإلهي ، إذ مسائلها منسوبة إلى.

الإله ، وبالعلم الأعلى إذ لا يبحث فيه إلاّ عن الربّ الأعلى وعن العقول وهي الملأ الأعلى ، وأيضا لتنزّهه عن المادة وعوارضها التي هي مبدأ للنقصان ، أليق بهذا الاسم وبالفلسفة الأولى تسمية للشيء باسم سببه ، إذ هذا العلم سبب للفلسفة ؛ وهي في اللغة اليونانية التشبّه بحضرة واجب الوجود.

وتوصيفها بالأولى لحصولها من العلّة الأولى وهي الإله ، وبالعلم الكليّ للعلم بالأمور العامة التي هي الكليات الشاملة لجميع الموجودات أو أكثرها. وبما بعد الطبيعة وقد يطلق عليه على سبيل الندرة ما قبل الطبيعة أيضا ، وذلك لأن لمعلوماته قبلية وتقدّما على معلومات الحكمة الطبيعة (١) باعتبار الذات والعليّة والشرف ، وبعدية وتأخّرا باعتبار الوضع لكون المحسوسات أقرب إلينا ، فسمّي بهما بالاعتبارين. وإمّا علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي دون التعقّل كالكرة ، ويسمّى بالعلم الأوسط لتنزّهه عن المادة بوجه ، وهو التعقّل ، وبالرياضي لرياضة النفوس بهذا العلم أوّلا ، إذ الحكماء كانوا يفتتحون به في التعلّم ، وبالتعليمي لتعليمهم به أولا ، ولأنه يبحث فيه عن الجسم التعليمي. وإمّا علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي والتعقل كالإنسان ، ويسمّى بالعلم الأدنى لدناءته وخساسته من حيث الاحتياج إلى المادة في الوجودين ، وبالعلم الأسفل وهو ظاهر ، وبالطبعي (٢) لأنه يبحث فيه عن الجسم من حيث اشتماله على الطبيعة. والحصر في الأقسام الثلاثة استقرائي ، إذ لم يجدوا موجودا في الأعيان يكون مفتقرا إلى المادّة في التعقّل دون الوجود الخارجي ، فلا يكون العلم بأحواله من الحكمة. ومنهم من ربّع القسمة فجعل ما لا يفتقر إلى المادّة قسمين : ما لا يقارنها مطلقا كالإله والعقول ، وما يقارنها لا على وجه الافتقار ، فسمّي العلم بأحوال الأول إليها ، وبأحوال الثاني علما كليّا والفلسفة الأولى ، ولا منافاة بين هذين التقسيمين ، كما أنه لا منافاة بين تقسيمي الحكمة العملية. ويمكن أن يجعل ما يقارن المادة لا على وجه الافتقار قسمين أحدهما ما يقارنها ، وقد يفارقها كمباحث الأمور العامة ، وثانيهما ما يقارنها ولا يفارقها كمباحث الصورة. ولعلهم لم يعتبروا أفراد هذا القسم لقلة مباحثه. ومبادئ هذه الأقسام مستفادة من أرباب الشريعة على سبيل التنبيه ، ومتصرفة على تحصيلها بالكمال بالقوّة العقلية على سبيل الحجة.

اعلم أنّ أقسام الحكمة النظرية أصولا وفروعا مع أقسام المنطق على ما يفهم من رسالة تقسيم الحكمة (٣) للشيخ الرئيس أربعة وأربعون ، وبدون أقسام المنطق خمسة وثلاثون. فأصول الإلهي خمسة : الأول الأمور العامة. الثاني إثبات الواجب وما يليق به. الثالث إثبات الجواهر الروحانية.

الرابع بيان ارتباط الأمور الأرضية بالقوى السماوية. الخامس بيان نظام الممكنات ، وفروعه قسمان : الأول البحث عن كيفية الوحي وصيرورة المعقول محسوسا ، ومنه تعريف الإلهيات ، ومنه الروح الأمين. الثاني العلم بالمعاد الروحاني. وأصول الرياضي أربعة : الأول علم العدد. الثاني

__________________

(١) الطبيعية (م) ، الطبعية (ع).

(٢) بالطبيعي (م).

(٣) رسالة تقسيم الحكمة أو الرسالة في اقسام العلوم العقلية للشيخ الرئيس أبي علي الحسين ... بن علي بن سينا (ـ ٤٢٨ هـ). نشر ضمن تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات في مطبعة الجوائب الآستانة ١٢٩٨ ه‍. معجم المطبوعات العربية ١٢٨ ـ ١٢٩.

٥٢

علم الهندسة. الثالث علم الهيئة. الرابع علم التأليف الباحث عن أحوال النغمات. ويسمّى بالموسيقى. وفروعه ستة الأول علم الجمع والتفريق. الثاني علم الجبر والمقابلة. الثالث علم المساحة. الرابع علم جرّ الأثقال. الخامس علم الزيجات والتقاويم. السادس علم الأرغنوة ، وهو اتخاذ الآلات الغريبة. وأصول الطبعي (١) ثمانية : الأول العلم بأحوال الأمور العامة للأجسام.

الثاني العلم بأركان العالم وحركاتها وأماكنها المسمّى بعلم السماء والعالم. الثالث العلم بكون الأركان وفسادها. الرابع العلم بالمركبات الغير التامة ككائنات الجوّ. الخامس العلم بأحوال المعادن. السادس العلم بالنفس النباتية. السابع العلم بالنفس الحيوانية. الثامن العلم بالنفس الناطقة. وفروعه سبعة الأول الطب. الثاني النجوم. الثالث علم الفراسة [وهو ما يستدلّ فيه من خلق رجل على خلقه ، يعني من الشكل] (٢). الرابع علم التعبير. الخامس علم الطلسمات وهو مزج القوى السماوية بالقوى الأرضية. السادس علم النيرنجات وهو مزج قوى الجواهر الأرضية بعضها ببعض.

السابع علم الكيميات وهو تبديل قوى الأجرام المعدنية بعضها ببعض. وأصول المنطق تسعة على المشهور : الأول باب الكليّات الخمس. الثاني باب التعريفات. الثالث باب التصديقات. الرابع باب القياس. الخامس البرهان. السادس الخطابة. السابع الجدل. الثامن المغالطة. التاسع الشعر.

هذا خلاصة ما في العلمي حاشية شرح هداية الحكمة الميبدية (٣) وشرح حكمة العين وغيرهما.

اعلم أنّ موضوع الحكمة النظرية هو الموجود الذي ليس وجوده بقدرتنا واختيارنا على ما لا يخفى.

العلم الإلهي :

هو علم بأحوال ما لا يفتقر في الوجودين ، أي الخارجي والذهني ، إلى المادة ، ويسمّى أيضا بالعلم الأعلى وبالفلسفة الأولى وبالعلم الكلّي وبما بعد الطبيعة وبما قبل الطبيعة. والبحث فيه عن الكميّات المتّصلة والكيفيات المحسوسة والمختصّة بالكميات وأمثالها ، مما يفتقر إلى المادة في الوجود الخارجي ، استطرادي. وكذا البحث عن الصورة مع أن الصورة تحتاج إلى المادة في التشكّل ، كذا في العلمي ، وفي الصدري من الحكمة النظرية ما يتعلّق بأمور غير مادية مستغنية القوام في نحوي الوجود العيني والذهني عن اشتراط المادة كالإله الحق ، والعقول الفعّالة ، والأقسام الأوّلية للموجود كالواجب والممكن والواحد والكثير ، والعلّة والمعلول والكلّي والجزئي ، وغير ذلك ، فإن خالط شيء منها المواد الجسمانية فلا يكون على سبيل الافتقار والوجوب ، وسمّوا هذا القسم العلم الأعلى ، فمنه العلم الكلّي المشتمل على تقاسيم الوجود المسمّى بالفلسفة الأولى ، ومنه الإلهي الذي هو فنّ من المفارقات. وموضوع هذين الفنين أعمّ الأشياء وهو الموجود المطلق من حيث هو هو ، انتهى. وأصول الإلهي وفروعه قد سبقت.

__________________

(١) الطبيعي (م).

(٢) ما بين المعقوفين (+ م).

(٣) على شرح هداية الحكمة للقاضي مير حسين بن معين الدين الميبذي الحسيني (ـ ٩١٠ هـ / ١٥٠٤ م) عدة حواش ، أبرزها : حاشية مصلح الدين محمد بن صلاح الدين اللاري (ـ ٩٧٩ هـ / ١٥٧١ م) وحاشية نصر الله بن محمد العمري المعروف بالخلخالي (ـ ٩٤٦ هـ / ١٥٣٩ م). وهداية الحكمة متن في المنطق لأثير الدين مفضل بن عمر الأبهري (ـ ٦٦٣ هـ / ١٢٣٨ م) وعليه شروح كثيرة. كشف الظنون ، ٢ / ٢٠٢٨ ـ ٢٠٢٩

٥٣

العلم الرياضي :

هو علم بأحوال ما يفتقر في الوجود الخارجي دون التعقّل إلى المادة كالتربيع والتثليث والتدوير والكروية والمخروطية والعدد وخواصه ، فإنها أمور تفتقر إلى المادة في وجودها لا في حدودها ، ويسمّى أيضا بالعلم التعليمي وبالعلم الأوسط وبالحكمة الوسطى كما مرّ. وأصوله أربعة على ما مرّ أيضا ، وذلك لأن موضوعه الكمّ وهو إما متّصل أو منفصل. والمتّصل إمّا متحرّك أو ساكن ، فالمتحرك هو الهيئة والساكن هو الهندسة. والمنفصل إمّا أن يكون له نسبة تأليفية أو لا ، فالأول هو الموسيقي والثاني هو الحساب. ثم إنه يرد على التعريف أنّ العدد الذي هو موضوع علم الحساب لا يفتقر إلى المادة في الوجود الخارجي أيضا ، فإن المفارقات ذوات أعداد ؛ ولذا عدّ صاحب الإشراق (١) الحساب من الإلهي فإن موضوعه وهو العدد من الأقسام الأولية للموجود ، لأن الموجود بما هو موجود صالح لأن يوصف بوحدة وكثرة من غير أن يصير رياضيا أو طبعيا (٢). وأيضا أنه يبحث في الهيئة عن الأفلاك مع أنها محتاجة إلى المادة في كلا الوجودين. وأجيب عن الأول بأنه إذا [كان] (٣) يبحث عن العدد من حيث هو في أذهان الناس وفي الموجودات المادية فهو علم العدد وإلاّ فلا. وفيه أنّ العدد المأخوذ بهذه الحيثية لا ينفكّ في كلا الوجودين من المادة. ودفعه بأن يراد بالمادّة المادّة المخصوصة كالذهب والخشب ونحوهما على ما تدلّ عليه عبارة الصدري من أنّ الرياضي علم بأمور ماديّة بحيث لا تحتاج في فرضها موجودة إلى خصوص مادة واستعداد لا ينفع ، وإلاّ لزم دخول الطبعي (٤) في الرياضي ، إذ موضوعه الجسم الطبعي وهو لا يفتقر (٥) إلى مادة مخصوصة. وأجيب عن الثاني بأنّ البحث عن الأفلاك في الحقيقة بحث عن الكرة التي لا تحتاج في التعقّل إلى مادة مخصوصة وفيه ما مرّ. ولهذا قال صاحب الصدري : الأجود أن تقسم العلوم إلى ما موضوعه نفس الوجود وإلى ما ليس موضوعه نفس الوجود ، فالأول العلم الإلهي ، والذي ليس موضوعه نفس الوجود إمّا أن يشترط في فرض وقوعه صلوح مادة متخصصة الاستعداد أم لا. الاول الطبعي (٦) والثاني الرياضي. وهذه طريقة حسنة لا يلزم منها دخول الحساب في الإلهي.

فائدة

قد اختلف قدماء الفلاسفة في ترجيح أحد من الرياضي والطبعي (٧) على الآخر في الشرف والفضل ، وكلّ قد مال إلى طرف بحجج مذكورة فيما بينهم. والحق أنّ الحكم بجزم فضيلة أحدهما على الآخر غير سديد ، بل كلّ واحد أفضل من الآخر من وجه. فالطبعي (٨) أفضل من الرياضي من

__________________

(١) الإشراق لشهاب الدين أبي الفتح يحي بن حبش السهروردي المقتول (ـ ٥٨٧ هـ) وهي فلسفة كاملة تقوم على الجمع بين الهللينية والاشراق الزرادشتي النوراني. من كتبه حكمة الاشراق والالواح العمادية وهياكل النور ... وفي جمع السهروردي بين فكرة النور الفارسية والفيض من الافلاطونية المحدثة اخرج مذهبا خاصا.

(٢) طبيعيا (م).

(٣) [كان] (ـ ك ، ع) (+ م).

(٤) الطبيعي (م).

(٥) والالزام ... وهو لا يفتقر (ـ م).

(٦) الطبيعي (م ، ع)

(٧) الطبيعي (م ، ع).

(٨) الطبيعي (م ، ع).

٥٤

جهة أنّ موضوعه جسم طبعي (١) وهو جوهر ، والرياضي موضوعه كمّ وهو عرض ، والجوهر أشرف من العرض. وأيضا الطبعي (٢) في الأغلب معطي اللّمّ والرياضي الإنّ ، ومعطي اللّم أفضل ، وأيضا هو يشتمل على علم النفس وهو أمّ الحكمة وأصل الفضائل. والرياضي أفضل من الطبعي (٣) من جهة أنّ الأحوال الوهمية والخيالية غير متناهية القسمة ، فهناك لا تقف عند حدّ ، فهو أفضل مما هو محصور بين الحواصر ؛ وأيضا الأمور الرياضية أصفى وألطف وألذّ وأتمّ عن (٤) الأمور المكدرة الجسمانية ، وأيضا يقلّ التشويش والغلط في براهينه العددية والهندسية بخلاف الطبعي (٥) ، بل الإلهي ؛ ومن أجل ذلك قيل إدراك الإلهي والطبعي (٦) من جهة ما هو أشبه وأحرى لا باليقين ، كذا في الصدري.

العلم الطبعي : (٧)

ويسمّى أيضا بالعلم الأدنى وبالعلم الأسفل ، وهو علم بأحوال ما يفتقر إلى المادة في الوجودين وتحقيقه قد سبق. وموضوعه الجسم الطبعي (٨) من حيث أن (٩) يستعد للحركة والسكون. وفي إرشاد القاصد للشيخ شمس الدين الأكفاني العلم الطبعي (١٠) وهو علم يبحث فيه عن أحوال الجسم المحسوس من حيث هو معرّض للتغيّر في الأحوال والثبات فيها ، فالجسم من هذه الحيثية موضوعه.

وأما العلوم التي تتفرّع عليه وتنشأ منه فهي عشرة : علم الطب وعلم البيطرة وعلم البيزرة (١١) وعلم الفراسة وعلم تعبير الرؤيا وعلم أحكام النجوم وعلم السحر وعلم الطلسمات وعلم السيميا وعلم الكيمياء وعلم الفلاحة ، وذلك لأن نظره إمّا يكون فيما يتفرّع على الجسم البسيط أو الجسم المركّب أو ما يعمهما. والأجسام البسيطة إمّا الفلكية فأحكام النجوم وإمّا العنصرية فالطلسمات. والأجسام المركّبة إمّا ما لا يلزمه مزاج وهو علم السيميا وما يلزمه مزاج ، فإمّا بغير ذي نفس فالكيميا أو بذي نفس ، فإمّا غير مدركة فالفلاحة وإمّا مدركة ، فإمّا لها مع ذلك أن يعقل أو لا ، الثاني البيطرة والبيزرة وما يجري مجراهما ، والذي بذي النفس العاقلة هو الإنسان ، وذلك إمّا في حفظ صحته واسترجاعها وهو الطبّ أو أحواله الظاهرة الدالة على أحواله الباطنة وهو الفراسة ، أو أحوال نفسه حال غيبته عن حسّه وهو تعبير الرؤيا. والعام للبسيط والمركّب السحر ، فلنذكر هذه العلوم على النهج المتقدم.

__________________

(١) الطبيعي (م ، ع).

(٢) الطبيعي (م ، ع).

(٣) الطبيعي (م ، ع).

(٤) من (م ، ع).

(٥) الطبيعي (م ، ع).

(٦) الطبيعي (م ، ع).

(٧) الطبيعي (م ، ع).

(٨) الطبيعي (م ، ع).

(٩) أن (ـ م).

(١٠) الطبيعي (م ، ع).

(١١) علم البيزرة ، علم يبحث عن أحوال الجوارح من الحيوان من حيث حفظ صحتها ، وإزالة مرضها ، ومعرفة العلامات الدالة على قوتها من الصيد وضعفها فيه.

كشف الظنون ١ / ٢٦٥ ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده ١ / ٣٣١.

٥٥

علم الطب :

وهو علم يبحث فيه عن بدن الإنسان من جهة ما يصح ويمرض لالتماس حفظ الصحة وإزالة المرض. وموضوعه بدن الإنسان وما يشتمل عليه من الأركان والأمزجة والأخلاط والأعضاء والأرواح والقوى والأفعال ، وأحواله من الصحة والمرض ، وأسبابها من المأكل والمشرب ، والأهوية المحيطة بالأبدان والحركات والسكنات والاستفراغات والاحتقانات والصناعات والعادات والواردات الغريبة ، والعلامات الدالة على أحواله من ضرر أفعاله ، وحالات بدنه وما يبرز منه والتدبير بالمطاعم والمشارب واختيار الهواء وتقدير الحركة والسكون والأدوية البسيطة والمركّبة وأعمال اليد لغرض حفظ الصحة وعلاج الأمراض بحسب الإمكان وسيجيء تفصيله.

علم البيطرة والبيزرة :

الحال فيه بالنسبة إلى هذه الحيوانات كالحال في الطبّ بالنسبة إلى الإنسان ، وعني بالخيل (١) دون غيرها من الأنعام لمنفعتها للإنسان في الطلب والهرب ومحاربة الأعداء وجمال صورها وحسن أدوانها ، وعني بالجوارح (٢) أيضا لمنفعتها وأدبها في الصيد وإمساكه.

علم الفراسة :

وهو علم تتعرّف منه أخلاق الإنسان من هيئته ومزاجه وتوابعه ، وحاصله الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن ، ويجيء في الفراسة.

علم تعبير الرؤيا :

وهو علم يتعرّف منه الاستدلال من المتخيّلات الحلميّة على ما شاهدته النفس حالة النوم من عالم الغيب ، فخيّلته القوة المتخيّلة مثالا يدلّ عليه في عالم الشهادة ، وقد جاء أن الرؤيا الصالحة [جزء] (٣) من ستة وأربعين جزءا من النبوّة ، وهذه النسبة تعرفها من مدة الرسالة ومدة الوحي قبلها مناما ، وربما طابقت الرؤيا مدلولها دون تأويل ، وربما اتصل الخيال بالحسّ كالاحتلام ، ويختلف مأخذ التأويل بحسب الأشخاص وأحوالهم. ومنفعته البشرى بما يرد على الإنسان من خير والإنذار بما يتوقّعه من شرّ ، والاطلاع على الحوادث في العالم قبل وقوعها ، ويجيء تفصيله في لفظ الرؤيا.

علم أحكام النجوم :

وهو علم يتعرّف منه الاستدلال بالتشكّلات الفلكية على الحوادث السفلية ، ويجيء في لفظ النجوم أيضا.

__________________

(١) به الخيل (ع).

(٢) به الجوارح (ع).

(٣) جزء (+ م).

٥٦

علم السحر :

وهو علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأشياء خفية. ومنفعته أن يعلم ليحذر لا ليعمل ، ولا نزاع في تحريم عمله. أمّا مجرّد علمه فظاهر الإباحة ، بل قد ذهب بعضهم إلى أنه فرض كفاية لجواز ظهور ساحر يدّعي النبوّة فيكون في الأمة من يكشفه ويقطعه ، ويجيء في لفظ السحر (١).

علم الطلسمات :

وهو علم يتعرّف منه كيفية تمزج (٢) القوى العالية الفعّالة بالقوى السافلة المنفعلة ليحدث عنها فعل غريب في عالم الكون والفساد ، ويجيء في لفظ الطلسم.

علم السيميا :

وهو قد يطلق على غير الحقيقي من السحر وهو الأشهر ، وحاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحسّ ، وقد يطلق على إيجاد تلك المثالات بصورها في الحسّ وتكون صورا في جوهر الهواء ، وسبب سرعة زوالها (٣) سرعة تغيّر جوهر الهواء ؛ ولفظة سيميا عبراني معرّب أصله سيم يه ، ومعناه اسم الله ، ويجيء في الفن الثاني (٤).

علم الكيمياء :

وهو علم يراد به سلب الجواهر المعدنية خواصّها وإفادتها خواصّا لم تكن لها ، والاعتماد فيه على الفلزّات كلّها ، مشتركة في النوعية ، والاختلاف الظاهر بينها إنما هو باعتبار أمور عرضية يجوز انتقالها ، ويجيء في الفن الثاني.

علم الفلاحة :

وهو علم تتعرف منه كيفية تدبير النبات من بدء كونه إلى تمام نشوئه ، وهذا التدبير إنما هو بإصلاح الأرض بالماء وبما يخلخلها ويحميها كالسّماد والرّماد ونحوه ، مع مراعاة الأهوية ، فيختلف باختلاف الأماكن ، انتهى.

علم العدد

هو من أصول الرياضي ويسمّى بعلم الحساب أيضا وهو نوعان : نظري وهو علم يبحث فيه عن (٥)

__________________

(١) الساحر (م).

(٢) تمازج (م).

(٣) زوالها (ـ م).

(٤) أي أن المؤلف قد عرض لهذا الأمر في القسم المتعلق بالألفاظ الأعجمية (الفارسية) والذي عبّر عنه بالفن الثاني وستأتي ترجمته عقب الانتهاء من القسم الأول الذي نحن بصدده.

أما نحن في التحقيق فقد أدخلناه ضمن الترتيب الالفبائي كل لفظ بحسب تسلسل حروفه مع مصطلحات الفن الاول كلا واحدا مجموعا ومنتظما.

(٥) عند (م).

٥٧

ثبوت الأعراض الذاتية للعدد وسلبها عنه ، وهو المسمّى بأرتماطيقى ، وتشتمل عليه المقالات الثلاث : السابعة والثامنة والتاسعة من كتاب الأصول (١) ، وموضوعه العدد مطلقا. وعملي وهو علم تعرف به طرق استخراج المجهولات العددية من المعلومات العددية. والمراد بالمجهولات العددية مجهولات لها نسبة إلى العدد ، نسبة الجزئي إلى الكلّي ، أي مجهولات هي من أفراد العدد ، وكذا الحال في المعلومات العددية ، مثلا في الضرب المضروب والمضروب فيه معلومان ، ومنهما يستخرج الحاصل الذي هو عدد مجهول بالطريق المعيّن ، وكذا في سائر الأعمال. فهو علم تعرف به الطرق التي يستخرج بها عدد مجهول من عدد معلوم. وقيد من المعلومات العددية احتراز عمّا إذا استخرج المجهول العددي بغير علم الحساب ، كاستخراج عدد الدراهم من علم الرّمل ، ولا يخرج عنه علم المساحة لأنها علم بطرق استخراج المجهولات المقدارية من حيث عروض العدد لها ، فيئول إلى المجهولات العددية عند التأمّل.

ثم اعلم أن الحساب العملي نوعان : أحدهما هوائي تستخرج منه المجهولات العددية بلا استعمال الجوارح ، كالقواعد المذكورة في كتاب البهائية (٢) ، وثانيهما غير هوائي وهو المسمّى بالتّخت والتراب يحتاج إلى استعمال الجوارح كالشّبكة وضرب المحاذاة. ثم النظري والعملي هاهنا بمعنى ما لا يتعلق بكيفية العمل وما يتعلق بها. فتسمية النوع الأول بالنظري ظاهرة ، وكذا تسمية القسم الثاني من النوع الثاني بالعملي. وأما تسمية القسم الأول منه بالعملي فعلى تشبيه الحركات الفكرية بالحركات الصّادرة عن الجوارح ، أو يقال المراد بالعمل في تعريفي النظري والعملي أعمّ من العمل الذهني والخارجي كما مرّ. واعلم أيضا أنّ لاستخراج المجهولات العددية من معلوماتها طرقا مختلفة وهي إمّا محتاجة إلى فرض المجهول شيئا وهو الجبر والمقابلة ، وإمّا غير محتاجة إليه وهو علم المفتوحات وهي كمقدمات الحساب التي سوى المساحة ، أو مما يحصل ببعض من تلك المقدمات واستعانة بعض القوانين من النسبة وهو شامل لمسألة الخطائين أيضا. وموضوعه العدد مطلقا كما هو المشهور. والتحقيق أنّ موضوعه العدد المعلوم تتعقل عوارضه من حيث إنه كيف يمكن التأدّي منه إلى بعض عوارضه المجهولة. وأما العدد المطلق فإنما هو موضوع علم الحساب النظري ، هذا كله خلاصة ما في شرح خلاصة الحساب (٣).

علم الهندسة :

هو من أصول الرياضي ، وهو علم يبحث فيه عن أحوال المقادير من حيث التقدير على ما في شرح أشكال التأسيس. فقوله من حيث التقدير أي لا من حيث كون المقدار موجودا أو معدوما ،

__________________

(١) الأصول (لأقليدس). ثم تحرير أصول الهندسة لاقليدس ، لنصير الدين أبي جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي (ـ ٦٧٢ هـ) ، روما ، ١٥٩٤ م وكلكوتا ١٨٢٤ م في ١٨٠ صفحة. كشف الظنون ٣٥٧ ، معجم المطبوعات العربية ١٢٥١ ، اكتفاء القنوع ٢٣٨.

(٢) البهائية أو خلاصة الحساب والهندسة ، لبهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي البهائي (ـ ١٠٣٠ هـ).

معجم المطبوعات العربية ١٢٦٣ ، GALS ,II ، ٥٩٥.

(٣) شرح خلاصة الحساب والهندسة لبهاء الدين محمد بن حسن بن عبد الصمد الحارثي البهائي (ـ ١٠٣٠ هـ) ، كلكوتا ١٨١٢. معجم المطبوعات العربية ١٢٦٣.

٥٨

عرضا أو جوهرا ، ونحو ذلك. والهندسة معرّب [اندازه] (١) ، فأبدلت الألف الأولى بالهاء والزاء بالسين وحذفت الألف الثانية فصار هندسة. ووجه التسمية ظاهر. وموضوعه المقدار الذي هو الكمّ المتصل من حيث التقدير. وفي إرشاد القاصد للشيخ شمس الدين : الهندسة وهو علم تعرف به أحوال المقادير ولواحقها وأوضاع بعضها عند بعض ، ونسبها وخواصّ أشكالها ، والطرق إلى عمل ما سبيله أن يعمل بها ، واستخراج ما يحتاج إلى استخراجه بالبراهين اليقينية. وموضوعه المقادير المطلقة أعني الجسم التعليمي والسطح والخطّ ولواحقها من الزاوية والنقطة والشكل. وأما العلوم المتفرعة عليه فهي عشرة : علم عقود الأبنية ، وعلم المناظر ، وعلم المرايا المحرفة ، وعلم مراكز الأثقال ، وعلم المساحة ، وعلم إنباط (٢) المياه ، وعلم جرّ الأثقال ، وعلم البنكامات ، وعلم الآلات الحربية ، وعلم الآلات الروحانية ، وذلك لأنه إما يبحث عن إيجاد ما يتبرهن عليه في الأصول الكلية بالفعل ، أو لا ، والثاني إمّا يبحث عما ينظر إليه ، أو لا ، الثاني علم عقود الأبنية ، والباحث عن المنظور إليه إن اختص بانعكاس الأشعّة فهو علم المرايا المحرفة ، وإلاّ فهو علم المناظر ، وأمّا الأول وهو ما يبحث عن إيجاد المطلوب من الأصول الكلية بالفعل فإمّا من جهة تقديرها أو لا ، والأول منهما إن اختص بالثقل فهو علم مراكز الأثقال وإلاّ فهو علم المساحة ، والثاني منهما فإمّا إيجاد الآلات ، أو لا ، الثاني علم إنباط (٣) المياه ، والآلات ، إمّا تقديرية ، أو لا ، والتقديرية إمّا ثقيلة وهو جرّ الأثقال ، أو زمانية وهو علم البنكامات ، والتي ليست تقديرية فإمّا حربية ، أو لا ، الثاني علم الآلات الروحانية ، والأول علم الآلات الحربية ، فلنرسم هذه العلوم على الرسم المتقدم.

علم عقود الأبنية :

وهو علم تتعرّف منه أحوال أوضاع الأبنية وكيفية شق الأنهار وتنقية القني وسدّ البثوق (٤) وتنضيد المساكن ، ومنفعته عظيمة في عمارة المدن والقلاع والمنازل وفي الفلاحة.

علم المناظر :

وهو علم تتعرّف منه أحوال المبصرات في كميتها وكيفيتها باعتبار قربها وبعدها عن المناظر ، واختلاف أشكالها وأوضاعها ، وما يتوسّط بين المناظر والمبصرات وعلل ذلك. ومنفعته معرفة ما يغلط فيه البصر عن أحوال المبصرات ، ويستعان به على مساحة الأجرام البعيدة والمرايا المحرفة أيضا.

علم المرايا المحرّفة :

وهو علم تتعرّف منه أحوال الخطوط الشعاعيّة المنعطفة والمنعكسة والمنكسرة ، ومواقعها

__________________

(١) كلمة فارسية تعني الهندسة حوّرت عربيا إلى هندسة.

(٢) استنباط (م ، ع).

(٣) استنباط (م ، ع).

(٤) البثوق : البثق : كسرك شط النهر لينشق الماء ...

وبثق شقّ النهر يبثقه بثقا كسره لينبعث ماؤه. (لسان العرب مادة بثق) إذا هو حفر الاقنية لتفجير الماء فيها وتسييله من النهر إلى السهول المحيطة.

٥٩

وزواياها ومراجعها ، وكيفية عمل المرايا المحرّفة بانعكاس أشعّة الشمس عنها ونصبها ومحاذاتها ، ومنفعته بليغة في محاصرات المدن والقلاع.

علم مراكز الأثقال :

وهو علم تتعرّف منه كيفية استخراج مركز ثقل الجسم المحمول ، والمراد بمركز الثقل حدّ في الجسم عنده يتعادل بالنسبة إلى الحامل ، ومنفعته كيفية معادلة الأجسام العظيمة بما هو دونها لتوسّط المسافة.

علم المساحة :

وهو علم تتعرّف منه مقادير الخطوط والسطوح والأجسام ، وما يقدرها من الخطّ والمربع والمكعّب ، ومنفعته جليلة في أمر الخراج وقسمة الأرضين وتقدير المساكن وغيرها.

علم إنباط المياه : (١)

وهو علم تتعرّف منه كيفية استخراج المياه الكامنة في الأرض وإظهارها ، ومنفعته إحياء الأرضين الميتة وإفلاحها.

علم جر الأثقال :

وهو علم تتبيّن منه كيفية إيجاد الآلات الثقيلة ، ومنفعته نقل الثّقل العظيم بالقوّة اليسيرة.

علم البنكامات :

وهو علم تتبين منه كيفية إيجاد الآلات المقدّرة للزمان ، ومنفعته معرفة أوقات العبادات واستخراج الطوالع من الكواكب وأجزاء فلك البروج.

علم الآلات الحربية :

وهو علم تتبين منه كيفية إيجاد الآلات الحربية كالمجانيق وغيرها ، ومنفعته شديدة العنا (٢) في دفع الأعداء وحماية المدن.

علم الآلات الروحانية :

وهو علم تتبين منه كيفية إيجاد الآلات المرتّبة على ضرورة عدم الخلاء ونحوها من آلات الشراب وغيرها ، ومنفعته ارتياض النفس بغرائب هذه الآلات ، انتهى.

__________________

(١) استنباط (م ، ع).

(٢) الغناء (م).

٦٠