عارفا بحقّكم

السيد علي الشهرستاني

عارفا بحقّكم

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٥

(١٦)

دفع بعض الشبهات حول المشاهد

اتضح لنا سابقاً بأنّ من (كَانَ عِندَ اللّه عَظِيماً) علينا تعظيمه وحفظ حرمته ، وهو من مصاديق (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللّه فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) و (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ).

واستحباب زيارة قبور المعصومين وإعمارها بشكلٍ يليق بمكانتهم من مصاديق ذلك التعظيم ، وإنّ ذلك ليس من الإسراف بشيء ـ كما يُشيعه الآخرون عنّا ـ بل إنّه يُشبه عمارة المسجدين المكّيّ والمدنيّ بالأحجار الفاخرة والأبواب المرصّعة.

وكذا يُشبه طباعة القرآن المجيد بأبهى حُلّةٍ وأغلى ورقٍ ، فلا نرى فقيها مسلما يعترض على صرف تلك الأموال الطائلة في هذا السبيل ، بل إنّهم يعتبرون ذلك من التعظيم.

وأكثر من ذلك أنّنا لا نراهم يبخلون بصرف الأموال الطائلة لبناء الفضائيّات الدينيّة ، بل يعتقدون أنّ ذلك مما يخدم الشرع المقدّس.

نعم ، إنّ بناء القباب والمآذن والأضرحة والأبواب والستائر يُعَدُّ من التعظيم أيضاً ، ومشروعيّته لا تختلف عمّـا قاله الآخرون في تحلية المصاحف وبناء البيت الحرام و ...

قال الرافعيّ في فتح العزيز : وفي تحلية المصحف بالفضّة وجهان : للحمل على الإكرام ... إلى أن قال : وتحلية الكعبة والمساجد بالقناديل من الذهب

١٨١

والفضّة ، وقيل : إنّه ممنوع ، ولا يبعد تجويزه إكراما كما في المصحف (١).

وقال الغزاليّ في الوسيط : تحلية الكعبة والمساجد والمشاهد بقناديل الذهب والفضّة ممنوع ، هكذا نقله العراقيّون عن أبي إسحاق المروزيّ ، ولا يبعد مخالفته حملاً على الإكرام كما في المصحف (٢).

وفي كلام ابن تيميّة ما يُشير إلى قبوله القيام للقرآن تعظيما ؛ إذ قال : ... لا سيّما وفي ذلك من تعظيم حرمات الله وشعائره ما ليس في غير ذلك ، وقد ذَكَرَ مَنْ ذَكَرَ من الفقهاء الكبار قيام النّاس للمصحف ذِكْرَ مُقرِّرٍ له غير مُنكرٍ له (٣).

وهذا هو کلام علماء أهل السنة وليس هو کلامنا وتر ضرورة تحلية الکعبة ، والمصحف بالفضة ، والمساجد بالقناديل من الذهب والفضة ، والقيام للقرآن.

ومن التعظيم أيضاً استحباب تقبيل ضريح رسول الله والمعصومين من آله ، ويضاف إليه تقبيل الستائر والشبابيك والأبواب فيها لكونه عملاً مباحا لم يرد فيه النهي ، بل يستحبّ قياسا باستحباب تقبيل جلود المصاحف ، لأنّ حرمة أهل البيت كحرمة القرآن ؛ إذ هما الثقلان اللّذان لا يفترقان حتّى يردا على رسول الله الحوض وقد أمرنا الله بمودتهم ، وتقبيل الاضرحة والستائر تأت من تلك المودة.

وأفتى ابن درويش الشافعيّ بصحّة الوصيّة من المسلم أو الكافر لو كان المُوصى به أمرا محبوبا ، فقال : ويصحّ الوصيّة من مسلمٍ وكافرٍ بعمارة المسجد لما فيها من إقامة الشعائر ، وقبور الأنبياء والعلماء والصالحين لما فيها من

________________

١ ـ فتح العزيز ٦ : ٣٣.

٢ ـ الوسيط في المذهب للغزالي ٢ : ٤٧٩.

٣ ـ مجموع الفتاوي لابن تيمية ٢٣ : ٦٦.

١٨٢

إحياء الزيارة والتبرّك بها (١).

وقال الشيروانيّ : والسّنّة في حقّهم : التأدّب في زيارتهم ، وعدم رفع الصوت عندهم ، والبعد عنهم قدر ما جرت به العادة في زيارتهم في الحياة ؛ تعظيما لهم وإكراما (٢).

وكذلك قالوا بمحبوبيّة الدفن عند الصالحين ؛ لما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين ، فإنّ الميّت يتأذّى بجارِ سوء كما يتأذّى الحيّ بجار السوء.

وقد جرت سيرتهم على ذلك رغم ضعف سند الخبر السابق وإدراج ابن الجوزيّ ذلك في الموضوعات.

قال محبّ الدين الطبريّ الشافعيّ : ويُمكن أن يُستنبط من تقبيل الحجر واستلام الأركان ، جواز تقبيل ما في تقبيله تعظيمٌ لله تعالى ؛ فإنّه إنْ لم يرد فيه خبر بالندب لم يرد بالكراهة ، قال : وقد رأيت في بعض تعاليق جدّي محمّد بن أبي بكر ، عن الإمام أبي عبد الله محمّد بن أبي الصيف : أنّ بعضهم كان إذا رأى المصاحف قبّلها ، وإذا رأى أجزاء الحديث قبّلها ، وإذا رأى قبور الصالحين قبّلها ، ولا يبعد هذا والله أعلم في كلّ ما فيه تعظيم لله تعالى (٣).

وبهذا فقد عرفنا أنّ ما يجب تعظيمه يحرم انتهاك حرمته أيضا ، بل يجب الدفاع عنه كالحيلولة دون هدم الكعبة ، وحرق المصحف الشريف ، وإهانة قبر النبيّ الأكرم وقبور أئمّة البقيع ، والاستهانة بالمساجد ، واحتقار قبور الأنبياء والأوصياء ، وتنجيس أضرحة المعصومين ، ودخول الجنب

________________

١ ـ سنن المطالب ٣ : ٣٠ ، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

٢ ـ حواشي الشيرواني ٣ : ١٧٥.

٣ ـ عمدة القاري ٩ : ٢٤١.

١٨٣

والحائض إليها ، ومدّ الأقدام نحو قبر المعصوم ، أو رفع الصوت بمشهده «بغير الذكر والدعاء» ، أو لفّ القرآن بجلد الكلب والخنزير ، أو الرضا بقتل الرسول والأئمّة أو مدح قاتليهم باللسان ، فالّذي يموت على تلك الحالة فقد مات على بغض آل محمّد ، أي مات كافرا كما في بعض الروايات.

فانتهاك حرمات المعصومين لا يرضى به الشرع ، لأنّ أهل البيت هم سادة أهل الجنّة ، وأحد الثقلين الّذين تركهما رسول الله في أُمّته ، فمن أبغضهم عليهم‌السلام فقد أبغض رسول الله ، ومن أبغض الرسول فقد أبغض الله ، و «ما انتقم رسول الله لنفسه إلاّ أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها» (١).

فإنّ تفجير الوهابية قبور أئمّة أهل البيت ومشاهدهم وقتل زوارهم ومحبّيهم لا يختلف عما يفعله الکافرون من حرق المصاحف وتهديم المساجد وقتل الابرياء والتمثيل بجثثهم ، لأن حرمة المومن عند الله کحرمة الکعبة.

(١٧)

مشروعيّة الشعائر الدينيّة

أجل من هذا الباب جاء استحباب لعن قتلة الأئمّة لانتهاكهم حرمات الله ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابا مُّهِيناً).

فضَرْبُ الإمامِ عليّ عليه‌السلام على هامته في شهر رمضان في محراب الصلاة ،

________________

١ ـ صحيح البخاريّ ٣ : ١٣٠٦ / ٣٣٦٧.

٢ ـ الأحزاب : ٥٧.

١٨٤

وإسقاطهم جنين الزهراء محسنا ، وسمّهم الحسن ، وقتلهم الحسين ، وعدم احترامهم أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام كلّها أفعالٌ يُعاقَبُ عليها الفاعل في الدنيا والآخرة ، کائنا من کان ولا يمكن أن يرضى بها مسلم.

فعلينا أن نحيي ذكراهم بإقامة مجالس العزاء عليهم وزيارتهم في المناسبات المتعدّدة.

كما أنّ شرعيّة قراءة مقتل الحسين عليه‌السلام يمكن استفادتُها من قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (١) لأنّ الإمام الحسين عليه‌السلام أفضل من هابيل على وجه اليقين ، وقراءة مقتله فيه عبرة لاُولي الألباب ؛ قال سبحانه وتعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاِولِي الْأَلْبَابِ) (٢).

وإذا كان قميص يوسف عليه‌السلام قد ردّ بصر يعقوب : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) (٣) ، فلماذا لا يشفي ترابُ قبر الحسين المريضَ.

وإذا كانت تلك القطعة الّتي قدّمها يوسف لأبيه من الجنة ، فالحسين هو سيّد شباب أهل الجنّة ، وتربته من الجنّة حسب الاخبار الت وقفت عليها.

بل لماذا يأمر رسول الله أن يُهريق الصحابة ما استقوه من ماء ويأمرهم

________________

١ ـ المائدة : ٢٧ ـ ٣٠.

٢ ـ يوسف : ١١١.

٣ ـ يوسف : ٩٣.

١٨٥

بالسقي من البئر الّتي كانت تردها ناقة صالح (١) ، «لمجانبة آبار الظالمين والتبرك بآبار الصالحين» (٢).

وإذا كان الصالحون من أهل السنّة يستنزلون البركة بأخذهم تراب الحرم المكّيّ ، فلماذا لا يجوز أخذ تراب الحسين للصلاة عليه واستنزال الرحمة من خلاله! مع وجود روايات كثيرة في مدرسة أهل البيت تدلّ على استحباب ذلك.

بل اتفق الفريقان على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ تربة الحسين عليه‌السلام وشمّها وبكى عليها وحفظها عند أمّ سلمة وهذا فيه إشارة ال تجويز الاخذ بتربة الحسين للصلاة عليها وأمثال ذلك.

قال الشافعي في الأم : قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة : حدّثنا شيخ عن رزين مولى عليّ بن عبد الله بن العبّاس أنّ عليّا كتب إليه أن يبعث إليه بقطعة من المروة فيتّخذه مصلّى يسجد عليه (٣).

وحكى السمهوديّ عن أبي محمّد عبد السلام الصنهاجيّ ، قال : سألت أحمد بن يكوت عن تراب المقابر الّذي كان النّاس يحملونه للتبرّك هل يجوز أو يُمنع؟!

فقال : هو جائز ؛ وما زال النّاس يتبرّكون بقبور العلماء والشهداء والصالحين ، وكان النّاس يحملون تراب قبر سيّدنا حمزة بن عبدالمطلّب في القديم من الزمان.

وقال أيضا : قال ابن فرحون عقبه : والنّاس اليوم يأخذون من تربة قريبة من مشهد سيّدنا حمزة ويعملون منها خرزا يشبه السبح.

________________

١ ـ صحيح مسلم ٤ : ٢٢٨٦ ـ ٢٩٨١.

٢ ـ هذا ما قاله النووي في شرحه على مسلم ١٨ : ١١١.

٣ ـ الأم ٧ : ١٤٦ ، معرفة السنن والآثار ٤ : ٢١١.

١٨٦

وقال السمهوديّ أيضا : واستثنى الزركشيّ تربة حمزة لإطباق السلف والخلف على نقلها للتداوي بها (١).

وفي حاشية الدسوقيّ قال : وأمّا ما يفعله النّاس من حمل تراب المقابر ؛ للتبرّك فذكر في المعيار أنّه جائز ، قال : ما زال النّاس يحملونه ويتبرّكون بقبور العلماء والشهداء والصالحين (٢).

فإذا كان أخذُ تراب قبور الصالحين جائزا ، فلماذا لا يجوز ذلك في تراب قبر الإمام الحسين عليه‌السلام؟! وجبرئيل هو الذ جاء النب بطينة حمراء فأخذتها أمّ سلمة فصرتها في خمارها (٣) وقول النب لها : إذا تحولت هذه التربة دما فأعلمي أنّ ابني قد قتل (٤) وفي رواياتنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتاني جبرئيل بتربة الّتي يقتل عليها غلام لم يحمل به بعد (٥).

وعن أبي خديجة عن أبي عبد الله قال : لمّـا ولدت فاطمة الحسين جاء جبرئيل إلى رسول الله فقال : إنّ أمتك تقتل الحسين من بعدك ثمّ قال : ألا أريك من تربته ، فضرب بجناحه من تربة كربلاء وأراها أياه ثمّ قال : هذه التربة الّتي يقتل فيها (٦).

وفي آخر : فجزع رسول الله فقال : ألا أريك التربة الّتي قتل فيه الحسين حتّى التقت القطعتان فأخذ منها ودحيت في أسرع من طرفة عين ، فخرج

________________

١ ـ وفاء الوفا السمهودي ١ : ٩٥.

٢ ـ حاشية الدسوقي ١ : ٤٢٢.

٣ ـ مسند أحمد ٣ : ٢٤٢ ، المعجم الكبير ٣ : ١٠٩ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٨٨ وهي موجودةٌ أيضا في رواياتنا : فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرني من التربة الّتي يسفك فيها دمه ، فتناول جبرئيل قبضة من تلك التربة فإذا هي تربة حمراء فلم تزل عند أمّ سلمة حتّى ماتت رحمهماالله.

٤ ـ المعجم الكبير ٣ : ١٠٨ ، مسند أحمد ٦ : ٢٩٤ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٩٨ و ١٧٨.

٥ ـ كامل الزيارات : ١٣٢.

٦ ـ كامل الزيارات : ١٣٠.

١٨٧

وهو يقول : طوبى لك من تربة ، وطوبى لمن يقتل حولك (١).

كما جاء عن الإمام علي عليه‌السلام بأنّه كان يعرف التربة الّتي يقتل فيه الحسين (٢).

وكذا كان حال الأئمّة فإنّهم كانوا يتبركون ويستشفون بتراب قبر الحسين ، ويدعون اطفال الشيعة بالتحنك بترابة وجعله معهم في القبر وعدم تنجيسه ، كلّ ذلك إكراماً للإمام الحسين عليه‌السلام.

وإذا كان تقبيلُ المصحف والحجر الأسود جائزا ، فلماذا لا يجوز تقبيل قبور الأئمّة عليهم‌السلام ؟! وقد مرّ عليك كلام أبي الصيف بأن بعضهم کان إذا رأ المصاحف قبلها ، وإذا رأ أجزاء الحديث قبلها ، وإذا رأ قبور الصالحين قبلها ، مضافا إلى النصّ الآتي أيضا.

قال الحافظ أبو سعيد ابن العلائيّ ـ وهو من علماء أهل السُنّة الكبارـ : رأيتُ في كلام الإمام أحمد بن حنبل في جزءٍ قديمٍ عليه خطّ ابن ناصر وغيره من الحُفّاظ : أنّ الإمام أحمد سُئل عن تقبيل قبر النبيّ وتقبيل منبره؟ فقال : لا بأس بذلك.

قال [العلائيّ] : فأريناه للشيخ تقيّ الدين بن تيميّة ، فصار [ابن تيميّة] يتعجّب من ذلك ويقول : عجيبٌ ، أحمد عندي جليل! ...

وقال [العلائيّ] : وأيّ عجبٍ في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنّه غسل قميصا للشافعيّ وشرب الماء الّذي غسله به ، وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم ، فكيف بمقادير الصحابة وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟! ولقد أحسن مجنون ليلى حيث يقول :

أمرُّ على الديار ديار ليلى

أُقَبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

________________

١ ـ كامل الزيارات : ١٢٥.

٢ ـ مجمع الزوائد ٩ : ١٩٠.

١٨٨

وما حبّ الديارِ شَغَفْنَ قلبي

ولكنْ حُبُّ مَن سَكَنَ الديارا

وقال المحبّ الطبري : ويمكن أن يستنبط من تقبيل الحجر واستلام الاركان جواز تقبيل ما في تقبيله تعظيم الله تعالى ، فانّه ان لم يرد فيه خبر بالندب لم يرد بالكراهة ، قال : وقد رأيت في بعض تعاليق جدي محمّد بن أبي بكر عن الإمام أبي عبد الله محمّد بن أبي الصيف أنّ بعضهم كان إذا رأى المصاحف قبّلها ، وإذا رأى اجزاء الحديث قبلها ، وإذا رأى قبور الصالحين قبّلها ، قال : ولايبعد هذا ـ والله أعلم ـ في كلّ مافيه تعظيم لله تعالى.

وأختم رسالتي هذه بما رواه الثمالي عن أبي عبد الله في الشفاء بتربة الحسين عليه‌السلام ، وبواقعتين ذكرهما ابن الشيخ في الأمالي عن فعل بعض النواصب وعاقبة من لم يومن بشرف التربة الحسينية.

وأخيرا بما حكاه المحدث النوري عن شيخه في الإجازة ، جدِّنا الميرزا محمّد مهدي الشهرستاني (ت ١٢١٦ هـ) في سبب اختياره مدينة كربلاء المقدّسة للمجاورة وفي ذلك کرامة لهذه المدينة المقدسة.

فعن محمّد بن الحسن بن مهزيار ، عن جدّه عليّ بن مهزيار ، عن الحسن بن سعيد ، عن عبد الله الأصم ، عن أبي عمرو شيخ من أهل الكوفة ، عن الثـّماليّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : كنت بمكّة ـ وذكر في حديثه ـ

قلت : جعلت فداك إنّي رأيت أصحابنا يأخذون من طين الحسين عليه‌السلام [الحائر ـ خ ل] يستشفون به ، هل في ذلك شيء ممّـا يقولون من الشّفاء؟

قال : قال : يُسْتَشْفَى بما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال ، وكذلك طين قبر جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك طين قبر الحسن ، وعلي ، ومحمّد

________________

١ ـ عمدة القاري ٩ : ٢٤١.

١٨٩

عليهم‌السلام ، فخذ منها فإنّها شفاء من كلّ سقم ، وجُنّة ممّـا تخاف ، ولا يعدلها شيء من الأشياء التي يُستشفى بها إلاّ الدّعاء.

وإنّما يفسدها ما يخالطها من أوعيتها ، وقلّة اليقين لمن يعالج بها ، فأمّا من أيقن أنّها له شفاء إذا تعالَجَ بها كفته بإذن الله من غيرها ممّـا يتعالج به ، ويفسدها الشياطين والجنّ من أهل الكفر منهم ؛ يتمسّحون بها ، وما تَمُرُّ بشيء إلاّ شمهّا ، وأمّا الشياطين وكفّار الجنّ فإنّهم يحسدون ابن آدم عليها فيتمسّحون بها فيذهب عامّة طيبها ، ولا يخرج الطين من الحير إلاّ وقد استعدَّ له ما لا يحصى منهم ، والله إنّها لفي يدي صاحبها وهم يتمسّحون بها ، ولا يقدرون مع الملائكة أن يدخلوا الحير ، ولو كان من التربة شيء يَسْلَمُ ما عولج به أحد إلاّ برئَ من ساعته ، فإذا أخذتها فاكتمها وأكثر عليها من ذكر الله جلّ وعزّ ، وقد بلغني أنّ بعض من يأخذ من التربة شيئا يستخفّ به ؛ حتّى أنّ بعضهم ليطرحها في مخلاة الإبل والبغل والحمار ، أو في وعاء الطعام وما يمسح به الأيدي من الطعام والخرج والجوالق ، فكيف يستشفي به من هذه حاله عنده! ولكنّ القلب الّذي ليس فيه اليقين من المستخفّ بما فيه صلاحه يفسد عليه عمله (١).

وعلق المجلسي على هذا الخبر بقوله : هذا الخبر يدلّ على جواز الاستشفاء بطين قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر الأئمّة عليهم‌السلام ، ولم يقل به أحد من الأصحاب ، ومخالف لسائر الأخبار عموما وخصوصا ، ويمكن حمله على الاستشفاء بغير الأكل ، كحملها والتمسح بها وأمثال ذلك. والمراد بعليّ ، إما أمير المؤمنين أو السجاد وبمحمّد هو الباقر عليه‌السلام ، ويحتمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تأكيدا وإن كان

________________

١ ـ كامل الزيارات : ٤٧٠ ـ ٤٧١ ، بحار الأنوار ١٠١ : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

١٩٠

بعيداً (١).

وفي أمالي الطوسي بسنده عن الأزدي قال : حدّثنا أبي ، قال : صلّيت في جامع المدينة وإلى جانبي رجلان على أحدهما ثياب السفر.

فقال أحدهما لصاحبه : يا فلان ، أما علمتَ أنّ طين قبر الحسين عليه‌السلام شفاء من كلّ داء؟! وذلك أنّه كان بي وَجَعُ الجوف فتعالجتُ بكلّ دواء فلم أجد فيه عافية وخفتُ على نفسي وأيست منها ، وكانت عندنا امرأة من أهل الكوفة عجوز كبيرة ، فد خلَتْ عليّ وأنا في أشدّ ما بي من العلة ، فقالت لي : يا سالم ما أرى علّتك كلّ يوم إلاّ زائدة؟ فقلت لها : نعم ، قالت : فهل لك أن أعالجك فتبرأ بإذن الله عزّ وجلّ؟

فقلت لها : ما أنا إلى شيء أحوج منّي إلى هذا ، فسقتني ماءً في قدح فسكتت عنّي العلّة وبَرِئْتُ حتّى كأن لم تكُن بي علّة قطّ.

فلمّـا كان بعد أشهر دخلَتْ عليّ العجوز فقلت لها : بالله عليك يا سلمة ـ وكان اسمها سلمة ـ بماذا داويتني؟

فقالت : بواحدة ممّـا في هذه السبحة ـ من سبحة كانت في يدها ـ فقلت : وما هذه السبحة؟

فقالت : إنّها من طين قبر الحسين عليه‌السلام.

فقلت لها : يا رافضيّة داويتني بطين قبر الحسين!! فخرجَتْ من عندي مغضبة ورجعَتْ والله علّتي كأشدّ ما كانت وأنا أقاسي منها الجهد والبلاء ، وقد والله خشيتُ على نفسي ، ثمّ أذّن المؤذّنُ فقاما يصلّيان وغابا عنّي (٢).

________________

١ ـ بحار الأنوار ٩٩ : ١٢٧.

٢ ـ أمالي الطوسي : ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٦٤ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ، جامع أحاديث الشيعة ١٢ : ٥٣١ ـ ٥٣٢.

١٩١

وفي حديث آخر بسنده عن السَّريعي الكاتب ، قال : حدّثني أبي موسى بن عبد العزيز ، قال : لقيني يوحنّا بن سراقيون النصراني المتطبّب في شارع أبي أحمد ، فاستوقفني وقال لي : بحقّ نبيّك ودينك مَن هذا الّذي يزور قبره قوم منكم بناحية قصر ابن هبيرة؟ من هو مِنْ أصحاب نبيّكم؟

قلت : ليس هو من أصحابه ، هو ابن بنته ، فما دعاك إلى المسألة عنه؟

فقال : له عندي حديث طريف ، فقلت : حدّثني به.

فقال : وجّه إليّ سابور الكبير الخادم الرشيديّ في اللّيل فصرتُ إليه ، فقال لي : تعالَ معي ، فمضى وأنا معه حتّى دخلنا على موسى بن عيسى الهاشمي ، فوجدناه زائل العقل متّكئا على وسادة ، وإذا بين يديه طست فيه حشو جوفه ، وكان الرشيد استحضره من الكوفة.

فأقبل سابور على خادم كان من خاصّة موسى ، فقال له : ويحك ما خبره؟

فقال له : أُخبِرُكَ ؛ أنّه كان من ساعةٍ جالسا وحوله ندماؤه ، وهو من أصحّ الناس جسما وأطيبهم نفسا ، إذ جرى ذكر الحسين بن عليّ عليها‌السلام. ـ قال يوحنّا : هذا الّذي سألتك عنه ـ فقال موسى : إنّ الرافضة لتغلو فيه حتّى أنّهم ـ فيما عرفتُ ـ يجعلون تربته دواءً يتداوون به.

فقال له رجل من بني هاشم كان حاضراً : قد كانت بي علّة غليظة ، فتعالجتُ لها بكلّ علاج فما نفعني ، حتّى وصَفَ لي كاتبي أن آخُذَ من هذه التربة ، فأخذتُها فنفعني الله بها وزال عنّي ما كنت أَجِدُهُ.

قال : فبقي عندك منها شيء؟

قال : نعم ، فوجّه ، فجاءوه منها بقطعة ، فناولها موسى بن عيسى.

فأخذها موسى فاستدخلها دُبُرَهُ استهزاءا بمن تداوى بها ، واحتقارا وتصغيرا لهذا الرجل الّذي هذه تربته ـ يعني الحسين عليه‌السلام ـ فما هو إلاّ أن استدخلها دبره حتّى صاح : «النّارَ النارَ الطستَ الطستَ» ، فجئناه بالطست ،

١٩٢

فأخرج فيها ما ترى ، فانصرَفَ الندماء ، وصار المجلس مأتماً.

فأقبل عليّ سابور فقال : انظر هل لك فيه حيلة؟

فدعوتُ بشمعة فنظرتُ فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده خرج منه في الطست ، فنظرت إلى أمر عظيم.

فقلت : ما لأحدٍ في هذا صُنْعٌ إلاّ أن يكون لعيسى الّذي كان يحيي الموتى.

فقال لي سابور : صدقت ، ولكن كُنْ هاهنا في الدار إلى أن يتبيّن ما يكون من أمره ، فبتُّ عندهم وهو بتلك الحال ما رفع رأسه ، فمات وقتَ السحر.

قال محمّد بن موسى : قال لي موسى بن سريع : كان يوحنّا يزور قبر الحسين عليه‌السلام وهو على دينه ، ثمّ أسلم بعد هذا وحسن إسلامه (١).

نعم ، هذا جزاء من لم يحافظ على حرمات الله ويستخف بها ، وهناك كرامات كثيرة ظهرت للإمام الحسين بعد موته عليه‌السلام ، ذكرها المؤرخون والمحدثون.

فعن حاجب عبيدالله بن زياد ، قال : دخلت القصر خلف عبيدالله بن زياد حين قتل الحسين فاضطرم في وجهه نارا ، فقال هكذا بكُمِّه على وجهه.

فقال ابن زياد للحاجب : هل رأيت؟ قلت : نعم ، وأمرني أن أكتم ذلك (٢).

وعن الأعمش عن عمارة بن عمير ، قال : لمّـا جيءَ برأس عبيدالله بن زياد واصحابه نُضدت في المسجد في الرحبة فأنتهيت اليهم وهم

________________

١ ـ أمالي الطوسي : ٣٢٠ ـ ٣٢١ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٦٤ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، جامع أحاديث الشيعة ١٢ : ٥٤١ ـ ٥٤٢.

٢ ـ المعجم الكبير ٣ : ١١١ ، معجم الزوائد ٩ : ١٩٦.

١٩٣

يقولون : قد جاءت قد جاءت ، فإذا حية قد جاءت تَتَخَلَّلُ الرؤوس حتّى دخلت في منخرى عبيد الله بن زياد ، فمكثت هنيئة ثمّ خرجت ، فذهبت حتّى تغيبت.

ثمّ قالوا : قد جاءت قد جاءت ، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا. قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وأمثال هذه الحكايات والوقائع كثيرة في كتب الحديث والتاريخ وكلّها تدلّل على عظمة الإمام الحسين عليه‌السلام.

وختاماَ أسوق كلامي إلى ما حكاه المحدِّث النوري في «دار السلام» ، قال :

سمعت جناب الآميرزا محمّد مهدى الشهرستاني رحمه‌الله ـ وهو الّذي تولّى الصلاة على السيّد بحر العلوم أعلى الله مقامهما ـ قال : تشرّفت بمجاورة قبر أبي عبد الله في عنفوان الشباب ، وكان رجل في النجف الأشرف كثير الصلاح من أهل خواتون آباد يُسمَّى حاجي حسن علي ، وكان بيننا وبينهم صداقة ، فكان يحرِّضني دائما على مجاورة النجف الاشرف ويقول : النجف الأشرف أحسن من كربلاء وإنّ مجاورة كربلا ، تورث قساوة القلب.

فرأيت ذات ليلة في المنام أنِّي في رواق حرم أميرالمؤمنين من جهة الرأس ، إتّجاه الشبّاك الّذي يرى منه الضريح المقدّس ، والحاج حسن علي هناك ، وهو على عادته مشغول بإنكار مجاورة كربلاء.

ورأيت أيضا أن مولانا صاحب الزّمان في ذاك المكان ، فسأله الحاج حسن علي : إنّ جنابك مقيم في هذا المكان والناس يسيرون إلى سامراء لزيارتكم؟

فقال صلواتالله عليه : أنا في سامراء أيضا.

________________

١ ـ سنن الترمذي ٥ : ٣٢٥ ، تحفة الاحوزي ١٠ : ١٩٣.

١٩٤

فأستاذنه الحاج للذهاب إلى العسكريين وفَتْح باب الحرم وكنسه ، فأَذِنَ له لكنّ الإمام الحجّة قال له ابتداء ـ دون سؤال واستفسار ـ : «لا يذهب بأحد من كربلاء إلى جهنّم» ثمّ أشار إلى ضريح أميرالمؤمنين عليه‌السلام قائلاً : «بحق أميرالمؤمنين عليه‌السلام لا يقودون أحدا من كربلاء إلى جهنم».

فوقع في خاطري أنّ قَسَمَ المعصوم جاء لإنكار الحاج حسن علي مجاورة كربلاء ، ثمّ اضاف الإمام عليه‌السلام : بشرط أن يبيت فيه ليلة.

وفهمت من كلامه عليه‌السلام أن مقصود من بيتوتته هي القيام بعبادتها ، قلت في نفسه : إنّا ننام في الليالي إلى طلوع الشمس.

فقال عليه‌السلام : وأنا أنام إلى طلوع الشمس (١) ، وكانت تلك الرؤيا سببا لاختيارى كربلاء للمجاورة.

حقاَ كيف يذهب بأحدٍ من كربلاء إلى جهنّم ، لو كان المجاور مؤمنا عارفا بمقام الحسين ، ومراعيا لمقامه الشريف وحرمته ، ففي بعض الروايات نرى أَنَّ رسول الله يتعهّد لزوَّار الحسين بأن ينجيهم من أهوال يوم القيامة وشدائدها (٣). فكيف ذلك بالمقيم المجاور العارف للإمام.

بل ، توجد في بعض الروايات أکثر من ذلك ، منها أنه يحشر من کربلاء سبعون ألفاً بغير حساب وهذا ما أخرجه الطبراني بسنده عن أبي هرثمة.

قال : كنت مع عليّ عليه‌السلام بنهر كربلاء فمرّ بشجرة تحتها بعر غزلان فأخذ منه قبضة فَشَّمها ، ثمّ قال : يحشر من هذا الظهر

________________

١ ـ المراد من طلوع الشمس هو طلوع الفجر ، حيث لا يعقل أن ينام الامام المعصوم ال طلوع الشمس.

٢ ـ دار السلام ٢ : ١٤٩ بتصرف.

٣ ـ الأرشاد ٢ : ١٣١ ، بحار الأنوار ٤١ : ٢٣٥.

١٩٥

سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب (١) ، وعلّق الهيثمي على الرواية بقوله : رواه الطبراني ورجاله ثقات (٢).

نعم ، إنّ دخول سبعين ألفا الجنّةَ من أمّة محمّد بغير حساب من الأحاديث المتواترة عن رسول الله عند أهل السنة والجماعة ، وهي مروية في صحيحي البخاري ومسلم عن عدة من الصحابة أمثال : سهل بن سعد ، وعمران بن الحصين ، وابن عبّاس ، وأبي هريرة ، وجابر بن عبد الله الأنصارى. كلّهم عن النبيّ لكنْ في لفظ أبي هريرة وجود زيادة : «تضيء وجوههم كالقمر». وفي لفظ عمران زيادة : قيل يا رسول الله من هم؟! قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هم الّذين لا يسترقون ، ولا يتطّيرون ، وعلى ربّهم يتوكّلون»(٣).

إذن هذه الرواية مروية عن رسول الله في صحيح مسلم والبخار وعن أب هرثمة مروية عن الإمام علي في مجمع الزوائد بفارق أن المرو عن النبيّ مطلق ، والمروي عن الإمام عليّ مُقَيّد ؛ فيه زيادة : «يحشر من هذا الظهر ـ ويعني به كربلاء ـ».

________________

١ ـ المعجم الكبير لطبراني ٣ : ١١١ ، وروى أحمد بسنده عن ابن نجي الحضرمي ١ : ٨٥ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٨٧ قوله : أنّه سار مع عليّ رضىالله عنه وكان صاحب مطهرته ، فلمّـا حاذى نينوى ، وهو منطلق إلى صفين ، نادى عليّ : «اصبر أبا عبد الله ، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات» قلت : وما ذاك؟! قال : دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وإذا عيناه تذرفان قلت : يا نبيّ الله ، أأغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟

قال : «بل قام من عندي جبريل عليه‌السلام فحدثني أنّ الحسين يقتل بشط الفرات ، فقال : هل لك أن أشمّك من تربته؟ قلت : نعم ، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عينيّ أن فاضتا».

٢ ـ مجمع الزوائد ٩ : ١٩١.

٣ ـ صحيح البخاري ٣ : ١١٨٦ / ٣٠٧٥ ، ٥ : ٢١٥٧ / ٥٣٧٨ ، و ٢١٧٠ / ٥٤٢٠ ، و ٢١٨٩ / ٥٤٧٤ ، و ٢٣٧٥ / ٦١٠٧ ، و ٢٣٩٦ / ٦١٧٥ ، ٦١٧٦ و ٢٣٩٩ / ٦١٨٧. صحيح مسلم ١ : ١٧٧ / ١٩١ ، و ١٩٧ / ٢١٦ ، و ١٩٨ / ٢١٧ ، ٢١٨ ، ٢١٩ ، و ١٩٩ / ٢٢٠.

١٩٦

وحيث عرفنا بأن رواة الحديثين ثقات ، فيجب أن نقول بأنّ حديث النبيّ مجمل وحديث الإمام علي مُبَيِّن له ، لأن زيادة الثقة مقبولة عند أهل الحديث إجماعا ، ولا شبهة في تقديم المبيَّن على المجمل في الأخذ ، أو ارجاع المجمل إلى المبيَّن ، والأَخذ بالأَظهر مع وجود الظاهر ، وبذلك يكون معنى الحديث : أن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم من شيعة أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالب ، وهؤلاء يحشرون من جَنْب نهر كربلاء ، لأنَّهُ ليس هناك من يدفن أو يسكن إلاّ وهو من شيعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب.

ويشهد لما نقوله ما أخرجه الخطيب البغدادي في «المتفق والمفترق» بسنده عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله :

يدخل الجنة من أمّتي سبعون ألفا بلا حساب ، ثمّ ألتفت إلى عليٍّ فقال : هم شيعتك وأنت إمامهم (١).

هذا عن الذين يحشرون من ظهر كربلاء ، فما يعني اقتران شم بعر الغزلان بدخول سبعين ألفا الجنة بغير حساب؟

الجواب : جاء عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث قال لابن عبّاس :

يابن عبّاس ، اطلب لي حولها [حول التربة الّتي يدفن فيها الحسين عليه‌السلام] بَعَر ظباء ، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ قَطّ ، وهي مصفرَّة ، لونها لون الزعفران ... تعلم يابن عبّاس ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمَّمها عيسى بن مريم ، وذلك أنّه مَرَّ بها ومعه الحواريون ، فرأى هذه الظباء مجتمعة ، فأقبلت إليه الظباء وهي تبكي ، فجلس عيسى عليه‌السلام وجلس الحواريون ، فبكى وبكى الحواريّون ... قال [عيسى عليه‌السلام] : هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد ، وفَرْخ الحرّة

________________

١ ـ المتفق والمفترق ٢ : ١٦ ترجمة : عمرو بن حريث الكوفي.

١٩٧

الطاهرة البتول شبيهة أمّي ... ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصِّيران (١) فَشَمَّها ، فقال : ... اللهمّ أبقها حتّى يشمّها أبوه فتكون له عزاء وسلوة ، فبقيت إلى يوم الناس هذا ... (٢)

إذن هذه الأبعار هي علامة لآية بين نبيّ الله عيسى بن مريم وأميرالمؤمنين عليه‌السلام ، فهي من علامات الأنبياء والأوصياء ، وهذا الكلام يشابه ما قاله نبيّ الله يعقوب : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ) (٣) وهو مثل حديث ناقة صالح الّذي مرّ عليك وأن رسول الله أمر بالتبرك بموضع شرب فم الناقة ، بعد ثلاثة آلاف سنة.

وعليه فالحسين عليه‌السلام عظيم ، وهو أعظم من ناقة صالح وقميص يوسف ، إذ عَظَّمُه الله تعالى ورسوله غاية التعظيم ، وهو ممن يعرفه أعداؤه مثل أوليائه ، ولاجل هذا تر قتلته يخافون من أن يشركوا في دم الحسين ، وكلّ واحد منهم يلقي اللوم على الآخر ، لعلمهم بأنّ قاتل الحسين في تابوت من نار كما جاء في الخبر عن رسول الله (٤).

كما أنهم يعلمون أيضاً بأنَّ من سعى في قتله سلب سلطانه.

فجاء عن مرجانة ـ أم عبيد الله ـ أنها قالت لعبيد الله بن زياد : يا خبيث قتلت ابن بنت رسول الله؟! لاترى الجنة ابدا (٥).

وجاء عن عبيد الله بن زياد أنه طلب من عمر بن سعد أن يردّ عليه ما

________________

١ ـ الصِّيران : جمعُ صِوار ، وهو القطعة من البعر أو المسك.

٢ ـ كمال الدين : ٥٣٣ ـ ٥٣٤ / الباب ٤٨ ـ ح ١. أمالى الصدوق : ٤٧٨ المجلس ٨٧ ح ٥ وعنه في بحار الأنوار ٤٤ : ٢٥٢.

٣ ـ يوسف : ٩٤.

٤ ـ فيض القدير للمناوي ١ : ٢٦٦.

٥ ـ البداية والنهاية ٨ : ٣١٤.

١٩٨

كتبه إليه في قتل الحسين خوفا من أن يصل إلى المسلمين فقال له عمر بن سعد : ضاع ... تُرِكَ والله يُقْرَأ على عجائز قريش أعتذر بِهِ إليهنَّ بالمدينة ... (١)

وقال الحجَّاج الثقفي لسنان بن يزيد النخعي عليه لعنة الله : كيف قتلت الحسين؟ فقال : دَسَرْتُهُ بالرمح دَسْرا ، وَهَبَرْتُهُ بالسيف هَبْرا. أي دفعته به دفعا عنيفا.

فقال الحجاج : أما والله لا تجتمعان في الجنة أبدا. (٢)

وعن عبدالملك بن مروان أنّه كتب إلى الحجّاج ، وهو على الحجاز قائلاً له : جَنِّبْني دماء آل بني أبي طالب ، فإنّي رأيت آل حرب لمّـا تَهَجَّمُوا بها لم ينصروا (٣) ، وفي رواية : جنبني دماء أهل البيت ؛ فإنّي رأيت بني حرب سُلِبُوا ملكهم لمّـا قتلوا الحسين (٤).

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ آل أبي سفيان قتلوا الحسين بن علي عليها‌السلام ، فنزع الله ملكهم ، وقتل هشامٌ زيدَ بن علي ، فنزع الله ملكه ، وقتل الوليد يحيى بن زيد ، فنزع الله ملكه على قتل ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». (٥)

وقال ابن تيمية : ما بقي أحد من قَتَلَةِ الحسين حتّى عوقب في الدنيا ، ومثل هذا ممكن ؛ فأسرع الذنوب عقوبة البغي ، والبغي على الحسين من أعظم البغي (٦).

وعن ابن السدي ، عن أبيه قال : كنّا غلمة نبيع البز في رستاق (= سوق) كربلاء ، قال : فنزلنا برجل من طيء ، قال : فقرّب

________________

١ ـ البداية والنهاية ٨ : ٢٢٨.

٢ ـ النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ : ١١٦.

٣ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٤.

٤ ـ جواهر المطالب لابن الدمشقي ٢ : ٢٧٨.

٥ ـ ثواب الأعمال : ٢١٩.

٦ ـ منهاج السنّة ٢ : ٣٥٩. بيروت دار الكتب العلميّة ، الطبعة الأولى.

١٩٩

إلينا العشاء ، قال : فتذاكرنا قتلة الحسين ، فقلنا : ما بقي أحدٌ ممّن شهد كربلاء من قتلة الحسين إلاّ وقد أماته الله ميتة سوء أو بقتلة سوء!!

فقال الرجل : ما أكذبكم يا أهل الكوفة ؛ تزعمون أنّه ما بقي أحد ممّن شهد قتلة الحسين إلاّ وقد أماته الله ميتة سوء أو قتلة سوء ، وإنّي لممّن شهد قتل الحسين ، وما بها أكثر مالاً منّي.

قال : فنزعنا أيدينا عن الطعام ، وكان السراج يتوقَّد ، فذهب الرجل ليطفئ السراج ، فذهب ليخرج الفتيلة بإصبعة فأخذت النّار بإصبعة ، ومدّها إلى فيه ، فأخذت بلحيته ، فحضر إلى الماء حتّى ألقى نفسه فيه ، قال : فرأيته يتوقد فيه النّار حتى صار حُمَمَة (١). والخبر صحيح.

نعم ، هذا هو الحسين الذي بكته السماء ، وقد أطبق الفريقان على أنّ السماء ما بكت على أحد إلاّ على يحيى بن زكريا والحسين بن علي ، وحمرتها بكاؤها (٢).

وفي رواية ابن قولويه : مكثوا أربعين يوما تطلع الشمس بحمرة وتغرب بحمرة (٣).

وفي سير أعلام النبلاء ، عن الأسود بن قيس ، قال : احمرَّت آفاق السماء بعد قتل الحسين ستة أشهر تُرَى كالدم (٤).

وقال الذهبي : أخرج الفسوي ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثتنا أم شوق العبدية ، قالت : حدثتني نضرة الأزدية ، قالت : لمّـا أن قتل

________________

١ ـ تاريخ مدينة دمشق ١٤ : ٢٣٤. والحممة : الفحم.

٢ ـ تاريخ دمشق ٦٤ : ٢١٤ ، تفسير ابن كثير ٤ : ١٥٤ ، تفسير الثعلبي ٧ : ٢٢٢ ، تفسير القرطبي ١٦ : ١٤١ ، كامل الزيارات : ١٨٥.

٣ ـ كامل الزيارات : ١٨٥.

٤ ـ سير أعلام النبلاء ٣ : ٣١٢.

٢٠٠